{هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}،{هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} لماذا تغير الكلام والصنف واحد

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24/12/2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
لماذا استعمل الخطاب في آية النمل: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(90)}
في حين استعمل الغيبة في آية الأعراف: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}
وكذا الغيبة في آية سبأ: { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}؟

لقد بحثتُ في جواب هذا المسألة لدى علماء توجيه المتشابه اللفظي [الخطيب الإسكافي، والغرناطي، والأنصاري ، وابن جماعة، والكرماني] رحمهم الله جميعا، فما وجدتهم اِلْتَفَتُوا إليها.
لذا فسوف أجتهد في توجيه هذه المسألة وأسأل الله الرحمن الرحيم السداد.
وسوف أعتمد في بحث تلك المسألة على العِماد الأول الذي اعتمد عليه سادَتُنا علماء توجيه آيات المتشابه اللفظي ألا وهو السِياق، فتعالوا نتأمل سِياق كل آية على حدة:

أما آية الأعراف: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}
فإننا في حاجة للعودة للآية السابقة لها {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} إذ نجد أن عقاب الله عز وجل قد عُجِّلَ به في الدنيا على قوم اجتمعت فيهم خصال الكفر وكثرت، بل وأصروا عليها إصرارا، فإنهم يرون الآيات ولا يؤمنون، ويرون الحق جَلِيّاً فيعرضون عنه، ولا يسلكون طريقه، بل يسلكون سبيل الغَيّ والبغي عن عَمْدٍ وتكبر، فلما اجتمع فيهم ذلك، عاقبهم في الدنيا فأعمى قلوبهم وأبصارهم عن آياته،
ثم جاءت الآية موضع البحث: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)} لتخبرنا الآية بعاقبة هؤلاء فقد أُحْبِطَ صالح أعمالهم، لأنه لا قيمة لعمل خالَطَه شرك أو كفر، ثم جاءت الفاصلة: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استفهاما تقريريا مفيدا النفي جوابه: لا يجزون إلا ما كانوا يعملون. ونجد أن الله عز وجل قد تكلم عن هؤلاء الصنف من الناس بلسان الغيبة، وما ذلك إلا لهوانهم على الله وحقارتهم، وكراهة استحضارهم في الكلام.

أما آية سبأ (33):
فقد جاءت خاتمة لمشهد رهيب من مشاهد القيامة، هذا المشهد تجري أحداثة داخل جهنم، وقد صورت الآيات المشهد تصويرا حيا نابضا عجيبا رهيبا، تستوعبه القلوب مباشرة، وتستحضره شاهدا أمام العينين، لقد سيقت الآيات فأقامت صور المشهد وأحداثه نابضة حية للعينين، فكأنها تشاهد الصورة، وتتابع أحداثها حتى النهاية، والآيات ليست في حاجة إلى تأويل، فيكفي كُلُّ أحَدٍ ذي قلب أن يقرأ فيشهد المشهد شهودا، فاقرءوا إن شئتم وتأملوا:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}.

ومع وصول القلب إلى نهاية المشهد يجد: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ثم {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، تجد الفاصلة تخبرك بمدى هوان هؤلاء على الله، فإنه مع ما مضى مِن صور عذابهم فإنه عز وجل لا يعيرهم التفاتا، أضف إلى ذلك أن المشهد في الآية إنما هو خبر لنا، أطلعنا الله عليه، حتى لا ننقاد إلا لله، ولا ننقاد إلا لمن ينقاد لله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، ولا عذر لمن رأى الحق فتركه، واتبع طاغية بدعوى الاستضعاف.

أما آية النمل (90):
فاسمع لها وللآية قبلها: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(90)}.
إنهم فريقان، أحدهما في أمن وأمان ونعيم مقيم، أولئك المؤمنون المحسنون، والفريق الآخر على النقيض من الأول، فماذا قال عنهم الله؟ قال: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}، ثم الفاصلة: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد استعمل أسلوب الخطاب في الآية، فلماذا؟!
إن الكلام في آيتي (الأعراف147)، و(سبأ33) كلتيهما عن الكافرين، وأيضا في آية (النمل90) تتحدث عن الصنف ذاته، فلماذا تغير الكلام من الغيبة في آيتي الأعراف وسبأ إلى الخطاب في آية النمل؟!
وأجيب سائلا الله السداد: تأملوا معي هذا التعبير: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}، إن الكَبَّ في النار على تلك الهيئة يتطلب الأخذ بالرءوس بعنف وغلظة، مع جَرهم جرا وشدة، ثم إلقائهم في النار كَبًّا على وجوههم، ومع الكَبِّ تعنيف بالقول وتبكيت: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، فإنَّ هناك مَنِ يأخذ برءوسهم [الملائكة] ويخاطبهم هذا الخطاب الشديد حال كَبِّهِم في النار.
هذا والله أعلم
د. محمد الجبالي
 
عودة
أعلى