أخي الحبيب أنقل لك ماقاله الفيروزآباديّ في كتابه الموسوعي :
بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز ؛ وذلك في هاتين المادتين
فتبصر بهما :
(بصيرة في علم) :
عَلِمه يَعْلَمه عِلْمًا: عَرَفَهُ حَقَّ المعرفة. وعَلم هو فى نفسه. ورجل عالِم وعَلِيم من عُلَمَاء. وعلَّمه العِلم وأَعلمه إِيّاه فتعلّمه. والعَلاَّم والعلاَّمة والعُلاَّم: العالِم جِدًّا. وكذلك التِّعْلِمَة والتِعْلامة.
والعِلم ضربان: إِدراك ذات الشَّىءِ، والثانى الحكم على الشىءِ بوجود شىءٍ هو موجود له، أَو نفى شىءٍ هو منفىّ عنه. فالأَوّل هو المتعدّى إِلى مفعول واحد، قال تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، والثَّانى: المتعدّى إِلى مفعولين، نحو قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}. وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ}، إِشارة إِلى أَن عقولهم قد طاشت.
والعلم من وجهٍ ضربان: نظرىّ وعملىّ. فالنظرىّ: ما إِذا عُلم فقد كمل، نحو العلم بموجودات العالَم، والعملىّ: ما لا يتم إِلاَّ بأَن يُعمل، كالعلم بالعبادات.
ومن وجهٍ آخر ضربان: عَقْلىّ وسمعىّ.
والعلم منزلة / من منازل السّالكين، إِن لم يصحبه السّالك من أَوّل قَدَم يضعه، إِلى آخر قدم ينتهى إِليه يكون سلوكه على غير طريق موصِّل، وهو مقطوع عليه ومسدود عليه سُبُل الهدى والفلاح، وهذا إِجماع من السادة العارفين. ولم ينه عن العلم إِلاَّ قُطَّاع الطَّريق ونُوَّاب إِبليس.
قال سيّد الطَّائفة وإِمامهم الجُنَيد -رحمه الله-: الطُّرُق كلُّها مسْدودة على الخَلْق إِلاَّ من اقتفَى أَثَر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وقال: منْ لَمْ يحفظ القرآنَ ولم يكتب الحديث لا يُقتدَى به فى هذَا الأَمر؛ لأَن عِلمنا مقيّد بالكتاب والسنَّة. وقال أَبو حفص: من لم يزِن أَفعاله وأَقواله فى كلّ وقت بالكتاب والسنَّة ولم يتَّهم خواطره لا يعدّ فى ديوان الرِّجال. وقال أَبو سليمان الدّارانى: ربَّمَا يقعُ فى قلبى النُكْتة من نُكَت القوم أَيّامًا فلا أَقبل منه إِلاَّ بشاهدين عدلين: الكتاب والسنَّة. وقال السّرىُّ: التصوّف اسم لثلاثة معان: لا يطفىءُ نورُ معرفته نورَ ورعه. ولا يتكلَّم فى باطن علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك أَستار محارم الله. وقال الجنيد: لقد هممت مرة أَن أَسأَل الله تعالى أَن يكفينى مُؤنة النِّساءِ، ثم قلت: كيف يجوز أَن أَسأَل هذا ولم يسأَله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أَسأَله، ثمّ إِنَّ اللهَ تعالى كفانى مُؤنة النساءِ حتى لا أُبالى أستقبلتنى امرأَة أَو حائط. وقال: لو نظرتم إِلى رجل أُعطى من الكرامات أَن تربَّع فى الهواءِ فلا تغترُّوا به حتىَّ تنظروا كيف تجدونه عند الأَمر والنهى وحفظ الحدود وآداب الشريعة. وقال النُّورىّ أَبو الحسين: من رأَيتموه يدّعى مع الله حالةً تُخرجه عن حدّ العلم الشرعىّ فلا تقربُوه. وقال النصر أَبادى: أَفضل التصوف ملازمة الكتاب والسنَّة، وترك الأَهواء والبِدَع، وتعظيم كرامات
المشايخ، ورؤْية أَعذار الخَلْق، والمداومة على الأَورَاد، وترك ارتكاب الرُّخَص والتأْويلات.
والكلمات الَّتى تُروى عن بعضهم فى التزهيد فى العلم فمن أَنفاس الشيطان، كمن قال: نحن نأْخذ علمنا من الحىّ الَّذى لا يموت، وأَنتم تأخذونه من حَىّ يموت. وقال آخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله. وقال آخر: إِذا رأَيت الصّوفىَّ يشتغل بحدّثنا وأَخبرنا فاغسِل يدك منه. وقال آخر: لنا علم الحروف ولكم علم الورق. وقيل: لبعضهم: أَلا ترْحل حتى تسمعَ من عبد الرزَّاق فقال: ما يصنع بالسمّاع من عبد الرزَّاق مَن يسمع من الخلاَّق؟! وأَحسن أَحوال قائل مثل هذه أَن يكون جاهلاً يُعذر بجهله، أَو والها شاطحا مصرفاً بسخطه، وإِلاَّ فلولا عبد الرزَّاق وأَمثاله من حفَّاظ السنة لما وصل إِلى هذا وأَمثاله شىء من الإِسلام، ومن فارق الدليل ضلَّ عن السّبيل. ولا دليل إِلى الله والجنَّة إِلاَّ الكتاب والسنة.
والعلم خير من الحال. الحال محكوم عليه والعلم حاكم، والعلم هادٍ والحال تابع. الحال سيف فإِن لم يصحبه علم فهو مِخْراق لاعب. الحال مركوب لا يجارَى، فإِن لم يصحبه علم أَلقى صاحبه فى المتالف والمهالك. دائرة العلم تسع الدّنيا والآخرة، ودائرة الحال ربَّما تضيق عن صاحبه. العلم هادٍ والحال الصّحيح مهتدٍ به. فهو تركة الأَنبياء / وتُراثهم.، وأَهله عَصَبتهم ووُرّاثهم، وهو حياة القلب، ونور البصائر، وشفاءُ الصّدور، ورياض العقول، ولذَّة الأَرواح، وأُنْس المستوحِشين، ودليل المتحيّرين. وهو الميزان الَّذى يوزن به الأَقوال والأَفعال والأَحوال. وهو الحاكم المفرِّق بين الشَّك واليقين، والغَىّ والرّشاد، والهُدَى والضلال، به يعرف الله ويعبد، ويُذْكر ويوحّد. وهو الصّاحب فى الغُربة، والمحدِّث فى الخلوة، والأَنيس فى الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغِنَى الَّذِى لا فقر على من ظفر بكنزه، والكَنَفُ الذى لا ضَيْعة على من أَوى إِلى حِرْزه. مذكراته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قُرْبة، وبذله صدقة، ومدارسته تُعدل بالصّيام والقيام، والحاجة إِليه أَعظم من الحاجة إِلى الشَّرَاب والطعام؛ لأَن المرء يحتاج إِليهما مرة أَو مَرَّتين فى اليوم، وحاجته إِلى العِلْم كعدد أَنفاسه، وطلبه أفضل من صلاة النافلة، نصّ عليه الشافعىّ وأَبو حنيفة.
واستشهد اللهُ -عزَّ وجلَّ- أَهلَ العلم على أَجلّ مشهود وهو التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وفى ضمن ذلك تعديلهم فإِنَّه لا يُستشهد بمجروح.
ومن هاهُنا يوجَّه -واللهُ أَعلم- الحديث: "يَحمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَف عُدولهُ، ينفُون عنه تحريف الغالين، وتأْويل المبطلين" وهو حجة الله فى أَرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إِلى جنَّته، ومُدْنيهم من كرامته. ويكفى في شرفه أَن فَضْل أَهلِه على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وكفضل سيّد المرسلين على أَدنى الصّحابة منزلة، وأَنَّ الملائكة تضع لهم أَجنحتها، وتُظِلُّهم بها، وأَنَّ العالِمَ يستغفر له مَن فى السموات ومن فى الأَرض حتىَّ الحيتان فى البحر، وحتىّ النَّملة فى جُحْرِهَا، وأَن الله وملائكته يصلُّون على معلِّمِى النَّاس الخير، وأَمر الله أَعْلَمَ العبادِ وأَكملهم أَن يسأَل الزِّيادة من العلم فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}.
واعلم أَنَّ العلم على ثلاث درجات: أَحدها: ما وقع من عِيانٍ وهو البصر. والثانى: ما استند إِلى السمع وهو الاستفاضة. والثالث: ما استند إِلى العلم وهو علم التجربة.
على أَن طُرُق العلم لا تنحصر فيما ذكرناه فإِنَّ سائر الحواسّ توجب العلم، وكذا ما يدرك بالباطن وهى الوِجدانيّات، وكذا ما يدرك بالمخبِر الصّادق، وإِن كان واحدا، وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط وإِن لم يكن تجربة.
تمّ إِنَّ الفرق بينه وبين المعرفة من وجود ثلاثة:
أَحْدها: أَن المعرفة لُبّ العلم، ونسبة العلم إِلى المعرفة كنسبة الإِيمان إِلى الإِحسان. وهى علم خاصّ متعلَّقه أَخفى من متعلَّق العلم وأَدَقَّ.
والثانى: أَنَّ المعرفة هى العلم الذى يراعيه صاحبه [ويعمل] بموجبه ومقتضاه. هو علم يتَّصل به الرعاية.
والثالث: أَن المعرفة شاهدة لنفسها وهى بمنزلة الأُمور الوِجدانيّة لا يمكن صاحبُها أَن يشكَّ فيها، ولا ينتقل عنها. وكشفُ المعرفة أَتمّ من كشف العلم، على أَنَّ مقام العلم أَعلى وأَجَلّ، لما ذكرنا فى بصيرة (عرف).
ومن أَقسام العلم العلم اللَّدُنىّ. وهو ما يحصل للعبد بغير واسطة، بل إِلهام من الله تعالى، كما حصل للخضر بغير واسطة موسى، قال تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}. وفَرَق / بين الرّحمة والعلم وجَعَلَهما مِن عنده ومن لدنه إِذ لم يكن نَيْلهما على يد بَشَر. وكان من لدنه أَخصّ وأَقرب ممّا عنده، ولهذا قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} فالسُّلطان النَّصِير الذى من لدنه أَخصّ من الذى من عنده وأَقرب، وهو نصره الذى أَيّده به (والَّذِى من عنده)، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.
والعلم اللّدنّىّ ثمرة العبوديّة والمتابعة والصّدق مع الله والإِخلاص له، وبذل الجُهد فى تلقِّى العلم من مِشكاة رسوله ومن كتابه وسنَّة رسوله وكمالِ الانقياد له، وأَمّا علم مَن أَعرض عن الكتاب والسنَّة ولم يتقيّد بهما فهو من لَدُن النفس والشيطان، فهو لدنِّىٌّ لكن مِن لدن مَنْ؟ وإِنما يُعرف كون العلم لدنّيًّا روحانيًّا بموافقته لما جاءَ به الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربّه عزَّ وجلَّ. فالعلم اللدُنىّ نوعان: لدُنىّ رَحْمانىّ، ولدُنىّ شيطانىّ وبطناوىّ والمَحَكّ هو الوحى، ولا وحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وقول المشايخ: العلم اللدنىّ إِسناده وُجوده، يعنى أَنَّ طريق هذا العلم وِجدانه، كما أَن طريق غيره هو الإِسناد؛ وإِدراكه عِيانُه، بعنى أَنَّ هذا العلم لا يوجد بالفكر والاستنباط، وإِنما يوجد عِياناً وشهودا؛ ونعته حكمُه، يعنى أَن نعوته لا يوصل إِليها إِلاَّ به فهى قاصرة عنه. يعنى أَن شاهده منه ودليله وجوده؛ وإِنِّيَّته لِمِّيِّته، فبرهان الإنّ فيه هو برهان اللِّمّ، فهو الدَّليل وهو المدلول، ولذلك لم يكن بينه وبين الغيب حجاب وبخلاف ما دُونه من العلوم.
والذى يشير إِليه القوم هو نور من جَناب الشهود بمجرد أَقوى الحواسّ وأَحكامها، وتقرير لصاحبها مقامها. فيرى الشهود بنوره، ويفنى ما سواه بظهوره. وهذا عندهم معنى الحديث الرّبانىّ: "فإِذا أَحببته كنت سمعه الَّذى يسمع به، وبصره الذى يبصره به، فبى يسمع، وبى يبصر". والعلم اللَّدنىّ الرّحمانىّ هو ثمرة هذه الموافقة والمحبّة الَّتى أَوجبها التقرّب بالنَّوافل بعد الفرائض. واللدنّىّ الشيطانىّ هو ثمرة الإِعراض عن الوحى بحكم الهوى. والله
وجاء فيه :
(بصيرة في وعظ) :
الوَعْظُ والعِظَةُ والمَوْعِظَة مصادر قولك: وَعَظْتُه أَعِظَه، وهو زَجْرٌ مقتَرِنٌُ بتخويف. وقال الخليل: هو التَّذْكِير بالخَيْر، ومنه قولُ النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "السَّعِيدُ من وُعِظَ بغَيْره" قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} قال رؤبة ويروى للعجّاج:
*لما أَوْنا عَظْعَظَتٍْ عِظْعاظَا * نَبْلُهُم وَصَدَّقُوا الوَعّاظَا*
يقولُ: كان وَعَظَهُم النُوَبَ واعِظٌ وقال لهم إِنْ ذهبتم هلكتهم، فلمّا ذهبوا أَصابهم ما وَعَظَهم به فصدّقوا الوُعّاظ [حينئذ]. وفى الحديث: "يأْتِى على النَّاسِ زَمانٌ يُستَحَلُّ فيه الرِبّا بالبيع، والقَتْلُ بالمَوْعِظة" وهو أَنْ يُقْتَل البَرِىءُ ليتَّعظ به المُرِيب.