أبو إسحاق الحضرمي
New member
هل بنا حاجةٌ إلى كتاب سيبويه ؟
ثم نأتي للإجابةِ عنِ السؤالِ، ولكنْ قبلَ الإجابةِ عنه أيضًا ينبغي تفكيكُه إلى عدَدٍ مِنَ الأسئلةِ، الإجابةُ عنها سبيلٌ إلى الإجابةِ عنِ السؤالِ الأمِّ، فمَنْ سيبويهِ؟ وما كتابُه؟ ومن نحن؟ ثم ما حاجتُنا؟
فمن سيبويه هذا الذي ملأ الدنيا وشغَلَ الناسَ ؟
هو أبو بشرٍ، عمرو بنُ عثمانَ بنُ قَنْبَرٍ. سلالتُه فارسيةٌ، ونشأتُه بِصريةٌ. وسيبويهِ لقَبٌ له، ومعناه رائحةُ التفاحِ، قيلَ: كانَ من يلقاهُ لا يزالُ يشمُّ منه رائحةَ الطيبِ، فلُقِّبَ بذلك. أخَذَ عن شيوخٍ أجلُّهم الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ (ت:175هـ). وفي سببِ طلبِه علمَ العربيةِ ذكروا أنه جاءَ إلى حمادِ بنِ سلَمَةَ لكتابةِ الحديثِ فاستملى منه قولَه صلى الله عليه وسلم: (ليسَ من أصحابي أحدٌ إلا ولو شئتُ لأخذتُ عليه ليسَ أبا الدرداءِ) [الحديث في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي] فقالَ سيبويه: ليسَ أبو الدرداء، فصاحَ به حمادٌ: لحنتَ يا سيبويهِ، إنما هو استثناءٌ، فقال سيبويه: واللهِ لأطلبَنَّ علمًا لا يلحنُني معه أحدٌ، ثم مضى ولزِمَ الخليلَ ويونسَ بنَ حبيبٍ (ت:182هـ) وغيرَهما. كانَ شابًّا لطيفًا جميلاً، وكانَ في لسانِه حبسةٌ، وقلمُه أبلغُ من لسانِه. توفي -رحمه الله- سنةَ 180هـ ولم يجاوزِ الأربعينَ.
وما كتابُ سيبويه الذي بقي متأبيًّا على الانقيادِ ؟
قيلَ ليونسَ بنِ حبيبٍ بعدَ موتِ سيبويهِ: إنَّ سيبويهِ صنَّفَ كتابًا في ألفِ ورقةٍ من علمِ الخليلِ، فقالَ: ومتى سمِعَ سيبويهِ هذا كلَّه مِنَ الخليلِ؟ جيئوني بكتابِه، فلمَّا رآه قالَ: يجِبُ أنْ يكونَ صدَقَ في ما حكاه عنِ الخليلِ كما صدَقَ في ما حكاه عنِّي.
ولعِظَمِ منزلةِ كتابِ سيبويه كانَ يُهدى إلى الملوكِ والوزراءِ، ووسَمَه بعضُهم بـ(قرآنِ النحوِ)؛ لأنه حَمَّالُ أوجهٍ، وقالوا لمن أرادَ قراءتَه: هل ركبتَ البحرَ؟! تعظيمًا له.
كتابُ سيبويه خِلْوٌ من مقدِّمةٍ يشرحُ فيها سببَ تأليفِه أو زمانَه أو مصادرَه، وخِلْوٌ من خاتِمَةٍ يبيِّنُ فيها نتائجَ عملِه. لم يضعْ سيبويهِ لكتابِه عنوانًا، ولعلَّ ذلك لقربِ أجلِه فلم يتسنَّ له ذلك، أو لحداثةِ التأليفِ في ذاك الزمانِ فضلاً عن وضعِ العنواناتِ المميِّزَةِ، وصارَ اسمُ (الكتاب) علَمًا بالغلَبةِ عليه.
وفي أسلوبِه كثيرٌ مِنَ الغموضِ، وفي ذلك يقولُ ابنُ كيسانَ (ت:320هـ): ((نظرنا في كتابِ سيبويه فوجدناه في الموضعِ الذي يستحقُّه، ووجدنا ألفاظَه تحتاجُ إلى عبارةٍ وإيضاحٍ؛ لأنه كتابٌ ألِّفَ في زمانٍ كان أهلُه يألَفونَ مثلَ هذه الألفاظِ، فاختُصِرَ على مذاهبِهم)) غيرَ أنَّ قليلاً من الدُّربةِ والتمرُّسِ بأسلوبِ الكتابِ وتعرُّفِ مصطلحاتِه يجعلُ من قراءةِ سيبويه متعةً نافعةً، ونفعًا ممتِعًا، لمن كانَ ذا إلمامٍ كافٍ وشغَفٍ بالفنِّ.
ومن نحن بوزانِ سيبويه وكتابِه ؟
نفترِضُ فينا -نحن قراءَ الدعويةِ- أننا مثقفون بلغةِ العصرِ، فلسنا دهماءَ ولا عوامَّ، والمثقَّفُ من يأخُذُ من كلِّ علمٍ وفنٍّ بطرَفٍ، فكيفَ تأذنُ للعمرِ أنْ ينقضيَ ولم تنظرْ في كتابِ سيبويه؟ بل عقدتَ العزمَ على تركِ النظرِ فيه، أفهذا من النِّصْفَةِ بسببٍ، ومن أداءِ حقِّ المعرفةِ والثقافةِ في شيءٍ.
فإنْ بدا لك عزمٌ على مراجعةِ الموقفِ الأوَّلِ من الكتابِ وصاحبِه، فهاكَ نصَّينِ من نصوصِه قد يفتحانِ لك بابًا تلجُ من خلالِه لتنعَمَ برياضِه وتشمَّ عِطْرَ أزهارِه:
النص الأول: ((هذا باب اللفظ للمعاني:
اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. وسترى ذلك إن شاء الله تعالى.
فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضّالة. وأشباه هذا كثير))
النص الثاني: ((هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة:
فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غدًا.
وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بآخره، فتقول: أتيتك غدا، وسآتيك أمس.
وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيدًا رأيت، وكي زيدٌ يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس))
ولا نعدَمُ في مواضعَ مِنَ الكتابِ عباراتٍ فيها لطافةٌ، من ذلك قولُه: ((كأنهم إنما يقدِّمونَ الذي بيانُه أهمُّ لهم وهم ببيانِه أعنى، وإن كانا جميعًا يُهمَّانِهم ويُعنيانِهم)).
فهل بعد هذا بنا حاجةٌ إلى كتاب سيبويه ؟
[/align]
المصدر: المجلة الدعوية، العدد 32
د. حسين بن علوي الحبشي
[align=justify]قبلَ الإجابةِ عن سؤالِ الحلَقَةِ تجدرُ معرفةُ البِنيةِ التركيبيَّةِ للسؤالِ المذكورِ، تأمَّلْ كيفَ جاءَ؟ لم يأتِ بالصيغةِ المشهورةِ في مثلِه، بأنْ يقالَ مثلاً: هل نحن في حاجة إلى كتاب سيبويه؟ لربما كانت هذه أيسرَ فهمًا وأقربَ متناوَلاً. ولكنها أبعدُ عنِ الصحَّةِ والسلامةِ اللغويةِ. فنحنُ لسنا في حاجةٍ، بل بنا حاجةٌ، فهل أدركتَ عزيزي القارئ فرقَ ما بينَهما وإنْ كانَ قد شاعَ الخطأ وخفِيَ الصوابُ. فيقولون: المريضُ في حاجةٍ إلى الراحةِ، والصواب: المريضُ به حاجةٌ. وليس فيها.
ثم نأتي للإجابةِ عنِ السؤالِ، ولكنْ قبلَ الإجابةِ عنه أيضًا ينبغي تفكيكُه إلى عدَدٍ مِنَ الأسئلةِ، الإجابةُ عنها سبيلٌ إلى الإجابةِ عنِ السؤالِ الأمِّ، فمَنْ سيبويهِ؟ وما كتابُه؟ ومن نحن؟ ثم ما حاجتُنا؟
فمن سيبويه هذا الذي ملأ الدنيا وشغَلَ الناسَ ؟
هو أبو بشرٍ، عمرو بنُ عثمانَ بنُ قَنْبَرٍ. سلالتُه فارسيةٌ، ونشأتُه بِصريةٌ. وسيبويهِ لقَبٌ له، ومعناه رائحةُ التفاحِ، قيلَ: كانَ من يلقاهُ لا يزالُ يشمُّ منه رائحةَ الطيبِ، فلُقِّبَ بذلك. أخَذَ عن شيوخٍ أجلُّهم الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ (ت:175هـ). وفي سببِ طلبِه علمَ العربيةِ ذكروا أنه جاءَ إلى حمادِ بنِ سلَمَةَ لكتابةِ الحديثِ فاستملى منه قولَه صلى الله عليه وسلم: (ليسَ من أصحابي أحدٌ إلا ولو شئتُ لأخذتُ عليه ليسَ أبا الدرداءِ) [الحديث في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي] فقالَ سيبويه: ليسَ أبو الدرداء، فصاحَ به حمادٌ: لحنتَ يا سيبويهِ، إنما هو استثناءٌ، فقال سيبويه: واللهِ لأطلبَنَّ علمًا لا يلحنُني معه أحدٌ، ثم مضى ولزِمَ الخليلَ ويونسَ بنَ حبيبٍ (ت:182هـ) وغيرَهما. كانَ شابًّا لطيفًا جميلاً، وكانَ في لسانِه حبسةٌ، وقلمُه أبلغُ من لسانِه. توفي -رحمه الله- سنةَ 180هـ ولم يجاوزِ الأربعينَ.
وما كتابُ سيبويه الذي بقي متأبيًّا على الانقيادِ ؟
قيلَ ليونسَ بنِ حبيبٍ بعدَ موتِ سيبويهِ: إنَّ سيبويهِ صنَّفَ كتابًا في ألفِ ورقةٍ من علمِ الخليلِ، فقالَ: ومتى سمِعَ سيبويهِ هذا كلَّه مِنَ الخليلِ؟ جيئوني بكتابِه، فلمَّا رآه قالَ: يجِبُ أنْ يكونَ صدَقَ في ما حكاه عنِ الخليلِ كما صدَقَ في ما حكاه عنِّي.
ولعِظَمِ منزلةِ كتابِ سيبويه كانَ يُهدى إلى الملوكِ والوزراءِ، ووسَمَه بعضُهم بـ(قرآنِ النحوِ)؛ لأنه حَمَّالُ أوجهٍ، وقالوا لمن أرادَ قراءتَه: هل ركبتَ البحرَ؟! تعظيمًا له.
كتابُ سيبويه خِلْوٌ من مقدِّمةٍ يشرحُ فيها سببَ تأليفِه أو زمانَه أو مصادرَه، وخِلْوٌ من خاتِمَةٍ يبيِّنُ فيها نتائجَ عملِه. لم يضعْ سيبويهِ لكتابِه عنوانًا، ولعلَّ ذلك لقربِ أجلِه فلم يتسنَّ له ذلك، أو لحداثةِ التأليفِ في ذاك الزمانِ فضلاً عن وضعِ العنواناتِ المميِّزَةِ، وصارَ اسمُ (الكتاب) علَمًا بالغلَبةِ عليه.
وفي أسلوبِه كثيرٌ مِنَ الغموضِ، وفي ذلك يقولُ ابنُ كيسانَ (ت:320هـ): ((نظرنا في كتابِ سيبويه فوجدناه في الموضعِ الذي يستحقُّه، ووجدنا ألفاظَه تحتاجُ إلى عبارةٍ وإيضاحٍ؛ لأنه كتابٌ ألِّفَ في زمانٍ كان أهلُه يألَفونَ مثلَ هذه الألفاظِ، فاختُصِرَ على مذاهبِهم)) غيرَ أنَّ قليلاً من الدُّربةِ والتمرُّسِ بأسلوبِ الكتابِ وتعرُّفِ مصطلحاتِه يجعلُ من قراءةِ سيبويه متعةً نافعةً، ونفعًا ممتِعًا، لمن كانَ ذا إلمامٍ كافٍ وشغَفٍ بالفنِّ.
ومن نحن بوزانِ سيبويه وكتابِه ؟
نفترِضُ فينا -نحن قراءَ الدعويةِ- أننا مثقفون بلغةِ العصرِ، فلسنا دهماءَ ولا عوامَّ، والمثقَّفُ من يأخُذُ من كلِّ علمٍ وفنٍّ بطرَفٍ، فكيفَ تأذنُ للعمرِ أنْ ينقضيَ ولم تنظرْ في كتابِ سيبويه؟ بل عقدتَ العزمَ على تركِ النظرِ فيه، أفهذا من النِّصْفَةِ بسببٍ، ومن أداءِ حقِّ المعرفةِ والثقافةِ في شيءٍ.
فإنْ بدا لك عزمٌ على مراجعةِ الموقفِ الأوَّلِ من الكتابِ وصاحبِه، فهاكَ نصَّينِ من نصوصِه قد يفتحانِ لك بابًا تلجُ من خلالِه لتنعَمَ برياضِه وتشمَّ عِطْرَ أزهارِه:
النص الأول: ((هذا باب اللفظ للمعاني:
اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. وسترى ذلك إن شاء الله تعالى.
فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضّالة. وأشباه هذا كثير))
النص الثاني: ((هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة:
فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غدًا.
وأما المحال فأن تنقض أول كلامك بآخره، فتقول: أتيتك غدا، وسآتيك أمس.
وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيدًا رأيت، وكي زيدٌ يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس))
ولا نعدَمُ في مواضعَ مِنَ الكتابِ عباراتٍ فيها لطافةٌ، من ذلك قولُه: ((كأنهم إنما يقدِّمونَ الذي بيانُه أهمُّ لهم وهم ببيانِه أعنى، وإن كانا جميعًا يُهمَّانِهم ويُعنيانِهم)).
فهل بعد هذا بنا حاجةٌ إلى كتاب سيبويه ؟
[/align]
المصدر: المجلة الدعوية، العدد 32