الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فباستقراء بعض أقوال أهل التفسير في قوله تعالى ( لا تقتلوه ) يتبين أن هناك من يفهم من كلامه أن المعني بذلك هو فرعون مثل الطبري وابن كثير وابن جزي رحمهم الله .
قال الطبري :
وقوله: (لا تَقْتُلُوهُ) مسألة من امرأة فرعون أن لا يقتله. وذُكِرَ أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون، قال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا فكان كذلك.
وقال ابن كثير :
يَعْنِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ همَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَتِ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ تُحَاجُّ عَنْهُ وتَذب دُونَهُ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ .
وقال ابن جزي : روي أنّ فرعون همّ بذبحه، إذ توسم أنه من بني إسرائيل، فقالت امرأته لا تقتلوه .
وآخرون يفهم من كلامهم أن المعني هم الحاشية والجنود مثل أبوحيان رحمه الله حيث قال :
وَلَمَّا الْتَقَطُوهُ، هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودَ الَّذِي يَحْذَرُونَ زَوَالَ مُلْكِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِ آسِيَةَ
امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ .
كما أن هناك من جمع بين هذين القولين مثل جلال الدين المحلي رحمه الله حيث قال :
{وَقَالَتْ امْرَأَة فِرْعَوْن} وَقَدْ هَمَّ مَعَ أَعْوَانه بقتله هو {قرت عَيْن لِي وَلَك لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعنَا أَوْ نَتَّخِذهُ وَلَدًا} فَأَطَاعُوهَا .
والظاهر والله أعلم أن كلاً من فرعون وأعوانه - من حاشية وغيرهم - داخلون في قوله تعالى ( لا تقتلوه ) .
ولا يعني ذلك أن من ذكر من أهل التفسير دخول فرعون أو الأعوان فقط دون ذكر الآخر أنه ينكر ذلك , ولكن لعل ذلك من
باب تفسير الآية ببعض من يدخل فيها وهذا لايدل على التخصيص إلا بقرينة أودليل يتبين به إرادة التخصيص .
قال د. مساعد الطيار في شرحه لمقدمة التسهيل لابن جزي ص 90
فإن قال قائل : كيف نعرف أن المفسر أراد التمثيل ولم يرد التخصيص ؟
الجواب : إن الأصل في تفسير العام بما يشعر الخصوص أنه يحمل على التمثيل إلا أن تدل عبارة المفسر على التخصيص بأن يذكر
لفظة خاصة أو توجد قرينة غير ها تدل عليه .
وقد جمع ابن عاشور الأقوال في قوله تعالى ( لا تقتلوه ) ورجح بينها في كلام نفيس حيث قال رحمه الله :
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهَا لَا تَقْتُلُوهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ فِرْعَوْنُ نَزَّلَتْهُ مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ :
قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 99] .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خِطَابُ فِرْعَوْنَ دَاخِلًا فِيهِ أَهْلُ دَوْلَتِهِ هَامَانُ وَالْكَهَنَةُ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ أَنَّ فَتًى مِنْ إِسْرَائِيلَ يُفْسِدُ
عَلَيْهِ مَمْلَكَتَهُ.
وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ فِيهِ تَمْهِيدًا لِإِجَابَةِ سُؤْلِهَا حِينَ أَسْنَدَتْ مُعْظَمَ الْقَتْلِ لِأَهْلِ الدَّوْلَةِ وَجَعَلَتْ لِفِرْعَوْنَ مِنْهُ حَظَّ الْوَاحِدِ مِنَ
الْجَمَاعَةِ فَكَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ رَأْيِهِ فَتُهَوِّنَ عَلَيْهِ عُدُولَهُ فِي هَذَا الطِّفْلِ عَمَّا تَقَرَّرَ مِنْ قَتْلِ الْأَطْفَالِ.
وَقِيلَ لَا تَقْتُلُوهُ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ إِلَى خِطَابِ الْمُوَكِّلِينَ بِقَتْلِ أَطْفَالِ إِسْرَائِيلَ كَقَوْلِهِ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ [يُوسُف: 29] .
فموقع جملَة قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ مَوْقِعُ التَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لِلْعَرْضِ. وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ لَا تَقْتُلُوهُ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ عَنِ الْمُقَدِّمَةِ وَلِذَلِكَ
فُصِلَتْ عَنْهَا.
وعلى ذلك يتناسب الإفراد في قوله تعالى عن آسية ( قرت عين لي ولك ) لأنه إذا لم يقتل هذا الولد وصار عند آسية لن يكون لغير آسية وفرعون شأن به فضلاً أن يكون قرة عين لغيرهما .
كما يتناسب الجمع في قوله تعالى عن آسية (لا تقتلوه ) لأنهم جميعًا أرادوا قتله سواء كان ذلك بالأمر أو اليد أو المشورة.
والله أعلى أعلم .