عمر البيانوني
New member
هل الحرية قبل الشريعة ؟
عمر بن عبد المجيد البيانوني
الحمد لله لا يُحصَى له عَدَدُ، ولا تحيط به الأقلامُ والمُدَدُ، وصلاةُ الله وسلامُه على أشرف الخلق صلاةً ما لها أمَدُ، وبعد،
فقد كَثُرَ الحديث عن الحرية وأهميَّتها، وذلك كردَّة فعل عن الاستبداد والظلم ومصادرة الحرِّيَّات، وبالغ بعضهم في الحرية حتى قال: الحرية قبل تطبيق الشريعة، وكأنَّ الحريةَ والشريعةَ خصمان لا بد من تقديم أحدهما على الآخر، فهل الحرية قبل الشريعة؟
هناك فرق بين من يقول ذلك معالجةً لواقع معين خاص وليس تقريراً لمبدأ عام، فالشعوب التي سُلبت حرِّيتها وانتهكت كرامتها لا بدَّ من استرداد حقِّها في الحرية والكرامة الإنسانية، أما من يقول: (الحرية قبل الشريعة)، مقرِّراً لمبدأ عام وجاعلاً الحرية أصلاً يحاكم عليه ما عداه ويقدِّمه على الشريعة فهذا مردود غير مقبول، وبيان ذلك من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن الشريعة لا تناقض الحرية ولا تعتدي عليها، بل إنَّ نظامَ الإسلامِ هو الذي يحقِّق حرِّيةَ الإنسانِ بأكمل صورة حين يقرِّر أنَّ هناك عبوديةً واحدةً لله الواحد الأحد، ويلغي العبوديات الباطلة في كافَّة صورها وأشكالها من عبوديَّة البشر للبشر، ومن عبوديتهم لأهوائهم وشهواتهم.
والإسلام أعطى الحرية لاعتقادات الناس على أن يظلوا تحت نظام الإسلام وإن لم يعتنقوه عقيدةً، فإقامة النظام الإسلامي لا يعني إكراه الناس على الدخول في الدين فقد قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، لكن يكونوا خاضعين لنظام الإسلام، فالحرية هي جزء من الشريعة، فلا معنى ولا مبرِّر لتقديم الحرية عليها.
والقول بأن الحرية قبل تطبيق الشريعة يوهم بأن الشريعة تناقض حريات الناس مع أنَّ من شروط التكليف أن يكون الإنسان حرَّاً مختاراً، فالمكره غير مؤاخذ على ما أكره عليه.
ليس معنى أن الشريعة قبل الحرية، وقبل كل شيء، وأنها الحاكمة على غيرها: إقصاء كل من يختلف معه أحد، أو اتهامه وتضليله، فقد قال تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً}، وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا البَلَاغُ}.
وليس معنى ذلك أيضاً: استبداد أحد بالحكم، فقد قال تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقال مخاطباً نبيَّه عليه الصلاة والسلام: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ}، أو قيام دولة دينية وليس إسلامية، والبعض ممن يقول: الحرية قبل تطبيق الشريعة يخشى من استبداد الإسلاميين وإقصائهم، مع أنَّ هذا كله ليس من الإسلام في شيء، وتصرفات المسلمين المخالفة للإسلام لا تمثل إلا من يقوم بها ولا تمثل الإسلام.
وبعضهم لا يعرف من الشريعة إلا تطبيق الحدود، مع أن تطبيق الحدود لا يكون إلا بعد أن تكتمل الشروط وتنتفي الموانع، وعندما يُطَبَّق الإسلامُ ويُرَبَّى الناسُ على مبادئه، فلن تحصل الجرائم التي توجب حداً على مرتكبها إلا في حالات نادرة جداً، بل إنَّ العقوبات الموجودة في القوانين الوضعية إذا اقتصروا على تطبيقها وحدها من غير تنمية للوازع الديني وتربية للناس فستظل الجرائم في ازدياد مستمر، كما حصلت المفارقة العجيبة بين الامتناع المباشر عن شرب الخمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وبين فرض قانون في أمريكا لمنع الخمور، وصرفت الكثير من الأموال وبذلت الكثير من الجهود، ثم تم إلغاء القانون ولم تفلح في منع الخمر.
الوجه الثاني: القول بتقديم الحرية على الشريعة يعني أنه لو وصل أحد الإسلاميين إلى الحكم فلا يجوز أن يحكم بالشريعة إلا إذا خيَّر الناس بين الشريعة وغيرها، ومتى كان الناس هم الحَكَم على شرع الله؟
ألم يقل الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً}.
الوجه الثالث: هل يقول أحد: الحرية قبل الالتزام بقوانين الدولة، أم أنَّ قوانينَ الدولةِ تسري على الجميع؟ أليس نظام الإسلام هو الأَوْلى بذلك.
فنظام الإسلام هو أكمل نظام عرفته البشرية لإصلاح الفرد والمجتمع، وأفضل تصوُّر للوجود والحياة، فقد اعترف بحاجات الناس ومطالبهم الدينية والدنيوية، الروحية والجسدية، فهو دين جاء لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، دينٌ يحارب الظلم والطغيان ويؤيد العدل والإحسان، دينُ الفطرة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
قال الدكتور محمد راتب النابلسي: (يتوهم الإنسان أن التحريم الواضح في القرآن مثل تحريم الربا والزنا قيود وضعها الدين عليه، لكنها في الحقيقة حماية لسلامته، تماماً كوضع لوحة "ممنوع الاقتراب ـ حقل ألغام" ). قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ـ والإسلام دين يتوافق مع العقل، فلا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح القطعي الثبوت والدلالة، وإذا ظهر شيء من التعارض فإما أن النقل غير صحيح ثبوتاً أو غير صريح دلالة، أو العقل غير قطعي صريح، أو هو تعارض في فهم مَنْ قَصُرَ فهمُه عن إدراك المسألة إدراكاً سليماً.
فالعقل من آيات الله الكونية والنقل من آيات الله الشرعية، وآيات الله تنسجم مع بعضها ولا تتعارض ولا تختلف.
ـ والإسلام لا يتعارض مع مصالح الناس، فحيثما وُجِدَتْ المصلحة فثَمَّ شرع الله، لكن المصلحة لا يحدِّدها إلا أهلُ العلم بدين الله، ولها شروطها المذكورة في كتب أصول الفقه ومن شروطها:
1ـ أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية. وأن تكون المصلحة عامة وليست شخصية.
2ـ اندراجها في مقاصد الشريعة.
3ـ أن لا تعارض المصلحة حكماً ثبت بالنص أو الإجماع، فما ثبت بالنص أو الإجماع هو المصلحة وإن ظهر للبعض خلاف ذلك.
4ـ أن لا تؤدي المصلحة إلى مفسدة مساوية لها أو أعظم منها. فـ (الضَّرَرُ لا يُزَال بمِثْلِه)، و(دَرْءُ المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جلب المصالح)، فعندما تتعارض المصلحة والمفسدة بنسبة مساوية يقدم درء المفسدة، وأيضاً من باب أَوْلى إذا رجحت المفسدة، أما إذا كانت المصلحة أعظم فيقدم جلب المصلحة.
فإذا أخطأ أحد الإسلاميين وتصرف بما يناقض المصلحة والعدل فهو يمثل اجتهاده وفهمه عن الإسلام ولا يمثل الإسلام، قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة جامعة تصلح أن تكون قاعدةً فقهيةً: (كلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشَّريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل) إعلام الموقعين: 3: 3.
وإذا كان في المسلمين من هو بعيد عن التقدم والحضارة، فذلك ليس بسبب إسلامه، وإنما بسبب ابتعاده عن تطبيق الإسلام أو عدم فهمه للإسلام فهماً سليماً، فالمسلمون الأوائل كانوا في تقدم باهر تفوقوا به على كثير من الأمم والحضارات، ثم خسر العالمُ الكثيرَ بسبب تراجعهم عما كانوا عليه وكتب الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله كتابه: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟).
الوجه الرابع: أن الشريعة هي الأصل الذي يحاكم عليه ما عداه، ولا يصح أن تجعل قيمة من القِيَم كالحرية وغيرها حاكمة على الشريعة.
فهل يقول أحد ممن يعتز بإسلامه أنه إذا تعارضت الحرية مع الشريعة تُقَدَّم الحرية؟ ومتى كانت الحرية هي الأصل الذي يحاكم عليه ما عداه حتى أنْ تُحاكَم الشريعةُ عليه؟ فالشريعة هي التي تحكم على الحرية وعلى غيرها، وليست الحرية ولا غيرها مَنْ تحكم على الشريعة.
والخلاصة: أنَّ الشريعةَ التي جاءت من عند الله قد أعطت الحرية مكانة عالية، والشريعةُ هي التي تحكم على الحرِّيَّات هل هي مقبولة أم غير مقبولة، ومن الخطأ أن تُجْعَل الحرية هي الأصل وتُحاكَم الشريعةُ عليه.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
عمر بن عبد المجيد البيانوني
الحمد لله لا يُحصَى له عَدَدُ، ولا تحيط به الأقلامُ والمُدَدُ، وصلاةُ الله وسلامُه على أشرف الخلق صلاةً ما لها أمَدُ، وبعد،
فقد كَثُرَ الحديث عن الحرية وأهميَّتها، وذلك كردَّة فعل عن الاستبداد والظلم ومصادرة الحرِّيَّات، وبالغ بعضهم في الحرية حتى قال: الحرية قبل تطبيق الشريعة، وكأنَّ الحريةَ والشريعةَ خصمان لا بد من تقديم أحدهما على الآخر، فهل الحرية قبل الشريعة؟
هناك فرق بين من يقول ذلك معالجةً لواقع معين خاص وليس تقريراً لمبدأ عام، فالشعوب التي سُلبت حرِّيتها وانتهكت كرامتها لا بدَّ من استرداد حقِّها في الحرية والكرامة الإنسانية، أما من يقول: (الحرية قبل الشريعة)، مقرِّراً لمبدأ عام وجاعلاً الحرية أصلاً يحاكم عليه ما عداه ويقدِّمه على الشريعة فهذا مردود غير مقبول، وبيان ذلك من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن الشريعة لا تناقض الحرية ولا تعتدي عليها، بل إنَّ نظامَ الإسلامِ هو الذي يحقِّق حرِّيةَ الإنسانِ بأكمل صورة حين يقرِّر أنَّ هناك عبوديةً واحدةً لله الواحد الأحد، ويلغي العبوديات الباطلة في كافَّة صورها وأشكالها من عبوديَّة البشر للبشر، ومن عبوديتهم لأهوائهم وشهواتهم.
والإسلام أعطى الحرية لاعتقادات الناس على أن يظلوا تحت نظام الإسلام وإن لم يعتنقوه عقيدةً، فإقامة النظام الإسلامي لا يعني إكراه الناس على الدخول في الدين فقد قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، لكن يكونوا خاضعين لنظام الإسلام، فالحرية هي جزء من الشريعة، فلا معنى ولا مبرِّر لتقديم الحرية عليها.
والقول بأن الحرية قبل تطبيق الشريعة يوهم بأن الشريعة تناقض حريات الناس مع أنَّ من شروط التكليف أن يكون الإنسان حرَّاً مختاراً، فالمكره غير مؤاخذ على ما أكره عليه.
ليس معنى أن الشريعة قبل الحرية، وقبل كل شيء، وأنها الحاكمة على غيرها: إقصاء كل من يختلف معه أحد، أو اتهامه وتضليله، فقد قال تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً}، وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظَاً إِنْ عَلَيْكَ إِلا البَلَاغُ}.
وليس معنى ذلك أيضاً: استبداد أحد بالحكم، فقد قال تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقال مخاطباً نبيَّه عليه الصلاة والسلام: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ}، أو قيام دولة دينية وليس إسلامية، والبعض ممن يقول: الحرية قبل تطبيق الشريعة يخشى من استبداد الإسلاميين وإقصائهم، مع أنَّ هذا كله ليس من الإسلام في شيء، وتصرفات المسلمين المخالفة للإسلام لا تمثل إلا من يقوم بها ولا تمثل الإسلام.
وبعضهم لا يعرف من الشريعة إلا تطبيق الحدود، مع أن تطبيق الحدود لا يكون إلا بعد أن تكتمل الشروط وتنتفي الموانع، وعندما يُطَبَّق الإسلامُ ويُرَبَّى الناسُ على مبادئه، فلن تحصل الجرائم التي توجب حداً على مرتكبها إلا في حالات نادرة جداً، بل إنَّ العقوبات الموجودة في القوانين الوضعية إذا اقتصروا على تطبيقها وحدها من غير تنمية للوازع الديني وتربية للناس فستظل الجرائم في ازدياد مستمر، كما حصلت المفارقة العجيبة بين الامتناع المباشر عن شرب الخمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وبين فرض قانون في أمريكا لمنع الخمور، وصرفت الكثير من الأموال وبذلت الكثير من الجهود، ثم تم إلغاء القانون ولم تفلح في منع الخمر.
الوجه الثاني: القول بتقديم الحرية على الشريعة يعني أنه لو وصل أحد الإسلاميين إلى الحكم فلا يجوز أن يحكم بالشريعة إلا إذا خيَّر الناس بين الشريعة وغيرها، ومتى كان الناس هم الحَكَم على شرع الله؟
ألم يقل الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ}، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً}.
الوجه الثالث: هل يقول أحد: الحرية قبل الالتزام بقوانين الدولة، أم أنَّ قوانينَ الدولةِ تسري على الجميع؟ أليس نظام الإسلام هو الأَوْلى بذلك.
فنظام الإسلام هو أكمل نظام عرفته البشرية لإصلاح الفرد والمجتمع، وأفضل تصوُّر للوجود والحياة، فقد اعترف بحاجات الناس ومطالبهم الدينية والدنيوية، الروحية والجسدية، فهو دين جاء لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، دينٌ يحارب الظلم والطغيان ويؤيد العدل والإحسان، دينُ الفطرة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
قال الدكتور محمد راتب النابلسي: (يتوهم الإنسان أن التحريم الواضح في القرآن مثل تحريم الربا والزنا قيود وضعها الدين عليه، لكنها في الحقيقة حماية لسلامته، تماماً كوضع لوحة "ممنوع الاقتراب ـ حقل ألغام" ). قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ـ والإسلام دين يتوافق مع العقل، فلا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح القطعي الثبوت والدلالة، وإذا ظهر شيء من التعارض فإما أن النقل غير صحيح ثبوتاً أو غير صريح دلالة، أو العقل غير قطعي صريح، أو هو تعارض في فهم مَنْ قَصُرَ فهمُه عن إدراك المسألة إدراكاً سليماً.
فالعقل من آيات الله الكونية والنقل من آيات الله الشرعية، وآيات الله تنسجم مع بعضها ولا تتعارض ولا تختلف.
ـ والإسلام لا يتعارض مع مصالح الناس، فحيثما وُجِدَتْ المصلحة فثَمَّ شرع الله، لكن المصلحة لا يحدِّدها إلا أهلُ العلم بدين الله، ولها شروطها المذكورة في كتب أصول الفقه ومن شروطها:
1ـ أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية. وأن تكون المصلحة عامة وليست شخصية.
2ـ اندراجها في مقاصد الشريعة.
3ـ أن لا تعارض المصلحة حكماً ثبت بالنص أو الإجماع، فما ثبت بالنص أو الإجماع هو المصلحة وإن ظهر للبعض خلاف ذلك.
4ـ أن لا تؤدي المصلحة إلى مفسدة مساوية لها أو أعظم منها. فـ (الضَّرَرُ لا يُزَال بمِثْلِه)، و(دَرْءُ المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جلب المصالح)، فعندما تتعارض المصلحة والمفسدة بنسبة مساوية يقدم درء المفسدة، وأيضاً من باب أَوْلى إذا رجحت المفسدة، أما إذا كانت المصلحة أعظم فيقدم جلب المصلحة.
فإذا أخطأ أحد الإسلاميين وتصرف بما يناقض المصلحة والعدل فهو يمثل اجتهاده وفهمه عن الإسلام ولا يمثل الإسلام، قال الإمام ابن القيم رحمه الله كلمة جامعة تصلح أن تكون قاعدةً فقهيةً: (كلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشَّريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل) إعلام الموقعين: 3: 3.
وإذا كان في المسلمين من هو بعيد عن التقدم والحضارة، فذلك ليس بسبب إسلامه، وإنما بسبب ابتعاده عن تطبيق الإسلام أو عدم فهمه للإسلام فهماً سليماً، فالمسلمون الأوائل كانوا في تقدم باهر تفوقوا به على كثير من الأمم والحضارات، ثم خسر العالمُ الكثيرَ بسبب تراجعهم عما كانوا عليه وكتب الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله كتابه: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟).
الوجه الرابع: أن الشريعة هي الأصل الذي يحاكم عليه ما عداه، ولا يصح أن تجعل قيمة من القِيَم كالحرية وغيرها حاكمة على الشريعة.
فهل يقول أحد ممن يعتز بإسلامه أنه إذا تعارضت الحرية مع الشريعة تُقَدَّم الحرية؟ ومتى كانت الحرية هي الأصل الذي يحاكم عليه ما عداه حتى أنْ تُحاكَم الشريعةُ عليه؟ فالشريعة هي التي تحكم على الحرية وعلى غيرها، وليست الحرية ولا غيرها مَنْ تحكم على الشريعة.
والخلاصة: أنَّ الشريعةَ التي جاءت من عند الله قد أعطت الحرية مكانة عالية، والشريعةُ هي التي تحكم على الحرِّيَّات هل هي مقبولة أم غير مقبولة، ومن الخطأ أن تُجْعَل الحرية هي الأصل وتُحاكَم الشريعةُ عليه.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.