مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
هل أنكر ابن جرير قراءة متواترة أو ردَّها ؟
الحمد لله القائل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى صحبه الغرِّ الميامين ، وعلى تابعيهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإنَّ هذا الموضوع كان مما يشغلني منذ زمن ، وكنت كلما أردت الكتابة فيه صرفتني عنه صوارف ، وقد رأيت أنه لابدَّ من الإشارة التي تغني عن العبارة ، وأنه لابدَّ من الذبِّ عن هذا الإمام العظيم الذي لا أدَّعي له العصمة ـ كلا وحاشا ـ وإنما المراد بيان منهجه الذي سار عليه في نقد القراءة ، والذي لم يكن بدعًا فيه .
وهنا يحسن التنبيه على أمرين غير متلازمين ، وهما :
الأول : احترام العالم وطريقته العلمية ورأيه الذي يذهب إليه .
والثاني : ردُّ رأيه إذا كان مخالفًا للصواب .
فالأولى لا يلزم منها قبول كلِّ رأي يصدر عنه ، والثانية لا يلزم منها عدم احترامه وتقديره .
والمقصود هنا أنَّ المسلم مأمور باتباع الحقِّ لا الرجال ، فإذا ظهر له أنَّ الحقَّ ليس مع هذا العالم بل مع غيره لزمه اتباع الحقِّ .
وقد تكوَّنت عندي خلال دراسة هذا الموضوع = أفكار في موضوع تواتر القراءات وما يتعلق بكتبها وتاريخها ، وكذا موضوع القراءات عند الطبري ، ولعل الله يعينني على إتمام تحريرها ، وعرضها من خلال هذا الملتقى المبارك أو من خلال كتاب يجمع أشتات تلك المسائل ، والله الموفق .
وأعود إلى أصل المسألة فأقول :
هل أنكر ابن جرير قراءة متواترة أو ردَّها ؟
إنَّ الجواب عن هذا السؤال يلزم من البحث في أمرين :
الأول : مفهوم التواتر ، وهذا يحتاج إلى بحث مستفيضٍ مستقلٍّ ؛ لأنه قد أصابه غبشٌ وعدمُ وضوحٍ ، فالتواتر في كل علم يختلف ، ولا تكاد تجدُ هذه العبارة في كتب السابقين ، وإنما تجد عندهم : ( قراءة العامة / القراءة المستفيضة / القراءة المشهورة / قراءة قراء الأمصار ) وغيرها من المصطلحات التي تدلُّ على شيوع القراءة وانتشارها ، أمَّا لفظ التواتر فلم أقف عليه عند من قبل الطبري ( ت : 310 ) ، ولا عند ابن مجاهد ( ت : 324 ) الذي سبَّع السبعة ، ولا عند الداني ( ت : 444 ) في كتابه التيسير ، الذي اعتمده الشاطبي ( ت : 590 ) ونَظَمَهُ في قصيدته اللامية التي صارت تُعرف بالشاطبية . وإنما جاء هذا المصطلح متأخِّرًا بعد تسبيع السبعة بزمنٍ .
فابن مجاهد ( ت : 324 ) يقول في كتابه السبعة ( ص : 49 ) : (( والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوَّليهم تلقِّيًا ، وقام بها كل في مصر من هذه الأمصار رجلٌ ممن أخذ من التابعين ، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه ، وتمسكوا بمذهبه )) .
وقال في موطن آخر من مقدمته لهذا الكتاب ( ص : 87 ) : (( … فهؤلاء سبعة نفرٍ من أهل الحجاز والعراق والشام ، خلفوا في القراءة التابعين ، وأجمعت على قراءتهم العوامُّ من أهل كلِّ مصر من الأمصار ، إلا أن يستحسن رجل لنفسه حرفًا شاذًّا فيقرأ به ، من الحروف التي رُويت عن بعض الأوائل منفردة ، فذلك غير داخلٍ في قراءة العوامِّ ، ولا ينبغي لذي لبٍّ أن يتجاوز ما مضت عليه الأمة والسلف بوجه يراه جائزًا في العربية ، أو مما قرأ به قارئ غير مجمع عليه )) .
استطراد : من باب المناسبة أدعو الإخوة المتخصصين في العلوم إلى إقامة مدارسات في مقدمات كتب العلوم ، ففيها نفائس وقواعد وفوائد لا تُحصى ، كما أنها تبيِّن مناهج المؤلفين وشيئًا من مصطلحاتهم وعباراتهم ، وقد لمست ذلك في قراءتي لبعض مقدمات كتب التفسير وغيرها من كتب التخصص مع بعض الأصحاب ، وفقني الله وإياكم إلى الصواب .
وقال الداني ( ت : 444 ) في التيسير ( ص : 2 ) : (( … ويتضمن من الروايات والطرق ما اشتهر وانتشر عند التالين ، وصحَّ وثبت عند المتصدرين من الأيمة المتقدمين )) .
وهؤلاء الأئمة السبعة الذين تلقت العامة قراءتهم بالقبول ، قد يرد عنهم حروف مفردة لم يقبلها العلماء ، وهي خارج القراءة العامة التي أقرأ بها الإمام منهم ، لذا لا يُعدُّ كل ما روي عنهم في درجة واحدة من القبول ، بل ما كان معروفًا بالنقل من الطرق المعتبرة عند أهل هذا الشأن .
وإنما أُشير لهذا ليُعلم أنَّ الحكم بقبول قراءتهم إنما هو فيما اختاروه وأقرءوا به العامة وانتشر ، دون تلك الأفراد التي لا يخلو منها إمام منهم .
وإذا تأملت ما ذكره هؤلاء العلماء من أسانيد القراءة وجدتها تقف عند هؤلاء السبعة ، فهي في حقيقتها أفراد ، لكن لما تلقتها الأمة بالقبول فإنها صارت قراءة مستفيضة مشهورة ، وهذا لو كان هو الضابط بدل التواتر لكان ، لكن للفظ التواتر سلطان يحتاج إلى تحريرٍ .
ولعلك على خُبرٍ بنِزاع ـ ليس هذا محلُّه ـ وهو ما المتواتر من السبعة ، هل هو أفراد القراءات أم مجموعها ؟ وهذا من الموضوعات التي تحتاج إلى تنبيه ليتبصَّر به من يكتب في موضوع تواتر القراءات .
وإنه ليس من شكٍّ اليوم بصحة ما تلقته الأمة من كتاب ربها وقرأته على مرِّ العصور بقراءتها العشر التي تلقتها بالقبول جيلاً عن جيلٍ ، ولا أودُّ أن يُفهم طرح هذه المسألة للنقاش أن في الأمر شكًّا في تواتر القراءات اليوم ، وإنما المراد النظر إلى القراءات في كلِ جيل ، والاعتذار لما وقع من بعض العلماء العارفين من ردِّ بعض القراءات ، وأنهم إنما ردُّوها بأسلوبٍ علميٍّ مناسب لما تلقوه من القراءات ، وليس عن هوى أو جهلٍ منهم .
ولا يصلح اليوم الاستدلال بردِّ هؤلاء العلماء للقراءات اليوم بعد قيام الحجة بقبولها واعتماد تواترها بعد تسبيعها أو تعشيرها .
والأمر أطول مما صورته لك هنا ، أسأل الله أن يوفق من يكتب فيه كتابة مستفيضة تجلِّي غامضه ، وتبيِّن طرائق العلماء في كلِّ عصر في تلقي القراءة ، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه .
الثاني : هل ثبت أن ابن جرير أثبت تواتر قراءة ثمَّ أنكرها ، فإن كان ثبت ذلك ، فهنا الملامة تقع ، والإنكار عليه يصح .
لكن الأمر بخلاف ذلك ، فما ردَّه أو اعترض عليه لم يكن مما ثبتت استفاضته وشهرته عنده ، بل هو عنده في حكم الشاذ الذي لا يُعترضُ به على المستفيض من القراءة .
ومن عباراته في هذا المقام ـ وهي كثيرة :
1 ـ ( وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط ، فغير جائز الاعتراض به على الحجة ) تحقيق شاكر 16 : 4 .
2 ـ ( الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة ، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم = كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم ) تحقيق شاكر 9 : 566 .
ولأضرب لك مثالاً تطبيقيًّا ناقش فيه ابن جرير قراءة حُكِمَ عليها بالتواتر بعده ، فقد أورد في قوله تعالى : (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36) .
قال : (( واختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة القراء : (وَضَعَتْ) ، خبرًا من الله ـ عز وجل ـ عن نفسه أنه العالم بما وضعت من غير قِيلِها : ( رب إني وضعتها أنثى ) .
وقرأ ذلك بعض المتقدمين : (والله أعلم بما وضعتُ) ، على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة : والله أعلم ـ بما ولدت ـ مِنِّي .
وأولى القراءتين بالصواب : ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها ، لا يتدافعون صحتها ، وذلك قراءة من قرأ : (والله أعلم بما وضعتْ) ، ولا يُعْتَرَضُ بالشاذِّ عنها عليها )) تفسير الطبري ، تحقيق د/ عبد الله التركي ( 5 : 336 ) .
والقراءة التي اختارها هي قراءة نافع وابن كثير وحفص عن عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي .
والقراءة التي حكم عليها بالشذوذ هي قراءة أبي بكر عن عاصم وابن عامر .
والقراءتان بالنسبة لنا قراءتان سبعيَّتان مقبولتان بلا إشكال ، لكن كانت القراءة الأخرى بالنسبة للطبري ( ت : 310 ) شاذَّةً لمخالفتها قول الجمهور من القراء ، وقراءة الجمهور عنده معتبرة ، وهو يحكيها على أنها إجماعٌ والإجماع حجة ، وما خالف الإجماع من قول الواحد والاثنين فلا اعتبار به عنده ، وعلى هذا سار في حكاياته للإجماع في التفسير والقراءات وغيرهما .
وعلى هذا فهو سائر على منهجٍ علميٍّ صحيح ، لكن النتيجة التي حكم بها يخالفه غيره فيها ، وقول غيره هو المقدم ، وهم جمهور علماء القراءة الذين قبلوا هذه القراءة التي شذَّذها .
ومن هنا أقول : إنَّ الحكم بشذوذ القراءة عند الطبري وغيره مما يحتاج إلى دراسة وبحث عميق .
وأعود فأقول : إنه إذا كان يحكم على القراءة بالشذوذ بالنسبة إلى ما وصله من علم بهذه القراءة ، فكيف يقال إنه ينكر القراءة المتواترة ، أو أنه يردها ؟!
هل أثبت الطبري تواترها ثمَّ طعن فيها وردَّها ؟!
ولو تنبَّه من اعترض على ابن جرير إلى هذه المسألة لما أصدر هذا الحكم ، وهو أنَّ ابن جرير ينكر القراءات المتواترة ، أو يعترض عليها وينتقدها .
ثمَّ إنَّ ابن جرير له منهجٌ علميٌّ واضح في نقد القراءات ، وهذا المنهج الذي تبِعه لم يكن بدعًا فيه ، بل سار عليه فيه من قبله ، كما سار عليه من بعدَه .
وقد أشار إلى طرفه في كتابه الجامع ، قال أبو عبد الله المنتوري ( ت : 834 ) في كتابه شرح الدرر اللوامع في أصل مقرأة نافع ( 2 : 864 ) : (( وقال الطبري في الجامع : ثم كل من اختار حرفًا من المقبولين من الأئمة المشهورين بالسنة والاقتداء بمن مضى من علماء الشريعة = راعى في اختياره :
الرواية أوَّلاً .
ثمَّ موافقة المصحف الإمام ثانيًا .
ثم العربية ثالثًا .
فمن لم يراع الأشياء الثلاثة في اختياره لم يُقبل اختياره ، ولم يتداولْه أهل السنة والجماعة )) .
وهذه الأصول الثلاثة التي أشار إليها هي التي سار عليها العلماء في توثيق القراءة ونقدها ، ولهم في ذلك نصوص وتطبيقات يعرفها من قرأ في كتب القراءات وتوجيهها .
وهذا المنهج الذي سار عليه الطبري في قبول القراءة أو نقدها منهج علميُّ معتبر عند غيره ، وقد أفاض في بيان ذلك الباحث ( زيد بن علي مهارش ) المحاضر بكلية المعلمين بجيزان في رسالته الماتعة ( منهج ابن جرير الطبري في القراءات وضوابط اختيارها في تفسيره ) تحت باب بعنوان ( ضوابط اختيار القراءة عند الطبري ) .
ولولا خشية الإطالة لذكرت لك من عبارات العلماء ما تواطأت مع عبارته في اعتبار هذه الشروط الثلاثة .
ولأجل صحة الرواية ردَّ قراءة ابن عامر ولم يقبلها ، وقد علل لذلك فقال : (( وقد زعم بعضهم أن عبد الله بن عامر أخذ قراءته عن المغيرة بن أبي شِهاب المخزومي وعليه قرأ الْقُرْآن ، وأن المغيرة قرأ على عثمان رضي الله عنه .
وهذا غير معروف عن عثمان ، وذلك أنا لا نعلم أن أحدا ادعى أنَّ عثمان أقرأه الْقُرْآن ، بل لا نَحْفَظ عنه من أحرف الْقُرْآن إلا أحرفا يسيرة ، ولو كان سبيله في الانتصاب لأخذ القرآن على من قرأ عليه السبيل التي وصفها الراوي عن المغيرة بن أبي شهاب ما ذكرنا ، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه والحكاية عنه غيره من المسلمين ، إما من أدانيه وأهل الخصوص به ، وإما من الأباعد والأقاصي ، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمس رحماً ، وأوجب حقا من المغيرة ، كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته من لا يحصي عدده كثرة ، وفي عدم مدعي ذلك عن عثمان الدليل الواضح على بطول قول من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن أبي شهاب ، ثم إلى أن أخذها المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان قراءة عليه .
وبعدُ ، فإنَّ الَّذِي حكى ذلك وقاله رجل مجهول من أهل الشام لا يعرف بالنقل في أهل النقل ، ولا بالْقُرْآن في أهل الْقُرْآن ، يقال عراك بن خالد المري ، ذكر ذلك عنه هشام بن عمار ، وعراك لا يعرفه أهل الآثار ولا نعلم أحدا روى عنه غير هشام بن عمار.
وقد حدثني بقراءة عبد الله بن عامر كلها العباس بن الوليد البيروتي وقال حدثني عبد الحميد بن بكار عن أيوب بن تميم عن يحي بن الحارث عن عبد الله بن عامر اليحصبي أن هذه حروف أهل الشام التي يقرءونها .
فنسب عبد الله بن عامر قراءته إلى أنها حروف أهل الشام في هذه الرواية التي رواها لي العباس بن الوليد ، ولم يضفها إلى أحد منهم بعينه ، ولعله أراد بقوله : إنها حروف أهل الشام أنه قد أخذ ذلك عن جماعة من قرائها ، فقد كان أدرك منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقا كثيرا ، ولو كانت قراءته أخذها كما ذكر عراك بن خالد عن يحي بن الحارث عنه عن المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن ليترك بيان ذلك إن شاء الله تعالى مع جلالة قدر عثمان ، ومكانه عند أهل الشام ، ليُعَرِّفهم بذلك فضل حروفه على غيرها من حروف القراء )) . نقلاً عن مقال للشيخ أحمد بن فارس السلوم في ملتقى أهل الحديث .
وقال أبو عمرو الداني في كتاب جامع البيان ( مخطوط / لوحة 28 ) : (( وقد كان محمد بن جرير الطبري فيما أخبرنا الفارسي عن عبد الواحد بن عمر عنه يضعِّف اتصال قراءة ابن عامر ويُبْطِل مادتها من جهتين :
إحداهما : أن الناقل لاتصالها مجهول في نقلة الأخبار …في حملة القرآن وهو عراك بن خالد المقرئ ، وأنه لم يرو عنه غير هشام بن عمار وحده .
والثانية : أن أحدًا من الناس لم يَدَّعِ أن عثمان أقرأه القرآن ، قال : ولو كان سبيله في الانتصاب ؛ لأخذ القرآن على من قرأه عليه السبيل التي وصفها الراوي عن المغيرة ، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه والحكاية عنه غيره من المسلمين ؛ إما من دانيه وأهل الخصوص ، وإما من الأباعد منه والأقاصي ، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمس به رحما وأوجب حقا من المغيرة ؛ كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته ، ومن الأباعد من لا يُحصى عدده كثرة .
وفي عدم مدعي ذلك على عثمان ـ رضي الله عنه ـ الدليلُ الواضحُ على بُطُولِ قولِ من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن شهاب ، ثم إلى أن أخذها المغيرة عن عثمان قراءة عليه )) انتهى .
وهذا الموقف من الطبري من جهة علمية مقبول ، أي : أنه لم يردَّ القراءة من باب الجهل أو الهوى ، وإنما ردَّها لاعتبار علميٍّ مقبول من جهة البحث ، لكن النتيجة التي توصَّل إليها غير صحيحة ، ولم يقبلها العلماء الذين اعتبروا قراءة ابن عامر ورضوها ، وقد تلقها الناس بالقبول .
فالذي استنكره الطبري من السند ، وهو عراك بن خالد قد عرفه غيره ووثَّقه في النقل ، ومن عرف حجة على من لم يعرف .
وعراك له رواية في الحديث ، وقد ذكره المحدثون في تراجمهم ، ومن أوسع تراجمه ما ذكره المزي في تهذيب الكمال ، وقد ذكر من روى عنهم ، وهم :
إبراهيم بن أبي عبلة ، وإبراهيم بن وثيمة النصري ، وأبوه خالد بن يزيد المري ، وأبو أمية عبد الرحمن بن السندي مولى عمر بن عبد العزيز ، وعبد الملك بن أبان ، وعثمان بن عطاء الخرساني ، ويحيى بن الحارث الذِّماري ، وقرأ عليه القرآن .
ثمَّ ذكر من رووا عنه ، وهم :
أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن بن بكار الدمشقي ، وأبو الفضل الربيع بن ثعلب المقرئ ، وقرأ عليه القرآن ، وعبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان المقرئ ، ومحمد بن ذكوان الدمشقي ، ومحمد بن وهب بن عطية السلمي ، ومروان بن محمد الطاطري ، وموسى بن عامر المريّ ، وهشام بن عمار ، وقرأ عليه القرآن .
ونقل المزيُّ عن المقرئ أبي علي أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني ، قال : عراك بن خالد من المشهورين عند أهل الشام بالقراءة والأخذ عن يحيى بن الحارث ، وعن أبيه ، وعن غيره بالضبط عنهم . ( ينظر : تهذيب الكمال 5 : 149 ) .
ومن كان هذا حاله في الآثار والقرآن ، فقد ارتفعت عنه الجهالة التي حكم بها الطبري رحمه الله ، فما كان بالنسبة له مجهولاً لا يُعرف ، كان بالنسبة لغيره معروفًا موثَّقًا في نقل القراءة ، والله أعلم .
وممن اعترض عليه وردَّ قوله أبو عمرو الداني فقد انتقده بعد سياقه لاحتجاج الطبري السابق ، كما لذا نبَّه الشاطبي إلى عدم الاغترار بنقد الطبري لقراءة ابن عامر .
ولا شكَّ عندنا اليوم أنَّ قراءة ابن عامر من القراءات المقبولة المتلقاة جيلاً بعد جيل بالرضا والقبول ، وأنَّ قول الطبري ـ مع جلالته ـ غير مقبولٍ فيها ، وإن كان بالنسبة له هو عنده وجه في عدم قبولها ؛ لأنَّ سندها لم يتصل عنده .
ثُمَّ أعود فأقول : إنَّ أوَّل ما يجب على من زعم أنَّ ابن جرير أنكر قراءة متواترةً أن يُثبتَ تواترها عند ابن جرير أوَّلاً ، ثمَّ يُسلَّم له تعبيره هذا .
أما أن يُحكَّم ابن جرير إلى مصطلح لم ينشأ إلا بعده ، فإن هذا مما لا يخفى بطلانه علميًّا ، وهذه مسألة تعود إلى معنى التواتر في القراءات ، ومتى نشأ الحكم بتواتر السبعة أو العشرة .
فتسبيع السبعة أو تعشير العشرة والحكم عليها أنها هي القراءات المتواترة ، أو السبعة متواترة والثلاثة الأخرى مشهورة ـ على اختلافٍ لا أثر له في صحة قراءتهم ـ إنما جاء بعد ابن جرير ، والحكم عليه بشيء جاء بعده ظاهر الفساد .
وأرجو ـ بعد هذا ـ أن يتضح الموقف الصحيح من الإمام الطبري في ردِّه للقراءات التي حكم العلماء بقبولها ، وهو عدم الاعتداد بردِّه وإنكاره لها ، لكن لا يقال إنه أنكر قراءة متواترةً ، والله الموفق .
الحمد لله القائل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى صحبه الغرِّ الميامين ، وعلى تابعيهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإنَّ هذا الموضوع كان مما يشغلني منذ زمن ، وكنت كلما أردت الكتابة فيه صرفتني عنه صوارف ، وقد رأيت أنه لابدَّ من الإشارة التي تغني عن العبارة ، وأنه لابدَّ من الذبِّ عن هذا الإمام العظيم الذي لا أدَّعي له العصمة ـ كلا وحاشا ـ وإنما المراد بيان منهجه الذي سار عليه في نقد القراءة ، والذي لم يكن بدعًا فيه .
وهنا يحسن التنبيه على أمرين غير متلازمين ، وهما :
الأول : احترام العالم وطريقته العلمية ورأيه الذي يذهب إليه .
والثاني : ردُّ رأيه إذا كان مخالفًا للصواب .
فالأولى لا يلزم منها قبول كلِّ رأي يصدر عنه ، والثانية لا يلزم منها عدم احترامه وتقديره .
والمقصود هنا أنَّ المسلم مأمور باتباع الحقِّ لا الرجال ، فإذا ظهر له أنَّ الحقَّ ليس مع هذا العالم بل مع غيره لزمه اتباع الحقِّ .
وقد تكوَّنت عندي خلال دراسة هذا الموضوع = أفكار في موضوع تواتر القراءات وما يتعلق بكتبها وتاريخها ، وكذا موضوع القراءات عند الطبري ، ولعل الله يعينني على إتمام تحريرها ، وعرضها من خلال هذا الملتقى المبارك أو من خلال كتاب يجمع أشتات تلك المسائل ، والله الموفق .
وأعود إلى أصل المسألة فأقول :
هل أنكر ابن جرير قراءة متواترة أو ردَّها ؟
إنَّ الجواب عن هذا السؤال يلزم من البحث في أمرين :
الأول : مفهوم التواتر ، وهذا يحتاج إلى بحث مستفيضٍ مستقلٍّ ؛ لأنه قد أصابه غبشٌ وعدمُ وضوحٍ ، فالتواتر في كل علم يختلف ، ولا تكاد تجدُ هذه العبارة في كتب السابقين ، وإنما تجد عندهم : ( قراءة العامة / القراءة المستفيضة / القراءة المشهورة / قراءة قراء الأمصار ) وغيرها من المصطلحات التي تدلُّ على شيوع القراءة وانتشارها ، أمَّا لفظ التواتر فلم أقف عليه عند من قبل الطبري ( ت : 310 ) ، ولا عند ابن مجاهد ( ت : 324 ) الذي سبَّع السبعة ، ولا عند الداني ( ت : 444 ) في كتابه التيسير ، الذي اعتمده الشاطبي ( ت : 590 ) ونَظَمَهُ في قصيدته اللامية التي صارت تُعرف بالشاطبية . وإنما جاء هذا المصطلح متأخِّرًا بعد تسبيع السبعة بزمنٍ .
فابن مجاهد ( ت : 324 ) يقول في كتابه السبعة ( ص : 49 ) : (( والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوَّليهم تلقِّيًا ، وقام بها كل في مصر من هذه الأمصار رجلٌ ممن أخذ من التابعين ، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه ، وتمسكوا بمذهبه )) .
وقال في موطن آخر من مقدمته لهذا الكتاب ( ص : 87 ) : (( … فهؤلاء سبعة نفرٍ من أهل الحجاز والعراق والشام ، خلفوا في القراءة التابعين ، وأجمعت على قراءتهم العوامُّ من أهل كلِّ مصر من الأمصار ، إلا أن يستحسن رجل لنفسه حرفًا شاذًّا فيقرأ به ، من الحروف التي رُويت عن بعض الأوائل منفردة ، فذلك غير داخلٍ في قراءة العوامِّ ، ولا ينبغي لذي لبٍّ أن يتجاوز ما مضت عليه الأمة والسلف بوجه يراه جائزًا في العربية ، أو مما قرأ به قارئ غير مجمع عليه )) .
استطراد : من باب المناسبة أدعو الإخوة المتخصصين في العلوم إلى إقامة مدارسات في مقدمات كتب العلوم ، ففيها نفائس وقواعد وفوائد لا تُحصى ، كما أنها تبيِّن مناهج المؤلفين وشيئًا من مصطلحاتهم وعباراتهم ، وقد لمست ذلك في قراءتي لبعض مقدمات كتب التفسير وغيرها من كتب التخصص مع بعض الأصحاب ، وفقني الله وإياكم إلى الصواب .
وقال الداني ( ت : 444 ) في التيسير ( ص : 2 ) : (( … ويتضمن من الروايات والطرق ما اشتهر وانتشر عند التالين ، وصحَّ وثبت عند المتصدرين من الأيمة المتقدمين )) .
وهؤلاء الأئمة السبعة الذين تلقت العامة قراءتهم بالقبول ، قد يرد عنهم حروف مفردة لم يقبلها العلماء ، وهي خارج القراءة العامة التي أقرأ بها الإمام منهم ، لذا لا يُعدُّ كل ما روي عنهم في درجة واحدة من القبول ، بل ما كان معروفًا بالنقل من الطرق المعتبرة عند أهل هذا الشأن .
وإنما أُشير لهذا ليُعلم أنَّ الحكم بقبول قراءتهم إنما هو فيما اختاروه وأقرءوا به العامة وانتشر ، دون تلك الأفراد التي لا يخلو منها إمام منهم .
وإذا تأملت ما ذكره هؤلاء العلماء من أسانيد القراءة وجدتها تقف عند هؤلاء السبعة ، فهي في حقيقتها أفراد ، لكن لما تلقتها الأمة بالقبول فإنها صارت قراءة مستفيضة مشهورة ، وهذا لو كان هو الضابط بدل التواتر لكان ، لكن للفظ التواتر سلطان يحتاج إلى تحريرٍ .
ولعلك على خُبرٍ بنِزاع ـ ليس هذا محلُّه ـ وهو ما المتواتر من السبعة ، هل هو أفراد القراءات أم مجموعها ؟ وهذا من الموضوعات التي تحتاج إلى تنبيه ليتبصَّر به من يكتب في موضوع تواتر القراءات .
وإنه ليس من شكٍّ اليوم بصحة ما تلقته الأمة من كتاب ربها وقرأته على مرِّ العصور بقراءتها العشر التي تلقتها بالقبول جيلاً عن جيلٍ ، ولا أودُّ أن يُفهم طرح هذه المسألة للنقاش أن في الأمر شكًّا في تواتر القراءات اليوم ، وإنما المراد النظر إلى القراءات في كلِ جيل ، والاعتذار لما وقع من بعض العلماء العارفين من ردِّ بعض القراءات ، وأنهم إنما ردُّوها بأسلوبٍ علميٍّ مناسب لما تلقوه من القراءات ، وليس عن هوى أو جهلٍ منهم .
ولا يصلح اليوم الاستدلال بردِّ هؤلاء العلماء للقراءات اليوم بعد قيام الحجة بقبولها واعتماد تواترها بعد تسبيعها أو تعشيرها .
والأمر أطول مما صورته لك هنا ، أسأل الله أن يوفق من يكتب فيه كتابة مستفيضة تجلِّي غامضه ، وتبيِّن طرائق العلماء في كلِّ عصر في تلقي القراءة ، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه .
الثاني : هل ثبت أن ابن جرير أثبت تواتر قراءة ثمَّ أنكرها ، فإن كان ثبت ذلك ، فهنا الملامة تقع ، والإنكار عليه يصح .
لكن الأمر بخلاف ذلك ، فما ردَّه أو اعترض عليه لم يكن مما ثبتت استفاضته وشهرته عنده ، بل هو عنده في حكم الشاذ الذي لا يُعترضُ به على المستفيض من القراءة .
ومن عباراته في هذا المقام ـ وهي كثيرة :
1 ـ ( وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط ، فغير جائز الاعتراض به على الحجة ) تحقيق شاكر 16 : 4 .
2 ـ ( الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة ، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم = كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم ) تحقيق شاكر 9 : 566 .
ولأضرب لك مثالاً تطبيقيًّا ناقش فيه ابن جرير قراءة حُكِمَ عليها بالتواتر بعده ، فقد أورد في قوله تعالى : (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36) .
قال : (( واختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة القراء : (وَضَعَتْ) ، خبرًا من الله ـ عز وجل ـ عن نفسه أنه العالم بما وضعت من غير قِيلِها : ( رب إني وضعتها أنثى ) .
وقرأ ذلك بعض المتقدمين : (والله أعلم بما وضعتُ) ، على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة : والله أعلم ـ بما ولدت ـ مِنِّي .
وأولى القراءتين بالصواب : ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها ، لا يتدافعون صحتها ، وذلك قراءة من قرأ : (والله أعلم بما وضعتْ) ، ولا يُعْتَرَضُ بالشاذِّ عنها عليها )) تفسير الطبري ، تحقيق د/ عبد الله التركي ( 5 : 336 ) .
والقراءة التي اختارها هي قراءة نافع وابن كثير وحفص عن عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي .
والقراءة التي حكم عليها بالشذوذ هي قراءة أبي بكر عن عاصم وابن عامر .
والقراءتان بالنسبة لنا قراءتان سبعيَّتان مقبولتان بلا إشكال ، لكن كانت القراءة الأخرى بالنسبة للطبري ( ت : 310 ) شاذَّةً لمخالفتها قول الجمهور من القراء ، وقراءة الجمهور عنده معتبرة ، وهو يحكيها على أنها إجماعٌ والإجماع حجة ، وما خالف الإجماع من قول الواحد والاثنين فلا اعتبار به عنده ، وعلى هذا سار في حكاياته للإجماع في التفسير والقراءات وغيرهما .
وعلى هذا فهو سائر على منهجٍ علميٍّ صحيح ، لكن النتيجة التي حكم بها يخالفه غيره فيها ، وقول غيره هو المقدم ، وهم جمهور علماء القراءة الذين قبلوا هذه القراءة التي شذَّذها .
ومن هنا أقول : إنَّ الحكم بشذوذ القراءة عند الطبري وغيره مما يحتاج إلى دراسة وبحث عميق .
وأعود فأقول : إنه إذا كان يحكم على القراءة بالشذوذ بالنسبة إلى ما وصله من علم بهذه القراءة ، فكيف يقال إنه ينكر القراءة المتواترة ، أو أنه يردها ؟!
هل أثبت الطبري تواترها ثمَّ طعن فيها وردَّها ؟!
ولو تنبَّه من اعترض على ابن جرير إلى هذه المسألة لما أصدر هذا الحكم ، وهو أنَّ ابن جرير ينكر القراءات المتواترة ، أو يعترض عليها وينتقدها .
ثمَّ إنَّ ابن جرير له منهجٌ علميٌّ واضح في نقد القراءات ، وهذا المنهج الذي تبِعه لم يكن بدعًا فيه ، بل سار عليه فيه من قبله ، كما سار عليه من بعدَه .
وقد أشار إلى طرفه في كتابه الجامع ، قال أبو عبد الله المنتوري ( ت : 834 ) في كتابه شرح الدرر اللوامع في أصل مقرأة نافع ( 2 : 864 ) : (( وقال الطبري في الجامع : ثم كل من اختار حرفًا من المقبولين من الأئمة المشهورين بالسنة والاقتداء بمن مضى من علماء الشريعة = راعى في اختياره :
الرواية أوَّلاً .
ثمَّ موافقة المصحف الإمام ثانيًا .
ثم العربية ثالثًا .
فمن لم يراع الأشياء الثلاثة في اختياره لم يُقبل اختياره ، ولم يتداولْه أهل السنة والجماعة )) .
وهذه الأصول الثلاثة التي أشار إليها هي التي سار عليها العلماء في توثيق القراءة ونقدها ، ولهم في ذلك نصوص وتطبيقات يعرفها من قرأ في كتب القراءات وتوجيهها .
وهذا المنهج الذي سار عليه الطبري في قبول القراءة أو نقدها منهج علميُّ معتبر عند غيره ، وقد أفاض في بيان ذلك الباحث ( زيد بن علي مهارش ) المحاضر بكلية المعلمين بجيزان في رسالته الماتعة ( منهج ابن جرير الطبري في القراءات وضوابط اختيارها في تفسيره ) تحت باب بعنوان ( ضوابط اختيار القراءة عند الطبري ) .
ولولا خشية الإطالة لذكرت لك من عبارات العلماء ما تواطأت مع عبارته في اعتبار هذه الشروط الثلاثة .
ولأجل صحة الرواية ردَّ قراءة ابن عامر ولم يقبلها ، وقد علل لذلك فقال : (( وقد زعم بعضهم أن عبد الله بن عامر أخذ قراءته عن المغيرة بن أبي شِهاب المخزومي وعليه قرأ الْقُرْآن ، وأن المغيرة قرأ على عثمان رضي الله عنه .
وهذا غير معروف عن عثمان ، وذلك أنا لا نعلم أن أحدا ادعى أنَّ عثمان أقرأه الْقُرْآن ، بل لا نَحْفَظ عنه من أحرف الْقُرْآن إلا أحرفا يسيرة ، ولو كان سبيله في الانتصاب لأخذ القرآن على من قرأ عليه السبيل التي وصفها الراوي عن المغيرة بن أبي شهاب ما ذكرنا ، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه والحكاية عنه غيره من المسلمين ، إما من أدانيه وأهل الخصوص به ، وإما من الأباعد والأقاصي ، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمس رحماً ، وأوجب حقا من المغيرة ، كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته من لا يحصي عدده كثرة ، وفي عدم مدعي ذلك عن عثمان الدليل الواضح على بطول قول من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن أبي شهاب ، ثم إلى أن أخذها المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان قراءة عليه .
وبعدُ ، فإنَّ الَّذِي حكى ذلك وقاله رجل مجهول من أهل الشام لا يعرف بالنقل في أهل النقل ، ولا بالْقُرْآن في أهل الْقُرْآن ، يقال عراك بن خالد المري ، ذكر ذلك عنه هشام بن عمار ، وعراك لا يعرفه أهل الآثار ولا نعلم أحدا روى عنه غير هشام بن عمار.
وقد حدثني بقراءة عبد الله بن عامر كلها العباس بن الوليد البيروتي وقال حدثني عبد الحميد بن بكار عن أيوب بن تميم عن يحي بن الحارث عن عبد الله بن عامر اليحصبي أن هذه حروف أهل الشام التي يقرءونها .
فنسب عبد الله بن عامر قراءته إلى أنها حروف أهل الشام في هذه الرواية التي رواها لي العباس بن الوليد ، ولم يضفها إلى أحد منهم بعينه ، ولعله أراد بقوله : إنها حروف أهل الشام أنه قد أخذ ذلك عن جماعة من قرائها ، فقد كان أدرك منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقا كثيرا ، ولو كانت قراءته أخذها كما ذكر عراك بن خالد عن يحي بن الحارث عنه عن المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن ليترك بيان ذلك إن شاء الله تعالى مع جلالة قدر عثمان ، ومكانه عند أهل الشام ، ليُعَرِّفهم بذلك فضل حروفه على غيرها من حروف القراء )) . نقلاً عن مقال للشيخ أحمد بن فارس السلوم في ملتقى أهل الحديث .
وقال أبو عمرو الداني في كتاب جامع البيان ( مخطوط / لوحة 28 ) : (( وقد كان محمد بن جرير الطبري فيما أخبرنا الفارسي عن عبد الواحد بن عمر عنه يضعِّف اتصال قراءة ابن عامر ويُبْطِل مادتها من جهتين :
إحداهما : أن الناقل لاتصالها مجهول في نقلة الأخبار …في حملة القرآن وهو عراك بن خالد المقرئ ، وأنه لم يرو عنه غير هشام بن عمار وحده .
والثانية : أن أحدًا من الناس لم يَدَّعِ أن عثمان أقرأه القرآن ، قال : ولو كان سبيله في الانتصاب ؛ لأخذ القرآن على من قرأه عليه السبيل التي وصفها الراوي عن المغيرة ، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه والحكاية عنه غيره من المسلمين ؛ إما من دانيه وأهل الخصوص ، وإما من الأباعد منه والأقاصي ، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمس به رحما وأوجب حقا من المغيرة ؛ كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته ، ومن الأباعد من لا يُحصى عدده كثرة .
وفي عدم مدعي ذلك على عثمان ـ رضي الله عنه ـ الدليلُ الواضحُ على بُطُولِ قولِ من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن شهاب ، ثم إلى أن أخذها المغيرة عن عثمان قراءة عليه )) انتهى .
وهذا الموقف من الطبري من جهة علمية مقبول ، أي : أنه لم يردَّ القراءة من باب الجهل أو الهوى ، وإنما ردَّها لاعتبار علميٍّ مقبول من جهة البحث ، لكن النتيجة التي توصَّل إليها غير صحيحة ، ولم يقبلها العلماء الذين اعتبروا قراءة ابن عامر ورضوها ، وقد تلقها الناس بالقبول .
فالذي استنكره الطبري من السند ، وهو عراك بن خالد قد عرفه غيره ووثَّقه في النقل ، ومن عرف حجة على من لم يعرف .
وعراك له رواية في الحديث ، وقد ذكره المحدثون في تراجمهم ، ومن أوسع تراجمه ما ذكره المزي في تهذيب الكمال ، وقد ذكر من روى عنهم ، وهم :
إبراهيم بن أبي عبلة ، وإبراهيم بن وثيمة النصري ، وأبوه خالد بن يزيد المري ، وأبو أمية عبد الرحمن بن السندي مولى عمر بن عبد العزيز ، وعبد الملك بن أبان ، وعثمان بن عطاء الخرساني ، ويحيى بن الحارث الذِّماري ، وقرأ عليه القرآن .
ثمَّ ذكر من رووا عنه ، وهم :
أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن بن بكار الدمشقي ، وأبو الفضل الربيع بن ثعلب المقرئ ، وقرأ عليه القرآن ، وعبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان المقرئ ، ومحمد بن ذكوان الدمشقي ، ومحمد بن وهب بن عطية السلمي ، ومروان بن محمد الطاطري ، وموسى بن عامر المريّ ، وهشام بن عمار ، وقرأ عليه القرآن .
ونقل المزيُّ عن المقرئ أبي علي أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني ، قال : عراك بن خالد من المشهورين عند أهل الشام بالقراءة والأخذ عن يحيى بن الحارث ، وعن أبيه ، وعن غيره بالضبط عنهم . ( ينظر : تهذيب الكمال 5 : 149 ) .
ومن كان هذا حاله في الآثار والقرآن ، فقد ارتفعت عنه الجهالة التي حكم بها الطبري رحمه الله ، فما كان بالنسبة له مجهولاً لا يُعرف ، كان بالنسبة لغيره معروفًا موثَّقًا في نقل القراءة ، والله أعلم .
وممن اعترض عليه وردَّ قوله أبو عمرو الداني فقد انتقده بعد سياقه لاحتجاج الطبري السابق ، كما لذا نبَّه الشاطبي إلى عدم الاغترار بنقد الطبري لقراءة ابن عامر .
ولا شكَّ عندنا اليوم أنَّ قراءة ابن عامر من القراءات المقبولة المتلقاة جيلاً بعد جيل بالرضا والقبول ، وأنَّ قول الطبري ـ مع جلالته ـ غير مقبولٍ فيها ، وإن كان بالنسبة له هو عنده وجه في عدم قبولها ؛ لأنَّ سندها لم يتصل عنده .
ثُمَّ أعود فأقول : إنَّ أوَّل ما يجب على من زعم أنَّ ابن جرير أنكر قراءة متواترةً أن يُثبتَ تواترها عند ابن جرير أوَّلاً ، ثمَّ يُسلَّم له تعبيره هذا .
أما أن يُحكَّم ابن جرير إلى مصطلح لم ينشأ إلا بعده ، فإن هذا مما لا يخفى بطلانه علميًّا ، وهذه مسألة تعود إلى معنى التواتر في القراءات ، ومتى نشأ الحكم بتواتر السبعة أو العشرة .
فتسبيع السبعة أو تعشير العشرة والحكم عليها أنها هي القراءات المتواترة ، أو السبعة متواترة والثلاثة الأخرى مشهورة ـ على اختلافٍ لا أثر له في صحة قراءتهم ـ إنما جاء بعد ابن جرير ، والحكم عليه بشيء جاء بعده ظاهر الفساد .
وأرجو ـ بعد هذا ـ أن يتضح الموقف الصحيح من الإمام الطبري في ردِّه للقراءات التي حكم العلماء بقبولها ، وهو عدم الاعتداد بردِّه وإنكاره لها ، لكن لا يقال إنه أنكر قراءة متواترةً ، والله الموفق .