هل أصول الفقه تصلح أن تكون قواعد هامة للتفسير

إنضم
07/12/2007
المشاركات
32
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مكناس - المغرب
أدى ظهور القرآن الكريم، ظهور الشرح لهذا الكتاب العزيز، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرب ألفاظ القرآن الكريم وأسراره للصحابة، وهذا ما أدى بهم إلى عدم الالتجاء إلى وضع قواعد للفهم قصد استخلاص مقاصد القرآن الكريم، بالإضافة إلى طول باعهم في معرفة اللسان العربي، إذ لهم اليد الطولى فيه لاعتبارهم أصحاب اللسان العربي الذي هو ثابت في نفوسهم بالأصالة ، لكن بعد وفات رسول الله ، ظهرت تحديات خارجية وداخلية، فالخارجية قد تمثلت في دخول الأعاجم إلى الإسلام، والداخلية تمثلت في الخلافات سياسية أدت إلى الخلافات العقدية .
كل هذه العوامل ساهمت في ظهور " أصول التفسير " قصد حماية النص القرآني من القراءات التابعة للاجتهادات والمذهبيات المختلفة ، وخصوصا وأن كل مذهب أو اتجاه يسعى لتحقيق ذاته، انطلاقا من نصوص الوحي عن طريق تأويل آياته، وتوجيهها توجيها مذهبيا غير صحيح.
وهذا ما أدى إلى ازدهار " التفسير" حيث ظهرت ألوان مختلفة للتفسير، منها ما هو لغوي، ومنها ما هو فقهي، ومنها ما هو من صميم علم الكلام...فكان من الضروري الرجوع إلى التراث الأدبي الجاهلي، وخصوصا الشعر الجاهلي، ثم أدى ذلك أيضا إلى فهم الشعر الجاهلي نفسه، وذلك بالاعتماد على القرائن، والأحوال، والملابسات زمن الجاهلية، لمعرفة أيام العرب وأخبار الشعراء، كل هذه الجهود دليل على حاجة الناس لمعرفة واكتساب اللسان العربي بسبب فشو واستشراء اللحن وظهور العجمة، فكان لزاما على الأمة تحصين مكتسباتها اللغوية، وذلك بمحاولة التقعيد لمختلف العلوم التي ظهرت، مع ظهور الوحي قصد " إعادة استدعاء القرآن العظيم للساحة الثقافية الإسلامية وإنهاء حالة الهجر والفصام بينه وبين العقل المسلم، وجعله المصدر الأول والأهم للمسلم المعاصر، كما كان عند السلف، يرجع إليه ليستقي منه العلم والمعرفة الدقيقة السليمة في نظرته إلى الإنسان والحياة والوجود، في الفطرة الإنسانية والاجتماعية، في قضايا الفرد والأسرة والمجتمع، والعلاقات والنظم" .
ظهر هذا الهجر ( أي هجر القرآن الكريم) مع ضعف المسلمين حيث مهد لما يسمى عند مالك بن نبي " القابلية للاستعمار"، هذه القابلية قد مهدت لسقوط جميع الدول الإسلامية تحت الاستعمار الذي أثَّر بدوره في عقلية المسلم الذي انبهر بالحضارة الغربية التي زعزعت مكانة الثوابت الإسلامية في عقله ووجدانه " لقد أجاد ابن خلدون فهم ظاهرة إقتداء المغلوب بالغالب من خلال دراسته لطبيعة العمران البشري وأحواله ...، إن اقتداء المغلوب بالغالب قد يكون بسبب تعظيم الغالب أو اعتقاد الكمال فيه، واحتقار النفس . كما يمكن أن يكون كذلك بالاعتقاد بأن ما انتحله الغالب من العوائد هو سبب غلبه، وبذلك يحصل التشبه والتقليد ظنا من المغلوب أن هذا التشبيه يرفعه إلى مستوى الغالب " .
هذا التَشَبُهُ والتقليد دفع مجموعة من المثقفين للاعتقاد بالفكر الغربي والدفاع عنه، وفي المقابل انتقاد كل ما له علاقة بالشريعة، لاعتقادهم أنه سبب الهزيمة الحضارية التي منيت بها الأمة الإسلامية، لذلك انتقدوه (الإسلام) وسددوا سهامهم اتجاهه لذلك قال الأستاذ منير شفيق الخبير بفكر المتغربين:" يلاحظ من أسلوب أغلب منتقدي الإسلام أنهم يسددون سهامهم إليه جزء جزء ، فيأخذون هذا الجزء أو ذاك منفردا وحده، ثم يعمدون إلى نقده وتجريحه، خصوصا، حين يحاكمونه على أساس منظور آخر، يقوم على منطق غير منطق الإسلام أو حين يتم تصور فعل ذاك الجزء ضمن كل آخر غير الكل الإسلامي، وبهذا يستطيع أصحاب المستوى الأول أن يسجلوا نصرا سهلا، ويضعوا المدافع عن الإسلام في مواقع ضعيفة وهو يدافع عن ذلك الجزء، خصوصا، حين يجر إلى مناقشة كجزء قائم بذاته معزولا عن كل كله الإسلامي" .
فالوحي عندما يعالج قضية من القضايا، لا ينظر إليها معزولة عن باقي القضايا الأخرى، بل ينظر إليها بشكل مترابط لا تقبل التفكيك أو التجزيء، لأنه ( الوحي) ببساطة منهج حياة، جاء ليقيم الحجة على الخلق " فلو لم يجز التفسير لا يكون حجة بالغة، فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وعرف شأن النزول أن يفسره، وأما من كان من المتكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز له أن يفسره إلا مقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير فلا بأس به، ولو أنه قال المراد من الآية كذا وكذا من غير أن يسمع فيه شيئا فلا يحل له هذا، وهذا الذي نُهِيَ عنه" .
لكن التهافت على تفسير كلام الله جل وعلا، بطريقة عارية عن المنهجية الصحيحة، شَكَّلَ خلالا معرفيا عند المسلمين، إذ أصبح الكل له الحق في تفسير القرآن الكريم، ولا تسأل بأي طريقة، أو بأي منهجية، مادام أهل التفسير لم يوحدوا نظرتهم إلى كلام الله وهذا ما حدا بالمرحوم أحميدة النيفر إلى القول :"مما يميز الفكر العربي الحديث في مجالي التأليف والنشر وفرة الإنتاج التفسيري للنص القرآني أو المعتمد عليه لمعالجة بعض القضايا النظرية أو المسائل الاجتماعية، ففي ظرف قرن ونصف ظهر في البلاد العربية ما يزيد عن مائة مؤلف فضلا عن المقالات التحليلية والدراسات الموضعيّة .
إلى جانب هذه الوفرة العددية نلاحظ أن العناية بالتفسير وإن لم تَفْترْ طيلة العصر الحديث فإن وتيرة صدورها يضل أمرا لافتا للنظر، السمة الأساسية لهذه الوثيرة هي: أنها مع استقرار نسبي تعر ف فترات تسارع كبير وغزارة غير معهودة. فترات الذروة هذه تبدو متزامنة أو تالية لأزمات مجتمعية و مؤسساتية بالغة الحدة، إثر ذلك تعود الوثيرة إلى وضع الاستقرار في انتظار طور تصاعدي جديد .
هذه الخصوصية تجعل اشتداد الاهتمام بالقرآن تفسيرا ودراسة مرتبطا بما يعتري المجتمعات العربية من اهتزازات وتساؤلات .
...ما يشد الانتباه أن نسبة عالية من هؤلاء ( المؤلفين) ليسوا من خريجي المعاهد الشرعية أو كليات أصول الدين، وليسوا من أصحاب الخطط الرسمية الدينية" .
هذه الجرأة السافرة على كلام الله تعالى عن طريق خلع القداسة عنه شجعت مجموعة من المثقفين العرب لتصريح بأقوال، وتأليف مؤلفات، في أغلبها مناوئة للشريعة والقرآن لذلك فالأستاذ حسن حنفي كمثقف عربي " اعتبر بعض المفاهيم والمصطلحات القرآنية غيبية لا تساهم في النهضة، فدعا إلى تجديد اللغة وعدم استعمال ألفاظ : الله، والدين، والجنة، والنار...، لأن الوجدان المعاصر لا يقبلها.
إن هذا التأثر بالآخر والتودد إليه جعل حنفي يستنكف من استعمال مصطلحات القرآن، ليستبدلها بألفاظ يقبلها الآخر، كما استنكف من العودة إلى " النصوص " أي : القرآن والسنة- لأن الآخرين من غير الإسلاميين لا يرتضونها...".
فحنفي يعتبر نموذجا من النماذج التي عبَّرت عن رأيها بصراحة تجاه الشريعة والقرآن وهو ليس أسوء من محمد أركون، أو نصر حامد أو زيد، أو عابد الجابري ..الخ. واللائحة طويلة. ، فالذي تعرفه بشكل فيه شيء من الصراحة خير من الذي يتترس وراء حيل وألاعيب غير نافقة في سوق العلماء وطلبة العلم على حد سواء،" ولأن القضية أكبر مما يتصوره البعض من أنها مجرد زوبعة في فنجان ...إضافة إلى أنها تدل على الجمود الذي تتمترس به أطراف، فتفسح المجال أمام الانفلات عند أطراف أخرى تجد لها صدى في واقع يعاني الجمود ويخشى الضياع، فلابد من الدخول في حوار مع هذا العقل المعاصر، وذلك لوضعه على المحك وإدخاله حيز النقاش والاختبار، وبيان وسائله وطرقه واستدلالاته ومناهجه، ومعرفة دوافعه ومحركاته، وذلك من خلال عملية نقد بنَّاءة تفسح المجال لنفض الجمود والكلالة وترشيد الجهود المعاصرة واستهلاك الأفكار العابرة ".

بالحوار ومقارعة الحجة بالحجة بشكل هادئ,مع تكثيف الجهود من أجل بناء أصول التفسير,قد يتوصل الطرف الآخر إلى مشكلته التي تكمن في الأساس على الفهم والوسائل المؤدية إليه: " وقد تكون مشكلة المسلمين كلها اليوم في منهج الفهم الموصل إلي التدبر وكسر الأقفال من على العقول والقلوب، وتجديد الاستجابة، وتحديد وسيلتها، ليكونوا في مستوى القرآن، ومستوى العصر، ويحقق الشهود الحضاري، ويتخلصوا من الحال التي استنكرها القرآن ) ں{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( {محمد:24}، ) {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ( {ص:29}... وفي تصوري: أن الأزمة التي لا نزال نعاني منها، ليست بافتقاد المنهج، فالمنهج( مصدر المعرفة) موجود، ومعصوم، ومختبر تاريخيا.. لكن المشكلة بافتقاد وسائل الفهم الصحيحة، وأدوات التوصيل، وكيفية التعامل مع القرآن أي : منهج فهم القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} {المائدة:48}.
فتصويب النظر والفهم في كتاب الله، وبناء المنهج السليم ضرورة من الضرورات لإخراج الأمة مما هي فيه، فالنوايا الحسنة لا تكفي، والإيمان بضرورة تجديد الفهم لا يغير من واقع الأمة- الخطير الذي تئن من هول ثقله- شيء لذلك " وجب وضع قانون يتوصل به إلى علم التفسير".
فلا خيار أمام الأمة من محاولة وضع هذا القانون، أولا قدر الله الانحراف عن الجادة، وبقاء الأمة في مَدَارِ ردود الأفعال المتشنجة " ولإعادة الأمور إلى نصابها، لابد من إعادة مفاهيم الوحي بعد تحصيلها إلى مواقعها وأحجامها، وإلا تشوه الدين، وازداد فساد المسلمين... عبثا نحاول إصلاح الحال قبل إصلاح العمل، وعبثا نحاول إصلاح العمل قبل تجديد الفهم، وعبثا نحاول تجديد الفهم قبل تجديد المنهج، ... فالمنهج الراشد ينتج العمل النافع، والعمل النافع ينتج العمل الصالح، والعمل الصالح ينتج الحال الصالح أو الحياة الطيبة".
فالمنهج السوي السليم سيكون بإذن الله تعالى جُنَّة من التحريف ووقاية من " هؤلاء الذين سميتهم بالطفيليين، والحق أن من نظر في قواعد العلوم، ومارس بحث مسائلها أدرك- لا محالة- أنه من المحال أو من الصعب أن يستثمر النصوص على سبيل مرض صحيح من لم يدرس العلوم المتعلقة بهذا الشأن ويعلم المسالك الضابطة للنظر، والمناهج المسلوكة في أخذ المعاني من مواطنها، ويُتقن القواعد التي على مدارها يجري التأمل، والبحث، والتي بها يهتدي إلى خبايا النصوص، وأسرارها. إذا تقرر هذا فإنه من الواجب – كما سبق ذكره- دراسة المنهج أو المناهج التي يُسار على مقتضى قواعدها في هذا الشأن (= تفسير النصوص) ولمها تحت فن وحصرها باعتبار أوصافها، وخصائصها، وما عليه مدارها من أمور.
وذلك يُحصل على أمرين هامين: أحدهما: معرفة ما يحكم هذا الأمر من قواعد، وضوابط وما فيه من مناهج وطرق مختلفة، ومعرفة الفاسد منها من الصحيح.
ثانيها: درء الفساد والإفساد عن الناس وعن المعرفة، وعن العقول التي تتلقى ما يقدم إليها من غير تمييز بين ما هو باطل، وما هو حق، وربما شغلها التناقض ما يقدم إليها من غير تمييز بين ما هو باطل، وما هو حق، وربما شغلها التناقض الذي تكسبه من تعدد التفاسير والشروح ليست إلا غثاء، وأوهاما خُيِّلَ لأصحابها أنها صحيحة، وهي في واقع الأمر ليست كذلك".
إن البحث المتواصل في هذا الشأن سيفضي في النهاية وبدون شك للتوصل إلى" أصول التفسير" في حلة جديدة كما قال الأستاذ الجيلالي المريني:" كما أن تكثير الاهتمام بقواعد التفسير، تقعيدا وتأصيلا، ودراسة، وتحليلا، وتحريرا، وتأكيدا على وجوب الالتزام بها، وتحذيرا من مغبة مخالفتها، وتشنيعا على كل تفسير لا يقوم عليها، يساعد على العودة إلى المنهج العلمي السليم، ويقلل من الاختلاف في فهم القرآن، كما يجعل التفسير موزونا بميزان الله ويفتح السبل أمام المتخصصين للدفاع بعجلة ا لبحث في هذا المضمار.
ولا غرابة في ذلك مادام الإنسان قادرا على الإبداع، بتحويل الأفكار من عالم البساطة إلى عالم الأفكار المركبة، ومن عالم الأفكار المجردة إلى عالم المادة المحسوس.
وإذا كان لكل عالم أصوله وقواعده التي تؤطر تفكيره، فالتفسير كذلك له أصوله لذلك قال الأستاذ محمد أبو زهرة:" إن الترتيب المنطقي للأمور ليقضي بأن القواعد الأصولية سابقة في الوجود على الفقه".
والمتتبع لمجموعة من العلماء يجد أن الكثير منهم يعتبر أصول الفقه منهجا فعالا في تفسير كتاب الله جل وعلا، فهذا الإمام محمد بن أحمد بن جزئ الغرناطي (ت292هـ=741م) يقول:" وأما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن على أن كثيرا من المفسرين لم يشتغلوا بها، وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال. وما أحوج المفسرين إلى معرفة النص، والظاهر، والمجمل، والمبين، والعام، والخاص، والمطلق، والمقيد، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ودليل الخطاب، وشروط النسخ، ووجوه التعارض، وأسباب الخلاف، وغير ذلك من علم الأصول".
ولمعرفة أهمية الأصول- بشكل جيد- ودورها في ترشيد الفهم قال الإمام أحمد بن تيمية:" لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرَدُّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت ؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم" .
أما الإمام الطاهر بن عاشور فيؤكد ما أشار إليه ابن جزئ من عدم إعمال أصول الفقه عند بعض المفسرين حيث يقول:" وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي، والعموم، وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما: أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية. مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عدَّ الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير .
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها".
وقد صنف علماء الإسلام مصنفات في أصول التفسير كما قال الأستاذ لطفي الصباغ:" أصول التفسير مبحث مهم تفرقت موضوعاته في مقدمات بعض المفسرين وفي كتب أصول الفقه، وأشهر الذين أفردوه من المتقدمين ابن تيمية في رسالة خاصة طبعت بعنوان" مقدمة في أصول التفسير"، وأفرده بتأليف من المتأخرين العلامة الشيخ عبد الحميد الفراهي من علماء الهند وترك رسالة عنوانها" التكميل في أصول التأويل" ، يقول في مقدمتها:" ولم نحتج إلى تأسيس هذا الفن لترك العلماء إياه بالكلية، فإنك تجد طرفا منه في أصول الفقه ولكنه غير تمام"
والبحث في أصول التفسير مازال متسعا لمزيد من الدراسة والتأليف ".
هذا التأكيد والإلحاح على أهمية بناء" أصول التفسير" الذي له علاقة قوية بـ" أصول الفقه " يدل دلالة قوية، على ضرورة اعتماد" أصول الفقه" في التفسير بمنهجية خاصة تراعي وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية التفسير الذي يختلف عن الفقه في بعض القضايا:" ولقد كان بإمكان علماء الأصول أن يوفروا هذا الأمر حقه من الدراسة لكنهم اقتصروا على ما تعلق بهم، وهو ما انبنى عليه أحكام، وتركوا البقية لغيرهم ... وهذه أهم ملاحظة وهي أن جهد الأصوليين إنما ركَّز على جانب الأحكام وبقية جوانب أخرى لم يهتم بها علماء الأصول ... ونحن في ذلك بحاجة إلى الاهتداء بصنيع علماء الأصول مع الاحتفاظ بخصوصية كل شعبة من شعب القرآن".
والأستاذ الجيلالي المر يني قد اعتبر مبحث " الدلالة مبحث هام ينبغي اعتماده كمنهج مجرب عند الأصوليين، بالإضافة إلى اتصافه بالدقة على مستوى استنباط الأحكام الشرعية إن أحسن استخدامه، وفي ذلك يقول:" إن الأصول- أي أصول الفقه- ما كانت وما صيغت إلا لخدمة كتاب الله، وتفسير كتاب الله تفسيرا شرعيا علميا وفق ميزان الله، وخصوصا القواعد الأصولية اللغوية التي لها ارتباط وثيق باللسان العربي" ، ويعضد الأستاذ قوله بنص ورد في " الموافقات" للإمام الشاطبي حيث يقول:" فإن قلنا إن القرآن أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وإنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أو الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها".
والذي سبق له الاطلاع على الرسالة للإمام الشافعيt (ت204هـ) يجد الشاطبي قد اقتبس هذا النص من كتاب" الرسالة" حيث قال الإمام الشافعي:" فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها...إلى قوله:" وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة"
فالمقصود من وضع علم " أصول الفقه" منذ البداية، أي مع الشافعيt هو معرفة معاني القرآن الكريم، لهذا السبب ينبغي الشروع في الأخذ بما يلائم التفسير منه، وترك ما عداه لهذا قال الأستاذ الجليل حميد الوافي بوضع" نظرية الظاهر" وهي في الحقيقة خطوة جدية من الأستاذ الفاضل من أجل إكمال وبناء صرح هذا الفن العزيز على قلوب المسلمين
 
التفسير أول العلوم ظهورا في الفكر الإسلامي، وأول الكتابات العربية بدأت بتفسير القرآن الكريم، خاصة تفسير مفرداته وغريبه.
والمشتغلون به لم يكونوا في حاجة إلى قواعد لقربهم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولمشاهدتهم نزول الوحي وأسباب النزول...ولسلامة لسانهم وسليقتهم اللغوية..والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين.
لكن بعد أن انقلبت العلوم صناعة، وكثرت المسائل والنوازل، ودخل في الدين أقوام جدد عرب وعجم،... وظهر الاختلاف في الفقه والفهم للدين بين المذاهب الإسلامية.
أصبحت الحاجة ماسة لقواعد الفهم عن الله تعالى، حتى قال أحد السلف الصالح من أهل الحديث: لا زال أهل الرأي يلعنونا ونلعنهم حتى جاء الشافعي وجمع بيننا. في إشارة إلى كتاب "الرسالة" أول كتاب في أصول الفقه.
وفعلا استطاع الإمام الشافعي أن يضع قواعد استنباط وتشريع الأحكام الفقهية من النصوص الشرعية. وأهم ما في الرسالة هو مبحث الدلالة الذي يضع قواعد فهم النصوص.
للأسف أن الأصوليون اقتصروا على ما تعلق باستنباط الأحكام الفقهية، من غير ما يتعلق بأمور الأخلاق والمقاصد وغيرها.
وكتاب الله تعالى كتاب هداية شاملة لأمور الحياة كلها وليس فقط ما يتعلق بالأحكام العملية في العبادات والمعاملات.
ولهذا تجد في تفاسير الفقهاء أو ما يسمى بالتفسير الفقهي بسط وتدقيق في آيات الأحكام غاية في الدقة... لماذا؟ لأن الأصوليون مدوا الفقيه بكل أدوات الاستنباط الفقهي.... قواعد ومناهج.
وعلماء الكلام قدموا قواعد في فهم آيات الأسماء والصفات وفي الاستدلال والاستنباط العقدي.. وتجد ذلك واضحا في التفاسير العقدية، مثل تفسير الرازي وغيره. وتقسيم المتكلمين لمبحث الدلالة في أصول الفقه هو الغالب.
وعلماء العربية أو اللغويين قدموا قواعد لغوية معينة في تحليل وتفكيك النص القرآني، واستطاعوا إظهار إعجاز نظم القرآني وبلاغته، واهتموا بالنحو وإعراب القرآن، متسلحين بما قدمه اللغويون والنحاة...فأنتجوا اتجاها تفسيريا هو التفسير اللغوي، ورائده أبو حيان في البحر المحيط.
والمحدثين أبدعوا في التفسير بالرواية والنقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مستفيدين مما قدمه علم الحديث في دراسة الحديث: سندا ومثنا، رواية ودراية.
وهكذا نرى أن أصحاب الاتجاهات التفسيرية استطاعوا أن يبدعوا في مجال التفسير، بعد أن تسلحوا بعلوم أخرى نمت ونضجت في حقول معرفية مختلفة، وبقي التفسير من العلوم التي لم تنضج، ولم يقدم المفسرون قواعد وأصول يحتكم إليها المفسر عند مباشرته للعملية التفسيرية، بمعنى بناء نظري شامل يحدد مصادر وقواعد، التفسير، وشروط المفسر.
وهذا لا يعني أن المفسرين فسروا القرآن الكريم على هواهم، ومن غير قواعد ولا ضوابط، كلا بل كانوا يشتغلون بكل ذلك، لكن لم يؤسسوا قانونا خاصا بهم في مجال التفسير، أما قواعد وأصول التفسير فهي موجودة لكنها متفرقة بين علوم شتى: اللغة، الأصول، علم الكلام، علوم القرآن... ويبقى دور المشتغلين بالتفسير جمع هذه القواعد في نسق نظري ينظم العلاقة بين مكونات علم التفسير..على شكل نظرية تعيد صفة العلمية للتفسير.
مثلا في الغرب علم يسمى "الهيرومنطيقا"، ينظر لعملية تأويل النصوص الدينية والأدبية، ويعالج إشكاليات القراءة والتأويل، تجد داخلها مدارس واتجاهات، لكنها استطاعت أن ترتقي بهذه العملية إلى مستوى العلمية، واستطاعت أن تنتج إطارا نظريا يحتكم إليه القارئ للنصوص. هي استفادت في ذلك من علوم شتى، لغوية واجتماعية وغيرها.
ولا يتم ذلك إلا بعد دراسة عميقة للتراث الإسلامي خاصة العلوم التي لها ارتباط بالقرآن الكريم، وهذه الدراسة تشمل مستويات:التحليل والتعليل ثم التركيب العام لعلم التفسير.
هناك محاولات في بناء علم التفسير، لكن لم ترتقي بعد إلى المستوى المطلوب، ولا زالت في البدايات فقط، وكثير منها مجرد حشد لمباحث أصولية ولغوية..أو على اصطلاح أحد الفضلاء: لم نرتقي بعد من التكديس إلى التأسيس، بمعنى: لم تصل بعد إلى البناء المحكم والمترابط بين مكوناته.
 
[أشكر أخي الكريم محمد البويسفي على هذا التعليق.
لكن ياأخي لايختلف -اثنان ولايتناطح عنزان- بخصوص تمكن الصحابة من اللسان العربي ،بالأضافة الى طول باعهم فيه أضف الى ذلك مشاهدتهم نزول الوحى ومعرفتهم أسباب النزول وكل مايتعلق بالقرآن الكريم من قواعد الخ,
وهذا لايعني أنهم كانوا يعرفون كل شيء يخص القرآن الكريم ،حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح المبهم ويشرح الغامض الخ
لاأدري ما وجه تعليق الأخ
 
كما أشاطر الأخ على أن الصحابة ليسوافي حاجة الى تعلم القواعد قصد تفسير القرآن ،وهذا لايعني أن كل الصحابة يحسن تفسير كلام الله,
والله من وراء القصد
 
عودة
أعلى