خلوصي
New member
- إنضم
- 20/09/2008
- المشاركات
- 377
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
- الإقامة
- عالم النور و الإيمان المكي
- الموقع الالكتروني
- www.nuronline.com
.
الكلمة العشرون
((وهي مقامان))
المقام الاول
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)
] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)
] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)
كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:
قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟
ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.
ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟
وصورة النكت الملهمة هي الآتية:
النكتة الاولى:
ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.
فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:
ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة..
ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.
واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.
واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.
النكتة الثانية:
من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.
وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.
فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.
فافهم قياساً على هذا:
ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.
النكتة الثالثة:
قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)
عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:
ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟
فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:
نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.
ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..
زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.
فبناء على هذا:
يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات:
يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها!
ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً.
فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).
ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.
فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:
يا بني اسرائيل ويا بنى آدم!
ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم!
انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل،
فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم،
نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.
فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.
تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..
وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:
ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك
الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.
فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى،
فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.
فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.
والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.
وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.
والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.
فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:
يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها
فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.
ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:
يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.
ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:
انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.
بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:
ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:
يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.
ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟
فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.
فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.
] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[
اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..
آمين
برحمتك يا ارحم الراحمين.
اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقام الثاني
.........
..
الكلمة العشرون
((وهي مقامان))
المقام الاول
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)
] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)
] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)
كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:
قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟
ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.
ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟
وصورة النكت الملهمة هي الآتية:
النكتة الاولى:
ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.
فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:
ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة..
ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.
واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.
واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.
النكتة الثانية:
من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.
وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.
فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.
فافهم قياساً على هذا:
ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.
النكتة الثالثة:
قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)
عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:
ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟
فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:
نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.
ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..
زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.
فبناء على هذا:
يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات:
يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها!
ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً.
فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).
ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.
فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:
يا بني اسرائيل ويا بنى آدم!
ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم!
انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل،
فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم،
نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.
فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.
تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..
وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:
ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك
الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.
فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى،
فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.
فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.
والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.
وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.
والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.
فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:
يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها
فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.
ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:
يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.
ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:
انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.
بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:
ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:
يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.
ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟
فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.
فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.
] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[
اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..
آمين
برحمتك يا ارحم الراحمين.
اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقام الثاني
.........
..