هكذا قدم بديع الزمان معجزات الأنبياء إلى روح هذا العصر و عقله ... ؟!؟

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع خلوصي
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

خلوصي

New member
إنضم
20/09/2008
المشاركات
377
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
عالم النور و الإيمان المكي
الموقع الالكتروني
www.nuronline.com
.
الكلمة العشرون

((وهي مقامان))



المقام الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واذ قُلنا للملائكة اسجدُوا لادمَ فسجدوا إلاّ ابليس [ (البقرة:34)

] إن الله يأمُركم ان تذبحُوا بقرةً[ (البقرة:67)

] ثم قَسَتْ قلوبُكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً[ (البقرة:74)


كنت اتلو هذه الآيات الكريمة يوماً، فورد إلهامٌ من فيض نور القرآن الكريم في نكات ثلاث ليصدّ إلقاءات ابليس!. وصورة الشبهة الواردة هي:

قال: انكم تقولون: ان القرآن معجز، وفي ذروة البلاغة، وانه هدىً للعالمين في كل وقت وآن، ولكن ماذا يعني ذكر حوادث جزئية وسردها سرداً تأريخياً والتأكيد عليها وتكرارها؟ وما الداعي الى ذكر حادثة جزئية كذبح بقرة ضمن هالة من الاوصاف، حتى تسمّت السورة باسم "البقرة"؟

ثم ان القرآن يرشد ارباب العقول عامة ويذكر في كثير من مواضعه ((أفلا يعقلون)) اي يحيل الأمر الى العقل، في حين أن حادثة سجود الملائكة لآدم أمر غيبي محض لا يجد العقل اليه سبيلاً، الاّ بالتسليم أو الاذعان بعد الايمان القوي الراسخ.

ثم اين وجه الهداية في بيان القرآن حالات طبيعية تحدث مصادفة للاحجار والصخور واضفاء اهمية بالغة عليها؟

وصورة النكت الملهمة هي الآتية:

النكتة الاولى:

ان في القرآن الحكيم حوادث جزئية، ولكن وراء كل حادث يكمن دستور كلي عظيم. وانما ُتذكر تلك الحوادث لانها طرف من قانون عام شامل كلي وجزء منه.

فالآية الكريمة ] وعلّم آدمَ الاسماء كُلَّها[ تبين ان تعليم الاسماء معجزة من معجزات سيدنا آدم عليه السلام تجاه الملائكة، اظهاراً لإستعداده للخلافة. وهي وإن كانت حادثة جزئية الا انها طرف لدستور كلي هو:

ان تعليم الانسان - المالك لإستعداد جامع - علوماً كثيرة لا تحد، وفنوناً كثيرة لا تحصى حتى تستغرق انواع الكائنات، فضلاً عن تعليمه المعارف الكثيرة الشاملة لصفات الخالق الكريم سبحانه وشؤونه الحكيمة..
ان هذا التعليم هو الذي أهّل الانسان لينال أفضلية، ليس على الملائكة وحدهم، بل ايضاً على السموات والارض والجبال، في حمل الأمانة الكبرى.

واذ يذكر القرآن خلافة الانسان على الارض خلافة معنوية، يبين كذلك ان في سجود الملائكة لآدم وعدم سجود الشيطان له - وهي حادثة جزئية غيبية - طرفاً لدستور مشهود كلي واسع جداً، وفي الوقت نفسه يبين حقيقة عظيمة هي أن القرآن الكريم بذكره طاعة الملائكة وانقيادهم لشخص آدم عليه السلام وتكبّر الشيطان وامتناعه عن السجود، انما يفهّم ان اغلب الانواع المادية للكائنات وممثليها الروحانيين والموكلين عليها، مسخرة كلها ومهيأة لإفادة جميع حواس الانسان افادة تامة، وهي منقادة له.. وان الذي يفسد استعداد الانسان الفطري ويسوقه الى السيئات والى الضلال هي المواد الشريرة وممثلاتها وسكنتها الخبيثة، مما يجعلها اعداءً رهيبين، وعوائق عظيمة في طريق صعود الانسان الى الكمالات.

واذ يدير القرآن الكريم هذه المحاورة مع آدم عليه السلام وهو فرد واحد ضمن حادثة جزئية، فانه في الحقيقة يدير محاورة سامية مع الكائنات برمتها والنوع البشري قاطبة.


النكتة الثانية:

من المعلوم ان اراضي مصر جرداء قاحلة، اذ هي جزء من الصحراء الكبرى، الاّ انها تدّر محاصيل وفيرة ببركة نهر النيل، حتى غدت كأنها مزرعة تجود بوفير المحاصيل؛ لذا فان وجود مثل هذه الجنة الوارفة بجنب تلك الصحراء التي تستطير ناراً ، جعل الزراعة والفلاحة مرغوبة فيها لدى اهل مصر حتى توغلت في طبائعهم. بل اضفت تلك الرغبة الشديدة في الزراعة نوعاً من السمو والقدسية، كما اضفت بدورها قدسية على واسطة الزراعة من ثور وبقر، حتى بلغ الامر أن منح اهل مصر – في ذلك الوقت – قدسية على البقر والثور الى حدّ العبادة، وقد ترعرع بنو اسرائيل في هذه المنطقة وبين احضان هذه البيئة والاجواء فأخذوا من طبائعهم حظاً، كما يُفهم من حادثة ((العجل)) المعروفة.

وهكذا يعلّمنا القرآن الكريم بذبح بقرة واحدة، أن سيدنا موسى عليه السلام، قد ذبح برسالته مفهوم عبادة البقر، ذلك المفهوم الذي سرى في عروق تلك الامة، وتنامى في استعداداتهم.

فالقرآن الكريم انما يبين بهذه الحادثة الجزئية بياناً معجزاً، دستوراً كلياً، ودرساً ضرورياً في الحكمة يحتاجه كل أحد في كل وقت.

فافهم قياساً على هذا:

ان الحوادث الجزئية المذكورة في القرآن الكريم، على صورة حوادث تأريخية، انما هي طرف وجزء من دساتير كلية شاملة ينبئ عنها، حتى ان كل جملة جزئية من الجمل السبع لقصة موسى عليه السلام المكررة في القرآن تتضمن دستوراً كلياً عظيماً، كما بيّنا في كتابنا ((اللوامع)) راجعه ان شئت.


النكتة الثالثة:

قوله تعالى: ] ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوةً ^ وانّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهار ^ وان منها لما يشّقق فيخرج منه الماء وان منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون[ (البقرة:74 - 76)

عند قراءتي لهذه الآيات البينات، قال الموسوس:

ماذا يعني ذكر حالات طبيعية وفطرية للاحجار الاعتيادية وبيانها كأنها مسألة عظيمة، مع انها معلومة لدى الناس؟ وما وجه العلاقة والمناسبة والسبب؟ وهل هناك من داعٍ أو حاجة اليها؟

فاُلهم قلبي الالهام الآتي من فيض القرآن لصدّ هذه الشبهة:

نعم، هناك علاقة وسبب، وهناك داعٍ وحاجة، بل العلاقة قوية والمعنى جليل والحقيقة ضرورية وعظيمة بحيث لا يتيسر الاّ لإعجاز القرآن وايجازه ولطف ارشاده أن يسهّلها وييسّرها للفهم.

ان الايجاز الذي هو اساس مهم من اسس الاعجاز، وكذا لطف الارشاد وحسن الافهام الذي هو نور من هدي القرآن، يقتضيان أن تُبيَّن الحقائق الكلية والدساتير الغامضة العامة، في صور جزئية مألوفة للعوام الذين يمثلون معظم مخاطبي القرآن، وان لا تبين لاولئك البسطاء في تفكيرهم الاّ طرفاً من تلك الحقائق المعظمة وصوراً بسيطة منها..

زد على ذلك ينبغي ان تبين لهم التدابير الإلهية تحت الارض التي هي خوارق العادات والتي تسترت بستار العادة والألفة، بصورة مجملة.



فبناء على هذا:

يقول القرآن الحكيم في هذه الآيات:
يا بنى اسرائيل ويا بنى آدم! ماذا دهاكم حتى غلظت قلوبُكم واصبحت أصلب من الحجر واقسى منها!
ألا ترون ان اصلب الصخور واصمها، التي تشكل طبقة عظيمة من الاحجار الصلدة تحت التراب، مطيعة للاوامر الإلهية طاعة تامة، ومنقادة الى الاجراءات الربانية انقياداً كاملاً.
فكما تجري الاوامر الإلهية في تكوين الاشجار والنباتات في الهواء بسهولة مطلقة، تجري على تلك الصخور الصماء الصلدة تحت الارض بالسهولة نفسها وبانتظام كامل. حتى ان جداول الماء وعروقها تحت الارض تجري بانتظام كامل وبحكمة تامة من دون ان تجد عائقاً أو مقاومة تُذكر من تلك الصخور، فينساب الماء فيها كانسياب الدم وجريانه داخل العروق في الجسم من دون مقاومة أو صدود(1).

ثم ان الجذور الرقيقة تنبت وتتوغل في غاية الانتظام بامر رباني في تلك الصخور التي هي تحت الارض دون ان يقف امامها حائل أو مانع، فتنتشر بسهولة كسهولة انتشار اغصان الاشجار والنباتات في الهواء.

فالقرآن الكريم يشير بهذه الآية الكريمة الى حقيقة واسعة جداً، ويرشد اليها مخاطباً القلوب القاسية مرمزاً اليها على النحو الآتي:

يا بني اسرائيل ويا بنى آدم!
ما هذه القلوب التي تحملونها وأنتم غارقون في فقركم وعجزكم!
انها تقاوم بغلظة وبقساوة أوامر مولىً جليل عظيم، تنقاد له طبقات الصخور الصلدة الهائلة، ولا تعصيه امراً، بل تؤدي كل منها وظيفتها الرفيعة في طاعة كاملة وانقياد تام؛ وهي مغمورة في ظلمات الارض. بل تقوم تلك الصـخور بوظيفة المستودع والمخزن لمتطلبات الحياة للاحياء الذين يدبون على تراب الارض. حتى انها تكون لـينة طرية في يد القدرة الحكيمة الجليلة، طراوة شمع العسل،
فتكون وسائل لتقسيمات تتم بعدالة، وتكون وسائط لتوزيعات تنتهي بحكمة، بل تكون رقيقة رقة هواء النسيم،
نعم! انها في سجدة دائمة امام عظمة قدرته جل جلاله.

فهذه المصنوعات المنتظمة المتقنة الماثلة امامنا فوق الارض، وهذه التدابير الإلهية ذات الحكمة والعناية الجارية عليها هي ايضاً بعينها تجري تحت الارض بل تتجلى فيها الحكمة الإلهية والعناية الربانية بأعجب منها حكمةً واغرب منها انتظاماً.

تأملوا جيداً! ان اصلب الصخور واضخمها واصمّها تلين ليونة الشمع تجاه الاوامر التكوينية، ولا تبدي اية مقاومة أو قساوة تُذكر تجاه تلك الموظفات الإلهية اي المياه الرقيقة والجذور الدقيقة والعروق اللطيفة لطافة الحرير، حتى كأنها عاشق يشق قلبه بمسٍّ من أنامل تلك اللطيفات والجميلات، فتتحول تراباً في طريقهن..

وكذا قوله تعالى ] وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ فانه يبيّن طرفاً من حقيقة عظيمة جداً هي:

ان الجبال التي على سطح الارض، والتي تجمدت بعد ان كانت في حالة مائعة وسائلة. واصبحت كتلاً ضخمة من الصخور الصلدة، تتفتت وتتصدع، بتجليات جلالية، تتجلى على صورة زلازل وانقلابات ارضية، مثلما تناثر واصبح دكاً ذلك

الجبل الذي تجلّى عليه الرب سبحانه في طلب موسى عليه السلام رؤية الله جل جلاله.

فتلك الصخور تهبط من ذرى تلك الجبال، من خشية ظهور تجليات جلالية ورهبتها، فتتناثر اجزاؤها. فقسم منها ينقلب تراباً تنشأ منه النباتات.. وقسم آخر يبقى على هيئة صخور تتدحرج الى الوديان وتكتسح السهول فيستخدمها اهلُ الارض في كثير من الامور النافعة - كبناء المساكن مثلاً - فضلاً عن امورٍ وحكم مخفية ومنافع شتى،
فهي في سجدة وطاعة للقدرة الإلهية وانقياد تام لدساتير الحكمة الربانية.

فلا ريب ان ترك الصخور لمواضعها الرفيعة من خشية الله واختيارها الاماكن الواطئة في تواضع جم، وتسببها لمنافع جليلة شتى، أمر لا يحدث عبثاً ولا سدىً وهو ليس مصادفة عمياء ايضاً، بل هو تدبير رب قدير حكيم يحدثه بانتظام وحكمة وإن بدا في غير انتظام في ظاهر الأمر.

والدليل على هذا الفوائد والمنافع التي تجنى من تفتت الصخور ويشهد عليه شهادة لا ريب فيها كمال الانتظام وحسن الصنعة للحلل التي تخلع على الجبال التي تتدحرج منها الصخور، والتي تزدان بالازاهير اللطيفة والثمرات الجميلة والنقوش البديعة.

وهكذا رأيتم كيف أن هذه الآيات الثلاث لها اهميتها العظيمة من زاوية الحكمة الإلهية.

والآن تدبروا في لطافة بيان القرآن العظيم وفي اعجاز بلاغته الرفيعة، كيف يبين طرفاً وجزءاً من هذه الحقائق الثلاث المذكورة، وهي حقائق جليلة وواسعة جداً، يبينها في ثلاث فقرات وفي ثلاث حوادث مشهورة مشهودة، وينبه الى ثلاث حوادث اخرى لتكون مدار عبرة لأولى الالباب ويزجرهم زجراً لا يقاوم.

فمثلاً: يشير في الفقرة الثانية ] وإنّ منها لما يشّـقّق فيخرجُ منه الماءُ[ الى الصخرة التي انشقت بكمال الشوق تحت ضرب عصا موسى فانبجست منها اثنتا عشرة عيناً، وفي الوقت نفسه يورد الى الذهن هذا المعنى ويقول:

يا بنى اسرائيل! ان الصخور الضخمة تتشتت وتتشقق وتلين تجاه معجزة واحدة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام وتذرف الدموع كالسيل من خشيتها أو من سرورها
فكيف تتمردون تجاه معجزات موسى عليه السلام كلها، ولا تدمع اعينكم بل تجمد وتغلظ قلوبكم وتقسو.


ويذكّر في الفقرة الثالثة: ] وانّ منها لَمَا يهبط من خشية الله[ تلك الحادثة الجليلة التي حدثت في طورسيناء، اثناء مناجاة سيدنا موسى عليه السلام. تلك هي التجلي الإلهي الاعظم الى الجبل وجعله دكاً حتى تفتت وتناثر في الارجاء من خشيته سبحانه. ويرشد في الوقت نفسه الى معنى كهذا:

يا قوم موسى (عليه السلام) كيف لا تتقون الله ولا تخشونه، فالجبال الشاهقة التي هي صخور صلدة تتصدع من خشيته وتتبعثر، وفي الوقت الذي ترون انه قد أخذ الميثاق منكم برفع جبل الطور فوقكم، مع مشاهدتكم وعلمكم تشقق الجبل في حادثة الرؤية الجليلة، فكيف تجرأون ولا ترتعد فرائصكم من خشيته سبحانه، بل تغلظ قلوبكم؟.

ويذكّر في الفقرة الاولى ] وإنّ من الحجارة لَمَا يتفجر منه الانهارُ[ مشيراً الى أنهار كالنيل ودجلة والفرات النابعة من الجبال ويعلّم في الوقت نفسه مدى نيل تلك الاحجار للطاعة المعجزة والانقياد الخارق تجاه الاوامر التكوينية ومدى كونها مسخّرة لها. فيورث بهذا التعليم القلوب المتيقظة هذا المعنى:

انه لا يمكن قطعاً ان تكون هذه الجبال الضخمة منابع حقيقية لمثل هذه الانهار العظيمة لأنه لو كانت هذه الجبال بحجمها الكامل مملوءة بالماء، اي لو اصبحت احواضاً مخروطية لتلك الانهار، فانها لا تكفي لصرفيات تلك الانهار الا لبضعة شهور وذلك لسيرها السريع وجريانها الدائم. فضلاً عن ان الامطار التي لا تنفذ في التراب لأكثر من متر، لا تكون ايضاً واردات كافية لتلك الصرفيات الهائلة.

بمعنى ان تفجّر هذه الانهار ليس امراً اعتيادياً طبيعياً، أو من قبيل المصادفة، بل ان الفاطر الجليل يسيّلها من خزينة الغيب وحدها، ويجريها منها جرياناً خارقاً. واشارة الى هذا افادت رواية الحديث الشريف بهذا المعنى: ان كلاً من تلك الانهار الثلاثة تقطر عليها كل وقت قطرات من الجنة، لذا اصبحت مباركة. وفي رواية ان منابع هذه الأنهار الثلاثة من الجنة(1) وحقيقة هذه الرواية هي:

ان الاسباب المادية لا تكفي لتفجر هذه الانهار وتدفقها بهذه الكثرة، فلابد ان تكون منابعها في عالم غيب، وانها ترد من خزينة رحمة غيبية، وعندها تتوازن الواردات والصرفيات وتدوم. وهكذا يعلّم القرآن الكريم درساً بليغاً وينبّه الى هذا المعنى:

يا بني اسرائيل ويا بني آدم! انكم بقساوة قلوبكم تعصون اوامر رب جليل، وبغفلتكم عنه تغمضون عيونكم عن نور معرفة ذلك النور المصور الذي حوّل ارض مصر الى جنة وارفة الظلال واجرى النيل العظيم المبارك وامثاله من الانهار من افواه احجار صلدة بسيطة مظهراً معجزات قدرته وشواهد وحـدانيته قوية بقوة تلك الانهار العظيمة ونيّرة بشدة ظهورها وافاضاتها. فيضـع تلك الشواهد في قلب الكائنات ويسلّمها الى دماغ الارض، ويسيّلها في قلوب الجن والانس وفي عقولهم.

ثم انه سبحانه وتعالى يجعل صخوراً جامدة لا تملك شعوراً قط(1) تنال معجزات قدرته حتى انها تدل على الفاطر الجليل كدلالة ضوء الشمس على الشمس. فكيف لا ترون وتعمى ابصاركم عن رؤية نور معرفته جل جلاله؟

فانظر! كيف لبست هذه الحقائق الثلاث حلل البلاغة الجميلة، ودقق النظر في بلاغة الارشاد لترى مدى القساوة والغلظة التي تملك القلوب ولا تنسحق خشية امام ذلك الارشاد البليغ.

فان كنت قد فهمت من بداية هذه الكلمة الى نهايتها، فشاهد لمعة اعجاز اسلوب الارشاد القرآني واشكر ربك العظيم عليه.

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

اللّهم فهّمنا اسرار القرآن كما تحب وترضى ووفقنا لخدمته..

آمين

برحمتك يا ارحم الراحمين.

اللّهم صل وسلم على من اُنزل عليه القرآن الحكيم وعلى آله وصحبه أجمعين.



المقام الثاني
.........
..
 
المقام الثاني
من الكلمة العشرين
لمعة اعجاز قرآني تتلألأ على وجه معجزات الانبياء
((أنعم النظر في الجوابين المذكورين في الختام))
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
]
ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ مبين[
لقد كتبتُ قبل أربع عشرة سنة(1) بحثاً يخص سراً من أسرار هذه الآية الكريمة في تفسيري الذي كتبته باللغة العربية الموسوم بـ ((إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز))
والآن استجابة لطلب أخوين كريمين عزيزين عندي اكتب إيضاحاً باللغة التركية لذلك البحث، مستعيناً بتوفيق العلي القدير ومستلهماً من فيض القرآن الكريم، فأقول:
ان ((كتاب مبين)) - على قول - هو القرآن الكريم. فهذه الآية الكريمة تبيّن أنه:
ما من رطب ولا يابس إلاّ وهو في القرآن الكريم.
أتراه كذلك؟

-
نعم! ان في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم،
فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات.
ويرد كل من هذه الدرجات؛
اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً.
فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة.
فمثلاً: ان الطائرة والكهرباء والقطار واللاسلكي وامثالها من منجزات العلم والصناعة - التكنلوجيا الحديثة - والتي تعدّ حصيلة التقدم الانساني ورقيه في مضمار الصناعة والعلم، أصبحت هذه الاختراعات موضع اهتمام الانسان، وتبوأت مكانة خاصة في حياته المادية.
لذا فالقرآن الكريم الذي يخاطب البشرية قاطبة لم يهمل هذا الجانب من حياة البشر،
بل قد أشار الى تلك الخوارق العلمية من جهتين:
الجهة الاولى: اشار اليها عند اشارته الى معجزات الانبياء عليهم السلام.
الجهة الثانية: اشار اليها عند سرده بعض الحوادث التاريخية.
فعلى سبيل المثال: فقد اشار الى القطار في الآيات الكريمة الآتية:

]
قُتلَ اصحابُ الاخدود ^ النارِ ذاتِ الوَقُودِ ^ اذ هُم عليها قُعودٌ^ وهُم على ما يفعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ^ وما نَقَموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيزِ الحميد[ .(1)
وايضاً:

]
في الفُلك المشحون ^ وخَلقنا لهم مِن مثلِهِ ما يَركبون[
والآية الكريمة الآتية ترمز الى الكهرباء علاوة على اشارتها الى كثير من الأنوار والاسرار:

]
الله نورُ السمواتِ والارض مثلُ نورهِ كمشكوةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزجاجُة كأنها كوكبٌ درّيٌّ يوقَدُ مِن شجرةٍ مُباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيٍة ولا غربيةٍ يكادُ زيتُها يُـضيء ولو لم تمسسهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يهدى الله لنوره مَن يشاءُ [ (2)
ولما كان الكثيرون من الفضلاء قد انصرفوا الى هذا القسم، وبذلوا جهوداً كثيرة في توضيحه علماً ان القيام ببحثه يتطلب دقة متناهية ويستدعي بسطاً للموضوع اكثر من هذا وايضاحاً وافياً. فضلاً عن وجود أمثلة وفيرة عليه، لذا لا نفتح هذا الباب، ونكتفي بالآيات المذكورة.
اما القسم الاول الذي يشير الى تلك الاختراعات الشبيهة بالخوارق ضمن اشارات القرآن الى معجزات الانبياء.. سنذكر نماذج منه.
المقدمة:
يبيّن القرآن الكريم ان الانبياء عليهم السلام قد بُعثوا الى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم ائمة الهدى يُقتدى بهم، في رقيهم المعنوي.
ويبين في الوقت نفسه ان الله قد وضع بيد كلٍ منهم معجزة مادية، ونَصَبهم روّاداً للبشرية واساتذة لها في تقدمها المادي ايضاً.
أي انه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعاً كاملاً في الامور المادية والمعنوية؛ اذ كما يحض القرآنُ الكريم الانسانَ على الاستزادة من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الانبياء عليهم السلام، وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية، فانه عند بحثه عن معجزاتهم المادية ايضاً يومئ الى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في ايديهم، ويشير الى حضّه على بلوغ نظائرها،
بل يصح القول:

إن يد المعجزة هي التي أهدت الى البشرية الكمال المادي وخوارقه لأول مرة، مثلما أهدت اليها الكمال المعنوي.

فدونك سفينة نوح عليه السلام وهي احدى معجزاته، وساعة يوسف عليه السلام، وهي احدى معجزاته. فقد قدمتهما يدُ المعجزة لاول مرة هدية ثمينة الى البشرية.
وهناك اشارة لطيفة الى هذه الحقيقة، وهي اتخاذ أغلب الصناع نبياً من الانبياء رائداً لصنعتهم وقطباً لمهنتهم. فالملاحون - مثلاً - اتخذوا سيدنا نوحاً عليه السلام رائدهم والساعاتيون اتخذوا سيدنا يوسف عليه السلام امامهم، والخياطون اتخذوا سيدنا ادريس عليه السلام مرشدهم..
ولما كان العلماء المحققون من أهل البلاغة قد اتفقوا جميعاً ان لكل آية كريمة وجوهاً عدة للارشاد، وجهات كثيرة للهداية،
فلا يمكن اذاً ان تكون أسطع الآيات وهي آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد انها تتضمن ايضاً معاني بليغة جمة للارشاد والهداية.
نعم، ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء إنما
يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها،
وغاية ما يمكن ان تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. اذ كما ان الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل ايضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله.
وسنبين بضعة نماذج مثالاً، من ذلك النبع الفياض الواسع:


C
فمثلاً: ] ولسليمنَ الريح غدوّها شهرٌ ورَواحُها شهرٌ[.
هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام.
وهي تسخير الريح له، أي أنه قد قطع في الهواء ما يقطع في شهرين في يوم واحد.
فالآية تشير الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.
فيا ايها الانسان! حاول ان تبلغ هذه المرتبة، واسعَ للدنو من هذه المنزلة ما دام الطريق ممهداً أمامك.
فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:

(( إن عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء )).


C
ومثلاً: ] فقلنا اضربْ بعصاكَ الحجَر فانفجرتْ منه اثنتا عشرةَ عيناً..[
هذه الآية الكريمة تبين معجزة من معجزات سيدنا موسى عليه السلام، وهي تشير الى انه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من ارض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.
فهذه الآية تخاطب البشرية بهذا المعنى:
يمكنكم ان تجدوا الماء الذي هو ألطف فيض من فيوضات الرحمة الإلهية، بوساطة عصا، فاسعوا واعملوا بجد لتجدوه وتكشفوه.
فالله سبحانه يخاطب الانسان بالمعنى الرمزي لهذه الآية:

(( ما دمتُ أسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فأنت أيها الإنسان إن اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة )).

فانت ترى كيف ان هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في اغلب الاماكن، والتي هي احدى وسائل رقي البشرية. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، واقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

C
ومثلاً: ] وأبرئ الاكمهَ والأبرصَ وأحيي الموتى بإذن الله..[ .
فالقرآن الكريم اذ يحث البشرية صراحة على اتباع الاخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.
فهذه الآية الكريمة تشير الى:
(( إنه يمكن أن يُعثر على دواء يشفي أشد الامراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من الوان الحياة الموقتة )).
فالله سبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:


" لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: إحداهما دواء للأسقام المعنوية، والأخرى علاج للأمراض المادية. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به. وأنت أيها الإنسان! بوسعك أن تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فانك لا محالة واجده وظافر به.


وهكذا ترى كيف ترسم هذه الآية الكريمة أقصى المدى وأبعد الأهداف التي يصبو اليها الطب البشري من تقدم.
فالآية تشير الى ذلك الهدف وتحث الانسان على الوصول اليه.
............

رجاءً امكثوا معنا في هذه الاستنباطات البديعية .. فثمة الكثير منها
icon7.gif
يقدمها لأنظاركم الكريمة و بصائركم و نقدكم .. خادمكم خلوصي ذو الآفاق و الإشفاق
!

 
...
C
ومثلاً: ] وألنّا لَهُ الحديدَ[
] وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب[
هاتان الآيتان تخصان معجزة سيدنا داود عليه السلام. والآية الكريمة :
] وأسَلنا له عَينَ القِطرِ[
تخص معجزة سيدنا سليمان عليه السلام. فهذه الآيات تشير الى:
أن تليين الحديد نعمة إلهية عظمى، اذ يبين الله به فضل نبيٍ عظيم. فتليين الحديد وجعله كالعجين، واذابة النحاس وايجاد المعادن وكشفها هو اصل جميع الصناعات البشرية، واساسها. وهو أم التقدم الحضاري من هذا الجانب ومعدنه.
فهذه الآية تشير الى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله اسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للأرض عظيم. فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد أن هناك إشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة.
فسبحانه يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:

يا بني آدم! لقد آتيت عبداً من عبادي أطاع أوامري وخضع لما كلفته به، آتيت لسانه فصل الخطاب، وملأتُ قلبه حكمةً ليفصل كل شئ على بينة ووضوح. ووضعت في يده من الحقيقة الرائعة ما يكون الحديد كالشمع فيها، فيغيّر شكله كيفما يشاء، ويستمد منه قوة عظيمة لإرساء اركان خلافته وادامة دولته وحكمه... فما دام هذا الامر ممكناً وواقعاً فعلاً، وذا أهمية بالغة في حياتكم الاجتماعية فأنتم يابني آدم إن أطعتم أوامري التكوينية تُوهَب لكم ايضاً تلك الحكمة والصنعة، فيمكنكم بمرور الزمن ان تقتربوا منهما وتبلغوهما.

وهكذا فإن بلوغ البشرية أقصى أمانيها في الصناعة، وكسبها القدرة الفائقة في مجال القوة المادية، إنما هو بتليين الحديد وبإذابة النحاس - القطرـ فهذه الآيات الكريمة تستقطب انظار البشرية عامة الى هذه الحقيقة، وتلفت نظر السالفين وكسالى الحاضرين إليها، فتنبه أولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها.
...
 
C ومثلاً:
] قالَ الذي عندهُ علمٌ ِمن الكتابِ أنا اتيكَ به قبلَ أن يرتدّ اليكَ طرفُكَ فلما رآهُ مستقراً عندهُ..[

فهذه الآية تشير الى ان احضار الاشياء من مسافات بعيدة - عيناً أو صورة - ممكن، وذلك بدلالتها على تلك الحادثة الخارقة التي وقعت في ديوان سيدنا سليمان عليه السلام، عندما قال أحد وزرائه الذي اوتي علماً غزيراً في ((علم التحضير)): انا اتيك بعرش بلقيس.
ولقد آتى الله سبحانه سيدنا سليمان عليه السلام المُلك والنبوة معاً، واكرمه بمعجزة يتمكن بها من الاطلاع المباشر بنفسه وبلا تكلف ولا صعوبة على احوال رعاياه، ومشاهدة اوضاعهم، وسماع مظالمهم. فكانت هذه المعجزة مناط عصمته وصونه من الشطط في امور الرعية. وهي وسيلة قوية لبسط راية العدالة على ارجاء المملكة.
فمن يعتمد على الله سبحانه اذاً ويطمئن اليه، ويسأله بلسان استعداداته وقابلياته التي فُطر عليها، وسار في حياته على وفق السنن الإلهية والعناية الربانية، يمكن ان تتحول له الدنيا الواسعة كأنها مدينة منتظمة امامه كما حدث لسليمان عليه السلام الذي طلب بلسان النبوة المعصومة إحضار عرش بلقيس فأحضر في طرفة عين وصار ماثلاً امامه - بعينه أو بصورته - في بلاد الشام بعد ان كان في اليمن. ولاشك ان أصوات رجال الحاشية الذين كانوا حول العرش قد سُمعتْ مع مشاهدة صورهم.
فهذه الآية تشير إشارة رائعة إلى إحضار الصور والأصوات من مسافات بعيدة. فالآية تخاطب:
«ايها الحكام! ويا من تسلمتم امر البلاد! ان كنتم تريدون ان تسود العدالة انحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله الى مشاهدة ما يجري في الارض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع ارجائها. فالحاكم العادل الذي يتطلع الى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والسلطان الذي يرعى شؤون ابناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل الى مبتغاه إلا اذا استطاع الاطلاع - متى شاء - على أقطار مملكته. وعندئذٍ تعم العدالة حقاً، وينقذ نفسه من المحاسبة والتبعات المعنوية.
فالله سبحانه يخاطب بالمعنى الرمزي لهذه الآية الكريمة:
يا بني آدم! لقد آتيتُ عبداً من عبادي حُكمَ مملكة واسعة شاسعة الارجاء، ومنحته الاطلاع المباشر على احوال الارض واحداثها ليتمكن من تطبيق العدالة تطبيقاً كاملاً، ولما كنتُ قد وهبت لكل انسان قابلية فطرية ليكون خليفة في الأرض، فلا ريب أنى قد زوّدتُه - بمقتضى حكمتي - ما يناسب تلك القابلية الفطرية من مواهب واستعدادات يتمكن بها من ان يشاهد الارض بأطرافها ويدرك منها ما يدرك. وعلى الرغم من أن الانسان قد لا يبلغ هذه المرتبة بشخصه الا انه يتمكن من بلوغها بنوعه. وان لم يستطع بلوغها مادياً، فانه يبلغها معنوياً - كما يحصل للاولياء الصالحين - فباستطاعتكم اذاً الاستفادة من هذه النعمة الموهوبة لكم. فسارعوا الى العمل الجاد واسعوا سعياً حثيثاً كي تحوّلوا الارض الى ما يشبه حديقة صغيرة غنّاء، تجولون فيها وترون جهاتها كلها وتسمعون احداثها واخبارها من كل ناحية منها غير ناسين وظيفة عبوديتكم. تدبروا الآية الكريمة:
] هوَ الذي جعلَ لكمُ الارضَ ذلولاً فامشوا في مناكِبها وكُلوا مِن رزقه واليه النشور[
وهكذا نرى كيف تومئ الآية الكريمة المتصدرة لهذا المثال الى إثارة همة الإنسان، وبعث اهتماماته لاكتشاف وسيلة يستطيع بها إحضار الصور والأصوات من أبعد الاماكن وأقصاها ضمن أدق الصناعات البشرية.
 
عودة
أعلى