هكذا المجاهدون ... لا يموتون إلا واقفين !!!

إنضم
13/09/2006
المشاركات
847
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
[align=center] هكذا المجاهدون ...
لا يموتون إلا واقفين !!!
[/align]


[align=right]الأستاذ الشاعر عبد الله الطنطاويّ :


كيف أبدأ؟

لست أدري..


وهل بإمكان واحد فقير قليل مثلي، أن يمتلك أعصابه، أن يشدّ على قلمه، أن يوقف تسارع دقات قلبه، أن يمنع دموع عيونه، وقد تفجرت ذاته إلى عيون.. إلى ينابيع، تذرف ما تمتح من خزين الدموع، على شقيق الروح، رفيق الدرب، صديق العمر، الشاب والكهل والشيخ الذي أمضيت معه خمسين عاماً.. أجل.. أمضينا معاً خمسين عاماً حافلة بالشهد.. حتى المرارات، مرارات كالصاب والعلقم، كنا نلعقها معاً، فتذوب في حلاقيمنا عسلاً بشهده، لا نريده عسلاً مصفى.. فصفحة الحياة.. حياتينا، كانت كقرص الشهد، ولا نبالي بلسع النحل، ولا نأبه بالأشواك تدمي أقدامنا، ولا بالحراب توجَّه إلى صدورنا.

ما كان يمضي يوم دون أن نلتقي، أو يهتف أحدنا للآخر، وأكثر من مرة في اليوم الواحد.

أولادي يعرفونه عمّاً لهم، فعمّو الحسناوي سأل عنك.. عمو الحسناوي خبّرك.. جاءك بهذا الكتاب.. بهذه الأوراق.. زوجتانا أختان، وأولادنا إخوة وأولاد عم.. نتزاور أكثر من تزاور الأقرباء.. نذهب إلى الأسواق معاً، نشتري معاً من صنف واحد.. نشتري خروفاً ونقسمه بيننا.. نشتري دجاجاً.. فولاً.. خضاراً، فواكه.. خبزاً.. كل شيء..

نسافر معاً.. نحاضر معاً.. نشارك –ما استطعنا- في المؤتمرات والندوات معاً.. وعندما لوحقنا كنا ننام معاً عند من يثق أحدنا به.. نمنا على الأرض، على البلاط، على الحصير.. ونحن نحتسي أكؤس السعادة مترعة هنيّة..

أخوّة خمسين عاماً، أواريها الآن في التراب، وأغادرها لأنام على سريري؟

صداقة خمسين عاماً، أختصرها بكلمات؟

لا والله.. ليس لي قدرة على هذا..

فعن ماذا أتحدث؟


هل أقول: إنه خرج من الدنيا كما دخلها، لم ينل منها إلا ما يسدّ الرمق؟ إلا ما يضمن الحدود الدنيا من العيش الكريم؟

هل أتحدث عن الحسناوي الشاعر؟ والحسناوي الناثر؟

هل أتحدث عنه سياسياً ورجل إعلام وتخطيط، أو أتحدث عنه أديباً أو مفكراً، أو محاضراً، أو مناقشاً يراعي أدب الاختلاف في الرأي؟


هل أتحدث عن لينه، وتواضعه، وخفض جناحه لأهله وإخوانه، وتناسيه ما يجب أن يكون، فلا يهمه أن يكون (مواطناً) من الدرجة الثانية، في سائر أحواله، إلا حالاً واحداً: أن تُمسَّ كرامته، أو يُمسَّ إسلامه.. إن أردته جندياً كان، وإن أردته قائداً تحمّل المسؤولية بجدارة، يعمل ويعمل ويعمل، ولا يكل ولا يمل..

هل أتحدث عن اعتقاله، عن اضطهاده، عن اغترابه، عن القهر الذي لقيه.. ومع ذلك.. لم يهادن، ولم يساوم، وبقي شامخاً في وجه الأعاصير، عاش واقفاً، ومات واقفاً، لم يضعف.. لم تضعف روحه، ولم تضعف عزيمته، برغم الهزال الذي ألمَّ بجسمه الناحل، بعد المرض العضال الذي أعيا مهرة الأطباء، طوال ثلاث سنين، بلا شكوى، وإذا شكا، فلخاصة إخوانه، وبهمس وحياء، وفي شكواه رضا بقضاء الله وقدره، وتسليم مطلق لما يريده سبحانه.

كان وكنت وكنا نرى أن الطغاة لا يناسبهم إلا تكسير رؤوسهم، ولا تجدي معهم مجاراة ولا مداراة، ولا سياسة اللين.. ما تنازل عن اقتناعه هذا، في أحواله كلها.

فيه أناة وحلم وسلاسة في التعامل، فإذا ساءه أمر، رفع عقيرته: لا إله إلا الله، يرددها أكثر من مرة، فتعرف أنه مستاء، وغير راضٍ عما يرى أو يسمع.

أعداؤه وخصومه هم أعداء دعوته، ووطنه، وشعبه، في الداخل والخارج.. يتابع أخبارهم، وتحركاتهم، ويتصدّى لهم بقلمه السيّال، يفند مواقفهم، وأقوالهم، ومزاعمهم، بقوة يستغربها من يرى نحول جسمه، وضعف ساعديه.. مصداقاً لقول الشاعر:

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور

وكذلك هو إذا غضب وثار.


هل أتحدث عن متابعته لما يجري على الساحات الداخلية، والعربية، والإسلامية، والدولية، والمبادرة إلى معالجة ما يستطيع معالجته من تلك القضايا والهموم؟

هل أستطيع أن أذكر ما نظم وكتب حول قضايا الأحبة في فلسطين، والعراق، ولبنان، وأفغانستان، وسواها من بلاد العروبة والإسلام؟ إنه كمٌّ كثير، ويحتاج كلٌّ من تلك القضايا في شعره ونثره إلى محاضرات.

هل بإمكاني أن أُفيض بالحديث عن أبرز ما يتميز به؟ عن دأبه على العمل؟ فهو يعمل في سائر أحواله، كان جمل المحامل في العمل.. تراه من لقاء إلى لقاء، في الحر والبرد، وتراه عاكفاً في غرفته على أوراقه، يوجّه من يعمل معه، وبقي يعمل حتى الساعات الأخيرة من حياته المباركة إن شاء الله.

كانت روحه تهيم في كتبه وبين أوراقه، وقد فتح الله عليه في بداية حياته، فعكف على الدراسات القرآنية، وألّف كتابه البديع في بابه: (الفاصلة في القرآن) وعندما اشتدّ عليه المرض، في سنواته الأخيرة، رجع إلى ما صرفته عنه الصوارف.. رجع إلى الدراسات القرآنية، وأكبَّ على كتبها، وأنست روحه بها، فكتب كتابه الجميل: دراسات جمالية بيانية في أربع سور، وكان يتابع دراساته القرآنية هذه، وكان آخر عهدي به –رحمه الله تعالى- قبل وفاته بيوم واحد، أعاد إليَّ كتابين كان استعارهما قبل أشهر، أحدهما: كتاب التصوير الفني في القرآن، للأستاذ الشهيد العظيم سيد قطب رحمه الله رحمة واسعة، وكان هذا آخر لقاء بيني وبينه، رحمه الله رحمة واسعة.

بقي أن أقول، مما أستطيع قوله الآن:

كانت حلب والعودة الكريمة إليها، حلماً يداعبه حتى آخر لحظة من حياته.. وفي آخر سهرة حلبية ألقى قصيدته الجميلة: (هل من عود إلى حلب) المنشورة في موقع أدباء الشام في 10/8/2005 بمناسبة مرور ربع قرن على مغادرته حلب، وفيها يحنّ إلى حلب حنيناً أثار الأشجان، وأسال بعض الدموع.

عندما سلمني القصيدة لنشرها، قلت له:

- هوّن عليك يا أخي، فالله المنتقم الجبار أغير على عباده من كل غيور، ولعله –سبحانه- أراد أن يفضح هذه الزمرة الباغية الذين شرّدوا مئات الآلاف عن أهليهم وديارهم، وسرقوها منهم... سرقوا بيوتهم، ومراتع صباهم، ومواطن ذكرياتهم، وأبعدوهم عن أمهاتهم وآبائهم وأقربائهم، وأصدقائهم، وزملائهم... سرقوا كل شيء منهم، إلا إيمانهم، وكرامتهم، واعتزازهم بانتمائهم، وإصرارهم على جهادهم، وهو مالم يفعله إلا أجداد أولئك، الذين سرقوا الحجر الأسود الشريف، وغرّبوه عن موطنه ومكان إقامته في الركن الملاصق لباب الكعبة المعظمة، ثم رجع الحجر الشريف إلى مكانه برغم أنوف البغاة، وبقيت فعلتهم هذه سبّة الدهر عليهم إلى يوم الدين، وسوف نرجع إلى ديارنا، وأنوفهم راغمة بإذن الله تعالى، وسوف تبقى فعلتهم هذه سبّة الدهر في تاريخهم.

قال: ومن هؤلاء حتى يكون لهم تاريخ؟

قلت: كلامك صحيح.. من هؤلاء حتى يكون لهم تاريخ.. ولكنّ تشريدهم لنا سيكون لعنة عليهم في الدنيا قبل الآخرة، فعشرات الآلاف من أولادنا وحفدتنا لم تكتحل عيونهم بمشاهدة أوطانهم، وهم وأمهاتهم، يدعون على أولئك، يصوّبون إليهم سهام السحر، ولن تخطئ سهامهم أهدافها بإذن الله القوي المنتقم.. نحن ونساؤنا وذرياتنا نرفع أكفنا المتوضئة كل يوم، كل سحر، وعند كل أذان، ندعو على الظالمين وعلى أعوانهم.

* * *

هذه شهادة أخ صديق له، عرفه منذ خمسين عاماً، وكان خليطه، وكان كل منهما يأرز إلى أخيه كلما حزبه أمر، يبثه شكواه ونجواه، تقبّله الله وإياه، وأسكننا جميعاً عوالي الجنة وعلاليها، إنه جواد رحمان رحيم.

* * *

وإني أدعو طلاب الدراسات العليا إلى الكتابة عن الحسناوي الأديب، والحسناوي السياسي، والحسناوي الداعية، فحياة محمد الحسناوي حافلة، وأدبه، شعراً وقصة، ورواية، ودراسة، ونقداً، جدير بأن يكون موضوع أكثر من أطروحة ورسالة جامعية.

والسلام عليك يا أخي يا أبا محمود في الخالدين.
[/align]
 
جزاك الله خيرا واحسن اليك
وقد بان في ثنايا السطور الم المعاناة التي تعانونها فنسال الله تعالى ان يفرج عنكم وعن جميع المسلمين
وهكذا تكون الكتابة الخارجة من القلب انها لا تذهب الا الى القلب
 
عودة
أعلى