هدية سيدي الحسني : بديع الزمان سعيد النورسي من برزخ التصوف إلى معراج القرآن !؟!

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع خلوصي
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

خلوصي

New member
إنضم
20/09/2008
المشاركات
377
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
عالم النور و الإيمان المكي
الموقع الالكتروني
www.nuronline.com
بديع الزمان سعيد النورسي من برزخ التصوف إلى .... معراج القرآن !؟!





بديع الزمان النورسي


من برزخ التصوف إلى معراج القرآن


أ.د. فريد الأنصاري
جامعة مولاي إسماعيل – مكناس المغرب


مقدمة
ككل علماء عصره انطلق بديع الزمان سعيد النورسي - رحمه الله - في طلبه للعلم الرباني والمعرفة القلبية من مدارج التصوف وقواعده. فقد تتلمذ بدء أمره على يد الشيخ سيد نور محمد النقشبندي([1]) وذلك سنة: 1888م/1306هـ، أي أوائل القرن الرابع عشر الهجري. بل إن الثقافة العامة آنئذ لم تكن تنفصل عن المفاهيم الصوفية، بما في ذلك سائر العلوم الشرعية، التي تلقاها عن عدد من العلماء، من فقه، وأصول، وحديث، ولغة، وكلام ... إلخ.
فرغم استقلال هذه العلوم بعضها عن بعض؛ فقد كان التصوف هو اللحمة الجامعة لأدب الطلب، وأخلاق التعلم، كما كان هو القانون المنظم للعلاقة بين الشيخ والتلميذ.
ومن هنا لم يزل رحمه الله يجل التصوف ويقدر مشايخه رغم ما طرأ على حياته العلمية والدعوية من تحولات. وقد سئل عن ذلك بعدما انتشرت رسائل النور وتميز منهجها القرآني، فقال:
( إن غاية "الطريقة" وهدفها هو معرفة الحقائق الإيمانية والقرآنية، ونيلها عبر السير والسلوك الروحاني في ظل المعراج الأحمدي وتحت رايته، بخطوات القلب، وصولا إلى حالة وجدانية وذوقية بما يشبه الشهود. فالطريقة والتصوف سر إنساني رفيع، وكمال بشري سام.)([2])
فبديع الزمان لم يسجل قطيعة (ابستمولوجية) مع الفكر الصوفي؛ بما يجعله وإياه على طرفي نقيض. وإنما الذي يمكن قوله: هو أنه جدد الفكر الصوفي نفسه؛ بمحاولة إعادة إنتاج الحقائق القلبية الإيمانية، لا بواسطة هياكل الطريقة وقواعدها، من مشيخة، وبيعة، وأوراد قولية وفعلية، ولكن إنتاجه الإيماني كان ينطلق بصورة مباشرة من نبع القرآن الفياض. حيث إنه لم يستمر انضباطه لنظام المشيخة بمفهومها الصوفي.
فبعد حصول التحولات المشهودة في حياته الإيمانية ترك الطرق وأربابها، والمشيخة وأشكالها‍‍‍.
فلم ينصبها أمامه بعدُ في سيره إلى الله، ولا هو انتصب لها.
ولا أنتج طريقة جديدة كما هو معهود في نظام الطرق الصوفي في العصور المتأخرة.
وإنما صار بما سلكه من منهج قرآني شأنا آخر.
ذلك أن أحواله رحمه الله سرعان ما تطورت؛ بما تطور من حوادث في عصره، وبما وجد من قوى باطنة في نفسه، توجهه توجيها وتدفعه بقوة إلى سلوك مسلك جديد؛ فوجد نفسه مطلوبا لهمة أخرى غير التربية الصوفية بمعناها التقليدي.
ومن هنا انطلق فاتحا مسلكا جديدا في مجال تجديد الدين بهذا العصر، دون أن يحدث قطيعة كاملة مع مفاهيم الصوفية ومصطلحاتهم بل حتى قواعدهم في التربية والتوجيه.



الفصل الأول
المنهج النوري بين مقولات التصوف ومفاهيم القرآن


لقد كانت التحولات في حياة بديع الزمان تستجيب لعدة اعتبارات منها ما هوذاتي، يرجع إلى طبيعة الرجل وخصائصه الذاتية. ومنها ما هو موضوعي يرجع إلى طبيعة التحولات العالمية والمحلية الواقعة يومئذ.
فبديع الزمان له طبيعة متأبية على المقولات والمفاهيم. فليس من النوع الذي يتلقى الحقائق بلا اقتناع.
فهو ذو شخصية تفكرية وتحققية يقلب النظر فيما حوله بلا انقطاع.
ومعلوم أن التصوف في زمانه وصل إلى حالة مزرية، فيما يتعلق بمنهج التربية وطبيعة السلوك، فأنتج مفارقات كبرى بين القول والعمل، ودعاوى عريضة؛ بما حصل من قطيعة لدى كثير من أهله بين الحقيقة والشريعة، وبما دخله ممن ليس من أهله المتحققين به من بعض الدجاجلة والكذابين، بما أساء إلى التصوف وأهله، وجعل كثيرا ممن لم يتحقق من حقيقته الأصلية يرمي كافة مدارسه عن قوس واحدة.
لم يكن من السهل إذن أن يستقر بديع الزمان على طريقة معينة. وهو الذي استطاع أن يستوعب علوم عصره الدينية، واللغوية، والفلسفية، في مرحلة مبكرة جدا من عمره؛ بما بهر مشايخه وبَزَّ أقرانه!([3])
بل ربما يمكن القول: إن شخصيته كانت أقوى من أن تخضع له هو نفسه!
لقد كان يجد نفسه يمضي إلى قدره الذي خلق من أجله بقوة لا يستطيع مقاومتها!
قال رحمه الله:
( لقد تحقق لديّ يقيناً أن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيـري!
إذ أُعطي لها سَيْرٌ مُعَيَّنٌ، ووُجّهت وجهةً غريبةً؛ لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بـمثابة مقدمات تمهيدية؛ لبيان إعجاز القرآن بـ"الكلمات" ([4]).
وأما ما يتعلق بالجانب الموضوعي وأثره في توجهه الفكري والوجداني؛ فقد كان للتحولات العالمية والمحلية الكبرى الواقعة يومئذ؛ بما صاحبها من حركات سياسية واجتماعية وفكرية أثر كبير في رسم معالم منهجه التجديدي. ذلك أن الانهيارات الكبرى التي عرفتها الدولة العثمانية، وما نخر جسم الخلافة الإسلامية من وهن وضعف، وما أبصره النورسي بنظره الثاقب من كيد الأعداء في الداخل والخارج، وما صاحب ذلك كله من انهيار كثير من القيم وزحف فلسفة الإلحاد على العالم الإسلامي، مع بداية قيام الثورة البلشفية في روسيا ونشوء الاتحاد السوفياتي، ثم قيام الدولة العلمانية وما قامت به من حملات استئصالية رهيبة لكل ما يرمز إلى الدين شكلا ومضمونا، ثم فشل المحاولات التي قادها مشايخ معاصرون لها لإعادة الأمور إلى نصابها بالقوة، أو بالدروشة. كل ذلك جعله يرفع صوته مبادرا إلى استلام زمام المبادرة، وركوب حصان الطليعة؛ لخوض غمار التحدي بالقرآن، قائلا قولته المشهورة:
(إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية بل زمان إنقاذ الإيمان!) ([5])
مقررا بكل ثقة أن: (إنقاذ الإيمان أعظم إحسان في هذا الزمان!)([6]).
فالمشروع التجديدي لبديع الزمان النورسي هو على المستوى المنهجي مقارب للتصوف ومفارق له في الآن ذاته. وبيان ذلك يتضح بالمقارنات التالية:


أ- المعرفة القرآنية ضرورية والمعرفة الصوفية فاكهة:


ذلك أن التصوف في تصور النورسي رحمه الله – بالنظر إلى ظروف عصره - إنما هو ضرب من الترف الروحي! ذلك أن حاجة العصر هي التي تحدد قيمة المفاهيم وأولويتها؛ ومن هنا كان نظر بديع الزمان إلى سائر المناهج الإصلاحية مبنيا على مدى نجاعتها بالنسبة لحال الزمان وأهله. وقد نقل الأستاذ النورسي كلاما عن الشيخ شاه نقشبند مؤسس الطريقة النقشبندية ثم علق عليه بمقارنات لطيفة، وبأدب جم رفيع،
فخرج بمعادلات تربوية ذات بعد منهجي متوازن، تدل على قبوله للفكر الصوفي من جهة، وتجاوزه له من جهة ثانية؛ بناء على معطيات العصر الموصوفة قبل، وما تفرضه من أولويات.
قال رحمه الله: "لقد قال رائد السلسلة النقشبندية وشمسها الإمام الرباني - رضي الله عنه - في مؤلفه "مكتوبات": "إنني أرجّح وضوح مسألة من الحقائق الإيمانية وانكشافها على آلاف من الأذواق والمواجيد والكرامات"([7]). وقال أيضا: "إن منتهى الطرق الصوفية كافة هو وضوح الحقائق الإيمانية وانجلاؤها([8])". وقال كذلك: "إن الولاية ثلاثة أقسام: الولاية الصغرى: وهي الولاية المشهورة. وقسم ثان: هو الولاية الوسطى. وقسم ثالث: هو الولاية الكبرى. هذه الولاية الكبرى هو فتح الطريق إلى الحقيقة مباشرة، دون الدخول في برزخ التصوف. وذلك بوساطة وراثة النبوة" ([9]). وقال أيضاً: "إن السلوك في الطريقة النقشبندية يسير على جناحين، أي الاعتقاد الصحيح بالحقائق الإيمانية، والعمل التام بالفرائض الدينية. فإذا ما حدث خلل وقصور في أي من هذين الجناحين يتعذر السير في ذلك الطريق"([10]).
بمعنى أن الطريقة النقشبندية [يقول بديع الزمان] لها ثلاثة مشاهد:
أولها وأسبقها وأعظمها: هو خدمة الحقائق الإيمانية خدمة مباشرة ، تلك الخدمة التي سلكها الإمام الرباني في أخريات أيامه.
الثاني: خدمة الفرائض الدينية والسنة النبوية، تحت ستار الطريقة.
الثالث: السعي لإزالة الأمراض القلبية، عن طريق التصوف والسير بخطى القلب.
فالأول من هذه الطرق هو بحكم الفرض، والثاني بحكم الواجب، والثالث بحكم السنة.
فما دامت الحقيقة هكذا: فإني إخال أن لو كان الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشاه النقشبند([11]) والإمام الرباني([12]) وأمثالهم من أقطاب الإيمان - رضوان الله عليهم أجمعين - في عصرنا هذا؛ لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الإيمانية والعقائد الإسلامية؛ ذلك لأنهما منشأ السعادة الأبدية، ولأن أي تقصير فيهما يعني الشقاء الأبدي!
نعم؛ لا يمكن دخول الجنة من دون إيمان، بينما يدخلها الكثيرون جداً دون تصوف.

فالإنسان لا يمكن أن يعيش دون خبز، بينما يمكنه العيش دون فاكهة. فالتصوف فاكهة، والحقائق الإسلامية خبز.)([13])
هكذا إذن يصبح التصوف بالنسبة للنورسي - في زمن الانهيارات الكبرى - مجرد فاكهة. والعمل الضروري عنده إنما هو قائم على التشمير عن ساعد الكدح؛ لاستخراج حقائق الإيمان مباشرة من القرآن العظيم، والسير بها في الآفاق مربيا ومعلما.
فكانت رسائل النور هي تلك النتيجة النورية التي سلطها النورسي على ظلمات العصر فانفجرت بشعاعات لا تنتهي من الأجيال القرآنية التي تتحدى فلسفات العصر، وكل ضروب العلمانية الزاحفة!

يتبع .....


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لائحة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. شرح وتحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي. دار القلم بيروت. ط. الأولى: 1407هـ/1987م.
- صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار الحديث بالقاهرة. ط. الأولى: 1412هـ/1991م.
- صحيح الجامع الصغير وزياداته للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي بيروت/ دمشق. ط. الثالثة: 1408هـ/1988.
- كليات رسائل النور تأليف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، نشر دار ( سوزلر ) للنشر، فرع القاهرة ط 2 بمصر 1412 هـ/ الموافق 1992م. وتتضمن:
- الجزء الأول : الكلمات
- " الثاني : المكتوبات
- " الثالث: اللمعات .
- " الرابع: الشعاعات
- " الخامس: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز.
- " السادس: المثنوي العربي النوري .
- " السابع : الملاحق .
- " الثامن : صيقل الإسلام .
- " التاسع: سيرة ذاتية .
- مفاتح النور: (نحو معجم شامل للمصطلحات المفتاحية لكليات رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي) تأليف د. فريد الأنصاري. نشر معهد الدراسات المصطلحية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بفاس، ومركز النور للدراسات والبحوث بتركيا. مطبعة نسيل إستنبول/ تركيا. ط. الأولى: 2004.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش :
([1]) قال رحمه الله: (وأستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد) سيرة ذاتية ص 236. والملاحق ص71.
([2]) المكتوبات ص571.
([3]) سيرة ذاتية ص 46-47.
(4) المكتوبات ص484، وسيرة ذاتية ص10
([5]) سيرة ذاتية ص 369
([6]) سيرة ذاتية ص 368
([7]) المكتوبات للإمام الرباني أحمد السرهندي: 1/182 ( المكتوب: 210) نقلا عن تحقيقات إحسان قاسم الصالحي لرسائل النور. ن: مكتوبات النورسي ص 26
([8]) نفسه، نقلا عن تحقيقات إحسان قاسم الصالحي لرسائل النور. ن: مكتوبات النورسي ص 26
([9]) مكتوبات السرهندي: 1/240 ( المكتوب 260). ) نقلا عن تحقيقات إحسان قاسم الصالحي لرسائل النور. ن: مكتوبات النورسي ص 26
([10]) مكتوبات السرهندي: 1/87 ( المكتوب:75) ، 1/98 (المكتوب: 91) ، 1/99 (المكتوب: 94). ) نقلا عن تحقيقات إحسان قاسم الصالحي لرسائل النور. ن: مكتوبات النورسي ص 27.
([11]) هو محمد بهاء الدين مؤسس الطريقة النقشبندية.
([12]) يعني: الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي الفاروقي.
([13]) المكتوبات ص 27
([14]) المكتوبات: 2/428- 429
([15]) ينظر مصطلح (التوحيد) في كتابنا مفاتح النور ص 41
([16]) المثنوي العربي: 6/41
([17]) المثتوي العربي: 6/346
([18]) الكلمات ص561
([19]) المكتوبات ص424
([20]) صيقل الإسلام: 8/122ـ124.
([21]) المكتوبات ص 589
([22]) المكتوبات ص 588.
([23]) المكتوبات ص 484، وسيرة ذاتية ص10.
([24]) المكتوبات ص 475، وسيرة ذاتية ص120.
([25]) مصطلح (سعيد القديم) لقبٌ يطلقه النورسي على مرحلة الأربعينات الأولى من عمره، أي مرحلة ما قبل الشروع في كتابة رسائل النور، وهي مرحلة الاهتمام السياسي في حياته. وأما لقب (سعيد الجديد) فهو شخصية النورسي الجديدة، التي ودعت العمل السياسي الجزئي واشتغلت بالعمل الروحي الكلي.
([26]) إشارت الإعجاز:5/22 والمكتوبات:2/267
([27]) ن. مصطلح (القرآن) في كتابنا: "مفاتح النور" ص 212.
([28]) المرجع السابق.
([29]) كلها اصطلاحات استعملها النورسي في كتاب المثنوي العربي.
([30]) سيرة ذاتية ص 369
([31]) الملاحق ص 110.
([32]) صيقل الإسلام ص 518.
([33]) رواه أبو داود بسند صحيح.
([34]) ن. هذا المعنى مفصلا في دراستنا لمصطلح (الإنسان) بكتابنا: مفاتح النور ص 89.
([35]) الكلمات:1/418
([36]) الكلمات:1/204
([37]) إشارات الإعجاز:5/26
([38]) إشارات الإعجاز:5/149
([39]) المكتوبات:2/594.
([40]) المكتوبات ص 247
([41]) المكتوبات ص 248
([42]) الكلمات ص 734
([43]) اللمعات ص 176​
 
أنا زعلان منك يا سيدي !
جبتلّك بحث دقيق خلاصة دراسة و تأمّل و معايشة من شيخ أصولي محرر مصطلحاتي .. و لا إلتلّي شكراً
icon7.gif
معليش ! متل ما بيؤولوا الشوام : المعاملة مع الله !

و كمان أنا زعلان من الجماعة الطيبة أهل التفسير أهل القرآن ما حدا علّق و لا طلب التتمة مع إنّو الموضوع عن :
معراج القرآن !
بعد برازخ التصوف !؟!
إيه شو عليه ؟ يمكن الواحد منّا صار يعجبو موضوع من أوّلو و بعدين بيروح لغووغل بيلائي الموضوع كامل !؟ بس وين ؟ شو جاب لجاب ... و الله بحرمكون تنسيقاتي
icon7.gif
-


إخوتي و اساتذتي المحترمين :
كل عام و أنتم بخير

أجدد لكم هذا الموضوع إتماماً له في شهر القرآن فقد أبدع الشيخ المربي الأنصاري رحمه الله في تحليل رسائل النور و إثبات أنها :
" مدوّنة الفقه القرآني الأكبر "
لهذا العصر .. و لأجيال قادمة !
بين أبناء الإسلام ..
و في رنوّهم إلى أمة الدعوة المحترقين في الأرض !
بل رنوّ أهل الأرض إلى بصيص من أنوار كتابهم !


لقد أشبهت حالة بديع الزمان النورسي – إلى حد ما - حالة متصوفة الصدر الأول، من أمثال الإمام الجنيد والحارث بن أسد المحاسبي وأضرابهما، ممن لم يشتغلوا بالألقاب والأقطاب، ولا حتى التزموا شيخا معينا على التحديد دون سواه؛ في سيرهم إلى الله، وإنما التزموا سنة الرسول صلى الله وسلم في مجمل عبادته. فتحققوا بالمعاني الكبار من حقائق القرآن، عند ولوج معارجه بين سبحات الليل والنهار.

ومن هنا فقد ألغى – رحمه الله - وسائط المشايخ، وتتلمذ على النبي صلى الله عليه وسلم في سيره إلى الله. وهي مرتبة أعلى في سلم مراتب الولاية، كما بينه في النص المذكور، نقلا عن الإمام السرهندي. أعني قوله:
( والولاية الكبرى:
هو فتح الطريق إلى الحقيقة مباشرة، دون الدخول في برزخ التصوف، وذلك بوساطة وراثة النبوة. )
ومن هنا كان العنصر الثاني في هذه المقارنة النورية هو:


ب- المعرفة القرآنية مباشِرَةٌ والمعرفة الصوفية برزخية :
والبرزخ المعرفي إنما هو فاصل نفساني، أو ممر روحاني خاص، تَعْبُرُهُ الحقائق؛ فلا بد إذن أن تتأثر المعارف بطبيعته، ولا يمكنها أن تحافظ على أصالتها، وفطرتها الأولى، كما كانت في الأصل.
فالمفاهيم عندما تُتَلَقَّى من معراج القرآن لحظةَ المشاهدة القلبية لحقائقه الإيمانية؛ تكون أوضح وأصفى،
لكنها على غير تلك الصورة من الوضوح؛ إذا ما تُلقيت عبر البرزخ الصوفي؛ لما يخالطها من الارتجاجات الإنسانية، ولما يحجبها من حُجُبِ المسافة النفسانية على حسب مقام الشخص المتلقي وحاله.
ولقد درسنا مفهوم التوحيد كما تلقاه بديع الزمان النورسي عبر المعراج القرآني، مقارَناً بما رسمه أهل الأحوال والمقامات من معان؛ فكان الأمر - كما عبر عنه هو نفسه رحمه الله - في غاية التمايز؛ لما بين المسلكين من فروق دقيقة قد لا تُرى بادئ النظر.
وذلك أنه سئل - رحمه الله - كيف (أن علماء الكلام يثبتون (التوحيد) بعد ظهورهم ذهنا على العالم كله، الذي جعلوه تحت عنوان الإمكان والحدوث؟ وإن قسما من أهل التصوف لأجل أن يغنموا بحضور القلب واطمئنانه، قالوا:
(لا مشهود إلا هو)، بعد أن ألقوا ستار النسيان على الكائنات، وقسم آخر منهم قالوا: (لا موجود إلا هو) وجعلوا الكائنات في موضع الخيال، وألقوها في العدم؛ ليظفروا بعد ذلك بالاطمئنان، وسكون القلب. ولكنك تسلك مسلكا مخالفا لهذه المشارب، وتبين منهجا قويما من القرآن الكريم، وقد جعلت شعار هذا المنهج:
"لا مقصود إلا هو"، "لا معبود إلا هو"!
فالرجاء أن توضح لنا باختصار برهانا واحدا يخص (التوحيد) في هذا المنهج القرآني!
- الجواب: إن جميع ما في (الكلمات)، و(المكتوبات)،
يبين ذلك المنهج القويم (...) إن كل شيء في العالم يُسنِدُ جميع الأشياء إلى خالقه، وإن كل أثر في الدنيا يدل على أن جميع الآثار هي من مؤثره هو (...) أي أن كل شيء هو برهان وحدانية واضح، ونافذة مطلة على المعرفة الإلهية؛ (...) لأن القانون الساري في الموجودات هو سلسلة تشد جميعها، بعضها ببعض، والأفعال مرتبطة به (...) ذلك لأن الأسماء المتجلية في الكون متداخل بعضها في بعض، كالدوائر المتداخلة، وألوان الضوء السبعة. كل منها يسند الآخر ويمده، كل منها يكمل أثر الآخر ويزينه!).([14])
إن تجلي الأسماء في الموجودات هو الخاتم، أو السكة، أو الطغراء، التي تدل على المعرفة الإلهية، جوهر (التوحيد الحقيقي).
ولقد بينا ولع النورسي بتتبع هذا المعنى في تحقيق التوحيد([15]). لا يكاد يذكر هذا إلا من خلال ذاك! قال مثلا: (إن للصانع جل جلاله على كل مصنوع من مصنوعاته (سكة)، خاصة بمن هو خالق كل شيء! وعلى كل مخلوق من مخلوقاته (خاتم)، خاص بمن هو صانع كل شيء! وعلى كل منشور من مكتوبات قدرته (طغراء) غراء لا تقلد، خاص بسلطان الأزل والأبد!)([16]). ومثله قوله: (وأما التوحيد لأهل الحقيقة؛ فإنما يَثْبُتُ بأن يُثْبَتَ كل شيء مما يشاهد من الأشياء ويسنده إليه سبحانه، ويرى فيه سكته، ويقرأ عليه خاتمه جل جلاله. وهذا الإثبات يثبت الحضور، وينافي الغفلة!).([17])
فالمفاهيم الروحية كما يعرضها النورسي إنما يتلقاها في حال اليقظة، لا في حال المحو والسكر، كما يعبر القوم.
فاليقظة عنده أكمل من السكر، والحضور أقوى من الغياب، على عكس ما هو موجود عند غيره. ذلك أن (طريق القرآن) عنده - رحمه الله – تسلك بالعبد إلى ربه عبر نفسه الواعية، اليَقِظَةِ؛ من خلال مسلك الوجود. وذلك كمال الابتلاء وكمال التوحيد. فالعبد الذي يستوعب الوجود حوله بتعدده وتنوعه، فلا يفقد بوصلة السير إلى الله الواحد؛ هو العبد الأكمل.
فإذا بالكائنات جميعها بين يديه مجالس ذكر تسير بسيره إلى الله.
فلا ينبغي أن يفتنه شيء في ذلك كله عن ربه، بل يجب أن يجد كل شيء منعكسا عن أنوار الأسماء الحسنى. ومن هنا لم يكن طريق القرآن يضطر إلى محو الوجود كما يفعل أهل الشطحات القائلين بوحدة الوجود. نعم! ذلك هو طريق القرآن.
قال رحمه الله في بيان عجيب، تُشد إلى مثله الرحال:
(إن هذا الطريق أسْلَمُ من غيره؛ لأن ليس للنفس فيه شطحات، أو ادعاءات فوق طاقتها؛ إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز، والفقر، والتقصير، حتى لا يتجاوز حده. ثم إن هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لأنه لا يضطر إلى إعدام الكائنات، ولا إلى سجنها، حيث إن أهل "وحدة الوجود" توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: "لا موجود إلا هو" لأجل الوصول إلى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا أهل "وحدة الشهود" حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان، فقالوا: "لا مشهود إلا هو" للوصول إلى الاطمئنان القلبي.
بينما القرآن الكريم يعفي الكائنات بكل وضوح عن الإعدام، ويطلق سراحها من السجن.
فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل، وخادمة في سبيله، وأنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى، كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي، ويعزلها عن المعنى الاسمي، من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها.

وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد إلى الحق سبحانه طريقاً من كل شيء)([18]).
ذلك إذن؛ وجه من وجوه الفرق ما بين البرزخية الصوفية والمعراج القرآني المباشر. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن المعرفة الصوفية عند بديع الزمان - رغم ما كان يكنه لها من احترام - معرفة قائمة على منهج المغامرة، وذلك بما هي معرفة ناقصة غير كاملة، وبما يشوبها من تدخل الذات الإنسانية وأحوالها. فهي لذلك في حاجة إلى تأمين.

وإنما تأمينها هو (المعراج القرآني).
وبيان ذلك هو كما يلي:

ج- المعرفة القرآنية مضمونة مأمونة والمعرفة الصوفية مغامرة:


 
عودة
أعلى