محمد البويسفي
New member
- إنضم
- 02/03/2006
- المشاركات
- 60
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
أ.د. أحمد حسن فرحات
قسم الدراسات الإسلامية/كلية الآداب، جامعة الإمارات
تمهيد:
من المعلوم أن هذه الأمة بدأت رحلتها الحضارية منذ أن تنزلت آيات القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث في غار حراء، حيث فاجأه الوحي بقوله :( اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) وانطلقت القافلة على حُداء الوحي تُنقل خطاها في طريقها الطويل، المليء بالأشواك والصعاب، مسترشدة بالهدي الإلهي، ومستمدة قوتها من كلمات الله التي تحيي موات القلوب وتبعث الحياة والأمل في النفوس.
ولم يمض على هذه الأمة كبيرة وقت، حتى غدت على الجادة، ملتزمة بالتي هي أقوم في كل شؤون حياتها، فمكن الله لها في الأرض، وآتاها من الأسباب ما جعلها أمة شاهدة على الناس، تحمل الخير، وتشيع الهدى، وتفتح القلوب المقفلة، وتضع عن الناس الآصار والأغلال ، وسارت بدعوة الله مشرقة ومغربة، فطَوي لها الزمان والمكان، فأصبحت في أقل من مائة عام تشرق شمسها على الصين شرقا وعلى جنوب فرنسا غربا.
غير أن الأمة لم تبق في هذا الخط الصاعد دائما وأبدا، فقد وقعت في مسيرتها أخطاء، وتعرضت من أعدائها الحروب ونكبات، مما أفقدها توازنها، وجعل حياتها بين مد وجزر، فمرة تنهض وأخرى تتعثر، واستمر الأمر على هذا فترة طويلة من الزمان.. وعلى الرغم من كل ذلك بقيت الأمة محتفظة بهويتها، غير متنكرة لرسالتها إلى أن تم القضاء على الدولة العثمانية آخر حلقة في سلسلة الخلافة الإسلامية.
ثم جاء الاستعمار الغربي، فأناخ بثقله على صدر هذه الأمة، وأخذ يعمل في تقطيع أوصالها، وتبديد ثرواتها، وتغيير قيمها، وتوجيهها بعيدا عن عقيدتها وتاريخها، فطرح لها بديلا عن الإسلام، وأوهمها أن تقدمها ونهضتها مرهونا بقيمه وتقاليده، وأنشأ لذلك المدارس والجامعات، وأخرج مجموعة من النخب التي رباها على عينه وأشربها من معين ثقافته، فجعلها حاكمة على الناس تسير في إطار ما خطط لها، بعيدة عن الإسلام وقيمه، مما جعل الانتماء إلى الإسلام موضع نظر ، ومثار جدل. وهكذا نشأت المذاهب والأفكار المغايرة للإسلام وأصبحت الأمة أشبه بالطائرة المخطوفة يتحكم بها خاطفوها ويسيرون بها في الاتجاه الذي يرغبون غير عابئين بوجهة الركاب الأصلية، وغير مبالين بما يصيـبهم من أهوال وأخطار.
وإذا وصل الأمر إلى ما وصل إليه من هذا التردي والانحطاط، فكيف يمكن لهذه الأمة أن تنهض من جديد؟ وما هي الطريق التي ينبغي أن تسلكها؟ وما هي الخطوات التي لا بد منها للإقلاع نحو الهدف المنشود؟.. هذا ما نحاول الإسهام في الإجابة عليه في الصفحات القادمة بإذن الله.
- الأمة والقرآن:
لقد بدأت هذه الأمة مسيرتها نحو مشرق الشمس يوم أن هبط جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث في غار حراء، وكانت كلمة ] اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم [ هي الإكسير الذي بدأ يفعل فعله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في حياة من استجاب لدعوته من أمته، وانتقلت هذه الأمة بتأثير القرآن وقوته الفاعلة من الجاهلية إلى الإسلام فكانت أول أمة تولد من خلال نصوص كتاب، وتنبثق من بين حروفه وكلماته، وتقوم على إيحاءاته وتوجيهاته، ثم تخرج به إلى الناس وحيا إلهيا يحرك القلوب، ويهز النفوس، ويعيد صياغة الحياة وصناعة التاريخ.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هذه الطاقة الهائلة أن تتبدد ، أو يقل تأثيرها في نفوس أصحابه، فقصرهم على الاستمداد منها، والاستقاء من معينها، ونهاهم عن الالتفات إلى غيرها والتطلع إلى سواها، ومن ثم فقد اشتد غضبه حينما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر y وقال : " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"، بل إنه نهى أصحابه صلى الله عليه وسلم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن وقال : ( من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه) كل ذلك إدراكا منه صلى الله عليه وسلم لقوة كلمة الوحي التي يمحو الله بها ما يشاء ويثبت.. وحفظا لها من أن يشاركها ما يقلل من تأثيرها أو يضعفها في مرحلة الانطلاق الأولى.
ولقد كان العرب في عصر نزول القرآن في مستوى يمكنهم من التفاعل مع النص القرآني، والاستجابة لإيحاءاته، والتأثر ببلاغته وسحر بيانه، ولم يكن هناك ما يحول بينهم وبين ذلك، فقد كانوا يفهمون معانيه، ويتذوقون حلاوته، ويعرفون أساليبه، فعكفوا على قراءته ودراسته وأمعنوا في تدبر آياته واستكشاف أسراره، فغاصوا في أعماقه باحثين عن درره، مستنبطين لأحكامه، مستلهمين لتوجيهاته، فوجدوا فيه حلا لمشكلاتهم، وشفاء لما في صدورهم، ونورا لأبصارهم وبصائرهم، وهداية في كل شأن من شؤون حياتهم.
ثم بدأ هذا المستوى السامق يتدنى شيئا فشيئا بفعل اختلاط العرب بغيرهم، وبدخول الأمم والشعوب في دين الله أفواجا، فتطرق الضعف إلى اللغة، وفشا اللحن في اللسان، وظهرت الحاجة إلى ضبط القراءة، وإلى ضبط الفهم، والاستنباط، فنشأت لذلك علوم العربية، من نحو، وصرف، وبلاغة. ونشأت علوم القرآن من رسم، وقراءات، وتفسير، كما نشأت العلوم الشرعية الأخرى من حديث ، وفقه، وأصول. إلى غير ذلك من علوم العربية وعلوم الشريعة والتي تهدف كلها إلى خدمة القرآن الكريم وتمكين المسلم من أن يرتع بمستواه للتعامل مع القرآن، والتفاعل معه، والتأثر به، وليكون قادرا على فهم معانيه واستنباط أحكامه، واستلهام توجيهاته.. كما كان الشأن في جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
وسارت الأمور في هذا الاتجاه الصحيح فترة من الزمن، وكانت كل تلك العلوم في خدمة القرآن الكريم والمساعدة على فهمه. ثم بدأت هذا العلوم مع الزمن تتسع شيئا فشيئا، وتنحو منحى الاستقلال، وأصبح في كل علم من العلوم ما لا يحصى من الكتب والمؤلفات، وغدت الثروة العلمية والفقهية التي خلفها لنا علماؤنا ينوء بها العصبة أولو القوة وتفنى الأعمار دون الإحاطة بها، وإدراكها، وتمثلها، على الرغم من أنها تتفاوت صحة وضعفا، وخطأ وشذوذا، وبعدا عن الجادة واستقامة عليها، ومع تطاول الزمن، واتساع العلوم، وتنامي استقلاليتها وتخصصها، أصبحت هذه العلوم محور الدراسة، وموضع الاهتمام، فبعد أن كانت وسيلة مساعدة على فهم القرآن غدت غاية بحد ذاتها، ومن ثم انصرف إليها الدارسون وطلبة العلم يولونها كل اهتمامهم، ويوجهون إليها معظم نشاطهم، وينفقون في سبيلها جل أوقاتهم وأعمارهم، ولم يعد الاهتمام بالقرآن والسنة في المقام الأول وإنما أصبح في المقام الثاني، ومن ثم ضعفت الصلة بالقرآن والسنة، ولم يعد لهما ذلك الأثر الفعال في تغيير السلوك الذي عرفناه في الأجيال السابقة، فتوقف العقل المسلم عن النشاط، وفقد كثيرا من فاعليته التي أفاضها عليه القرآن نتيجة تفاعله معه، وظهر من ينادي بإغلاق باب الاجتهاد نتيجة العجز العقلي الذي ألقى بظلاله على المجتمع الإسلامي.
ثم في مرحلة من مراحل تاريخ هذه الأمة يغدو القرآن في واقع بعض المنتسبين للعلم وسيلة يستعان بها على إيضاح بعض العلوم التي كانت وسيلة لإيضاحه فكأن مهمته تقصر على تقديم شواهد لتوضيح القواعد النحوية والبلاغية وغيرها من العلوم الأخرى، ولو طلب إلى من يقرر هذه القواعد البلاغية أو النحوية أن يعرفنا بمعنى الآية التي يستشهد بها للاستدلال على قاعدته لوقف أمامنا فاغرا فاه متعجبا ولألفيناه يقول بأن اختصاصه إنما هو النحو أو البلاغة، وأنه لا يعرف من الآية إلا موضع الشاهد. وهكذا يغدو القـرآن – في نظر أمثال هؤلاء – مجموعة من الشواهد التي يستخدمها علماء هذا الزمان لتوضيح قواعدهم.
ومثل هذا الذي قيل في شأن علوم العربية يمكن أن يقال في بعض العلوم الشرعية، كعلم الكلام " علم التوحيد" الذي تأثر بمنطق أرسطو وفلسفة يونان، وتحول إلى مدارس فكرية واتجاهات مذهبية، تنحو مناحي مختلفة وتتخذ طرائق قددا، فغدت كل فرقة تبحث في القرآن عن شاهد يؤيد وجهة نظرها ويشهد لقولها ومذهبها، وبذلك وقعت الأمة في داء الفرقة والاختلاف وكل يريد أن يقول بأن ما ذهب إليه هو الذي جاء به القرآن.
أما ما انتهى إليه الأمر في شأن هذه العلوم فقد تجاوز ذلك كله، حيث أصبحت كثير من هذه العلوم بدائل للقرآن تدرس في غيابه وفي منأى عنه، ظنا منهم أن كل العلوم التي حواها القرآن قد استخرجت منه وأفردت بالتأليف بكتب مستقلة، ومن ثم لم يعد في القرآن إلا نصوص تتلى بقصد البركة والثواب الأخروي.
إن ما آلت إليه الأمور من انحطاط في العقل، وجمود في الفهم، وعكوف على كتب المتأخرين حفظا وتسميعا واختصارا وتلخيصا، أو شرحا وتحشية، أو صياغة عل طريقة النظم، أو غير ذلك مما شغل به الناس أنفسهم في العصور المتأخرة لن يحل مشكلة، ولن يبعث نهضة، ولا يمكن أن يكون سبيلا لاستنقاذ أمة ولا باعثا على استئناف حياة جديدة.
إن الحياة لا يمكن أن تدب في هذه الأمة إلا بوحي الله ] وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ ولا يمكن أن تكون إلا في الاستجابة لهذا الوحي ] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ فكلمات الله ووحيه هما القادران على بعث الحياة من جديد في هذه الأمة، وهما القادران على إمدادها بما تحتاجه من القوة والطاقة.
إن نصوص القرآن الكريم غنية بالمعاني التي لا تحد، والتوجيهات التي لا تنفد، والأحكام التي تلبي حاجة الأمة إلى يوم القيامة، ومن ثم فلا بد من العودة إليها ودراستها في سياقها واستلهامها في حل مشكلاتنا، ومعالجة قضايانا، وبدون ذلك لا يمكننا أن نفهم حكمة الأمر الإلهي بكثرة قراءة القرآن، وتدبر معانيه والتفكر في آياته، واستخلاص عبره وعظاته، وليس من حقنا أبدا أن ننهي مهمة القرآن ووظيفته الأساسية بقصره على مجرد التلاوة واحتساب الثواب على ذلك عند الله. ثم الاستغناء عنه بما كتبه الناس، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن ما كتبه العلماء واستنبطه الفقهاء يعتبر ثروة كبرى لهذه الأمة في مجال العلم والمعرفة لا يمكننا أن نفرط فيها أو نتجاهلها، ولكننا في نفس الوقت لا يمكننا أن نعتبرها بديلة للقرآن أو مغنية عنه كما لا يمكننا أن نعتبرها الكلمة الأخيرة التي ليس بعدها مقال، وإنما ينبغي دراستها في ضوء النصوص القرآنية والحديثية، وليس بمنأىً عنها، وهذه الدراسة في ضوء النصوص كفيلة بتوسيع دائرة الرؤية، وتوضيح كثير من الجوانب التي لا يمكن أن تتضح في غيبة النصوص، مما يؤدي إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، أو ظهور فهم جديد نتيجة لمراعاة سياق الكلام، أو لمراعاة مجموع النصوص الواردة في القضية أو غير ذلك من المقتضيات التي تحكم الفهم والاستنباط.
ثم إن هناك جوانب كثيرة مما عرض له القرآن لا تزال بكرا تحتاج إلى بحث ودرس، وذلك فيما يتصل بالدراسات النفسية والإنسانية والتي لم تأخذ حظها الكافي من البحث والدرس في تراثنا الثقافي والعلمي، وما مس منها مس مسا رفيقا، وما يزال بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر، وبخاصة في ضوء الدراسات الحديثة التي توسعت كثيرا في هذه الجوانب، وأصبحت لها علوم مستقلة، ودراسات مستفيضة.
إن على الباحثين الإسلاميين أن يأخذوا هذا كله بعين الاعتبار، وأن تكون اجتهاداتهم في ضوء النصوص، وألا يكتفوا من النص بالجزء الظاهر الدلالة على الغرض، وإنما عليهم أن يوسعوا نظرهم في سياق الكلام وسباقه، وأن يتعرفوا على مناسبته التي نزل بها، ويراعوا مقاصده وحكمه، ويضموا إليه أشباهه ونظائره، إلى غير ذلك من الأمور التي لا بد من مراعاتها لمن أراد أن يجانب الخطأ ويقارب الصواب، هذا بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه من ضرورة الاطلاع على كتب التراث، والتعرف على ما قاله الأئمة العلماء والمجتهدون السابقون، وتفهم وجهة نظرهم وطريقة استنباطهم، فإنهم القدوة لنا في أصول الفهم ومناهج الاستدلال، وإن اختلفنا معهم في الاستنتاجات والمسائل، كما اختلفوا هم فيما بينهم.
- القرآن والعلوم الشرعية:
من المعلوم أن العلوم الشرعية وثيقة الصلة بالقرآن، وأنها تهدف إلى خدمته وتوضيحه. ولكن لا بد لنا من أن نبين كيف نشأت هذه العلوم، وما لابس هذه النشأة من أمور أدت إلى نوع من الخلل والقصور في بناء هذه العلوم، وخير من تعرض لمعالجة هذا الموضوع العلامة عبد الحميد الفراهي، ونحن مضطرون – هنا- إلى بيان وجهة نظره، وفي ذلك يقول : لا يخفى أن الدين معظمه ترقية النفوس وتربية العقول وإصلاح الأعمال الظاهرة ، أي : الأخلاق والعقائد والشرائع.
والقرآن قد تكفل بكل ذلك على أحسن ما يكون، وكل ذلك متصل بعضه ببعض وبجميعه تحصل التزكية وهي الغاية والمطلوب.
ولهذه الثلاث نشأت ثلاثة علوم: علم الأخلاق والمواعظ/ وعلم الكلام / وعلم الفقه.
ولما كان القرآن مصدر هذه العلوم، كان لا بد لأصول تأويله أن تكون شاملة لكل هذه العلوم، ولكن ما حدث هو أن جعل علم التأويل مقصورا على الفقه وهو ما عرف بعلم " أصول الفقه" ومن ثم أصبح علم الأخلاق وعلم الكلام بعيدين عنه فلا نجده مستعملا فيهما.
أما علم الأخلاق فاتسع بأهله حتى تشبثوا بكل ما راقهم وأعجبهم، فمنهم من بناه على الحكمة العملية التي تلقوها من الفلاسفة، ومنهم من اعتمد على تجاربه، ومنهم من بناه على الروايات الضعيفة، وربما أخذوا من القرآن حسب تأويلاتهم الركيكة، وذلك لظنهم بأنه لا حاجة إلى صحة الاستدلال في الترغيب والترهيب، ومدح الحسن، وذم القبيح.
ومنهم طائفة من المتصوفة تكلموا في العقائد يؤولون القرآن إلى ظنونهم لجهلهم بالعربية وبحقيقة هذا الدين، ويزعمون أنهم أعرف بالقرآن وأسراره، وتجد أمثلة ذلك في كلام ابن عربي.
وأما علم الكلام فأصحابه لاشتغالهم بالملاحدة قل اعتمادهم على النقل، وكان معظم احتجاجهم بما تجنح إليه العقول لكي يسلم لهم الخصم، وربما يؤولون القرآن إلى غير مراده فرارا من اعتراضات المعاند، إذ لم يهتدوا لصحيح التأويل وتوفيق المعقول بالمنقول فجعلوا للتأويل – لا نقول أبوابا بل ثلما – يخرجون منه حين لا يمكنهم الدفاع على وجه مستقيم.
حتى قال بعضهم – كالرازي عفا الله عنه -: إنه لا اعتماد على ظاهر القرآن لعله يكون من المتشابهات.
فجعل القرآن كله ملتبسا، ولم يكن ذلك إلا لعدم تأسيس أصول التأويل العامة التي يعتمد عليها في كل ما يستنبط من القرآن سواء كان من فروع الشرائع أو الأخلاق والعقائد.
فإن جعلت القرآن أصلا لتمام علم الدين – كما هو في الحقيقة – صار من الواجب أن يؤسس أصولا للتأويل بحيث تكون علما عاما لكل ما يؤخذ من القرآن" .
- القرآن وعلوم اللسان:
وكما كانت للفراهي نظراته النقدية في بناء العلوم الشرعية، كذلك كانت له نظراته في علوم اللسان، وفي ذلك يقول : "كما أن الله تعالى وعد بحفظ متن القرآن حيث قال: ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ فكذلك وعد ببيانه حيث قال : ] ثم إن علينا بيانه [ ومن بعض إنجاز وعده حفظ اللسان العربي من الاندراس والمحو وجعله حيا باقيا. وكذلك حفظ الاصطلاحات الشرعية كـ " الصلاة" و " الزكاة" و " الجهاد" و"الصوم" و " الحج" و " المسجد الحرام" و " الصفا" و " المروة" و " مناسك الحج" وأمثالها، وما يتعلق بها من الأعمال المتواترة المأثورة من السلف إلى الخلف والاختلاف في اليسير فيها لا اعتبار له.
فإذا نظرت إلى ألفاظ مصطلحة في الشرع، ولا تجد حدها وتصويرها في القرآن، فلا تجمد على أخبار الآحاد فتسقط في الريب. بل اقنع بالقدر الذي اجتمعت عليه الأمة، ولا تؤاخذ إخوانك فيما ليس فيه نص صريح ، ولا عمل مأثور، من غير خلاف، فهذا هو السبيل الوسيع والمعنى الواضح من القرآن في اصطلاحاته الشرعية.
فأما في سائر الألفاظ وأساليب حقيقتها ومجازها فالأصل فيه كلام العرب قديم، والقرآن نفسه.
وأما كتب اللغة فمقصرة، فإنها كثيرة ما لا تأتي بحد تام ولا تميز بين العربي القح والمولد ولا تهديك إلى جرثومة المعنى، فلا يدري ما الأصل وما الفرع؟ وما الحقيقة والمجاز؟
فمن لم يتمرس بكلام العرب واقتصر على كتب اللغة، ربما لم يهتد لفهم بعض البعض المعاني من كتاب الله.
وأما باقي علوم اللسان كالنحو والمنطق والأصول والبيان والبلاغة والقافية، فالكتب المدونة فيها – مع كثرة فوائدها – أشد تقصيرا من كتب اللغة لفهم القرآن .
أما النحو فيحتاج إلى زيادات، بل ليس من شأنه إلا تأسيس أصول كلام وسيط بين السقط والرفيع، فلا ينبغي للمفسر أن يبالغ في تطبيق كلام الله على أصول النحو. فيرممه ويؤوله فيظن الظان أنه جائر عن قصد السبيل. بل عليه أن يأتي بشهادة من أشعار العرب ليعلم الجاحد انه لهو الأسلوب الأعلى "- وقد ذكر الفراهي بعضا من هذه الإضافات في كتابه " أساليب القرآن ".
وأما المنطق فمداره التدقيق في استعمال ألفاظ التحليل والنفي والاستثناء وسوق الدليل.
وأما علم البيان فحاله كحال النحو لا يتصدى لكلام يتفجر من صدوع القلب الحي، وما أبعده مما يتصبب من سماء الوحي، فترى صاحب الوحي – بل كل داع إلى الحق- ينفث ما في قلبه كيف ما دعته الحالات، فطورا يأتي بالمجاز، وطورا بالحقيقة، ولا يراعي إلا فهم المخاطبين والعادة الجارية في لسانه. فيفهمه المخاطب، ولكن الذي يجمد على علم البيان فإنه يدب كالنمل، ويخبط كالأعمى، ومن رأى الزبور وكتب الأنبياء السابقة علم أن المجاز له مجال وسيع في الوحي".
- وقد وضح الفراهي كثيرا مما أراده في علم البيان في كتاب الذي خصصه لذلك وهو " جمهرة البلاغة"-.
وأما الأصول: فلا نجحد فضل من أسس هذا الفن، فإنهم لم يأخذوه من اليونان ولا من الهند، ولا من غيرهما، بل دعت الحاجة إلى وضع أصول لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة فهم قدوة في هذا الفن الشريف، ولكن الخلف لم يهتدوا إلى تهذيبه وإصلاحه، فبقي هذا الفن واهي القوى ضعيف الأركان، ولما يبلغ مبلغا يستحق به اسم الفن، فترى فيه اختلافا كثيرا ينجر إلى اختلاف الأحكام ، وليس الأمر كذلك في النحو والمنطق وغيرهما من الفنون.
وأما البلاغة فاستخرجوها من أشعار العرب، والأشعار لضيق مجالها كانت مقتصرة على جودة السبك، ورشاقة اللفظ والبديع، أما حسن الاستدلال ورباط المعاني وضرب الأمثال، والاعتبار من القصص، وجر الكلام ثم العودة إلى عموده، والوعد والزجر والتأكيد بشدة يقين المتكلم، والإعراض إعراض الترفع، والحسرة حسرة المعلم الناصح، وغير ذلك مما تجده في خطب البلغاء ووحي الأنبياء، فلم يذكروه في علم البلاغة" .
- لسان القرآن:
" الكتب المتعلقة بلسان القرآن من حيث دلالته على معانيه ثلاثة:
كتاب " المفردات" و كتاب " الأساليب" و كتاب " أصول التأويل".
ففي كتاب المفردات يبحث عن الألفاظ المفردة، ويكشف عن معانيها الخاصة، بحيث تتضح لها الحدود واللوازم، وما يتصل بها وما يفترق عنها، وما يشابهها وما يضادها فيحيط العلم بدلالة الألفاظ المفردة.
وفي كتاب الأساليب يبحث عن دلالة التراكيب المختلفة الوجوه التي تدل عليها الأساليب المتنوعة ، فيحيط العلم بما يدل عليه الكلام من المعاني حتى يحفظ عما لا دلالة عليه.
وفي كتاب أصول التأويل يبين ما يؤخذ من المعاني المختلفة وما لا يؤخذ، وما يمكن بينها الجمع.
ثم بعد ذلك يستوي السبيل إلى فهم رباط معاني القرآن من القرآن" .
- علم الحديث والقرآن:
ويرى الفراهي أن السبيل السوي إنما يكون بتعلم الهدي من القرآن، وأن تبني عليه دينك، ثم بعد ذلك تنظر في الأحاديث: فإن وجدت ما كان شاردا عن القرآن – حسب بادي النظر أولته إلى كلام الله، فإن تطابقا قرت عيناك، وإن أعياك توقف في أمر الحديث واعمل بالقرآن وقد أمرنا أولا بإطاعة الله ثم بإطاعة رسوله، ولا شك أن الأمرين واحد، فإن لم يرد الله أن نقدم كلامه على ما روي عن رسوله فماذا إذن أراد بهذا الحكم .
أصول التأويل:
قد جعل العلماء طرفا من أصول التأويل جزءا لأصول الفقه، أي فروع الشرائع، فلكونه جزءا صار غير مستقل، ولم يعط من الاهتمام والإتمام ما يعطي لفن مستقل. ثم لكونه مستعملا للفرو ع، لم يعط من التيقظ والاحتياط ما يعطي لأصول الدين، ومعلوم أن الاختلاف في فروع المسائل هين فهان أمره.
وكذلك لكونه مشتركا بين الكتاب والسنة لم يختص بما هو أهله؛ إذ السنة معظم العناية فيها نقد الرواة، فلا يتعمق في متونها من قبل خواص ألفاظها وتراكيبها – إذ الروايات أكثرها بالمعنى.
وأما القرآن فيعض عليه بالنواجذ فيحافظ على حروفه وحركاته، ويعتمد على ما يستنبط من نظمه وإشاراته، وتنفى الاحتمالات الضعيفة عن تأويل آياته، ويرد ما اشتبه منه إلى محكماته، فلا يغتفر فيه الأخذ بالهوينى ، لا في تأويله ولا في تنزيله.
فلو جعل هذا الفن من علم التفسير لعظم محله في الدين، ولأفرغ له الجهد التام، وأخذ فيه بالاحتياط من الآراء الضعيفة، وبعد ذلك يكون استعماله في الحديث وسائر الكلام على التبع والتطفل.
وبالجملة فإدخال أصول التأويل في أصول الفقه – بمعنى علم المسائل الفرعية – حط علم التأويل عن محله ومكانته بثلاث مراتب:
الأولى : كان حريا بالبحث المستقل فصار له شركاء، فغدا مغمورا معها.
و الثانية: أنه كان معظم علم التفسير، لكونه أصولا لفهم القرآن، وإذ جعل من علم الفروع لم يبالغ في تنقيحه حتى يصير علم التأويل كالمعيار والميزان، مثل علم النحو والعروض، فما بلغ مبلغ الفن المنقح، بل كان قصاراه أن يكون أصولا خاصة مثل قوانين الأمم المختلفة.
فيقال إن أبا حنيفة – رحمه الله – جرى على هذه الأصول. والشافعي – رحمه الله – على تلك .
والثالثة: أن القرآن ليس مقصورا على الفروع، بل معظمه يتعلق بالعقائد وبواطن الأخلاق .
وإذ جعل من أصول الفقه صار مقصورا عليه. ومن هذه الجهة وقع خلل فاحش في بناء العلم الذي يهدي إلى فهم القرآن." .
وهكذا نرى أن تدارك الخلل في بناء العلوم الشرعية ينطلق من إعادة النظر في بناء علم أصول الفقه بحيث يكون " علم أصول التأويل" ومن أجل ذلك وضع الفراهي مشروع كتابه " التكميل في أصول التأويل" ثم وضع كتابه "القائد إلى عيون العقائد " لتدارك قصور علم الكلام، كما وضع كتبا لتدارك تقصير علوم اللسان منها : " مفردات القرآن" و " إمعان النظر في أقسام القرآن" و " أساليب القرآن" و " جمهرة البلاغة" وأتبع ذلك بكتب متممة منها : " دلائل النظام" و " إمعان في أقسام القرآن" و " فاتحة نظام القرآن" و " تفسير الفرقان بالفرقان" وهي مقدمة تفسيره الذي طبع منه عدد من السور القرآنية، كما وضع مذكرات خطية بين يدي تفسيره، وأشار بها إلى ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار والاهتمام عند تأليف هذا التفسير. وتعتبر جهود الفراهي في هذه العلوم محاولة جادة في إعادة بنائها على أسس راسخة لتكون منطلقا إلى مستقبل أفضل لهذه العلوم.
- هيمنة القرآن:
لقد وصف الله القرآن بأنه المهيمن على الكتب الإلهية السابقة، وذلك في قوله تعالى : ] هو الذي أنزل عليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ بمعنى أن ما جاء في القرآن أولى بالاتباع لأنه الصورة الأخيرة للوحي الإلهي والناسخ لما خالفه من الشرائع السابقة التي جاءت لفترات زمنية محدودة ولأقوام معينين، أما الصورة الأخيرة فهي الصورة المتوافقة مع الفطرة البشرية والمتناسبة مع عموم الرسالة وامتداد الزمان والمكان.
وإذا كان لا يقبل ما خالف القرآن من الرسالات السابقة لأن القرآن مهيمنا عليها، فكذلك ينبغي أن تكون للقرآن الهيمنة في مصادر الشريعة الإسلامية وفي العلوم التي نشأت في الأصل لخدمته وتوضيحه وبيانه، ولا يجوز أبدا أن تعكس القضية، فيصبح القرآن وسيلة لتوضيح تلك العلوم، كما لا يجوز أن تكون تلك العلوم هي المهيمنة على النص القرآني، ولو كانت الحجة أن هذه العلوم مستمدة في الأصل من القرآن. ذلك أن دراسة هذه العلوم بمعزل عن القرآن أوجد خللا في تصور بعض المفهومات والقيم الإسلامية، كما أوجد خللا في العلاقات بين مفرداتها. وبذلك تضخمت بعض القيم على حساب البعض الآخر، مما أفقد التصور الإسلامي توازنه وتناسبه، وانعكس كل ذلك في سلوك المسلم الذي ما زال يعاني من أثر ذلك.
إن دراسة قيم الإسلام ومفهوماته، ومفرداته من خلال النص القرآن وترتيب آياته وسوره لا يكشف عن سر الحسن وسحر البيان – وهو أمر مطلوب – فحسب وإنما يتعدى ذلك إلى دلالات جمة، فكم من المعاني الدقيقة والحكم الغامضة مودعة فيه. والواجب على المتأمل في القرآن أن يتدبره كلمة كلمة ويؤمن بأن تحت كل منها حكما وفي نظمها سرا، وإذن يوشك أن يتجلى عليه بعض المكنون حسب استعداده" .
ولقد أدرك أهمية هذه الحقيقة – حقيقة الدراسة للإسلام وقيمه ومفهوماته من خلال القرآن وما يترتب على ذلك من تصور صحيح ومتوازن بعيد عن الإفراط والتفريط بعض علماء النهضة المعاصرين ونرى أنموذجا لهم في ما كتبه العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي، وما كتبه بديع الزمان سعيد النورسي، وما كتبه سيد قطب في معظم مؤلفاته وبخاصة " مقومات التصور الإسلامي" و " في ظلال القرآن" ، وسنقتطف فيما يلي فقرات مما كتبه هؤلاء الأعلام عن هذه الحقيقة:
- مع بديع الزمان النورسي:
يرى النورسي " أن القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع أقسامه مع جميع مراتب تلك الأقسام وجميع لوازمه، ولم يخل باتزان أي كان منها. ثم إنه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الأحكام التي تقتضيها الأسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الأحكام. ثم إنه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والألوهية.
فهذه " المحافظة والموازنة والجمع" خاصية لا توجد قطعا في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج أفكار أعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الأولياء الصالحين النافذين إلى عالم الملكوت، ولا في كتب الإشراقيين الموغلين في بواطن الأمور، ولا في معارف الروحانيين الماضيين إلى عالم الغيب، بل كل قسم من أولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من أغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كليا مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت إلى غيره من الأغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته إليه. وكأن هناك نوعا من تقسيم الأعمال فيما بينهم.
نعم! إن الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. إذ تلزم نظرا كليا كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم – ولو يتلقى الدرس منه – لا يرى تماما بعقله الجزئي المحدود إلا طرفا أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخل بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالإفراط أو بالتفريط" .
ويقول النورسي في مكان آخر : " إن من يتأمل في كتب حكماء الإشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون أن يزنوها بميزان السنة المطهرة يصدق حكمنا هذا دون تردد. إذا فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلا ن النقص يلازم آثارهم، لأنه ليست قرآنا" .
- مع سيد قطب:
يرى سيد قطب أن للمنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي خصائص تميزه عن أي منهج آخر، وقد ذكر منها الخصائص التالية:
أولا : إنه يعرض " الحقيقة" كما هي في عالم الواقع، في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها. وهو مع هذا الشمول لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها.
ثانيا : إنه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات " العلمية" والتأملات " الفلسفية"، والومضات " الفنية" جميعا، فهو لا يفرد كل جانب من جوانب "الكل" الجميل المتناسق بحديث مستقل، كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول، يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب، وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة، وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى، في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده.
ثالثا : إنه مع تماسك جوانب الحقيقة وتناسقه يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها – في الكل المتناسق- مساحته، التي تساوي وزنه في ميزان الله – وهو الميزان- ومن ثم تبدو " حقيقة الألوهية" وخصائصها، وقضية " الألوهية والعبودية" بارزة مسيطرة محيطة شاملة، حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة، وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي. وتشغل حقيقة عالم الغيب بما فيه القدر والدار الآخرة مساحة بارزة، ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة أنصبة متناسقة، تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها، في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق.
رابعا: إنه يتميز بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية – مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم – وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعا وروعة وجمالا، لا يتسامى إليه المنهج البشري في العرض، ولا الأسلوب البشري في التعبير . ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة وتحديد حاسم، ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة.
ولا يمكن أن نصف نحن، في الأسلوب البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن." .
- مع الفراهي :
أما الفراهي فيرى في نظم القرآن دليلا على نظم الديانة كلها وذلك حينما يقول: " القرآن هو الأصل للإسلام والإيمان، أي: الشرائع والعقائد، قال تعالى : ] وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ .
وإذا كان القرآن على المطابقة التامة للدين صار النظر في نظامه باعثا على النظر في الشرائع والعقائد، فما كان أصلا وأساسا، نبه القرآن على كونه كذلك، فإذا تدبرت في القرآن هديت إلى حكمة الدين ونظام أموره" .
وهكذا يظهر لنا من خلال هذه الفقرات المقتبسة لأعلام النهضة المعاصرة مقدار الخلل الذي حصل في المفهومات والقيم الإسلامية نتيجة لدراستها بمعزل عن القرآن، الأمر الذي يستوجب تصحيحا بالعودة بها إلى القرآن الذي يعيد إليها توازنها، ويعطي كلا منها نصيبه الذي يستحقه في ميزان القرآن، فلا تطغى حقيقة على أخرى، ولا تدغم حقيقة في حقيقة غيرها.
- منهجية دراسة القرآن:
إذا كان لا بد لنا في فهم الإسلام وقيمه ومفهوماته من الاعتماد على القرآن والارتكان إليه ليكون فهمنا صحيحا، وقيمنا متوازنة، ومفهوماتنا سديدة، فإن هذا الأمر يستدعي منهجية موحدة وأصولا متفقا عليها، ليكون القرآن حكما يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه – كما أراده الله أن يكون -: ] . وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. [ .
أما إذا اختلفنا في القرآن، فكيف يمكن أن يكون حكما ؟
ومن ثم فلا بدلنا من منهجية موحدة تمكننا من تحقيق هذا الهدف، ولكن أنى لنا ذلك مع اختلاف العقول؟ واختلاف المشارب؟ واختلاف الدراسات والثقافات؟!!
.. ومن الذي يملك أن يضع هذه الأصول والقواعد؟
وكيف يمكن أن تكون وسيلة للالتزام فضلا عن الإلزام؟
إن القضية كبيرة وتحتاج إلى جهود جماعية متضافرة، ويمكن أن يعقد لأجلها مؤتمرا ومؤتمرات، وذلك نظرا لأهميتها وما يمكن أن ينبني عليها، فهي تستحق أن تبذل فيها الأوقات والأموال، وأن تكد من أجلها القرائح والعقول، لأنها تجمع علماء الأمة على أصول وقواعد لفهم كتاب الله، بعيدا عن الزيغ واتباع الأهواء، وبذلك تلتقي كلمة الأمة على نهج سديد وكلمة سواء.
وريثما يتم مثل هذا المؤتمر نرى لزاما أن نطرح بعض الأفكار والملاحظات للمناقشة بحيث يمكن البناء عليها فيما بعد، ولعلها تسهم في بيان المراد وإضاءة الطريق.
هل القرآن حمال أوجه؟
من الأقوال المأثورة في تراثنا :" لا يفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها".
وقد تركت هذه الكلمة آثارها في كتب التفسير، وكتب العقائد والفرق، فكثيرا ما يجد القارئ لتفسير آية أقوالا عدة، ووجوها مختلفة، يقف حيالها حيران، لا يدري ماذا يأخذ، وماذا يدع، وكذلك الآية الواحدة تستشهد بها الفرق المختلفة، وكل منها تحملها المعنى الذي تريد، وهي تود نصرة قولها وتأييده بآية من القرآن ليكون مقبولا عند الناس، لا مجال للاعتراض عليه، حتى قال بعضهم : إن القرآن قد وسع الفرق الإسلامية كلها، نظرا لأن كل فرقة تحاول جاهدة أن تجد مستندا لما ذهبت إليه من القرآن.
والحقيقة أن هذا القول المأثور " لا يتفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها " يمثل نصف الحقيقة، والنصف الآخر هو " وحتى يستطيع أن يرجح واحدا من هذه الوجوه" ذلك أن رؤية وجوه عدة لمعنى الآية يدل على التبحر وسعة المعرفة الأفقية، ولكن ترجيح واحد من هذه المعاني يدل على الرسوخ في العلم والتعمق في الفهم. والقرآن نزل ليكون حكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، والحكم لا بد أن يكون له قول واحد ليكون حجة وقابلا للتنفيذ، أما إذا تعددت أقوال الحكم ولم يمكن الترجيح بينها فكيف يمكن أن تكون حكما. وهكذا بدلا من أن يحكم القرآن بين الناس فيما اختلفوا فيه، يختلف الناس في فهم القرآن. وينشأ عن ذلك فرقة وخصام ومذاهب واتجاهات. على حين نجد القرآن يأمرنا بالاعتصام بحبل الله وينهانا عن التفرق: ] واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ . كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا المخرج حين نزول الفتن بما رواه علي yعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله، ستكون فتن، فما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" .
والشاهد في هذا الحديث قوله : قلت : يا رسول الله، ستكون فتن فما المخرج منها؟ قال :كتاب الله. ثم قال : " وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الآراء، ولا تلتبس به الألسن.".
كما بين لنا القرآن الكريم لأن سبب اختلاف الناس منشؤه البغي بينهم مع وجود البينات والعلم والكتاب : ] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ - معنى الآية : " كان الناس أمة واحدة" أي على شريعة من الحق فاختلفوا، " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" ، فكان أول نبي بعث نوحا،" وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم" أي من بعد ما قامت عليهم الحجج، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض.
كما ينهانا أن نتفرق ونختلف كما اختلف أهل الكتاب إذ قال : ] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [ وخاطب نبيه في شأن أهل الكتاب ] إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ وبين سبب العداوة والبغضاء بينهم بقوله : ] ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة [ .
فتحصل من ذلك كله أن منشأ الاختلاف لا يرجع إلى أصل الكتب المنزلة، وإنما يرجع إلى سلوك الناس تجاهها نتيجة بغيهم بينهم أو نسيانهم حظا مما ذكروا به.
وقد بين لنا القرآن الكريم أن كونه من عند الله يقتضي عدم وجود الاختلاف فيه، ] ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ . فدل ذلك على أن الاختلاف فيه لا يرجع إليه وإنما يرجع إلى ما عند الناس. ومن ثم لا بد أن تحكم آراء الناس بالكتاب، ولا يحكم الكتاب بآراء الناس.
- منهج صارم في التفسير:
وللوصول إلى فهم موحد لكتاب الله لا بد من التزام منهج صارم في التفسير يقوم على أمرين :
الأمر الأول: مراعاة نظام الكلام الذي يشمل تسلسل المعاني وترابطها الوثيق، والتناسب بين السابق واللاحق في نطاق الآيات والسور، فتظهر بذلك وحدة القرآن الموضوعية، وتتضح قاعدته البيانية، ويبدو القرآن بذلك كلا موحدا، لا تفاوت في مبانيه، ولا اختلاف في معانيه.
الأمر الثاني : اعتبار تفسير القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية، واعتبار أسلوب القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية، واعتبار أسلوب القرآن قاعدة حاكمة في اختيار المعاني وترجيح بعضها على بعض، وذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن تفسير صاحب الكلام لكلامه، ولا يمكن أن يقدم عليه أي تفسير مهما كان. ومثل هذا المنهج الصارم لا يمكن الوصول فيه إلى نتائج قاطعة حاسمة إلا إذا أخذ مأخذ الجد في التطبيق، وهو يتطلب تعمقا في الفهم، وتدقيقا في النظر، وصبرا على التأمل الطويل، والتدبر الواعي. ولكن الثمرة لذلك كله فهم صحيح لكتاب الله، بعيد عن التكلف والتعسف، وتصحيح للأخطاء المتوارثة، ونظرات جديدة تدفع بالمسلمين خطوات واسعة إلى الأمام، وتكون منطلقا لنهضة إسلامية حقيقية، حيث تؤدي إلى توحيد الفهم الذي يجمع المسلمين على صعيد واحد وكلمة سواء، وبذلك يكون القرآن، كما أراده الله أن يكون حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا يقدمون بين يدي آراءهم، ولا يحملونه مالا يحتمل، وإنما يستلهمون مراده، وينتهون إلى حيث ينتهي بهم.
وهكذا الكلام الوجيز في المنهج يحتاج إلى شرح وتوضيح لا يتسع له المجال هنا،
وسنكتفي في هذه العجالة بضرب بعض الأمثلة الدالة عليه:
Œ قوله تعالى : ] فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ :
 ذكر الخطابي في رسالته عن إعجاز القرآن عن مالك بن دينار قال : جمعنا الحسن لعرض المصاحف أنا وأبا العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصما الجحدري فقال رجل : يا أبا العالية قوله تعالى في كتابه : ] فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ .
Žما هذا السهو؟ قال: الذي لا يدري عن كم ينصرف ، عن شفع أو عن وتر.
فقال الحسن: مه يا أيا العالية، ليس هذا بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم.
قال الحسن : ألا ترى قوله عز وجل : ] عن صلاتهم [ .
ويعلق على ذلك الخطابي بقوله : " وإنما أتي أبو العالية في هذا حيث لم يفرق بين حرف "عن" و " في" فتنبه له الحسن فقال : ألا ترى قوله " عن صلاتهم" يريد أن السهو الذي هو الغلط في العدد، إنما هو يعرض في الصلاة بعد ملابستها، فلو كان هذا المراد لقيل: في صلاتهم ساهون. فلما قال " عن صلاتهم" دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت !!!.
وهذا الكلام الذي يقوله الحسن إنما قاله لأنه لم يتنبه لسياق الآية " فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون: ذلك أن التوعد في الآية إنما هو " للمصلين." أي المتلبسين بالصلاة، وهو قد سهوا عن حقيقتها وخشوعها، وبالتالي فلا ترتب على مثل هذه الصلاة آثارها العلمية السلوكية، بدلالة قوله : " الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون" فهذه الصلاة قصد بها المراءاة، ومن ثم فليس فيها معنى الإخلاص لله، والخشوع بين يديه، ومن ثم فصاحبها يمنع الماعون، ولا يسعى إلى فعل الخير، وهذا المنكر من المراءاة ومنع الماعون لم تحل مثل هذه الصلاة دون وقوعه، على حين الصلاة الحقيقية تمنع فعل ذلك:"وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر".
فإذا أضفنا إلى ذلك أن أول السورة : " أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يخص على طعام المسكين." عرفنا أن هذه الأوصاف إنما تنطبق على المنافقين.
ثم إن هذه الصلاة التي لا تؤثر في سلوك صاحبها، وجودها وعدمها سواء، ومن ثم وصف الله الذين لا يصلون بمثل ما وصف به الذين يصلون هذه الصلاة حينما قال عن أهل النار:
] ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين [ وإذا ما أردنا تأكيدا أكثر فإننا نحتكم إلى أسلوب القرآن وبيان القرآن بالقرآن فماذا نجد:
قال الله تعالى : ] إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون [ . ] والذين هم على صلاتهم يحافظون [ ويقول الله تعالى : ] قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون [ .
] والذين هم على صلاتهم يحافظون [ ويقول أيضا : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. وقوموا لله قانتين [ .
وبالنظر في الآيات السابقة وسياقاتها نرى ما يلي : - تكرار الوصف بالصلاة في سياق سورة المعارج وفي سياق سورة المؤمنون-.
وصف المصلون بسورة المعارج أنهم : ]على صلاتهم دائمون [ كما وصفوا بسورة المؤمنون بأنهم: ]في صلاتهم خاشعون [ .
أما الوصف المكرر في السورتين فقد جاء بصيغة واحدة وهو ] والذين هم على صلاتهم يحافظون [ .
فلو وضعنا هذه الآيات على صورة معادلة رياضية لرأينا ما يلي :
الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون
الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم على صلاتهم يحافظـون
ولما كان الطرف الثاني للآيتين واحدا " يحافظون" كان لا بد للطرف الأول : "دائمون – خاشعون " أن يكون متساويا، وهذا يعني أن المراد بـ " دائمون" أي دائموا الخشوع في صلاتهم.
أما قوله " يحافظون " فالمراد به المحافظة على وقت الصلاة وعدم تضييعه.
وهكذا نرى أن القرآن إذا أراد التعبير عن " وقت الصلاة " جاء بلفظ المحافظة.
وإذا أراد التعبير عن حقيقة الصلاة جاء بلفظ " الخشوع" أو " الدوام" أو ما شابه.
وهذا ينطبق على قوله تعالى : ] حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ حيث يراد بها الوقت. أما الخشوع فقد عبر عنه بـ "القنوت" كما هو تتمة الآية : ] وقوموا لله قانتين [ .
وصف الإنسان في سورة المعارج بقوله : ] . وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين. الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم. والذين يصدقون بيوم الدين [ .
كما وصف المؤمنون الخاشعون في سورة المؤمنون بقوله : ] والذين هم للزكاة فاعلون [ . وهذه الصفات هي ضد الصفات الواردة في سورة الماعون : ] أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين. فويل للمصلين . الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون [ . فانظر إلى هذا التوافق العجيب. وصدق الله : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" .
المثال الثاني قوله تعالى : ] ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون، ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ .
يقول الطبري في تفسير هاتين الآيتين:
ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم: " أين هم شركائي الذين كنتم تزعمون " أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي؟
وقوله : ] ونزعنا من كل أمة شهيدا [ : وأحضرنا من كل جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة ..
وقوله : ] فقلنا هاتوا برهانكم [ يقول : فقلنا لأمة كل نبي منهم التي ردت نصيحته وكذبت بما جاءها به من عند ربهم، إذ شهد نبيها عليها بإبلاغه إياها رسالة الله "هاتوا برهانكم" يقول فقال لهم : هاتوا حجتكم على إشراككم بالله ما كنتم تشركون مع إعذار الله إليكم بالرسل وإقامته عليكم بالحجج.."
وقوله : ] فعلموا أن الحق لله [ يقول : فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم، وأن الحق لله والصدق خبره، فأيقنوا بعذاب من الله لهم دائم.
] وضل عنهم ما كانوا يفترون [ يقول : واضمحل فذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا، وما كانوا يتخرصون ويكذبون. .
هذا ما قاله الطبري في هذه الآية، وبمثل هذا القول أخذ معظم المفسرين.
غير أن الفراهي الهندي يقول في مقدمة كتابه مفردات القرآن : " . ثم سوء فهم الكلمة ليس بأمر هين فإنه يتجاوز إلى إساءة فهم الكلام، وكل ما يدل عليه من العلوم والحكم، فإن أجزاء الكلام يبين بعضها بعضا للزوم التوافق بينها. مثلا كلمة " النـزع" في -سورة القصص- تبين معنى " الشهيد" – هناك – فسوء فهمها صرف عن معنى غيرها. .
يريد بذلك الذين فسروا " النـزع" بالإحضار وما شابهه – كما ذهب إلى ذلك الطبري وغيره-، والمعروف أن أصل النـزع: جذب الأشياء من مقارها بقوة" .
ومثل هذا الخطأ في معنى " النزع" جعل من الممكن تفسير " الشهيد" بـ " النبي" وبذلك اضطر المفسرون إلى التكلف في معنى الآية، نتيجة الخطأ في معنى " النزع" و معنى " الشهيد".
ولو أنهم تمسكوا بأصل المعنى " جذب الأشياء من مقارها بقوة " لعرفوا أن هذا لا يتناسب مع مقام " الشهيد" – الذي هو النبي – وأنه لا بد للشهيد من معنى آخر.
وقد بين الفراهي معنى الشهيد في كتابه " مفردات القرآن" فقال :
" الشهيد" : الذي يشهد ويحضر . ويحمل على وجوه:
1- من يشهد المشاهد العظيمة من القوم ويتكلم عن القوم، فهو لسان القوم، فما قال كان ذلك قول القوم، فهو رئيسهم وهم يذعنون لما قال .
وهذا كما قال تعالى : ] ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون".
وقد فسر الفراهي في مذكراته التي وضعها بين يدي تفسيره " الشهيد" في الآية بأنه إمامهم في الكفر .
ويؤيد هذا التفسير ما جاء في سورة مريم في قوله تعالى : ] ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا [ .
حيث استعمل نفس فعل " النزع" واستعمل " الشيعة" بدل الأمة، وبين معنى الشهيد بأنه أشدهم على الرحمن عتيا".
وبناء على هذا يستقيم معنى الآية: ونزعنا من كل أمة شهيدا – إمامهم في الكفر وأشدهم عتوا – فقلنا – لهؤلاء الأئمة العتاة- : هاتوا برهانكم – على ما كنتم تزعمون لي من الشركاء – فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون – من الشركاء -.
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : ] ويوم يناديهم أين شركائي قال قالوا آذناك ما منا من شهيد. وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص [ .
ولو أننا تتبعنا الآيات التي تنتهي بقوله تعالى : ] وضل عنهم ما كانوا يفترون [ لرأيناها تؤيد هذا المعنى، مما لا يدع مجالا للشك في صحة هذا التفسير.
أما التفسير الذي ذهب إليه معظم المفسرين، فقد اضطروا إليه اضطرارا، حيث ظنوا أن "الشهيد" في الآية هو كالشهيد في قوله تعالى : ] فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ . ولما كان قوله : ] فقلنا هاتوا برهانكم [ لا يتناسب مع مقام الشهيد الذي هو النبي، جعلوا الخطاب للأمم بدلا من الأنبياء، غير أن الأمم فيها المؤمن والكافر، وحتى يصح الخطاب لا بد من تخصيصه بالكفار، وكلها تكلفات وتجوزات.
ولو أنهم أخذوا " النزع" على أصل معناه لعلموا أنه لا يتناسب مع مقام الأنبياء ومن ثم بحثوا عن المعنى الآخر، والذي تكرر في عدد من الآيات ومنها قوله تعالى في سورة البقرة : ] وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين [ .
ونكتفي بهذين المثالين على ما أردنا شرحه وتوضيحه لأن المقام لا يسمح بأكثر من هذا.
ومن أراد أمثلة أكثر فبإمكانه أن يرجع إلى ما كتبناه حول مفهوم " إرادة الله" و"القضاء والقدر" في افتتاحية العدد الرابع عشر من مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتية الصادرة في شهر 8/89 وما كتبناه في افتتاحية العدد الخامس عشر من نفس المجلة عن " مشيئة الله في الهداية والضلال" وما كتبناه في العدد السابع عشر عن التحقيق في معنى " الفقير" و " المسكين".
وغير ذلك من الدراسات في عدد من المفهومات والمصطلحات كـ" الخلافة في الأرض".
و " فطرة الله التي فطر الناس عليها " و " الذين في قلوبهم مرض" و " الأمة في دلالتها العربية والقرآنية" و " تأويلات ثلاث آيات متشابهات – آيات الصابئين- و " تأويل آية الزخرف" : ] قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ و تأويل آية النساء: ] لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة. [ .
ومن خلال هذه التجربة أرى أن هذه المنهجية تحل كثيرا من المشكلات، وتؤصل لفهم موحد ينفي التخاصم والتشاكس، ويؤدي إلى الائتلاف والتعاون، وهي على كل حال بدايات تحتاج إلى إنضاج ووجهة نظر جديرة بالتأمل والمناقشة، ولعلها تلقى قبولا وترحيبا، ودعما وإثراء من قبل الأخوة العلماء، والمحققين الفقهاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحواشي :
ــــــــــــــــــــــــ
- التكميل في أصول التأويل للفراهي 3-4.
- فاتحة نظام القرآن للفراهي : 12-14.
- مفردات القرآن للفراهي :1.
- التكميل في أصول التأويل : 65-66
التكميل في أصول التأويل للفراهي :2-3 – بشيء من التصرف.
- جمهرة البلاغة للفراهي : 50 بشيء من التصرف.
- الكلمات : 512.
- الكلمات : 513.
- مقومات التصور الإسلامي : 65-68.
- الشورى : 52.
- دلائل النظام : 46.
- البقرة : 213.
- آل عمران : 103
- أخرجه الترمذي والدارمي وغيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه كلام، ويميل القرطبي إلى توثيقها انظر تفسير القرطبي : 1/5 ، وكثرة العمال : 1/45، وسنن الدرامي : 2/435 بتحقيق محمد أحمد ودهمان ، طبعة دمشق 1309هـ.
- البقرة : 213.
- آل عمران : 105.
- الأنعام : 159.
- المائدة : 14.
- النساء : 82.
- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : 32-33.
- المدثر : 42-46.
- المعارج 19-23.
- المعارج : 24.
- المؤمنون : 1-2.
- المؤمنون : 9.
- البقرة : 238.
- القصص : 74-75.
- جامع البيان : 11/104-105 ، طبعة دار الفكر .
- مفردات القرآن : 4.
- عمدة الحفاظ : السمين الحلبي 4/186.
- مريم : 69.
- فصلت : 48.
- النساء : 41.
- البقرة : 23
المصدر موقع الفطرة: http://www.alfitra.net/Ma9alate/New/Nahouwa_manhajiya_mowahada.html
قسم الدراسات الإسلامية/كلية الآداب، جامعة الإمارات
تمهيد:
من المعلوم أن هذه الأمة بدأت رحلتها الحضارية منذ أن تنزلت آيات القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث في غار حراء، حيث فاجأه الوحي بقوله :( اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) وانطلقت القافلة على حُداء الوحي تُنقل خطاها في طريقها الطويل، المليء بالأشواك والصعاب، مسترشدة بالهدي الإلهي، ومستمدة قوتها من كلمات الله التي تحيي موات القلوب وتبعث الحياة والأمل في النفوس.
ولم يمض على هذه الأمة كبيرة وقت، حتى غدت على الجادة، ملتزمة بالتي هي أقوم في كل شؤون حياتها، فمكن الله لها في الأرض، وآتاها من الأسباب ما جعلها أمة شاهدة على الناس، تحمل الخير، وتشيع الهدى، وتفتح القلوب المقفلة، وتضع عن الناس الآصار والأغلال ، وسارت بدعوة الله مشرقة ومغربة، فطَوي لها الزمان والمكان، فأصبحت في أقل من مائة عام تشرق شمسها على الصين شرقا وعلى جنوب فرنسا غربا.
غير أن الأمة لم تبق في هذا الخط الصاعد دائما وأبدا، فقد وقعت في مسيرتها أخطاء، وتعرضت من أعدائها الحروب ونكبات، مما أفقدها توازنها، وجعل حياتها بين مد وجزر، فمرة تنهض وأخرى تتعثر، واستمر الأمر على هذا فترة طويلة من الزمان.. وعلى الرغم من كل ذلك بقيت الأمة محتفظة بهويتها، غير متنكرة لرسالتها إلى أن تم القضاء على الدولة العثمانية آخر حلقة في سلسلة الخلافة الإسلامية.
ثم جاء الاستعمار الغربي، فأناخ بثقله على صدر هذه الأمة، وأخذ يعمل في تقطيع أوصالها، وتبديد ثرواتها، وتغيير قيمها، وتوجيهها بعيدا عن عقيدتها وتاريخها، فطرح لها بديلا عن الإسلام، وأوهمها أن تقدمها ونهضتها مرهونا بقيمه وتقاليده، وأنشأ لذلك المدارس والجامعات، وأخرج مجموعة من النخب التي رباها على عينه وأشربها من معين ثقافته، فجعلها حاكمة على الناس تسير في إطار ما خطط لها، بعيدة عن الإسلام وقيمه، مما جعل الانتماء إلى الإسلام موضع نظر ، ومثار جدل. وهكذا نشأت المذاهب والأفكار المغايرة للإسلام وأصبحت الأمة أشبه بالطائرة المخطوفة يتحكم بها خاطفوها ويسيرون بها في الاتجاه الذي يرغبون غير عابئين بوجهة الركاب الأصلية، وغير مبالين بما يصيـبهم من أهوال وأخطار.
وإذا وصل الأمر إلى ما وصل إليه من هذا التردي والانحطاط، فكيف يمكن لهذه الأمة أن تنهض من جديد؟ وما هي الطريق التي ينبغي أن تسلكها؟ وما هي الخطوات التي لا بد منها للإقلاع نحو الهدف المنشود؟.. هذا ما نحاول الإسهام في الإجابة عليه في الصفحات القادمة بإذن الله.
- الأمة والقرآن:
لقد بدأت هذه الأمة مسيرتها نحو مشرق الشمس يوم أن هبط جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث في غار حراء، وكانت كلمة ] اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم [ هي الإكسير الذي بدأ يفعل فعله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في حياة من استجاب لدعوته من أمته، وانتقلت هذه الأمة بتأثير القرآن وقوته الفاعلة من الجاهلية إلى الإسلام فكانت أول أمة تولد من خلال نصوص كتاب، وتنبثق من بين حروفه وكلماته، وتقوم على إيحاءاته وتوجيهاته، ثم تخرج به إلى الناس وحيا إلهيا يحرك القلوب، ويهز النفوس، ويعيد صياغة الحياة وصناعة التاريخ.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هذه الطاقة الهائلة أن تتبدد ، أو يقل تأثيرها في نفوس أصحابه، فقصرهم على الاستمداد منها، والاستقاء من معينها، ونهاهم عن الالتفات إلى غيرها والتطلع إلى سواها، ومن ثم فقد اشتد غضبه حينما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر y وقال : " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"، بل إنه نهى أصحابه صلى الله عليه وسلم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن وقال : ( من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه) كل ذلك إدراكا منه صلى الله عليه وسلم لقوة كلمة الوحي التي يمحو الله بها ما يشاء ويثبت.. وحفظا لها من أن يشاركها ما يقلل من تأثيرها أو يضعفها في مرحلة الانطلاق الأولى.
ولقد كان العرب في عصر نزول القرآن في مستوى يمكنهم من التفاعل مع النص القرآني، والاستجابة لإيحاءاته، والتأثر ببلاغته وسحر بيانه، ولم يكن هناك ما يحول بينهم وبين ذلك، فقد كانوا يفهمون معانيه، ويتذوقون حلاوته، ويعرفون أساليبه، فعكفوا على قراءته ودراسته وأمعنوا في تدبر آياته واستكشاف أسراره، فغاصوا في أعماقه باحثين عن درره، مستنبطين لأحكامه، مستلهمين لتوجيهاته، فوجدوا فيه حلا لمشكلاتهم، وشفاء لما في صدورهم، ونورا لأبصارهم وبصائرهم، وهداية في كل شأن من شؤون حياتهم.
ثم بدأ هذا المستوى السامق يتدنى شيئا فشيئا بفعل اختلاط العرب بغيرهم، وبدخول الأمم والشعوب في دين الله أفواجا، فتطرق الضعف إلى اللغة، وفشا اللحن في اللسان، وظهرت الحاجة إلى ضبط القراءة، وإلى ضبط الفهم، والاستنباط، فنشأت لذلك علوم العربية، من نحو، وصرف، وبلاغة. ونشأت علوم القرآن من رسم، وقراءات، وتفسير، كما نشأت العلوم الشرعية الأخرى من حديث ، وفقه، وأصول. إلى غير ذلك من علوم العربية وعلوم الشريعة والتي تهدف كلها إلى خدمة القرآن الكريم وتمكين المسلم من أن يرتع بمستواه للتعامل مع القرآن، والتفاعل معه، والتأثر به، وليكون قادرا على فهم معانيه واستنباط أحكامه، واستلهام توجيهاته.. كما كان الشأن في جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
وسارت الأمور في هذا الاتجاه الصحيح فترة من الزمن، وكانت كل تلك العلوم في خدمة القرآن الكريم والمساعدة على فهمه. ثم بدأت هذا العلوم مع الزمن تتسع شيئا فشيئا، وتنحو منحى الاستقلال، وأصبح في كل علم من العلوم ما لا يحصى من الكتب والمؤلفات، وغدت الثروة العلمية والفقهية التي خلفها لنا علماؤنا ينوء بها العصبة أولو القوة وتفنى الأعمار دون الإحاطة بها، وإدراكها، وتمثلها، على الرغم من أنها تتفاوت صحة وضعفا، وخطأ وشذوذا، وبعدا عن الجادة واستقامة عليها، ومع تطاول الزمن، واتساع العلوم، وتنامي استقلاليتها وتخصصها، أصبحت هذه العلوم محور الدراسة، وموضع الاهتمام، فبعد أن كانت وسيلة مساعدة على فهم القرآن غدت غاية بحد ذاتها، ومن ثم انصرف إليها الدارسون وطلبة العلم يولونها كل اهتمامهم، ويوجهون إليها معظم نشاطهم، وينفقون في سبيلها جل أوقاتهم وأعمارهم، ولم يعد الاهتمام بالقرآن والسنة في المقام الأول وإنما أصبح في المقام الثاني، ومن ثم ضعفت الصلة بالقرآن والسنة، ولم يعد لهما ذلك الأثر الفعال في تغيير السلوك الذي عرفناه في الأجيال السابقة، فتوقف العقل المسلم عن النشاط، وفقد كثيرا من فاعليته التي أفاضها عليه القرآن نتيجة تفاعله معه، وظهر من ينادي بإغلاق باب الاجتهاد نتيجة العجز العقلي الذي ألقى بظلاله على المجتمع الإسلامي.
ثم في مرحلة من مراحل تاريخ هذه الأمة يغدو القرآن في واقع بعض المنتسبين للعلم وسيلة يستعان بها على إيضاح بعض العلوم التي كانت وسيلة لإيضاحه فكأن مهمته تقصر على تقديم شواهد لتوضيح القواعد النحوية والبلاغية وغيرها من العلوم الأخرى، ولو طلب إلى من يقرر هذه القواعد البلاغية أو النحوية أن يعرفنا بمعنى الآية التي يستشهد بها للاستدلال على قاعدته لوقف أمامنا فاغرا فاه متعجبا ولألفيناه يقول بأن اختصاصه إنما هو النحو أو البلاغة، وأنه لا يعرف من الآية إلا موضع الشاهد. وهكذا يغدو القـرآن – في نظر أمثال هؤلاء – مجموعة من الشواهد التي يستخدمها علماء هذا الزمان لتوضيح قواعدهم.
ومثل هذا الذي قيل في شأن علوم العربية يمكن أن يقال في بعض العلوم الشرعية، كعلم الكلام " علم التوحيد" الذي تأثر بمنطق أرسطو وفلسفة يونان، وتحول إلى مدارس فكرية واتجاهات مذهبية، تنحو مناحي مختلفة وتتخذ طرائق قددا، فغدت كل فرقة تبحث في القرآن عن شاهد يؤيد وجهة نظرها ويشهد لقولها ومذهبها، وبذلك وقعت الأمة في داء الفرقة والاختلاف وكل يريد أن يقول بأن ما ذهب إليه هو الذي جاء به القرآن.
أما ما انتهى إليه الأمر في شأن هذه العلوم فقد تجاوز ذلك كله، حيث أصبحت كثير من هذه العلوم بدائل للقرآن تدرس في غيابه وفي منأى عنه، ظنا منهم أن كل العلوم التي حواها القرآن قد استخرجت منه وأفردت بالتأليف بكتب مستقلة، ومن ثم لم يعد في القرآن إلا نصوص تتلى بقصد البركة والثواب الأخروي.
إن ما آلت إليه الأمور من انحطاط في العقل، وجمود في الفهم، وعكوف على كتب المتأخرين حفظا وتسميعا واختصارا وتلخيصا، أو شرحا وتحشية، أو صياغة عل طريقة النظم، أو غير ذلك مما شغل به الناس أنفسهم في العصور المتأخرة لن يحل مشكلة، ولن يبعث نهضة، ولا يمكن أن يكون سبيلا لاستنقاذ أمة ولا باعثا على استئناف حياة جديدة.
إن الحياة لا يمكن أن تدب في هذه الأمة إلا بوحي الله ] وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ ولا يمكن أن تكون إلا في الاستجابة لهذا الوحي ] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ فكلمات الله ووحيه هما القادران على بعث الحياة من جديد في هذه الأمة، وهما القادران على إمدادها بما تحتاجه من القوة والطاقة.
إن نصوص القرآن الكريم غنية بالمعاني التي لا تحد، والتوجيهات التي لا تنفد، والأحكام التي تلبي حاجة الأمة إلى يوم القيامة، ومن ثم فلا بد من العودة إليها ودراستها في سياقها واستلهامها في حل مشكلاتنا، ومعالجة قضايانا، وبدون ذلك لا يمكننا أن نفهم حكمة الأمر الإلهي بكثرة قراءة القرآن، وتدبر معانيه والتفكر في آياته، واستخلاص عبره وعظاته، وليس من حقنا أبدا أن ننهي مهمة القرآن ووظيفته الأساسية بقصره على مجرد التلاوة واحتساب الثواب على ذلك عند الله. ثم الاستغناء عنه بما كتبه الناس، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
إن ما كتبه العلماء واستنبطه الفقهاء يعتبر ثروة كبرى لهذه الأمة في مجال العلم والمعرفة لا يمكننا أن نفرط فيها أو نتجاهلها، ولكننا في نفس الوقت لا يمكننا أن نعتبرها بديلة للقرآن أو مغنية عنه كما لا يمكننا أن نعتبرها الكلمة الأخيرة التي ليس بعدها مقال، وإنما ينبغي دراستها في ضوء النصوص القرآنية والحديثية، وليس بمنأىً عنها، وهذه الدراسة في ضوء النصوص كفيلة بتوسيع دائرة الرؤية، وتوضيح كثير من الجوانب التي لا يمكن أن تتضح في غيبة النصوص، مما يؤدي إلى ترجيح بعض الأقوال على بعض، أو ظهور فهم جديد نتيجة لمراعاة سياق الكلام، أو لمراعاة مجموع النصوص الواردة في القضية أو غير ذلك من المقتضيات التي تحكم الفهم والاستنباط.
ثم إن هناك جوانب كثيرة مما عرض له القرآن لا تزال بكرا تحتاج إلى بحث ودرس، وذلك فيما يتصل بالدراسات النفسية والإنسانية والتي لم تأخذ حظها الكافي من البحث والدرس في تراثنا الثقافي والعلمي، وما مس منها مس مسا رفيقا، وما يزال بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر، وبخاصة في ضوء الدراسات الحديثة التي توسعت كثيرا في هذه الجوانب، وأصبحت لها علوم مستقلة، ودراسات مستفيضة.
إن على الباحثين الإسلاميين أن يأخذوا هذا كله بعين الاعتبار، وأن تكون اجتهاداتهم في ضوء النصوص، وألا يكتفوا من النص بالجزء الظاهر الدلالة على الغرض، وإنما عليهم أن يوسعوا نظرهم في سياق الكلام وسباقه، وأن يتعرفوا على مناسبته التي نزل بها، ويراعوا مقاصده وحكمه، ويضموا إليه أشباهه ونظائره، إلى غير ذلك من الأمور التي لا بد من مراعاتها لمن أراد أن يجانب الخطأ ويقارب الصواب، هذا بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه من ضرورة الاطلاع على كتب التراث، والتعرف على ما قاله الأئمة العلماء والمجتهدون السابقون، وتفهم وجهة نظرهم وطريقة استنباطهم، فإنهم القدوة لنا في أصول الفهم ومناهج الاستدلال، وإن اختلفنا معهم في الاستنتاجات والمسائل، كما اختلفوا هم فيما بينهم.
- القرآن والعلوم الشرعية:
من المعلوم أن العلوم الشرعية وثيقة الصلة بالقرآن، وأنها تهدف إلى خدمته وتوضيحه. ولكن لا بد لنا من أن نبين كيف نشأت هذه العلوم، وما لابس هذه النشأة من أمور أدت إلى نوع من الخلل والقصور في بناء هذه العلوم، وخير من تعرض لمعالجة هذا الموضوع العلامة عبد الحميد الفراهي، ونحن مضطرون – هنا- إلى بيان وجهة نظره، وفي ذلك يقول : لا يخفى أن الدين معظمه ترقية النفوس وتربية العقول وإصلاح الأعمال الظاهرة ، أي : الأخلاق والعقائد والشرائع.
والقرآن قد تكفل بكل ذلك على أحسن ما يكون، وكل ذلك متصل بعضه ببعض وبجميعه تحصل التزكية وهي الغاية والمطلوب.
ولهذه الثلاث نشأت ثلاثة علوم: علم الأخلاق والمواعظ/ وعلم الكلام / وعلم الفقه.
ولما كان القرآن مصدر هذه العلوم، كان لا بد لأصول تأويله أن تكون شاملة لكل هذه العلوم، ولكن ما حدث هو أن جعل علم التأويل مقصورا على الفقه وهو ما عرف بعلم " أصول الفقه" ومن ثم أصبح علم الأخلاق وعلم الكلام بعيدين عنه فلا نجده مستعملا فيهما.
أما علم الأخلاق فاتسع بأهله حتى تشبثوا بكل ما راقهم وأعجبهم، فمنهم من بناه على الحكمة العملية التي تلقوها من الفلاسفة، ومنهم من اعتمد على تجاربه، ومنهم من بناه على الروايات الضعيفة، وربما أخذوا من القرآن حسب تأويلاتهم الركيكة، وذلك لظنهم بأنه لا حاجة إلى صحة الاستدلال في الترغيب والترهيب، ومدح الحسن، وذم القبيح.
ومنهم طائفة من المتصوفة تكلموا في العقائد يؤولون القرآن إلى ظنونهم لجهلهم بالعربية وبحقيقة هذا الدين، ويزعمون أنهم أعرف بالقرآن وأسراره، وتجد أمثلة ذلك في كلام ابن عربي.
وأما علم الكلام فأصحابه لاشتغالهم بالملاحدة قل اعتمادهم على النقل، وكان معظم احتجاجهم بما تجنح إليه العقول لكي يسلم لهم الخصم، وربما يؤولون القرآن إلى غير مراده فرارا من اعتراضات المعاند، إذ لم يهتدوا لصحيح التأويل وتوفيق المعقول بالمنقول فجعلوا للتأويل – لا نقول أبوابا بل ثلما – يخرجون منه حين لا يمكنهم الدفاع على وجه مستقيم.
حتى قال بعضهم – كالرازي عفا الله عنه -: إنه لا اعتماد على ظاهر القرآن لعله يكون من المتشابهات.
فجعل القرآن كله ملتبسا، ولم يكن ذلك إلا لعدم تأسيس أصول التأويل العامة التي يعتمد عليها في كل ما يستنبط من القرآن سواء كان من فروع الشرائع أو الأخلاق والعقائد.
فإن جعلت القرآن أصلا لتمام علم الدين – كما هو في الحقيقة – صار من الواجب أن يؤسس أصولا للتأويل بحيث تكون علما عاما لكل ما يؤخذ من القرآن" .
- القرآن وعلوم اللسان:
وكما كانت للفراهي نظراته النقدية في بناء العلوم الشرعية، كذلك كانت له نظراته في علوم اللسان، وفي ذلك يقول : "كما أن الله تعالى وعد بحفظ متن القرآن حيث قال: ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ فكذلك وعد ببيانه حيث قال : ] ثم إن علينا بيانه [ ومن بعض إنجاز وعده حفظ اللسان العربي من الاندراس والمحو وجعله حيا باقيا. وكذلك حفظ الاصطلاحات الشرعية كـ " الصلاة" و " الزكاة" و " الجهاد" و"الصوم" و " الحج" و " المسجد الحرام" و " الصفا" و " المروة" و " مناسك الحج" وأمثالها، وما يتعلق بها من الأعمال المتواترة المأثورة من السلف إلى الخلف والاختلاف في اليسير فيها لا اعتبار له.
فإذا نظرت إلى ألفاظ مصطلحة في الشرع، ولا تجد حدها وتصويرها في القرآن، فلا تجمد على أخبار الآحاد فتسقط في الريب. بل اقنع بالقدر الذي اجتمعت عليه الأمة، ولا تؤاخذ إخوانك فيما ليس فيه نص صريح ، ولا عمل مأثور، من غير خلاف، فهذا هو السبيل الوسيع والمعنى الواضح من القرآن في اصطلاحاته الشرعية.
فأما في سائر الألفاظ وأساليب حقيقتها ومجازها فالأصل فيه كلام العرب قديم، والقرآن نفسه.
وأما كتب اللغة فمقصرة، فإنها كثيرة ما لا تأتي بحد تام ولا تميز بين العربي القح والمولد ولا تهديك إلى جرثومة المعنى، فلا يدري ما الأصل وما الفرع؟ وما الحقيقة والمجاز؟
فمن لم يتمرس بكلام العرب واقتصر على كتب اللغة، ربما لم يهتد لفهم بعض البعض المعاني من كتاب الله.
وأما باقي علوم اللسان كالنحو والمنطق والأصول والبيان والبلاغة والقافية، فالكتب المدونة فيها – مع كثرة فوائدها – أشد تقصيرا من كتب اللغة لفهم القرآن .
أما النحو فيحتاج إلى زيادات، بل ليس من شأنه إلا تأسيس أصول كلام وسيط بين السقط والرفيع، فلا ينبغي للمفسر أن يبالغ في تطبيق كلام الله على أصول النحو. فيرممه ويؤوله فيظن الظان أنه جائر عن قصد السبيل. بل عليه أن يأتي بشهادة من أشعار العرب ليعلم الجاحد انه لهو الأسلوب الأعلى "- وقد ذكر الفراهي بعضا من هذه الإضافات في كتابه " أساليب القرآن ".
وأما المنطق فمداره التدقيق في استعمال ألفاظ التحليل والنفي والاستثناء وسوق الدليل.
وأما علم البيان فحاله كحال النحو لا يتصدى لكلام يتفجر من صدوع القلب الحي، وما أبعده مما يتصبب من سماء الوحي، فترى صاحب الوحي – بل كل داع إلى الحق- ينفث ما في قلبه كيف ما دعته الحالات، فطورا يأتي بالمجاز، وطورا بالحقيقة، ولا يراعي إلا فهم المخاطبين والعادة الجارية في لسانه. فيفهمه المخاطب، ولكن الذي يجمد على علم البيان فإنه يدب كالنمل، ويخبط كالأعمى، ومن رأى الزبور وكتب الأنبياء السابقة علم أن المجاز له مجال وسيع في الوحي".
- وقد وضح الفراهي كثيرا مما أراده في علم البيان في كتاب الذي خصصه لذلك وهو " جمهرة البلاغة"-.
وأما الأصول: فلا نجحد فضل من أسس هذا الفن، فإنهم لم يأخذوه من اليونان ولا من الهند، ولا من غيرهما، بل دعت الحاجة إلى وضع أصول لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة فهم قدوة في هذا الفن الشريف، ولكن الخلف لم يهتدوا إلى تهذيبه وإصلاحه، فبقي هذا الفن واهي القوى ضعيف الأركان، ولما يبلغ مبلغا يستحق به اسم الفن، فترى فيه اختلافا كثيرا ينجر إلى اختلاف الأحكام ، وليس الأمر كذلك في النحو والمنطق وغيرهما من الفنون.
وأما البلاغة فاستخرجوها من أشعار العرب، والأشعار لضيق مجالها كانت مقتصرة على جودة السبك، ورشاقة اللفظ والبديع، أما حسن الاستدلال ورباط المعاني وضرب الأمثال، والاعتبار من القصص، وجر الكلام ثم العودة إلى عموده، والوعد والزجر والتأكيد بشدة يقين المتكلم، والإعراض إعراض الترفع، والحسرة حسرة المعلم الناصح، وغير ذلك مما تجده في خطب البلغاء ووحي الأنبياء، فلم يذكروه في علم البلاغة" .
- لسان القرآن:
" الكتب المتعلقة بلسان القرآن من حيث دلالته على معانيه ثلاثة:
كتاب " المفردات" و كتاب " الأساليب" و كتاب " أصول التأويل".
ففي كتاب المفردات يبحث عن الألفاظ المفردة، ويكشف عن معانيها الخاصة، بحيث تتضح لها الحدود واللوازم، وما يتصل بها وما يفترق عنها، وما يشابهها وما يضادها فيحيط العلم بدلالة الألفاظ المفردة.
وفي كتاب الأساليب يبحث عن دلالة التراكيب المختلفة الوجوه التي تدل عليها الأساليب المتنوعة ، فيحيط العلم بما يدل عليه الكلام من المعاني حتى يحفظ عما لا دلالة عليه.
وفي كتاب أصول التأويل يبين ما يؤخذ من المعاني المختلفة وما لا يؤخذ، وما يمكن بينها الجمع.
ثم بعد ذلك يستوي السبيل إلى فهم رباط معاني القرآن من القرآن" .
- علم الحديث والقرآن:
ويرى الفراهي أن السبيل السوي إنما يكون بتعلم الهدي من القرآن، وأن تبني عليه دينك، ثم بعد ذلك تنظر في الأحاديث: فإن وجدت ما كان شاردا عن القرآن – حسب بادي النظر أولته إلى كلام الله، فإن تطابقا قرت عيناك، وإن أعياك توقف في أمر الحديث واعمل بالقرآن وقد أمرنا أولا بإطاعة الله ثم بإطاعة رسوله، ولا شك أن الأمرين واحد، فإن لم يرد الله أن نقدم كلامه على ما روي عن رسوله فماذا إذن أراد بهذا الحكم .
أصول التأويل:
قد جعل العلماء طرفا من أصول التأويل جزءا لأصول الفقه، أي فروع الشرائع، فلكونه جزءا صار غير مستقل، ولم يعط من الاهتمام والإتمام ما يعطي لفن مستقل. ثم لكونه مستعملا للفرو ع، لم يعط من التيقظ والاحتياط ما يعطي لأصول الدين، ومعلوم أن الاختلاف في فروع المسائل هين فهان أمره.
وكذلك لكونه مشتركا بين الكتاب والسنة لم يختص بما هو أهله؛ إذ السنة معظم العناية فيها نقد الرواة، فلا يتعمق في متونها من قبل خواص ألفاظها وتراكيبها – إذ الروايات أكثرها بالمعنى.
وأما القرآن فيعض عليه بالنواجذ فيحافظ على حروفه وحركاته، ويعتمد على ما يستنبط من نظمه وإشاراته، وتنفى الاحتمالات الضعيفة عن تأويل آياته، ويرد ما اشتبه منه إلى محكماته، فلا يغتفر فيه الأخذ بالهوينى ، لا في تأويله ولا في تنزيله.
فلو جعل هذا الفن من علم التفسير لعظم محله في الدين، ولأفرغ له الجهد التام، وأخذ فيه بالاحتياط من الآراء الضعيفة، وبعد ذلك يكون استعماله في الحديث وسائر الكلام على التبع والتطفل.
وبالجملة فإدخال أصول التأويل في أصول الفقه – بمعنى علم المسائل الفرعية – حط علم التأويل عن محله ومكانته بثلاث مراتب:
الأولى : كان حريا بالبحث المستقل فصار له شركاء، فغدا مغمورا معها.
و الثانية: أنه كان معظم علم التفسير، لكونه أصولا لفهم القرآن، وإذ جعل من علم الفروع لم يبالغ في تنقيحه حتى يصير علم التأويل كالمعيار والميزان، مثل علم النحو والعروض، فما بلغ مبلغ الفن المنقح، بل كان قصاراه أن يكون أصولا خاصة مثل قوانين الأمم المختلفة.
فيقال إن أبا حنيفة – رحمه الله – جرى على هذه الأصول. والشافعي – رحمه الله – على تلك .
والثالثة: أن القرآن ليس مقصورا على الفروع، بل معظمه يتعلق بالعقائد وبواطن الأخلاق .
وإذ جعل من أصول الفقه صار مقصورا عليه. ومن هذه الجهة وقع خلل فاحش في بناء العلم الذي يهدي إلى فهم القرآن." .
وهكذا نرى أن تدارك الخلل في بناء العلوم الشرعية ينطلق من إعادة النظر في بناء علم أصول الفقه بحيث يكون " علم أصول التأويل" ومن أجل ذلك وضع الفراهي مشروع كتابه " التكميل في أصول التأويل" ثم وضع كتابه "القائد إلى عيون العقائد " لتدارك قصور علم الكلام، كما وضع كتبا لتدارك تقصير علوم اللسان منها : " مفردات القرآن" و " إمعان النظر في أقسام القرآن" و " أساليب القرآن" و " جمهرة البلاغة" وأتبع ذلك بكتب متممة منها : " دلائل النظام" و " إمعان في أقسام القرآن" و " فاتحة نظام القرآن" و " تفسير الفرقان بالفرقان" وهي مقدمة تفسيره الذي طبع منه عدد من السور القرآنية، كما وضع مذكرات خطية بين يدي تفسيره، وأشار بها إلى ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار والاهتمام عند تأليف هذا التفسير. وتعتبر جهود الفراهي في هذه العلوم محاولة جادة في إعادة بنائها على أسس راسخة لتكون منطلقا إلى مستقبل أفضل لهذه العلوم.
- هيمنة القرآن:
لقد وصف الله القرآن بأنه المهيمن على الكتب الإلهية السابقة، وذلك في قوله تعالى : ] هو الذي أنزل عليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ بمعنى أن ما جاء في القرآن أولى بالاتباع لأنه الصورة الأخيرة للوحي الإلهي والناسخ لما خالفه من الشرائع السابقة التي جاءت لفترات زمنية محدودة ولأقوام معينين، أما الصورة الأخيرة فهي الصورة المتوافقة مع الفطرة البشرية والمتناسبة مع عموم الرسالة وامتداد الزمان والمكان.
وإذا كان لا يقبل ما خالف القرآن من الرسالات السابقة لأن القرآن مهيمنا عليها، فكذلك ينبغي أن تكون للقرآن الهيمنة في مصادر الشريعة الإسلامية وفي العلوم التي نشأت في الأصل لخدمته وتوضيحه وبيانه، ولا يجوز أبدا أن تعكس القضية، فيصبح القرآن وسيلة لتوضيح تلك العلوم، كما لا يجوز أن تكون تلك العلوم هي المهيمنة على النص القرآني، ولو كانت الحجة أن هذه العلوم مستمدة في الأصل من القرآن. ذلك أن دراسة هذه العلوم بمعزل عن القرآن أوجد خللا في تصور بعض المفهومات والقيم الإسلامية، كما أوجد خللا في العلاقات بين مفرداتها. وبذلك تضخمت بعض القيم على حساب البعض الآخر، مما أفقد التصور الإسلامي توازنه وتناسبه، وانعكس كل ذلك في سلوك المسلم الذي ما زال يعاني من أثر ذلك.
إن دراسة قيم الإسلام ومفهوماته، ومفرداته من خلال النص القرآن وترتيب آياته وسوره لا يكشف عن سر الحسن وسحر البيان – وهو أمر مطلوب – فحسب وإنما يتعدى ذلك إلى دلالات جمة، فكم من المعاني الدقيقة والحكم الغامضة مودعة فيه. والواجب على المتأمل في القرآن أن يتدبره كلمة كلمة ويؤمن بأن تحت كل منها حكما وفي نظمها سرا، وإذن يوشك أن يتجلى عليه بعض المكنون حسب استعداده" .
ولقد أدرك أهمية هذه الحقيقة – حقيقة الدراسة للإسلام وقيمه ومفهوماته من خلال القرآن وما يترتب على ذلك من تصور صحيح ومتوازن بعيد عن الإفراط والتفريط بعض علماء النهضة المعاصرين ونرى أنموذجا لهم في ما كتبه العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي، وما كتبه بديع الزمان سعيد النورسي، وما كتبه سيد قطب في معظم مؤلفاته وبخاصة " مقومات التصور الإسلامي" و " في ظلال القرآن" ، وسنقتطف فيما يلي فقرات مما كتبه هؤلاء الأعلام عن هذه الحقيقة:
- مع بديع الزمان النورسي:
يرى النورسي " أن القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع أقسامه مع جميع مراتب تلك الأقسام وجميع لوازمه، ولم يخل باتزان أي كان منها. ثم إنه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الأحكام التي تقتضيها الأسماء الإلهية الحسنى جميعها مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الأحكام. ثم إنه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والألوهية.
فهذه " المحافظة والموازنة والجمع" خاصية لا توجد قطعا في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج أفكار أعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الأولياء الصالحين النافذين إلى عالم الملكوت، ولا في كتب الإشراقيين الموغلين في بواطن الأمور، ولا في معارف الروحانيين الماضيين إلى عالم الغيب، بل كل قسم من أولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من أغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كليا مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت إلى غيره من الأغصان؛ إما لجهله به أو لعدم التفاته إليه. وكأن هناك نوعا من تقسيم الأعمال فيما بينهم.
نعم! إن الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة. إذ تلزم نظرا كليا كنظر القرآن الكريم ليحيط بها. فكل ما سوى القرآن الكريم – ولو يتلقى الدرس منه – لا يرى تماما بعقله الجزئي المحدود إلا طرفا أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخل بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالإفراط أو بالتفريط" .
ويقول النورسي في مكان آخر : " إن من يتأمل في كتب حكماء الإشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم دون أن يزنوها بميزان السنة المطهرة يصدق حكمنا هذا دون تردد. إذا فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن ويؤلفون في جنس حقائق القرآن إلا ن النقص يلازم آثارهم، لأنه ليست قرآنا" .
- مع سيد قطب:
يرى سيد قطب أن للمنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي خصائص تميزه عن أي منهج آخر، وقد ذكر منها الخصائص التالية:
أولا : إنه يعرض " الحقيقة" كما هي في عالم الواقع، في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها. وهو مع هذا الشمول لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها.
ثانيا : إنه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات " العلمية" والتأملات " الفلسفية"، والومضات " الفنية" جميعا، فهو لا يفرد كل جانب من جوانب "الكل" الجميل المتناسق بحديث مستقل، كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول، يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب، وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية، وتتصل فيه الدنيا بالآخرة، وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى، في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده.
ثالثا : إنه مع تماسك جوانب الحقيقة وتناسقه يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها – في الكل المتناسق- مساحته، التي تساوي وزنه في ميزان الله – وهو الميزان- ومن ثم تبدو " حقيقة الألوهية" وخصائصها، وقضية " الألوهية والعبودية" بارزة مسيطرة محيطة شاملة، حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة، وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي. وتشغل حقيقة عالم الغيب بما فيه القدر والدار الآخرة مساحة بارزة، ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة أنصبة متناسقة، تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها، في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق.
رابعا: إنه يتميز بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية – مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم – وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعا وروعة وجمالا، لا يتسامى إليه المنهج البشري في العرض، ولا الأسلوب البشري في التعبير . ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة وتحديد حاسم، ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة.
ولا يمكن أن نصف نحن، في الأسلوب البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن." .
- مع الفراهي :
أما الفراهي فيرى في نظم القرآن دليلا على نظم الديانة كلها وذلك حينما يقول: " القرآن هو الأصل للإسلام والإيمان، أي: الشرائع والعقائد، قال تعالى : ] وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ .
وإذا كان القرآن على المطابقة التامة للدين صار النظر في نظامه باعثا على النظر في الشرائع والعقائد، فما كان أصلا وأساسا، نبه القرآن على كونه كذلك، فإذا تدبرت في القرآن هديت إلى حكمة الدين ونظام أموره" .
وهكذا يظهر لنا من خلال هذه الفقرات المقتبسة لأعلام النهضة المعاصرة مقدار الخلل الذي حصل في المفهومات والقيم الإسلامية نتيجة لدراستها بمعزل عن القرآن، الأمر الذي يستوجب تصحيحا بالعودة بها إلى القرآن الذي يعيد إليها توازنها، ويعطي كلا منها نصيبه الذي يستحقه في ميزان القرآن، فلا تطغى حقيقة على أخرى، ولا تدغم حقيقة في حقيقة غيرها.
- منهجية دراسة القرآن:
إذا كان لا بد لنا في فهم الإسلام وقيمه ومفهوماته من الاعتماد على القرآن والارتكان إليه ليكون فهمنا صحيحا، وقيمنا متوازنة، ومفهوماتنا سديدة، فإن هذا الأمر يستدعي منهجية موحدة وأصولا متفقا عليها، ليكون القرآن حكما يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه – كما أراده الله أن يكون -: ] . وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. [ .
أما إذا اختلفنا في القرآن، فكيف يمكن أن يكون حكما ؟
ومن ثم فلا بدلنا من منهجية موحدة تمكننا من تحقيق هذا الهدف، ولكن أنى لنا ذلك مع اختلاف العقول؟ واختلاف المشارب؟ واختلاف الدراسات والثقافات؟!!
.. ومن الذي يملك أن يضع هذه الأصول والقواعد؟
وكيف يمكن أن تكون وسيلة للالتزام فضلا عن الإلزام؟
إن القضية كبيرة وتحتاج إلى جهود جماعية متضافرة، ويمكن أن يعقد لأجلها مؤتمرا ومؤتمرات، وذلك نظرا لأهميتها وما يمكن أن ينبني عليها، فهي تستحق أن تبذل فيها الأوقات والأموال، وأن تكد من أجلها القرائح والعقول، لأنها تجمع علماء الأمة على أصول وقواعد لفهم كتاب الله، بعيدا عن الزيغ واتباع الأهواء، وبذلك تلتقي كلمة الأمة على نهج سديد وكلمة سواء.
وريثما يتم مثل هذا المؤتمر نرى لزاما أن نطرح بعض الأفكار والملاحظات للمناقشة بحيث يمكن البناء عليها فيما بعد، ولعلها تسهم في بيان المراد وإضاءة الطريق.
هل القرآن حمال أوجه؟
من الأقوال المأثورة في تراثنا :" لا يفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها".
وقد تركت هذه الكلمة آثارها في كتب التفسير، وكتب العقائد والفرق، فكثيرا ما يجد القارئ لتفسير آية أقوالا عدة، ووجوها مختلفة، يقف حيالها حيران، لا يدري ماذا يأخذ، وماذا يدع، وكذلك الآية الواحدة تستشهد بها الفرق المختلفة، وكل منها تحملها المعنى الذي تريد، وهي تود نصرة قولها وتأييده بآية من القرآن ليكون مقبولا عند الناس، لا مجال للاعتراض عليه، حتى قال بعضهم : إن القرآن قد وسع الفرق الإسلامية كلها، نظرا لأن كل فرقة تحاول جاهدة أن تجد مستندا لما ذهبت إليه من القرآن.
والحقيقة أن هذا القول المأثور " لا يتفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها " يمثل نصف الحقيقة، والنصف الآخر هو " وحتى يستطيع أن يرجح واحدا من هذه الوجوه" ذلك أن رؤية وجوه عدة لمعنى الآية يدل على التبحر وسعة المعرفة الأفقية، ولكن ترجيح واحد من هذه المعاني يدل على الرسوخ في العلم والتعمق في الفهم. والقرآن نزل ليكون حكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، والحكم لا بد أن يكون له قول واحد ليكون حجة وقابلا للتنفيذ، أما إذا تعددت أقوال الحكم ولم يمكن الترجيح بينها فكيف يمكن أن تكون حكما. وهكذا بدلا من أن يحكم القرآن بين الناس فيما اختلفوا فيه، يختلف الناس في فهم القرآن. وينشأ عن ذلك فرقة وخصام ومذاهب واتجاهات. على حين نجد القرآن يأمرنا بالاعتصام بحبل الله وينهانا عن التفرق: ] واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ . كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا المخرج حين نزول الفتن بما رواه علي yعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله، ستكون فتن، فما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الآراء ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" .
والشاهد في هذا الحديث قوله : قلت : يا رسول الله، ستكون فتن فما المخرج منها؟ قال :كتاب الله. ثم قال : " وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الآراء، ولا تلتبس به الألسن.".
كما بين لنا القرآن الكريم لأن سبب اختلاف الناس منشؤه البغي بينهم مع وجود البينات والعلم والكتاب : ] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ - معنى الآية : " كان الناس أمة واحدة" أي على شريعة من الحق فاختلفوا، " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" ، فكان أول نبي بعث نوحا،" وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم" أي من بعد ما قامت عليهم الحجج، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض.
كما ينهانا أن نتفرق ونختلف كما اختلف أهل الكتاب إذ قال : ] ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [ وخاطب نبيه في شأن أهل الكتاب ] إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ وبين سبب العداوة والبغضاء بينهم بقوله : ] ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة [ .
فتحصل من ذلك كله أن منشأ الاختلاف لا يرجع إلى أصل الكتب المنزلة، وإنما يرجع إلى سلوك الناس تجاهها نتيجة بغيهم بينهم أو نسيانهم حظا مما ذكروا به.
وقد بين لنا القرآن الكريم أن كونه من عند الله يقتضي عدم وجود الاختلاف فيه، ] ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ . فدل ذلك على أن الاختلاف فيه لا يرجع إليه وإنما يرجع إلى ما عند الناس. ومن ثم لا بد أن تحكم آراء الناس بالكتاب، ولا يحكم الكتاب بآراء الناس.
- منهج صارم في التفسير:
وللوصول إلى فهم موحد لكتاب الله لا بد من التزام منهج صارم في التفسير يقوم على أمرين :
الأمر الأول: مراعاة نظام الكلام الذي يشمل تسلسل المعاني وترابطها الوثيق، والتناسب بين السابق واللاحق في نطاق الآيات والسور، فتظهر بذلك وحدة القرآن الموضوعية، وتتضح قاعدته البيانية، ويبدو القرآن بذلك كلا موحدا، لا تفاوت في مبانيه، ولا اختلاف في معانيه.
الأمر الثاني : اعتبار تفسير القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية، واعتبار أسلوب القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية، واعتبار أسلوب القرآن قاعدة حاكمة في اختيار المعاني وترجيح بعضها على بعض، وذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن تفسير صاحب الكلام لكلامه، ولا يمكن أن يقدم عليه أي تفسير مهما كان. ومثل هذا المنهج الصارم لا يمكن الوصول فيه إلى نتائج قاطعة حاسمة إلا إذا أخذ مأخذ الجد في التطبيق، وهو يتطلب تعمقا في الفهم، وتدقيقا في النظر، وصبرا على التأمل الطويل، والتدبر الواعي. ولكن الثمرة لذلك كله فهم صحيح لكتاب الله، بعيد عن التكلف والتعسف، وتصحيح للأخطاء المتوارثة، ونظرات جديدة تدفع بالمسلمين خطوات واسعة إلى الأمام، وتكون منطلقا لنهضة إسلامية حقيقية، حيث تؤدي إلى توحيد الفهم الذي يجمع المسلمين على صعيد واحد وكلمة سواء، وبذلك يكون القرآن، كما أراده الله أن يكون حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا يقدمون بين يدي آراءهم، ولا يحملونه مالا يحتمل، وإنما يستلهمون مراده، وينتهون إلى حيث ينتهي بهم.
وهكذا الكلام الوجيز في المنهج يحتاج إلى شرح وتوضيح لا يتسع له المجال هنا،
وسنكتفي في هذه العجالة بضرب بعض الأمثلة الدالة عليه:
Œ قوله تعالى : ] فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ :
 ذكر الخطابي في رسالته عن إعجاز القرآن عن مالك بن دينار قال : جمعنا الحسن لعرض المصاحف أنا وأبا العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصما الجحدري فقال رجل : يا أبا العالية قوله تعالى في كتابه : ] فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ .
Žما هذا السهو؟ قال: الذي لا يدري عن كم ينصرف ، عن شفع أو عن وتر.
فقال الحسن: مه يا أيا العالية، ليس هذا بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم.
قال الحسن : ألا ترى قوله عز وجل : ] عن صلاتهم [ .
ويعلق على ذلك الخطابي بقوله : " وإنما أتي أبو العالية في هذا حيث لم يفرق بين حرف "عن" و " في" فتنبه له الحسن فقال : ألا ترى قوله " عن صلاتهم" يريد أن السهو الذي هو الغلط في العدد، إنما هو يعرض في الصلاة بعد ملابستها، فلو كان هذا المراد لقيل: في صلاتهم ساهون. فلما قال " عن صلاتهم" دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت !!!.
وهذا الكلام الذي يقوله الحسن إنما قاله لأنه لم يتنبه لسياق الآية " فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون: ذلك أن التوعد في الآية إنما هو " للمصلين." أي المتلبسين بالصلاة، وهو قد سهوا عن حقيقتها وخشوعها، وبالتالي فلا ترتب على مثل هذه الصلاة آثارها العلمية السلوكية، بدلالة قوله : " الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون" فهذه الصلاة قصد بها المراءاة، ومن ثم فليس فيها معنى الإخلاص لله، والخشوع بين يديه، ومن ثم فصاحبها يمنع الماعون، ولا يسعى إلى فعل الخير، وهذا المنكر من المراءاة ومنع الماعون لم تحل مثل هذه الصلاة دون وقوعه، على حين الصلاة الحقيقية تمنع فعل ذلك:"وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر".
فإذا أضفنا إلى ذلك أن أول السورة : " أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يخص على طعام المسكين." عرفنا أن هذه الأوصاف إنما تنطبق على المنافقين.
ثم إن هذه الصلاة التي لا تؤثر في سلوك صاحبها، وجودها وعدمها سواء، ومن ثم وصف الله الذين لا يصلون بمثل ما وصف به الذين يصلون هذه الصلاة حينما قال عن أهل النار:
] ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين [ وإذا ما أردنا تأكيدا أكثر فإننا نحتكم إلى أسلوب القرآن وبيان القرآن بالقرآن فماذا نجد:
قال الله تعالى : ] إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين . الذين هم على صلاتهم دائمون [ . ] والذين هم على صلاتهم يحافظون [ ويقول الله تعالى : ] قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون [ .
] والذين هم على صلاتهم يحافظون [ ويقول أيضا : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. وقوموا لله قانتين [ .
وبالنظر في الآيات السابقة وسياقاتها نرى ما يلي : - تكرار الوصف بالصلاة في سياق سورة المعارج وفي سياق سورة المؤمنون-.
وصف المصلون بسورة المعارج أنهم : ]على صلاتهم دائمون [ كما وصفوا بسورة المؤمنون بأنهم: ]في صلاتهم خاشعون [ .
أما الوصف المكرر في السورتين فقد جاء بصيغة واحدة وهو ] والذين هم على صلاتهم يحافظون [ .
فلو وضعنا هذه الآيات على صورة معادلة رياضية لرأينا ما يلي :
الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون
الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم على صلاتهم يحافظـون
ولما كان الطرف الثاني للآيتين واحدا " يحافظون" كان لا بد للطرف الأول : "دائمون – خاشعون " أن يكون متساويا، وهذا يعني أن المراد بـ " دائمون" أي دائموا الخشوع في صلاتهم.
أما قوله " يحافظون " فالمراد به المحافظة على وقت الصلاة وعدم تضييعه.
وهكذا نرى أن القرآن إذا أراد التعبير عن " وقت الصلاة " جاء بلفظ المحافظة.
وإذا أراد التعبير عن حقيقة الصلاة جاء بلفظ " الخشوع" أو " الدوام" أو ما شابه.
وهذا ينطبق على قوله تعالى : ] حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ حيث يراد بها الوقت. أما الخشوع فقد عبر عنه بـ "القنوت" كما هو تتمة الآية : ] وقوموا لله قانتين [ .
وصف الإنسان في سورة المعارج بقوله : ] . وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين. الذين هم على صلاتهم دائمون. والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم. والذين يصدقون بيوم الدين [ .
كما وصف المؤمنون الخاشعون في سورة المؤمنون بقوله : ] والذين هم للزكاة فاعلون [ . وهذه الصفات هي ضد الصفات الواردة في سورة الماعون : ] أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين. فويل للمصلين . الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون [ . فانظر إلى هذا التوافق العجيب. وصدق الله : " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" .
المثال الثاني قوله تعالى : ] ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون، ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ .
يقول الطبري في تفسير هاتين الآيتين:
ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم: " أين هم شركائي الذين كنتم تزعمون " أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي؟
وقوله : ] ونزعنا من كل أمة شهيدا [ : وأحضرنا من كل جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة ..
وقوله : ] فقلنا هاتوا برهانكم [ يقول : فقلنا لأمة كل نبي منهم التي ردت نصيحته وكذبت بما جاءها به من عند ربهم، إذ شهد نبيها عليها بإبلاغه إياها رسالة الله "هاتوا برهانكم" يقول فقال لهم : هاتوا حجتكم على إشراككم بالله ما كنتم تشركون مع إعذار الله إليكم بالرسل وإقامته عليكم بالحجج.."
وقوله : ] فعلموا أن الحق لله [ يقول : فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة لله عليهم، وأن الحق لله والصدق خبره، فأيقنوا بعذاب من الله لهم دائم.
] وضل عنهم ما كانوا يفترون [ يقول : واضمحل فذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا، وما كانوا يتخرصون ويكذبون. .
هذا ما قاله الطبري في هذه الآية، وبمثل هذا القول أخذ معظم المفسرين.
غير أن الفراهي الهندي يقول في مقدمة كتابه مفردات القرآن : " . ثم سوء فهم الكلمة ليس بأمر هين فإنه يتجاوز إلى إساءة فهم الكلام، وكل ما يدل عليه من العلوم والحكم، فإن أجزاء الكلام يبين بعضها بعضا للزوم التوافق بينها. مثلا كلمة " النـزع" في -سورة القصص- تبين معنى " الشهيد" – هناك – فسوء فهمها صرف عن معنى غيرها. .
يريد بذلك الذين فسروا " النـزع" بالإحضار وما شابهه – كما ذهب إلى ذلك الطبري وغيره-، والمعروف أن أصل النـزع: جذب الأشياء من مقارها بقوة" .
ومثل هذا الخطأ في معنى " النزع" جعل من الممكن تفسير " الشهيد" بـ " النبي" وبذلك اضطر المفسرون إلى التكلف في معنى الآية، نتيجة الخطأ في معنى " النزع" و معنى " الشهيد".
ولو أنهم تمسكوا بأصل المعنى " جذب الأشياء من مقارها بقوة " لعرفوا أن هذا لا يتناسب مع مقام " الشهيد" – الذي هو النبي – وأنه لا بد للشهيد من معنى آخر.
وقد بين الفراهي معنى الشهيد في كتابه " مفردات القرآن" فقال :
" الشهيد" : الذي يشهد ويحضر . ويحمل على وجوه:
1- من يشهد المشاهد العظيمة من القوم ويتكلم عن القوم، فهو لسان القوم، فما قال كان ذلك قول القوم، فهو رئيسهم وهم يذعنون لما قال .
وهذا كما قال تعالى : ] ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون".
وقد فسر الفراهي في مذكراته التي وضعها بين يدي تفسيره " الشهيد" في الآية بأنه إمامهم في الكفر .
ويؤيد هذا التفسير ما جاء في سورة مريم في قوله تعالى : ] ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا [ .
حيث استعمل نفس فعل " النزع" واستعمل " الشيعة" بدل الأمة، وبين معنى الشهيد بأنه أشدهم على الرحمن عتيا".
وبناء على هذا يستقيم معنى الآية: ونزعنا من كل أمة شهيدا – إمامهم في الكفر وأشدهم عتوا – فقلنا – لهؤلاء الأئمة العتاة- : هاتوا برهانكم – على ما كنتم تزعمون لي من الشركاء – فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون – من الشركاء -.
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : ] ويوم يناديهم أين شركائي قال قالوا آذناك ما منا من شهيد. وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص [ .
ولو أننا تتبعنا الآيات التي تنتهي بقوله تعالى : ] وضل عنهم ما كانوا يفترون [ لرأيناها تؤيد هذا المعنى، مما لا يدع مجالا للشك في صحة هذا التفسير.
أما التفسير الذي ذهب إليه معظم المفسرين، فقد اضطروا إليه اضطرارا، حيث ظنوا أن "الشهيد" في الآية هو كالشهيد في قوله تعالى : ] فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ . ولما كان قوله : ] فقلنا هاتوا برهانكم [ لا يتناسب مع مقام الشهيد الذي هو النبي، جعلوا الخطاب للأمم بدلا من الأنبياء، غير أن الأمم فيها المؤمن والكافر، وحتى يصح الخطاب لا بد من تخصيصه بالكفار، وكلها تكلفات وتجوزات.
ولو أنهم أخذوا " النزع" على أصل معناه لعلموا أنه لا يتناسب مع مقام الأنبياء ومن ثم بحثوا عن المعنى الآخر، والذي تكرر في عدد من الآيات ومنها قوله تعالى في سورة البقرة : ] وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين [ .
ونكتفي بهذين المثالين على ما أردنا شرحه وتوضيحه لأن المقام لا يسمح بأكثر من هذا.
ومن أراد أمثلة أكثر فبإمكانه أن يرجع إلى ما كتبناه حول مفهوم " إرادة الله" و"القضاء والقدر" في افتتاحية العدد الرابع عشر من مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الكويتية الصادرة في شهر 8/89 وما كتبناه في افتتاحية العدد الخامس عشر من نفس المجلة عن " مشيئة الله في الهداية والضلال" وما كتبناه في العدد السابع عشر عن التحقيق في معنى " الفقير" و " المسكين".
وغير ذلك من الدراسات في عدد من المفهومات والمصطلحات كـ" الخلافة في الأرض".
و " فطرة الله التي فطر الناس عليها " و " الذين في قلوبهم مرض" و " الأمة في دلالتها العربية والقرآنية" و " تأويلات ثلاث آيات متشابهات – آيات الصابئين- و " تأويل آية الزخرف" : ] قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ و تأويل آية النساء: ] لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة. [ .
ومن خلال هذه التجربة أرى أن هذه المنهجية تحل كثيرا من المشكلات، وتؤصل لفهم موحد ينفي التخاصم والتشاكس، ويؤدي إلى الائتلاف والتعاون، وهي على كل حال بدايات تحتاج إلى إنضاج ووجهة نظر جديرة بالتأمل والمناقشة، ولعلها تلقى قبولا وترحيبا، ودعما وإثراء من قبل الأخوة العلماء، والمحققين الفقهاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحواشي :
ــــــــــــــــــــــــ
- التكميل في أصول التأويل للفراهي 3-4.
- فاتحة نظام القرآن للفراهي : 12-14.
- مفردات القرآن للفراهي :1.
- التكميل في أصول التأويل : 65-66
التكميل في أصول التأويل للفراهي :2-3 – بشيء من التصرف.
- جمهرة البلاغة للفراهي : 50 بشيء من التصرف.
- الكلمات : 512.
- الكلمات : 513.
- مقومات التصور الإسلامي : 65-68.
- الشورى : 52.
- دلائل النظام : 46.
- البقرة : 213.
- آل عمران : 103
- أخرجه الترمذي والدارمي وغيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه كلام، ويميل القرطبي إلى توثيقها انظر تفسير القرطبي : 1/5 ، وكثرة العمال : 1/45، وسنن الدرامي : 2/435 بتحقيق محمد أحمد ودهمان ، طبعة دمشق 1309هـ.
- البقرة : 213.
- آل عمران : 105.
- الأنعام : 159.
- المائدة : 14.
- النساء : 82.
- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن : 32-33.
- المدثر : 42-46.
- المعارج 19-23.
- المعارج : 24.
- المؤمنون : 1-2.
- المؤمنون : 9.
- البقرة : 238.
- القصص : 74-75.
- جامع البيان : 11/104-105 ، طبعة دار الفكر .
- مفردات القرآن : 4.
- عمدة الحفاظ : السمين الحلبي 4/186.
- مريم : 69.
- فصلت : 48.
- النساء : 41.
- البقرة : 23
المصدر موقع الفطرة: http://www.alfitra.net/Ma9alate/New/Nahouwa_manhajiya_mowahada.html