نوادر فوائد تفسير الطبري (العقدية- الإيمان بالله)

إنضم
12/06/2004
المشاركات
456
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإيمان بالله

مَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَّلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صَانِعِهِ لِكُلِّ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ، وَبَرِئَ مِنَ الْعَاهَاتِ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ هَوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَحَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ

{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَا دَلَالَةٌ فِيمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى صَانِعِهِ إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى اللهُ؟
قِيلَ: فِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صَانِعِهِ لِكُلِّ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ، وَبَرِئَ مِنَ الْعَاهَاتِ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنْ أَنَّ فِيهِ الدَّلَالَةَ لِمَنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ نَفْسَهُ تَقْوَى اللهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِمَنْ اتَّقَى عِقَابَ اللهِ فَلَمْ يَحْمِلْهُ هَوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَحَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ كُلَّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْإِذْعَانُ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ.
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
{قُلِ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، السَّائِلِيكَ الْآيَاتِ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَخَلْعِ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ.. {انْظُرُوا} أَيُّهَا الْقَوْمُ.. {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس: 101] مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ مِنْ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَاخْتِلَافِ لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَنُزُولِ الْغَيْثِ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ مِنْ سَحَابِهَا.. {وَالْأَرْضِ} وَفِي الْأَرْضِ مِنْ جِبَالِهَا، وَتَصَدُّعِهَا بِنَبَاتِهَا، وَأَقْوَاتِ أَهْلِهَا، وَسَائِرِ صُنُوفِ عَجَائِبِهَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَكُمْ إِنْ عَقَلْتُمْ وَتَدَبَّرْتُمْ مَوْعِظَةً وَمُعْتَبَرًا، وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي مُلْكِهِ شَرِيكٌ وَلَا لَهُ على تَدْبِيرِهِ وَحِفْظِهِ ظَهيرٌ يُغْنِيكُمْ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْآيَاتِ..
{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ} وَمَا تُغْنِي الْحُجَجُ، وَالْعِبَرُ.. {وَالنُّذُرُ} وَالرُّسُلُ الْمُنْذِرَةُ عِبَادَ اللهِ عِقَابَهُ.. {عَنْ قَوْمٍ}قَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللهِ الشَّقَاءُ، وَقَضَى لَهُمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.. {لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِهِ، {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}[يونس: 97].
 
الحقُّ الَّذِي خَلَقَ اللُه مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالمُخَالَفَةُ بَيْنَ حُكْمِ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ

{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39].
{مَا خَلَقْنَاهُمَاإِلَّا بِالْحَقِّ} مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ التَّدْبِيرُ إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- التَّنْبِيهَ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْمُجَازَاةِ..
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ نَخْلُقِ الْخَلْقَ عَبَثًا بِأَنْ نُحْدِثَهُمْ فَنُحْيِيهِمْ مَا أَرَدْنَا، ثُمَّ نُفْنِيهِمْ مِنْ غَيْرِ الِامْتِحَانِ بِالطَّاعَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَغَيْرِ مُجَازَاةِ الْمُطِيعِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالْعَاصِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ..
وَلَكِنْ خَلَقْنَا ذَلِكَ لِنَبْتَلِيَ مَنْ أَرَدْنَا امْتِحَانَهُ مِنْ خَلْقِنَا بِمَا شِئْنَا مِنَ امْتِحَانِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]..
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللهِ.. {لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39] أَنَّ اللهَ خَلَقَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَهُمْ لَا يَخَافُونَ عَلَى مَا يَأْتُونَ مِنْ سَخَطِ اللهِ عُقُوبَةً، وَلَا يَرْجُونَ عَلَى خَيْرٍ إِنْ فَعَلُوهُ ثَوَابًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْمَعَادِ.
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22].
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، لَا لِمَا حَسِبَ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ بِاللهِ، مِنْ أَنَّهُ يَجْعَلُ مَنِ اجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ فَعَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ..
يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَمْ يَخْلُقِ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِلظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، وَلَكِنَّا خَلَقْنَاهُمَا لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمِنَ الْحَقِّ أَنْ نُخَالِفَ بَيْنَ حُكْمِ الْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ..
{وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وَلِيُثِيبُ اللهُ كُلَّ عَامِلٍ بِمَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ، الْمُحْسِنَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُسِيءَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، لَا لِنَبْخَسَ الْمُحْسِنَ ثَوَابَ إِحْسَانِهِ، وَنَحْمِلَ عَلَيْهِ جُرْمَ غَيْرِهِ فَنُعَاقِبُهُ، أَوْ نَجْعَلَ لِلْمُسِيءِ ثَوَابَ إِحْسَانِ غَيْرِهِ فَنُكْرِمَهُ، وَلَكِنْ لِنَجْزِيَ كُلَّا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ.. { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22] جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ.
 
الفَرْقُ بَينَ (الرَّحمنِ) و (الرَّحيمِ)

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ، ولِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهُمَا مَعْنًى لَا تُؤَدِّي الْأُخْرَى مِنْهُمَا عَنْهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ المَعْنَى الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ اللهِ بِالرَّحْمَنِ، دُونَ الَّذِي فِي تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحِيمِ: هُوَ أَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحْمَنِ مَوْصُوفٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ جَمِيعَ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحِيمِ مَوْصُوفٌ بِخُصُوصِ الرَّحْمَةِ بَعْضَ خَلْقِهِ.. فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَحْمَنُ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمُ المُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
فَإِذَا كَانَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ خَصَّ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، مِمَّا خُذِلَ عَنْهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ، وَكَفَرَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا أَعَدَّ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِهِ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ وَالْفَوْزِ المُبِينِ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ، خَالِصًا، دُونَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ، كَانَ بَيِّنًا أَنَّ اللهَ قَدْ خَصَّ المُؤْمِنِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ مَا قَدْ عَمَّهُمْ بِهِ وَالْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِهِمْ، فِي الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ بِالْغَيْثِ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْعُقُولِ، وَسَائِرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا المُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ..
فَأَمَّا الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَكَانَ رَحْمَانًا لَهُمْ بِهِ، فَمَا ذَكَرْنَا مَعَ نَظَائِرِهِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْصَائِهَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[إِبْرَاهِيمَ: 34]، وَ[النَّحْلِ: 18 ]..
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَالَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَانًا، تَسْوِيَتُهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عَدْلِهِ وَقَضَائِهِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، فَذَلِكَ مَعْنَى عُمُومِهِ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحْمَانًا فِي الْآخِرَةِ..
وَأَمَّا مَا خَصَّ بِهِ المُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ فِيهَا، كَمَا قَالَ جُلَّ ذِكْرِهِ: {كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 43] فَمَا وَصَفْنَا مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، فَخَصَّهُمْ بِهِ، دُونَ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ..
وَأَمَّا مَا خَصَّهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ دُونَ الْكَافِرِينَ، فَمَا وَصَفْنَا آنِفًا مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَالْكَرَامَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْهَا الْأَمَانِيُّ.
 
لَا تُدْرِكِ اللهَ الأَبْصارُ، لَا فِي الدُّنْيِا وَلَا فِي الآخِرَةِ

لَا تُدْرِكِ اللهَ الأَبْصارُ، لَا فِي الدُّنْيِا وَلَا فِي الآخِرَةِ

لَا تُدْرِكِ اللهَ الأَبْصارُ، لَا فِي الدُّنْيِا وَلَا فِي الآخِرَةِ

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ..} [الأنعام: 103].
لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ، وَهُوَ يُحِيطُ بِهَا، وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ قَالَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس: 90]، قَالُوا: فَوَصَفَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْغَرَقَ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ فِرْعَوْنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَرَقَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ رَآهُ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَرَى شَيْئًا، قَالُوا: فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}بِمَعْنَى: لَا تَرَاهُ، بَعِيدًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُدْرِكُ الشَّيْءَ وَلَا يَرَاهُ..
كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ أَصْحَابِ مُوسَى ﷺ حِينَ قَرُبَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ فِرْعَوْنَ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ كَانَ وَعَدَ نَبِيَّهُ مُوسَى ﷺ أَنَّهُمْ لَا يُدْرَكُونَ لِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يَرَى الشَّيْءَ وَلَا يُدْرِكُهُ، وَيُدْرِكُهُ وَلَا يَرَاهُ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}مِنْ مَعْنَى لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ بِمَعْزِلٍ، وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ؛ لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ..
قَالُوا: فَالْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ، وَلَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ، بِمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تُحِيطُ بِهِ، إِذْ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللهُ بِأَنَّ شَيْئًا يُحِيطُ بِهِ..
قَالُوا: وَنَظِيرُ جَوَازِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ جَوَازُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ..
وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة: 255]، قَالُوا: فَنَفَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْمَعْلُومُ، قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِهِ عَنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحِيطُوا بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَعْلَمُوهُ، قَالُوا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ عِلْمًا نَفْيٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ إِدْرَاكِ اللهِ عَنِ الْبَصَرِ نَفْيُ رُؤْيَتِهِ لَهُ..
قَالُوا: وَكَمَا جَازَ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ أَشْيَاءَ وَلَا يُحِيطُونَ بِهَا عِلْمًا، كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ وَلَا يُدْرِكُوهُ بِأَبْصَارِهِمْ، إِذْ كَانَ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ غَيْرَ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ، وَمَعْنَى الْإِدْرَاكِ غَيْرَ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ: إِنَّمَا هُوَ الْإِحَاطَةُ..
قَالُوا: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ؟
قُلْنَا لَهُ: أَنْكَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ وُجُوهًا فِي الْقِيَامَةِ إِلَيْهِ نَاظِرَةٌ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَخْبَرَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ..
قَالُوا: فَإِذْ كَانَ اللهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِمَا أَخْبَرَ، وَحَقَّقَتْ أَخْبَارُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ مِنْ قِيلِهِ ﷺ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]، أَنَّهُ نَظَرُ أَبْصَارِ الْعُيونِ للهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَكَانَ كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَاذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ؛ إِذْ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْأَخْبَارِ..
عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى اللهِ وَلَا يُدْرِكُونَهُ بِهَا، تَصْدِيقًا للهِ فِي كِلَا الْخَبَرَيْنِ، وَتَسْلِيمًا لِمَا جَاءَ بِهِ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فِي السُّورَتَيْنِ.
 
عودة
أعلى