نموذج من ترجيج ابن كثير مخالفا الإمام الطبري

إنضم
16/11/2009
المشاركات
1,296
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
العمر
72
الإقامة
تارودانت-المغرب
يقول الله تعالى :

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }البقرة114

سأسوق هنا نموذجا من الترجيح لدى ابن كثير مخالفا فيه الإمام الطبري :
يقول ابن كثير :
[اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها، على قولين:
(أحدهما) ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس، في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } قال: هم النصارى. وقال مجاهد: هم النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: { وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَآ }. قال: هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة، قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، حتى خربه، وأمر أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، وروي نحوه عن الحسن البصري،

(القول الثاني)، ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَآ } ، قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخل مكة، حتى نحر هديه بذي طوى، وهادنهم، وقال لهم: " ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل، يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده " فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر، وفينا باق.
وفي قوله: { وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَآ } قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } ]
و قد علق ابن كثير على ذلك بقوله :
[ ثم اختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة، وأما الروم، فسعوا في تخريب بيت المقدس]

ترجيح ابن كثير والرد على الإمام الطبري :

[ (قلت): والذي يظهر، والله أعلم، القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس.]

ساق ابن كثير ثلاثة أدلة لتعزيز ترجيحه للقول الثاني :

1-[لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس، كان دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك، لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

2- [ وأيضاً فإنه تعالى، لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام.

3- [ وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى:
{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34]،
وقال تعالى:
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَـٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 17 ـ 18]
وقال تعالى:
{ هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح:25]
فقال تعالى:
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَىٰ ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } [التوبة: 18]،
فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها، مصدوداً عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.]

ملاحظة :

هناك عامل إضافي داعم للقول الثاني وذلك من تفسيرالإمام الطبري للآية 2 من سورة الحشر حيث يقول :
[وقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤْمِنِينَ } يعني جلّ ثناؤه بقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ } بني النضير من اليهود، وأنهم يخربون مساكنهم، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه، أو العمود أو الباب، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين.]
[واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو: { يُخْرِبُونَ } بتخفيف الراء، بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خراباً، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك «يخرّبون» بالتشديد في الراء بمعنى يهدّمون بيوتهم. وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك نحو قراءة أبي عمرو. وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب: إنما هو ترك ذلك خراباً بغير ساكن، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم، فيرتحلواعنها، ولكنهم خربوها بالنقض والهدم، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالتخفيف لإجماع الحجة من القراء عليه وقد كان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يقول التخريب والإخراب بمعنى واحد وانما ذلك في اختلاف اللفظ لا اختلاف في المعنى]

مجمل القول : إن هناك قراءتين : الأولى بالتخفيف والثانية بالتشديد ، وأن الجمع بينهما يعطينا : معنيين :
الأول : الإخراب : وهو المنازل خرابا بغير ساكن
الثاني : التخريب : وهو النقض والهدم
زيادة على ذلك أن لا ترادف في القرآن الكريم ، فالزيادة في المبنى تؤدي إلى الزيادة في المعنى .

مما سبق يتبين أن الإخراب ليس هو التخريب وهذا يدعم القول السابق : { وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَآ } قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وليس تخريب بيت المقدس كما جاء في القول الأول .

والله أعلم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم شكر الله لكم على هذا الموضوع القيم، وأرجو إفادتي بتوضيح لكلامكم الأخير "ذلك أن لا ترادف في القرآن الكريم ، فالزيادة في المبنى تؤدي إلى الزيادة في المعنى ."فيما يخص قضية الترادف في القرآن، وجزاكم الله خيرا.
 
مناقشة التفسيرين

مناقشة التفسيرين

أحسن الله إليكم وهذه مشاركتي لكم في التفكير في القضية ، ونبدأ على اسم الله باقتباس كلام ابن جرير كاملا

[
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وتأويل قوله: (ومن أظلم) ، وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره ، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟
* * *
و " المساجد " جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى. فمعنى " المسجد ": الموضع الذي يسجد لله فيه ، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه: " المجلس " ، وللموضع الذي ينـزل فيه: " منـزل "، ثم يجمع : " منازل ومجالس " نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب " مساجد " في واحد المساجد ، وذلك كالخطأ من قائله.
* * *
وأما قوله: (أن يذكر فيها اسمه) ، فإن فيه وجهين من التأويل . أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه ، فتكون " أن " حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض ، وتعلق الفعل بها.
والوجه الآخر : أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده ، فتكون " أن " حينئذ في موضع نصب ، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه.
* * *
وأما قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) ، فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وممن سعى في خراب مساجد الله. فـ " سعى " إذًا عطف على " منع ".
* * *
فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)؟ وأي المساجد هي؟
قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون ، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى ، والمسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
1820- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أنهم النصارى.
1821- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
1822- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.
* * *
وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى ، والمسجد: مسجد بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:-
1823- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، الآية ، أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
1824- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، قال: هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى.
1825- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، قال: الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا.
* * *
وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش ، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
1826- حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: هؤلاء المشركون ، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم: " ما كان أحد يرد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده ، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!
وفي قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) قال: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) النصارى . وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس ، وأعانوا بختنصر على ذلك ، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.
والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) ، إلا أحد المسجدين ، إما مسجد بيت المقدس ، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك = وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه = صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده ، غير الذين وصفهم الله بعمارتها . إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية ، وبعمارته كان افتخارهم ، وإن كان بعض أفعالهم فيه ، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم.
وأخرى ، أن الآية التي قبل قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم ، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ، ولا للمسجد الحرام قبلها ، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) - إليهم وإلى المسجد الحرام.
وإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه ، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها ، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك ، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت.
فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك ، إذْ كان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في [المسجد المقدس ، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون] توجيه قوله (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل ، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد . وإن كان قد دل بعموم قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا- ، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين.
]




قلتُ ومما تقدم يتبين أن المسألة تحتاج توضيحا وترجيحا ، وهذه محاولة لذلك، لكن على متناولها أن يأخذ أمورا بالحسبان
- ميل ابن جرير الى السياق وميل ابن كثير الى المنطق اكثر
- ردّ ابن جرير على أصحاب القول الذي نصره ابن كثير فيما بعد بأنه يخالف السياق، هل يسلم له؟
- كلاهما وقع في خطأ تاريخي لأن بختنصر قبل قيام النصرانية بستة قرون، وسببه إطلاق اسم النصارى على الروم
دون تفريق بين روما قبل انتشار المسيحية فيها وبين روما الوثنية.
- التأمل في السياق يرينا وجود استطراد أو ربط بين أهل الكتاب والمشركين سأعلمه بالأحمر
ليتبين أن احتجاج أبي جعفر بالسياق وهو أقوى حجة لكنه لم يُستخدم على وجهه
ولنتأمل في الآيات ونلاحظ المعلم بالأحمر
﴿١٠٧﴾ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿١٠٨﴾ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٠٩﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿١١٠﴾ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿١١١﴾ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿١١٢﴾ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿١١٣﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّـهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١١٤﴾ وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿١١٥﴾ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴿١١٦﴾ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿١١٧﴾ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿١١٨﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴿١١٩﴾


نلاحظ أن الذين لا يعلمون هم المشركون مما يجعل السياق ينتصر للقول الذي نصره ابن كثير
ونلاحظ أن فأينما تولوا فثم وجه الله إشاره إلى ما سيرد بعد صفحتين في المصحف من امر تحويل القبلة
(
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿١٤٣﴾ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿١٤٤﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ۚ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿١٤٥﴾ )

نتبين أن السياق العام يتحدث حقا عن اليهود والنصارى ولكن الآية موضوع التفسير قد فتحت نافذة لإدخال المشركين (الذين لا يعلمون)، لأن الآيات قد نزلت والجماعة المؤمنة تواجه القضايا الآتية
- الصراع مع اليهود فكريا وسياسيا بعد الهجرة
- العداء للمشركين لأن الهجرة وإن كانت من جانب بناء لدولة الإسلام فهي من الجاتب الآخر طرد للمسلمين من مكة
ومنع لمساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وإخرابها بصد أهل التوحيد عنها وملئها بالأوثان.
- تبيين السبب الديني والفكري والضرورة الآنية في حينها لتحويل القبلة التي ليست غاية في ذاتها فلله المشرق والمغرب وأينما تولوا فثم وجه الله.
نتبين إذن أن النص
[وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿١١٣﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّـهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١١٤﴾ وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿١١٥﴾ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّـهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴿١١٦﴾ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿١١٧﴾ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿١١٨﴾ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴿١١٩]

هو سياق داخل سياق لأنه حديث عن المشركين داخل الحديث عن أهل الكتاب للربط بينهما في الضلال والظلم وليبين المفاصلة والاستقلال عنهما كليهما. وستأتي قصة إبراهيم عما قليل لتبيين الشرعية الفكرية والاجتماعية للدعوة الجديدة وأنها عودة إلى الأصل الذي يحترمه ويعتزي إليه كل من الخصمين وبالتالي زعزعة الجذور. فإبراهيم هو أصل العرب وبني إسماعيل نسبًا وحَجّا(دينا) وأصل دين اليهود ونسبهم. فتبين علاقة السياقين بالسياق العام للدعوة الإسلامية.
والله أعلم
 
محاولة جيدة ولكن ..

محاولة جيدة ولكن ..

ثانيا مناقشة الملاحظة
ملاحظة :

هناك عامل إضافي داعم للقول الثاني وذلك من تفسيرالإمام الطبري للآية 2 من سورة الحشر حيث يقول :
[وقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤْمِنِينَ } يعني جلّ ثناؤه بقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ } بني النضير من اليهود، وأنهم يخربون مساكنهم، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه، أو العمود أو الباب، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين.]
[واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو: { يُخْرِبُونَ } بتخفيف الراء، بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خراباً، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك «يخرّبون» بالتشديد في الراء بمعنى يهدّمون بيوتهم. وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك نحو قراءة أبي عمرو. وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب: إنما هو ترك ذلك خراباً بغير ساكن، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم، فيرتحلواعنها، ولكنهم خربوها بالنقض والهدم، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه بالتخفيف لإجماع الحجة من القراء عليه وقد كان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يقول التخريب والإخراب بمعنى واحد وانما ذلك في اختلاف اللفظ لا اختلاف في المعنى]

مجمل القول أن هناك قراءتين : الأولى بالتخفيف والثانية بالتشديد ، وأن الجمع بينهما يعطينا : معنيين :
الأول : الإخراب : وهو المنازل خرابا بغير ساكن
الثاني : التخريب : وهو النقض والهدم
زيادة على ذلك أن لا ترادف في القرآن الكريم ، فالزيادة في المبنى تؤدي إلى الزيادة في المعنى .

مما سبق يتبين أن الإخراب ليس هو التخريب وهذا يدعم القول السابق : { وَسَعَىٰ فِى خَرَابِهَآ } قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وليس تخريب بيت المقدس كما جاء في القول الأول .

والله أعلم


تعتمد الملاحظة على الوحدة التفسيرية الأولى أي الكلمة لفصل القول في الدلالة، وهي وإن كانت تصلح في أحيان كثيرة فإنها لا تصلح هنا، [أي أنها لم تُستخدم على وجهها كما جانف الطبري الصواب في احتجاجه بالسياق على غير وجهه لأنه غفل عما فيه من تداخل الأسيقة ] وسبب عدم نجوع محاولتكم الرائعة هو أن اسم المصدر يكون من الإفعال كالعطاء من الإعطاء ويكون من التفعيل كالسلام من التسليم، وعليه فلا يتبين كون الخراب اسم مصدر من الإخراب أو التخريب. [ هذا إذا خالفنا أبا عبيدة في قوله (التخريب والإخراب بمعنى واحد ) وقلنا بأن بينهما فرقا جعل أبا عمرو يختار أن يقرأ يُخرّبون على يُخرِبون وهو أمر يحتاج تحقيقه إلى جمع شواهد وقرائن، على أني أميل معكم إلى أن بينهما فرقاً.]

انسحب البساط من تحت الاستدلال ولم يبق من الملاحظة إلا أنها محاولة جيدة تُشكرون عليها

وفقكم الله ونفع بكم
 
عود على بدء

عود على بدء

الفاضل : ياسين مبشيش ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
استئذانا من شيخنا الحبيب : عبد الرحمن الشهري حفظه الله وجزاه كل خير . أرحب بكم في هذا الملتقى المبارك مفيدا ومستفيدا .
***
الفاضل : أستاذنا الدكتور : عبد الرحمن الصالح جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم

يقول الله تعالى :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }البقرة 114

البحث في دلالة الكلمات :
يقول الإمام الطبري في تفسيره :
" قد دللنا فـيـما مضى قَبْلُ علـى أن تأويـل الظلـم: وضع الشيء فـي غير موضعه. وتأويـل قوله: { وَمَنْ أَظْلَـمَ }: وأيّ امرىء أشدّ تعدّياً وجراءة علـى الله وخلافـاً لأمره مِن امرىء منع مساجد الله أن يعبد الله فـيها؟
...وأما قوله: { وَسَعَى فـي خَرَابِها } فإن معناه: ومن أظلـم مـمن منع مساجد الله أن يذكر فـيها اسمه، ومـمن سعى فـي خراب مساجد الله. ف«سعى» إذا عطف علـى «منع».(الطبري)"

دلالة كلمة ( السعي )
جاء في لسان العرب :
"والسَّعْيُ: عدْوٌ دون الشَّدِّ، سعَى يسعَى سَعْياً.وفي الحديث: إذا أَتيتم الصَّلاةَ فلا تَأْتُوها وأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ ولكن ائْتُوها وعَلَيكُمُ السَّكِينَة، فما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وما فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا؛ فالسَّعْيُ هنا العَدْوُ. سعَى إذا عَدَا، وسعَى إذا مَشَى، وسعَى إذا عَمِلَ، وسعَى إذا قَصَد، وإذا كان بمعنى المُضِيِّ عُدِّيَ بإلى، وإذا كان بمعنى العَمَل عُدِّي باللام.
والسَّعيُ: القَصْدُ، وبذلك فُسِّرَ قوله تعالى: فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله؛ وليسَ من السَّعْي الذي هو العَدْوُ، وقرأَ ابن مسعود: فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللهِ، وقال: لو كانَتْ من السَّعْي لَسَعَيْتُ حتّى يَسْقُط رِدَائِي

وقال الزجاج: أَصلُ السَّعْيِ في كلام العرب التصرُّف في كل عَمَلٍ؛ ومنه قوله تعالى: وأَنْ ليس للإنسانِ إلاَّ ما سَعَى معناه إلاَّ مَا عَمِلَ.

ومعنى قوله: فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله، فاقْصِدُوا.
والسَّعْيُ: الكَسْبُ، وكلُّ عملٍ من خير أَو شرٍّ سَعْي، والفعلُ كالفِعْلِ.
وفي التنزيل: لِتُجْزَى كلُّ نَفْسٍ بما تَسعَى .


وسَعَى لهم وعليهم: عَمِلَ لهم وكَسَبَ."

دلالة كلمة ( خراب )
وردت كلمة خراب في القرآن الكريم مرتين :
يقول تعالى :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }البقرة 14

ويقول تعالى : {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }الحشر2

جاء في مفاتيح الغيب للرازي :
"المسألة الأولى: قال أبو علي: قرأ أبو عمرو وحده: { يُخْرِبُونَ } مشددة، وقرأ الباقون: { يُخْرِبُونَ } خفيفة، وكان أبو عمرو يقول: الإخراب أن يترك الشيء خراباً والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهاً، ويخربون هو الأصل خرب المنزل، فإنما هو تكثير، لأنه ذكر بيوتاً تصلح للقليل والكثير، وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو فرحته وأفرحته، وحسنه الله وأحسنه، وقال الفراء: { يُخْرِبُونَ } بالتشديد يهدمون، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها. "
وجاء في تفسير روح المعاني للألوسي :
"وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو { يخربون } بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضع خراباً وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب ."

وجاء في تناسب الدرر للبقاعي :
"( يخربون بيوتهم ) أي يبالغون - على قراءة أبي عمرو بالتشديد - في إخرابها ، أي إفسادها ، فإن الخربة الفساد ، وقراءة غيره يفهم الفعل المطلق الذي لا ينافي المقيد ( بأيديهم ) ضعفاً منهم - بما أشار إليه جمع القلة ، ويأساً من قوتهم ليأخذوا ما استحسنوا من آلاتها ، فكان الرجل منهم لما تحملوا للرحيل يهدم بيته عن نجاف بابه وما استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمرهم أن يخلوا له عن البلد ولهم ما حملت إبلهم ."

ويقول ابن كثير في تفسيره :
"وقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم، وتحملها على الإبل، وكذلك قال عروة بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد."

من خلال ما تقدم أسجل الملاحظات التالية :

أولا - كلمة : (سعى ) تَبين أنها من المشترك اللفظي : معنى هذا أن الكلمة واحدة ومعانيها متعددة وذلك حسب السياق الذي وجدت فيه .
فالسعي في خراب المساجد يكون بالعمل على خرابها وذلك بالصد عنها كما تبين الآيات القرآنية ،

يقول تعالى :
{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34]،
وقال تعالى:

{ هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح:25]


ثانيا - الخراب ضد العمران كما جاء في لسان العرب ، وفي الأحاديث النبوية ما يؤكد ذلك وسنقتصر على ثلاثة أحاديث :

1- [أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر ، فجاءها ليلا ، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح ، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوه قالوا : محمد والله ، محمد والخميس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) .]

2- [قال ابن مسعود هذا القرآن مأدبة الله فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل فإن أصغر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع فيه سورة البقرة]

3-[ إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب]

ثالثا - الفعل خرب وخرّب ، الزيادة في المبنى تؤدي إلى الزيادة في المعنى : فالفعل خرّب : بزيادة التضعيف يؤكد على المبالغة في الفعل كما يؤكد على التكثير . وهذه المبالغة ذكرها المفسرون كما جاءت في السيرة النبوية حيث كان الرجل من اليهود لما تحملوا للرحيل يهدم بيته عن نجاف بابه وما استحسن من خشبه فيضعه على ظهر بعيره فيأخذه وينقب الجدار ويهدم السقف حسداً للمسلمين أن يسكنوها بعدهم لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمرهم أن يخلوا له عن البلد ولهم ما حملت إبلهم .
كما أن الخراب ليس هو الهدم لأن الهدم مصرح به في الآية 40 من سورة الحج ، ولا ترادف في القرآن الكريم ، فكل كلمة تؤدي معنى خاصا :

يقول الله تعالى :
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }الحج 40
قال ابن عاشور في تفسيره :
"والهدم: تقويض البناء وتسقيطه.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر { لهُدِمت } بتخفيف الدال . وقرأه الباقون بتشديد الدال للمبالغة في الهدم، أي لهدّمت هدْماً ناشئاً عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثراً."

الخلاصة :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا...}
وأيّ امرئ أشدّ تعدّياً وجراءة علـى الله وخلافـاً لأمره مِن امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فـيها؟ والمساجد هنا هي أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين ويمثلها المسجد الحرام الذي سعى المشركون بكل ما أوتوا من قوة في سبيل خرابه وذلك بالصد عنه : بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم .

والله أعلم
 
قد قمت بقراءة تفسير ابن كثير ولله الحمد وبقي علي فيه من سورة غافر وأثناء القراءة قمت بحصر المسائل والترجيحات التي خالف فيها ابن كثير انب جرير وقد زادت على سبيعن مسألة ولعلي انشط في تنزيلها هنا إن شاء الله
 
جزاك الله خيرا أخي محمد العواضي ، ولعلنا نستفيد من قراءاتكم التي نرجو الله أن تكون في ميزان حسناتكم
مع تحياتي وتقديري
 
عودة
أعلى