نموذج للتفسير المقارن سورة النجم من 1ـ7

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
[h=1]الحمد لله رب العالمين الذي يعلم السر في السموات والأرض والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، طالما كنت أفكر بعمل تفسير يجمع جميع ما قاله علماء التفسير بعبارة سهلة واضحة بحيث يطلع القارئ على جميع أقوال العلماء في الآية مع التحرير والتوضيح لكل مذهب من مذاهبهم مع التحقيق لمقصود السورة ولألفاظها ومناسبتها لما سبقها من السورة والترجيح بين أقوال العلماء ، بحيث يكون أشبه ما إلى الموسوعة الفقهية الكويتية ، وبدأت فعلا بهذا العمل وقد تبين لي أن هذا سيحتاج إلى وقت طويل جدا فعملت نموذجا لما كنت أفكر به هذه السورة الكريمة سورة النجم لعلي إن لم أستطع أن أقوم بهذا العمل كاملا أن يقوم به من يوفقه الله تعالى لذلك ممن هو أعلم مني فما كان في هذا العمل من توفيق فمن الله سبحانه وما كان من تقصير فمن نفسي المقصرة وفقنا الله لخدمة كتابه العزيز .[/h][h=1]مقدمات السورة : [/h][h=1]تسميتها : [/h]سورة النجم بدون واو وقد سميت بذلك في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد ،
وتسمى أيضا سورة (والنجم) وسموها { سورة والنجم } بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في جامعه .
[h=1]الأحاديث الواردة فيها : [/h]روى البخاري : "عن عبد الله قال : أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة : { والنَّجم } ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا ، وهو أمية بن خَلَف" . أي سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون فما بقي أحد من القوم إلا سجد. وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، من طرق ، عن أبي إسحاق ، به
وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا قال الآلوسي في الجمع بين الروايتين : فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك وقال ابن كثير :" وقوله في الممتنع : إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة ".
1. وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله وسلم بقراءتها فقرأها جهرا عند المشركين في الحرم والمشركون يسمعون"
2. يقول علي هاني : في كونها أول سورة أعلن بها النبي صلى الله عليه وسلم نظر لأنها تتحدث عن المعراج الذي كان في السنة في السنة الثانية عشرة من البعثة وهذا بعيد ثم فيها { ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى } وهذا دفع لما كانوا يتهمون به النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على تقدم الجهر وفيها { أفتمارونه على ما يرى } ونحو ذلك ما الآيات الدال على تقدم الجهر بالدعوة والله أعلم .
[h=1]سبب نزول السورة : [/h]سبب هذه السورة أن المشركين قالوا إن محمدا ضل وغوى ويتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك .
[h=1]مقصود السورة : [/h]مجموع أمور يربطها أمر واحد أذكر هذه الأمور أولا ثم نلخصها في أمر واحد :
1. صدق الوحي فالقرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل، و الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن الله تعالى ، منزه عما ادعوه من الضلال والغي ، وبيان طبيعته وصفة نزول جبريل ؛ لتقرير أنه وحي من الله ، وتأكيد تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة ، واطلاعه على آيات ربه الكبرى ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين بينما هم في عقائدهم يعتمدون على الأوهام والهوى والطنون التي لا تغني من الحق شيئا.
2. والتركيز من الوحي على صحة التوحيد وإبطال عقيدة الشرك والأصنام لا سيما اللات والعزى ومناة التي تستند إلى الظنون الباطلة، وأنها أوهام لا حقائق لها ، وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة ، وأنه وحده تعالى المنفرد بالخلق والتدبير من إحياء وإماتة وإضحاك وإبكاء وإغناء وإقناء وإهلاك وتعذيب لا يشاركه شيء من ذلك .
3. وأنه لا بد أن يجازي المحسن والمسيء في الآخرة بعلم دقيق فهو سبحانه لا تخفى عليه سبحانه خافية فهو أعلم بهم منذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن التبعة فردية فالإنسان مرتبط بسعيه ، ليواجهوا نتائجها عندما يقفون غداً بين يدي الله ، فليدرك الإنسان نفسه فقد أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة فلينظر إلى عمله فلن يحميه أحد هذا في الآخرة .
4. وهددتهم الكفار في الدنيا بالعذاب المعجل إن لم يعودو للحق كما فعل بعاد وثمود وقوم نوح ولوط بسبب تكذيبهم أنبياءه وتمردهم على دعوتهم إلى الله وشركهم بالله ليعلموا عاقبة الكفر الوخيمة .
وملخص مقصود السورة : النبي صادق مبلغ عن الله بواسطة جبريل بأدلة يقينية ، وأن ما يدعوكم إليه من التوحيد ونفي الشرك حق ، وما أنتم عليه باطل مجرد أوهام ، وأنه لا بد من الجزاء دنيا وأخرى بعلم شامل من الله الذي بيده التصرف وقد اقترب الموعود فأدركوا أنفسكم .
وعلى ذلك دل مطلها وختامها كما سيأتي ففيها براعة استهلال وحسن الختم .
ارتباطها بما قبلها :
تناسب خواتيم الطور مع فواتح النجم :
1. ختم سورة الطور: بقوله سبحانه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) وجاءت سورة النجم وبدأت (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1))
إدبار النجوم غروبها ، والنجم إذا هوى أي إذا سقط وغرب، فإدبار النجوم هو النجم إذا هوى .
2. في خاتمة الطور: الأمر بالتسبيح والتحميد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) وفي أوائل سورة النجم في المعراج و ذهابه إلى الملأ الأعلى وهو المملوء بالتسبيح والتحميد (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) .
3. وافتتح الله سبحانه هذه السورة بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ختم بذكره سورة الطور{ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح } .
4. وفي الطور رد على الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون في قوله : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ ـ ـ أم يقولون تقوله } وفي سورة النجم أقسم تعالى أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل وما غوى ، وأن ما يأتي به هو وحي من الله ، ففي مفتتح النجم ما يؤكد ما سبق في الطور } [1].
5. وفي الطور { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) } وفي النجم { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ومن تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل
[h=1]رد العجز على الصدر : [/h]يلتقي مطلع السورة بمقطعها (ختامها) :
· لأن المطلع بدأ بصدق الوحي وما ينذر به ، وأنه لا ينطق عن الهوى ، وأن ما يقولونه من أنه ضل أو غوى غير صحيح ، وختم السورة بأن القرآن وما ذكر في السورة نذير من النذر الأولى وأن القرآن ينبغي أن يؤمن به لا أن يتعجب منه {هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذاالحديث تعجبون وتضحكون ، ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) .
· وأيضا آخرها وهو { فاسجدوا لله واعبدوا} نتيجة لأولها وثمرة له وهو { ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }.
· ويلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام ففي أولها هوي وفي آخرها هوي بالسجود ، والسجود هوي إلى الأرض؛ فهي مناسبة للحركة ، وكذلك إذا تأملت نغمة السورة تجدهما يلتقيان.
· وناسب افتتاح السورة خاتمتها في (فاسجدوا لله واعبدوا) ؛لأن السجود هو أهم ركن من أركان الصلاة ، والصلاة فُرِضت في المعراج وهذه السورة بداية رحلة المعراج فختم السورة بما فُرِض في المعراج المذكور في أولها .

[h=1]مناسبة السورة للسور التي فيها القسم : [/h]قال الإمام الرازي: السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي «الصَّافَّات» ،و«الذَّارِيَات» و «الطُّور» ، وهذه السورة بعدها : فالأولى أقسم فيها لإثبات الوحدانية كما قال: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5 و6] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ}[الطور: 7 و8] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية، والحشر، والنبوة.
[h=1]مكيتها ومدنيتها : [/h]القول الأول : وهو الحق أنها مكية كلها ، وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر وجمهور المفسرين .
القول الثاني: نقل عن ابن عباس وقتادة أنهم قالوا هي مكية إلا آية وهي " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم .
وهو لا يصح عنهم قال ابن عاشور : وسنده ضعيف . وقال دروزة : وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [32 ] مدنية وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها نظما وموضوعا يحمل على التوقف في هذه الرواية .
القول الثالث : أنها مدنية كلها .
قال الآلوسي : ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن البصري : أنها مدنية ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا وقال ابن عاشور : ونسب إلى الحسن البصري : أن السورة كلها مدنية ، وهو شذوذ ،و قال الطباطبائي : و السورة مكية بشهادة سياق آياتها ولا يصغى إلى قول بعضهم بكون بعض آياتها أو كلها مدنية .وقال القرطبي: والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وفي " البخاري " عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
[h=1]عدد آياتها : [/h]· آيها اثنتان وستون آية في العدد الكوفي ،وإحدى وستون عند غير الكوفي ،ومن المعلوم أن الآيات القرآنية متفق فيها إنما الخلاف في عدها .
عدد ألفاظ الجلالة فيها ست .
[h=1]عدد كلماتها وأحرفها : [/h]قال الثعلبي والخازن : وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف ، وثلاثمائة وستون كلمة ،
[h=1]نغمة السورة وإيقاعها : [/h]هذه السورة في عمومها كأنها منظومة إيقاعية علوية ، منغمة تنغيما ينفذ نفوذاً عميقاً ، فيوقظ قلوب الغافلين ويحملها معه إلى السماوات العلى ، ويحيط النفس والخيال والذهن بظلال من الترويع،وهذا التنغيم يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة ، ذلك الإيقاع ذو لون خاص ، لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة ، وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير ، وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .
والصور والظلال في المقطع الأول ، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب ، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به ، وتتناسق معه ، وتتراءى فيه ، في توافق منغم عجيب .
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله ، ويترك آثاره في مقاطعها التالية ، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
قوله " والنجم " قسم من الله تعالى . أي : أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه وجوابُ القسَم قوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } .
أقسم الله تعالى بالنجم عند هويه أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار وقت غروبه على أن محمدا صلى الله عليه وسلم منزه عن شائبة الضلال والغواية.
قال الشعبي وغيره : الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق.
متعلَّق الظرف(إذا ):
العاملُ في (إذَا) فعلُ القسمِ فإنَّه بمعنى مطلقِ الوقتِ منسلخٌ من مَعْنى الاستقبالِ[2] كَما في قولِك: آتيكَ إذَا احمرَّ البُسْرُ.
قال اطفيش - التيسير : (اذا) خارجة عن الشرطية متعلقة بـ(أقسم) الذي ناب عنه { والنجم }قال الآلوسي : والإنصاف أن جعله حالاً كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه ، وإنما الوجه ، على ما قيل ما سمعت من تعلقه بـ(أقسم) منسلخاً عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في «المغني » .
[h=1]والنجم: [/h][h=1]النجم : الأصل في المادة : طلوع الجرم وظهوره ـ أو نتوءه ـ إلى جهة علو من سطح ينضم عليه ، وكأنه يشقه ويظهر ويطلع من بين ما حوله ، ويكون هو ناتئا دقيقا بين ما حوله .[/h]والنجم : الكوكب الظاهر الطالع إلى جهة علو دقيقا من سطح السماء ، وكأنه شقها وظهر وطلع من بين السماء بارزا ناتئا دقيقا بين ما حوله ، وإذا جمعت النجوم يلاحظ فيها ترتبها ومواقعها .
وتذكر النجوم في سياقات الاهتداء بها ومواقعها والتسخير والسجود لله تعالى والهوي .
استعمالات المادة في كتب اللغة تدل على ما ذكرناه :
· نجم من النَّبات كل ما طلع وظهر مما لا يقوم على ساق وهو صغاره مقابل الشجر مِن نَجَمَ، إذا طَلَعَ .
· ونَجَمَ السِّنُّ والقَرْنُ والنبات والنَّجمُ: طَلَعَ واعتلا و كل ما طلع وظهر فقد نجم .
· وليس لهذا الحديثِ نَجْمٌ، أي أصلٌ ومَطْلِع.
· والنجم : ما نجم من العروق أيام الربيع ترى رءوسها أمثال المسالّ تشق الأرض شقا .
· ومنجم كمنبر : الكعب والعرقوب وكل ما نتأ نجم والناب والقرن والكوكب : طلع .
· ونجمت المال عليه: إذا وزعته، كأنك فرضت أن يدفع عند طلوع كل نجم نصيبا، ثم صار متعارفا في تقدير دفعه بأي شيء قدرت ذلك.
· أقوال العلماء في أصل مادة نجم ومعاني تصرفاتها :
· قال ابن فارس : (نجم) النون والجيم والميم أصلٌ صحيح يدلُّ على طُلُوعٍ وظهور. ونَجَمَ النَّجمُ: طَلَعَ. ونَجَمَ السِّنُّ والقَرْنُ: طَلَعَا ـ ـ "
· قال المعجم الاشتقاقي : والمعنى المحوري : طلوع الجرم ـ أو نتوءه ـ دقيقا من سطح ينضم عليه كنجم النبات وهو صغاره مقابل الشجر ونجوم السماء تبدو دقيقة ، وكالكعب والعرقوب ونحوها مما هو ناتئ دقيق بين ما حوله { والنجم إذا هوى }
· ، قال البغوي: سمي النجم نجماً لطلوعه وكل طالع نجم .
[h=1]في المراد بالنجم في الآية هنا ستة أقوال : [/h][h=1]القول الأول : جنس النجوم أي ما يشمل كل نجم بازغ فى السماء ، فأل فيه لتعريف الجنس ، أقسم بها حين تهوي وتنزل وتسقط وتغيب ، فلفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى : { وبالنجم هم يهتدون } وليس بممتنع أن يعبر عنها بلفظ الواحد كما قال عمر بن أبي ربيعة :
أحسن النجم في السماء الثريا *** والثريا في الأرض زين النساء .
[/h]اختاره الحسن وقتادة والسمعاني ومعمر بن المثنى والرازي والشوكاني والآلوسي وحسنين مخلوف والطباطبائي وسيد طنطاوي والسعدي والشنقيطي والشيرازي في الأمثل و قدمه البيضاوي والبقاعي .
قال الآلوسي : وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف فإن أصله اسم جنس لكل كوكب ، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا .
[h=1]القول الثاني : الثريا [3]والعرب تسمي الثريا نجماً وهو اسم غالب لها قال الشاعر: [/h]إذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَ *** إبْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَ
فـ(ال) لتعريف العهد
اختاره الطبري والواحدي والخازن، وسفيان الثوري وقدمه الزمخشري والنسفي
ورواية عن مجاهد وابن عباس وضعفه الشوكاني والشنقيطي والطباطبائي والأمثل وغيرهم .
استدلوا بأدلة :
الدليل الأول: أن اللفظ مفرد فالأولى حمله على الإفراد أي على نجم معين .
الدليل الثاني : أن الثريا أظهر النجوم عند الرائي ؛ لأن له علامة لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بآيات بينات فأقسم به والعرب تسمي الثريا نجماً وهو اسم غالب.
[h=1]القول الثالث: نجوم القرآن إذا نزلت ؛لأنه كان ينزل نجوماً ، أي: والقرآن اذا نزل متفرقا نجوما نجما نجما في ثلاث وعشرين سنة ؛لأنه نزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً أي: أقداراً مقدرة في أوقات محددة وهم يسمون التفريق تنجيماً[4] فهو استدلال بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته فهو كقوله تعالى : { يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم } ما ضللت ولا غويت .[/h] قاله مجاهد في رواية أخرى عنه ، ورواية عن ابن عباس ، واختاره الفراء والضحاك والقاضي منذر بن سعيد والكلبي والشنقيطي و ضعفه السمعاني والبغوي .
واستدلوا على ذلك بأدلة :
الدليل الأول : أن الإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحاً في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : { يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيم ِإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ٍتَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [ يس : 1 -5 ] . وقوله تعالى : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 1-4 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن كأنَّه قيلَ والقرآنِ الذي هُو عَلَمٌ في الهدايةِ إلى مناهجِ الدِّينِ ومسالكِ الحقِّ ما ضلَّ عنَها محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام وما غَوى.
الدليل الثاني : أنه المناسب لنزول جبريل المذكور بعد هذه الآية من نزول جبريل وإيحائه للنبي صلى الله عليه وسلم ومناسب لجواب القسم { ما ضل صاحبكم وما غوى}
[h=1]القول الرابع : الزهرة لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها فأقسم بها لبيان أنها تغيب وتهوي وهذا من علامات حدوثها [/h]اختاره السدي
[h=1]القول الخامس: الشهب التي يرجم بها إذا انقضت ، وهو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع رواه عكرمة عن ابن عباس ودروزة .[/h]ومن أدلتهم أن أنسب ما يفسر به الهوي هو هوي الشهب ؛لأن الهوي يدل على أنه ينقض بسرعة .قال دروزة : النجم : تعددت الأقوال في النجم المقصود ، وأوجهها عندنا هو الشهاب المنقض من السماء بقرينة جملة " إذا هوى " .
[h=1]القول السادس : أنها الشعرى المذكورة في آخر السورة وهي الشعرى اليمانية التي تسمى بالعبور وكانت معظمة عند العرب وعَبدتْها خُزاعة . [/h][h=1]أجازه بعض العلماء ورجحه سيد قطب .[/h]ويدل على هذا أنه ورد اسمها في آخر السورة ( وأنه هو رب الشعرى ) وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير .
وأيضا يدل عليه أنه اختار الهوي للإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه فلا يليق أن يكون معبودا لأن المعبود بحق لا يكون كذلك .
[h=1]الراجح عندي : [/h]هو القول الأول وهو أن المراد بالنجم نجم السماء وأن المراد الجنس ، فيشمل جميع النجوم في السماء عبر عنها باسم الجنس .
الأدلة :
الدليل الأول : لأن الظاهر المتبادر عدم التقييد ، والأصل أن يحمل على إطلاقه ؛لأنه لا مرجح لأحد النجوم على الآخر ، فإن أصل النجم اسم جنس لكل كوكب.
الدليل الثاني : أن الآية التي قبلها مباشرة في سورة الطور { وإدبار النجوم} المراد بها جنس النجوم ثم بدأ { والنجم إذا هوى } فالظاهر أن المراد واحد في الموضعين .
الدليل الثالث: أن شبيه هذه الآية جاء في سورة الواقعة وجاء بصيغة الجمع فهو كالتفسير للمراد هنا { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78} وسر اختيار المفرد المراد به الجنس هنا أنه أدل على الخضوع له سبحانه بخلاف الجمع هناك فهو أنسب للمواقع .
الدليل الرابع : أن إطلاق النجم على نجوم القرآن ليس بظاهر ولا معهود الاستعمال في القرآن ، ثم كلمة هوى لا تناسبه .
الدليل الخامس : أن القسم بالنجم إذا هوى على المعنى الأول لحكم كثيرة تناسب السورة في جميع آياتها كما سيأتي .
الدليل السادس : أنه اختاره كثير من المحققين : قال الرازي: ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي هي في السماء ؛لأنها أظهر عند السامع وقوله { إذا هوى } أدل عليه .
قال الآلوسي : وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف ؛فإن أصله اسم جنس لكل كوكب. قال السمعاني : والقول الرابع : قول قتادة وغيره أنه جميع النجوم في السماء ، عبر عنها باسم الجنس ، وهذا أظهر الأقاويل ؛ لأنه يطابق اللفظ من كل وجه.
[h=1]إذا هوى : [/h]هوَى يهوِي : سقط من فوق إلى أسفل ، والهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّو ذهابٌ في انحدارٍ.
قال ابن فارس: الأصل الواحد ما يدل على خلو وسقوط ، أصله الهواء بين الأرض والسماء سمي لخلوه ، والهوي ذهاب في انحدار .
قال ابن عطية : (هوى ): خرق الهوى ومقصده السفل.
وفي المراد بـ(إذا هوى ) أقوال :
القول الأول : إذا سقط من علو ونزل ، أطلق هنا على غروب النجم ، أي: غاب وغرب مع الفجر ونزل للأفول ، فهويه مغيبه ، يقسم سبحانه و تعالى بالنجم عند هويه أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار ، والحكمة في هذا القسم سيأتي.
القول الثاني: والقرآن إذا نزل.
[h=1]الحكمة من هذا القسم وعلاقته بجواب القسم وبالسورة على القول الأول الأرجح: [/h]1. حركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه : ( وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ، ففيهِ كمالِ المناسبةِ لما سيُحكى من تدلِّي جبريلَ عليه السلام من الأفقِ الأَعْلى ودنوِّه منْهُ عليهما الصلاة و السَّلامُ ، وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى ، فهويه مناسب لنزول الوحي الذي تتحدث عنه السورة .
2. ثم ناسب افتتاح السورة خاتمتها ففي خاتمتها (فاسجدوا لله واعبدوا) ، وحركة النجم إذا هوى أشبه بالسجود .
3. في تقييد القَسَم بالنجم بوقت غروبه الإيحاءُ بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه ؛فلا يليق أن يكون معبودا ؛لإِشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أَوْجه في شرف الارتفاع في الأفق بأنه مخلوق عاجز ؛ فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهُوِيِّ حالة انخفاض ومغيب في تخيّل الرّائي ؛لأنهم يعُدُّون طلوع النجم أوجاً لشرفه ويعدون غروبه حَضيضاً فغروب النجم دليل على حدوثه وكونه في قبضة القدرة كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب ، فدل { إذا هوى }أن لها مصرفا يتحكم بطلوعها وغروبها ، ولا يملك ذلك إلا الله تعالى ، ودل على أنها مسخرة لقدرة الله تعالى مسيّرة في نظام أوْجدها عليه ولا اختيار لها وأنها عاجزة لا تستحق أن تعبد، ولذلك قال سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { لا أحب الآفلين } ، وهذا مناسب لما ورد في هذه السورة { وأنه هو رب الشعرى} ومناسب للتوحيد الذي ذكرته السورة.
4. وفي التقيدد بـ{إذا هوى }أيضا الاحتراس ، فالله تعالى لما أقسم بالنجم شرفه وعظمه وكان من المشركين من يعبده قرن بتعظيمه وصفا يدل على أنه لم يبلغ درجة العبادة ، فإنه هاوٍ آفل ففي ذكر { إذا هوى } احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقراراً لعبادة نجم الشعرى أو يتوهم أن القسم به اعتراف بأنه إله ؛إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها.
5. ولأن كلمة النجم تدل على الطلوع والبروز ، والهُوي يدل على النزول والسقوط و لأن ما يأفل يطلع استدل بذلك على عجيب الصنع وجليل التقدير الدال على عام القدرة وكمال العلم والتوحد بالملك والغنى المطلق ، وعلى وحدانية مبدعه ؛ لأن من أعظم أحواله حال هُويِّه .
6. ذكر سبحانه هوي النجم ؛لأن هذا الوقت وقت هُوِي النجم الذي هو وقت إدبار النجوم وقتُ العبادة والتسبيح والاستغفار والدعاء لله سبحانه بالأسحاروذكر لله سبحانه وهو يتناسب مع سورة النجم التي تذكر عروجه صلى الله عليه وسلم للملأ الأعلى ، وتذكر وحي الله عن طريق جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم .
العلاقة بين القسم والمقسم عليه { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى} :
في الإقسامِ بذلكَ على نزاهتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن شائبِة الضلال والغَوايةِ{مَا ضَلَّ صاحبكم} أيْ ما عدَلَ عن طريقِ الحقِّ {وَمَا غوى} أيْ وما اعتقدَ باطلاً قطُّ أيْ هُو في غايةِ الهُدى والرُّشدِ وليسَ مما تتوهمونَهُ من الضلالِ والغوَايةِ في شىءٍ أَصلاً ـ من البراعةِ البديعةِ وحسنِ الموقعِ ما لا غايةَ وراءَهُ ؛لأنهم ينكرون نزول جبريل بالوحي الذي فيه التوحيد وإبطال الشرك بعبادة الأصنام أو النجوم ، ويرفضون السجود لله سبحانه والخضوع له وحده ، فأقسم بالنجم إذا هوى ، فهويه ودنوه أشبه بمشهد جبريل ، وحركة النجم إذا هوى أشبه بالسجود لله فهذه النجوم على عظمتها خاضعة لله، ثم مهما يكن النجم عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه فلا ينبغي أن يعبد هو كما يفعل المشركون بل خالقه ، ثم خلقه وتقدير هويه دال على عجيب الصنع وجليل التقدير الدال على عام القدرة وكمال العلم والتوحد بالملك والغنى المطلق وعلى وحدانية مبدعه ، فأقسم بهذا سبحانه أنه ما ضل صاحبكم الذي يخبركم أنه نزل عليه جبريل بالوحي الذي فيه بيان قدرة الله تعالى وكمال علمه وتوحده بالملك والغنى وبيان عظمة الله سبحانه وإبطال عبادة الأصنام والكواكب.
العلاقة بين القسم والمقسم عليه على القول الثالث القائل أن النجوم نجوم القرآن :
أما على أن المراد بالنجم نجوم القرآن ففي الإقسام من البراعة البديعة وحسن الموقع ؛لأنَّه تنويهٌ بشأنِ القُرآنِ كما في سورة مطلع سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ ، وتنبيهٌ على مناطِ اهتدائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومدارِ رشادِه ، كأنَّه قيلَ: والقرآنِ الذي هُو عَلَمٌ في الهدايةِ إلى مناهجِ الدِّينِ ومسالكِ الحقِّ ما ضلَّ عنَها محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام وما غَوى ، فالكلام مسوق لإثبات أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابَه حالُ نزوله الاعتباريِّ حال النجم في حالة هويِّه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منيرٍ إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية ، فشبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسفله ، وهو من تمثيل المعقول بالمحسوس .
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
[h=1]الربط : هذه الجملة الكريمة جواب القسم [/h]كانت قريش تقول : إن محمدا ضالٌ غاوٍ ، فأقسم الله تعالى أنه ما ضل وما غوى نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين .
[h=1]مَا : نافية .[/h][h=1]ضَلَّ : [/h]المعنى اللغوي :
الضلال : ضياع الشيء ، والعدول والانحراف عن الطريق المستقيم ، و عدمُ الاهتداء ، وفقدانُ الرشادِ والدلالةِ إلى المقصود ، والذهابُ في غير الحق ، ويضاده الهداية.
ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمدا كان أو خطأ يسيرا كان أو كثيرا ، قال ابن عاشور : الضلال : عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المقصود ، وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق .
[h=1]معنى { ما ضل صاحبكم} :[/h]ما حاد ولا عدل صاحبكم عن الحقّ و عن الطريقِ المستقيمِ طريقِ الهدى الموصلةِ إلى غاية المقصودِ ، ولا زال عنها في وقت من الأوقات ، ولكنه على استقامة وسداد في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها ، فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله.





[h=1]سر التعبير بالماضي { ما ضل ،ما غوى} :[/h][h=1]عبر بالماضي نفياً لما كانوا رموه به في الماضي ، وليبين أنه لم يضل ولم يغو في وقت من الأوقات الماضية ، فهو ماض ثابت نحو { آمنوا وعملوا الصالحات} أي لينفي ما اتهموه به في الماضي مع ثبات عدم ضلاله وغوايته في كل الأوقات ، بخلاف ما سيأتي من التعبير بالمضارع في { ينطق} لأن النطق متجدد فلذلك عبر بالمضارع .[/h][h=1]صَاحِبُكُمْ[/h]مادة (ص ح ب ): تدلُّ على مقارَنة شيءٍ ومقاربته ، ولزوقٍ وملازمةٍ على وجه الاختصاص بوجه من الوجوه، ولذلك سمي أصحاب النبي أصحابا ؛ لملازمتهم له، والكون معه ،و أصحابُ مالك، وأصحابُ الشافعي للاختصاص بمذاهبهما ، وصاحبا السجن : هما الملازمان له بالكون فيه ، فالصحبة أقوى من مجرد الاتصال ، يقال أديم مصحِب: عليه صوفه أو شعره أو وبره، وصحبته: لازمته ورافقته وعاشرته ، فالأصل في الصحبة هو الملازمة ثم قد تستعمل في مجرد الاقتران ولو بدون ملازمة .
1. فالصاحب: الملازم إنسانا كان أو مكانا[5] أو زمانا ، ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته ، قال أبو حيان وابن عطية والقرطبي والآلوسي : أصلها الاجتماع طال زمنها أو قصر ولا يقال في العرف غالبا إلا لمن كثرت ملازمته ، فإن كانت الملازمةُ والخلطةُ فهو كمال الصحبة .
[h=1]سر التعبير بالصحبة : [/h]إيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوانِ صاحبيتِه لهم أبلغ من أن يصرح باسمه؛ لأنه يشار به إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصاحبا لهم طوال حياته وأطوار عمره أكثر من أربعين سنة ، ولم يشاهدوا منه في هذه الأيام إلا أنه مهتد رشيد، وليس كما يزعمون أنه ضال غاو؛ لينبههم على ما يعرفونه منه ويقفون ويطلعون عليه من تفاصيلِ أحوالِه الشريفةِ ، وإحاطتِهم خُبراً ببراءتِه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ مما نُفي من الضلال والغواية بالكليةِ ، وإحاطتهم باتصافِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغايةِ الهُدَى والرشادِ وبمحاسن شؤونه المنيفة ؛ فإنَّ طولَ صُحبتهِم له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومشاهدتهم لمحاسنِ شؤونِه العظيمةِ في بلد لا تتعذر فيه إحاطة علمِ أهلِه بحالِ واحدٍ معينٍ مقصودٍ من بينهم ـــ مقتضيةٌ لذلكَ حتْمَاً، ففي ذلك تأكيدٌ لإقامة الحجة عليهم ، و تبكيتٌ لهم على اتهامه ، و تعريضٌ بأنهم أهلُ بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة إطلاعهم على أحواله وشؤونه ، من قولهم : ضالٌ غاوٍ ونحو ذلك .
سر توسيط صاحبكم فلم يقل ما ضل وما غوى صاحبكم : لأدل أن يقدم الدليل على ما يقوله من أول الأمر .
[h=1]الخطاب في صاحبكم :[/h]والخطابُ للعرب أولا وتدخل دخولا أوليا قريش .
[h=1]وَمَا : إعادة (ما) تأكيد للنفي وتنصيص على نفي كل صفة مما اتهموه به نصا لا هذا ولا هذا .[/h]
[h=1]غَوَى:[/h]غوى الفصيل[6] : إذا أكثر شُربَ اللبَنِ ففسد جوفُه ومعدتُه وأشرف على الهلاك.
والغي : خلاف الرشد، وهوفسادُ المذهبِ والاعتقادِ والرأيِ والفكرِ، وتَغَشّ و حجب وإظلام في الأمر ، وعدم إصابة الحق والمقصود النافع ، كأن ذا الغي فسد فكره و غشيه ما لا يرى معه سبيل الحق ، يقال الغاوي : للجراد لأنه يغشى الأرض بكثافة ليأكل زرعها ، والغوى (مصدر) : البشَم من اللبن لأنه من كثافة ما رضع وكثرته في المعدة يعوق الهضم ، قال الراغب : "الغي : جهل مع اعتقاد فاسد"، قال رشيد رضا : "الْغِوَايَةِ :َ ضِدُّ الرَّشَادِ؛ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ الْمُرْدِي ،اسْتُعْمِلَ فِي الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْجَهْلِ وَكُلِّ مَا يُنَافِي الرُّشْدِ ".
والرشد: إصابةُ الحق والخيروالمقصود النافع ، والاستقامةُ على طريق الحق ، وهو وسيلة لمصالح الدنيا والآخرة ، { قد تبين الرشد من الغي } { وإن يروا سبيل الرشد ـ ـ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }.
[h=1]معنى { وما غوى} :[/h] ما فسد اعتقادُه وعقلُه ورأيُه وفكرُه ، ولا تغشاه ما يحجبه عن الحق والصواب والمقصود النافع ، وما سلك سبيل الفساد ، و ما خرج عن الرشد في وقت من الأوقات قطُّ ، وما غوى أدنى غواية فإنه محروس من أسبابه ، و عطف {وماغوى} على { مَا ضَلَّ } من عطف الخاص على العام اعتناءاً بالاعتقاد كما سيأتي ، وإشارة إلى أنه المدار .
[h=1]حاصل معنى { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى} :[/h]أقسم بالنجم وقت هويه ونزوله و غربوه ، أنه صلى الله عليه وسلم وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غايةِ الهُدى والرُّشدِ والسداد والاستقامة ، وليس كما تزعمون وتموهون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي في شيء أَصلاً ، فما خرج صاحبكم عن الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية المطلوبة في قول ولا فعل ولا اعتقاد، ولا فسد اعتقاده وعقله ورأيه وفكره ، فنزه الله سبحانه وتعالى رسوله وشَرْعَه عما ينسبون إليه، وقد دفع سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأما بقية الأنبياء فدافعوا عن أنفسهم { ليس بي ضلالة }{ ليس بي سفاهة }.
[h=1]الفرق بين الضلال والغواية : [/h]يؤخذ مما سبق الفرق بين الضلال والغي وهو :
1. أن الضلالة يقابلها الهداية ، والغواية يقابلها الرشد .
2. أن التركيز في نفي الضلال على أنه ما حاد ولا عدل عن الحقّ و عن الطريق المستقيم طريق الهدى الموصلة إلى غاية المقصود ، والتركيز في نفي الغواية على أنه ما فسد اعتقادُه وعقلُه ورأيُه وفكرُه ولا تغشَّاه ما يحجبه عن الحق والصواب والمقصود النافع ، فاختلفت الجهة التي تتحدث عنها كل جملة منهما ، ولنا أن نقول ما قاله الآلوسي : أن الضلال عام في كل ضلال ، والغواية نوع خاص من الضلالة فهو من عطف الخاص على العام اعتناءاً بالاعتقاد ، وإشارة إلى أنه المدار



وهناك أقوال أخرى في الفرق بينهما فيها نظر أذكرها لك لتطلع عليها منها :
تفريق الإمام الرازي : وهو أن الفرق بين الضلال والغي أن الضلال هو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً والغواية أن لا يكون له طريق إلى مقصده مستقيم[7]
ومنها تفريق ابن عطية وتبعه ابن جزي وغيره قالوا : "الفرق بينهما أن الضلال بغير قصد والغي بقصد وتكسب" .وينقضه قوله تعالى { فعصى آدم ربه فغوى } مع قوله تعالى { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} .
ومنها تفريق الشيرازي في الأمثل حيث قال : فبناءً على ذلك فالضلالة معناها مطلق الجهل وعدم المعرفة ، إلاّ أنّ الغواية جهل ممزوج أو مشوب بالعقيدة الباطلة .
[h=1]الجمع بين هذه الآية وبين ووجدك ضالا فهدى : [/h]أن معنى { ووجدك ضالاً}: وجدك غير عالم بالشرائع والأحكام خاليا عن الوحى ، لا خارجا عن الدين عاصيا، ومعنى هذه الآية { ماضل}: ما ضل عن الحق وما حاد عنه ، فلا منافاة بين الآيتين، ثم التركيز في آية الضحى { { ووجدك ضالاً} على ما قبل مجيء الرسالة ، والتركيز في آية النجم { ما ضل صاحبكم وما غوى } على ما بعد الرسالة ؛لأن اتهامه إياه عليه الصلاة والسلام بذلك بعدما جاءهم بالوحي وإن صلى الله عليه وسلم لم يضل ولم يغو في جميع حياته حتى قبل الرسالة كما صرح الإمام الرازي والبقاعي .
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
[h=1]الربط : [/h]لما كان قد يكون مع الهدى مصادفة بيَّن كمالَ ذاته ، وأنّ ما يقوله هو من الله فقال سبحانه : { وما ينطق عن الهوى }، وهذه الجملة معطوفة على جواب القسم ، فهي داخلة في جواب قسم ، وفيه مزيد نفي لضلاله وغوايته صلى الله عليه وسلم ؛لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع الهوى ، فإذا نفى نطقه عن هوى وأثبته عن وحي فقد نفى عنه كل نقص وأثبت له كل كمال .
[h=1]وَمَا[/h]{ ما } نافية نفت أن ينطق عن الهوى .
[h=1] يَنْطِقُ [/h]الاصل في المادة هو: إظهار لما في الباطن والتعبير عما في الضمير بالقول أو الصوت الذي في إنسان أو حيوان أو غيرهما ، ويشمل كل لفظ مفردا كان أو مركبا مفيدا كان أو غير مفيد ، وفي مقابل النطق والناطق : الصمت والصامت ، فالصامت : ما لا يظهر ما في باطنه كما في الجمادات ، مثال النطق بالقول والكلام : { وما ينطق عن الهوى } ، ومثال النطق في الحيوان : { يا أيها الناس علمنا منطق الطير } والمنطق في الطيور في كل نوع منها على كيفية خاصة به يتفاهم بها بين أفراد ذلك النوع[8] .
[h=1]اختيار المضارع في ينطق: [/h]لما كان النطق يتجدد وقتا فوقتا وليس في كل لحظة ،عبر بالمضارع؛ ليبين أنه كلما ينطق في أي وقت من الأوقات فلا ينطق عن الهوى ، أي : ما يجاوز وما يصدر نطقه في وقت من الأوقات ، لا في الحال ولا في الاستقبال ، عن هَوَاهُ ورأيهِ أصلاً ، و المراد استمرارُ نفي النطقِ عن هوى .

[h=1]الضمير في ينطق: [/h]في فاعِل " يَنْطِق " وجهان :
أحدُهما : أنه ضميرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام ، وهو الظاهرُ؛ لتقدم ذكره في قوله سبحانه : { صاحبكم } ففاعل (ينطق) ضمير الصاحب كما رجحه الآلوسي وأبو السعود و السمين الحلبي وغيرهم .
والثاني : أنه ضميرُ القرآنِ كقولِه : { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ } ، قال الآلوسي: وقيل : ضمير { يَنطِقُ } للقرآن فالآية كقوله تعالى : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] وهو خلاف الظاهر.
[h=1]ما الذي نفى نطقه عن هوى : [/h]من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء عن هوى مطلقا لا فيما بلغه عن الله تعالى ، ولا فيما اجتهدفيه ولو فيما كان خلاف الأولى فعاتبه الله عليه وذكر الأولى فيه كأخذ فداء أسرى بدر ، فكله ذلك ليس فيه شيء من هوى مطلقا ، لكن السياق هنا على أي شيء يركز وعن أي شيء يتكلم هنا في قوله تعالى { وما ينطق عن الهوى} ، اختلف العلماء على قولين :
[h=2]القول الأول : المراد القرآن الكريم .[/h]قاله قتادة ومقاتل والفراء والطبري ومكي والطبراني وابن الجوزي والقرطبي والخازن والزمخشري وأبو السعود والقاسمي وابن عاشور ودروزة والطباطبائي والمنتخب والسمرقندي والقشيري والوسيط (البحوث) وقدمه ابن جزي.
قالوا في قوله تعالى { وما ينطق عن الهوى} : المراد القرآن الكريم ، وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه ، قالوا قلنا المراد القرآن مع أن ظاهر السياق نفي كل ما ينطق به أن يكون عن هوى ؛ لأن سياق الآيات في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من اتصال وحي الله به ورؤيته الملك ، وما ألقاه عليه من آيات القرآن ، ولأنه لما كان خطابا للمشركين وهم يرمونه فيما يتلو عليهم من القرآن بأنه كاذب متقول مفتر على الله سبحانه ـ حاشاه صلى الله عليه وسلم ـ كان المراد بقرينة المقام أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما ينطق بهذا القرآن يتلوه عليكم من القرآن عن هوى نفسه ورأيه بل وإنما هو وحي من عند الله يوحى إليه من الله سبحانه ،وليس كما يقولون : { إن هذا إلا إفك افتراه } ، {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها } ، فنزل تكذيبُهم.
قال ابن عاشور : ونفي النطق عن هَوى يقتضي نفي جنس ما يَنْطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإِرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة ، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم .
[h=2]القول الثاني:المراد كل ما ينطقه من قرآن وبيانه وغيره من السنة .[/h]قاله : الواحدي والبغوي وابن كثير والبقاعي والشوكاني واطفيش التيسير والمراغي والسعدي والشيرازي في الأمثل ، والشربيني وصديق خان ، وسيد طنطاوي .
والمعنى على هذا : أنه لا يتكلم في القرآن ولا ما يؤديه إليكم من السنة عن هواه ورأيه الذي هو ميل الطبع ، إنما يقول ما أمر به ، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان بدليل أن الآية مطلقة فلم تقيد أن المراد القرآن وبدليل ما ورد في الأحاديث .
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر ، يتكلم في الغضب ، فأمسكتُ عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اكتب ، فوالذي نفسي بيده ، ما خرج مني إلا حق " .
وعن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أقول إلا حقا " . قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال : " إني لا أقول إلا حقا ".
عَن: معنى (عن) المجاوزة والانطلاق كما في { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة } أي إلا ناشئا ومنطلقا عن موعدة ، أي: وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى ؛أي ما يجاوز نطقُه فمَه في وقتٍ من الأوقاتِ لا في الحال ولا في الاستقبال ناشئاً عن هواه ورأيهِ أصلاً ، كما هو شأنُ الكهانِ الذين يغلب كذبُهم صدقَهم والشعراءِ وغيرهم ، وما تقول هذا القرآن من عند نفسه ، إنما هو بوحي من الله عز وجل ، فعن على بابها ،وبقاء (عن) على بابها رجحه البيضاوي والسمين الحلبي وأبو السعود والبقاعي والسعدي وابن هشام قال ابن هشام : "والظاهر أنها للمجاوزة ، أي: ما يصدر قوله عن الهوى ".
فلا داعي لما قاله الكوفيون : إنها بمعنى الباء ، أي : وما ينطق بهوى ،ولا داعي لما قاله الإمام الآلوسي حيث قال :" النطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بـ(عن) في قوله تعالى : { عَنِ الهوى } أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن" ؛ لأن معنى عن هو معنى الصدور فلا داعي للقول بالتضمين وإن كان في النهاية يعود لقول البصريين .
[h=1]الْهَوَى[/h]الهوى : ميل النفس ونزوعها إلى ما تحبه وتشتهيه وترغبه من شر أو خير[9] ، لكنه غلب على الميل المذموم ، وهو الذي لا يتقيد بما يقتضيه الحق والصواب أو العقل السليم ، نحو: الميل إلى ما لا خير فيه ، وإلى الشهوة والشر ونحوها ، وهو المراد بالهوى في جميع القرآن وقال بعض العلماء:" وهو المراد إذا أطلق عن التقييد في اللغة" ، وجواز إطلاقه على الخير والشر رأي الجمهور قال الآلوسي : " وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة " ، وقال أبو عبيدة ومكي : لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه.
[h=1]مناسبة التسمية : [/h]1. القول الأول : الرازي والتحقيق وقريب منه حسن جبل في المعجم الاشتقاقي وهو الراجح عندي .
في اشتراكه مع هوَى يهوي بمعنى سقط في مكان عميق ومع الهواء يظهر أن الهوى فيه شيئان :
أ- الشيء الأول : انحدارٌ بقوة وانجذابٌ للمحبوبِ المشتهى كأنما هُوِيَ به إليه وهذا المعنى مطرد في جميع استعمالا ت الهوى .
ب- الشيء الثاني: أنه شيء سافل ساقط، وهذا يطرد فيما غلب في استعمال الهوى للمذموم.
لأن أصل مادة (ه وي) كما قال التحقيق: " تمايل إلى سفل ومن مصاديقه ميل النفس إلى الشهوات والأمور المادية ، ومن ذلك مهواة الجبل ، وهوِي بكسر الواو: الحب والتعلق ، وهوَى بفتح الواو: السقوط من أعلى ، والكسرة تناسب السقوط والانحدار ، ولا يخفى أن التمايل النفساني هو أكبر حاجب وأعظم مانع في مقابل التوجه إلى الله عز وجل" .
قال الفخر الرازي : "وأحسن ما يقال في تفسير { الهوى } أنها المحبة ، لكن من النفس يقال هوِيته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية ، فالنفس إذا كانت دنيئة ، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة ، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة ، فإنها مستعملة في موضع المدح ، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا } إلى قوله { ونهى النفس عن الهوى } إشارة إلى علو مرتبة النفس" .
قال المعجم الاشتقاقي: المعنى المحوري احتواء: المكان على فراغ لا يشغله إلا هذا اللطيف المادة وهو الهواء ويلزم من ذلك سقوط الشيء فيه انجذابا إلى القاع أو الأرض حيث لا مستقر دونها ، الهوى محبة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه هو من الانجذاب إلى مستقركأنما هُوِيَ به إليها ويكون الهوى للخير والشر ومتى أطلق لا يكون إلا مذموما.
2. القول الثاني : لأنه يهوي بصاحبه إلى ما فيه شر وضر وفساد وهلكة دنيا وأخرى .
الشعبي وَابْن شبْرمَة والراغب والجوهري ومكي وحبنكة والمظهري وأبو زهرة وحقي وهميان الزاد والقرطبي والشوكاني.
قال أبو زهرة : والهوى هو الميل إلى الشيء بالانحراف، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوي إلى الخُلُق الفاسدِ، وإلى الضلال، ومن بعد ذلك يهوي به إلى النار.
قال الراغب في مفرداته : الهوى ميل النفس إلى الشهوة لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية ، قال حبنكة: من شأن الهوى أن يجعل صاحبه يهوي إلى ما فيه شر أو ضر أو فساد.
وقريب منه ما قاله الراغب في تفسيره :" وأصله من الهوى، لأنه يهوى بصاحبه فلا يستقر به".
وأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن الشّعبِيّ رَضِي الله عَنهُ وَابْن شبْرمَة قَالَ: إِنَّمَا سمي هوى لِأَنَّهُ يهوي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّار
3. القول الثالث: لأنه يهوي بصاحبه إلى ما فيه شر وهلكة ، ولأنه خال من كل خير .
اختاره ابن فارس ، قال ابن فارس : أصل صحيح يدل على خلو وسقوط أصله الهواء ــ ـ ـ وهوى النفس من المعنيين جميعا لأنه خال من كل خير ويهوي بصاحبه فيما لا ينبغي .
4. القول الرابع : الهوى مأخوذ من الهواء فالهوى: رقة القلب بميل الطباع كرقة هواء الجو أو يقال الهوى: هو لطف محل الشيء من النفس مع الميل اليه بما لا ينبغي ويقال: منه: هوى يهوى ويقال: هو يهوي هويا إذا انحط في الهواء وأهوى بيده إذا انحط بها ليأخذ شيئا.
اختاره الطوسي في التبيان .
الفرق بين الهوى والشهوة :
أن الهوى ما تقدم تعريفه لك: من أنه ميل النفس ونزوعها إلى ما تحبه وتشتهيه وترغبه ، و غلب على الميل المذموم ، وهو الذي لا يتقيد بما يقتضيه الحق والصواب أو العقل السليم . وأما الشهوة : فنزوع النفس إلى ما تريده ومطالبتها بفعل ما فيه اللذة و توقانها واشتياقها إلىه ، فهي الرغبة الشديدة من النفس ونزوعها إلى شيء يلائمها .
والشهوة قد تكون فيما يلائم الروح وتحت حكم العقل كشهوة الطعام عند الجوع فهي مطلوبة وممدوحة ومنه { وفيها ما تشتهيه الأنفس} { وفواكه مما يشتهون} ، وقد تكون بخلاف ذلك فهي مذمومة كشهوة الزنا .
فظهر من ذلك ثلاثة فروق :
1. الفرق الأول : أن الهوى ميل النفس إلى ما تشتهيه وتحبه وترغبه ، وأما الشهوة فهي نفس الرغبة والنزوع والاشتهاء .
2. الفرق الثاني: أن الهوى أعم من الشهوة ؛لأن الهوى غلب في الميل إلى ما تحبه النفس بما لا يتقيد بما يقتضيه الحق والصواب أو العقل السليم نحو الميل إلى الآرَاءِ وَالاعْتِقَادَاتِ الفاسدة وما لا خير فيه والشر ، ومن أفراد الهوى الميل للشهوة ، وَأما الشَّهْوَةَ فمُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ المستلذَّات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والمركوبات الجميلة والمال والأنعام ونحو ذلك قال الطوسي: والفرق بين الهوى والشهوة:" أن الشهوة تتعلق بالمدركات فيشتهي الانسان الطعام، ولا يهوى الطعام"، قال العسكري: "أَن الْهوى لطف مَحل الشَّيْء من النَّفس مَعَ الْميل اليه بِمَا لَا يَنْبَغِي وَلذَلِك غلب على الْهوى صفة الذَّم ، وَقد يَشْتَهِي الْإِنْسَان الطَّعَام وَلَا يهوى الطَّعَام ".قال نور الدين الجزائري:" الفرق بينهما بأن الهوى يختص بالأداء والاعتقادات، والشهوة تختص بنيل المستلذات. ويدل عليه قوله تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك " أي لا تتبع ما يميل إليه طبعك و يقتضيه رأيك من غير أن يسند إلى دليل شرعي .ويدل على الثاني قوله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين " الآية حيث بين مراتب المشتهيات بعدها، وفصل أصول المستلذات عقيب ذلك، وعدها".[10]
3. والفرق الثالث: أن الشهوة تستعمل للخير والشر على السواء بخلاف الهوى فقد غلب على الميل المذموم .
4. وبتأمل الآيات التي ورد فيها الهوى والشهوة يظهر الفرق:
5. الهوى :
{ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا }{ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28} { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}



الشهوة:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)} { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} { وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)} { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)} { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} { لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)} { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} .
[h=1]بين { هوى } و { الهوى } جِناس شبه التام .[/h]استدلال بعض العلماء بهذه الآية على أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يجتهد:
احتج بالآية من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ، أي : من لا يجيز أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحوادث من جهة اجتهاد الرأي ، بقوله : {وما ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } ، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق ، وهذا القول مبني على القول الثاني الذي يقول: المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقاً عن هوى من القرآن والسنة إن هو إلا وحي يوحي .


رد دليلهم :
· أن الأمر ليس كما ظنوا ؛ لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي جاز أن ينسب موجبه وما أدّى إليه أنه عن وحي ، فالله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحياً لا نطقاً عن الهوى ، وحاصله منع كبر القياس[11] .
· ورد أيضا بأنه وقع منه بقوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] الآية . وقوله تعالى : { مَا كَانَ لنبي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] الآية . وقوله تعالى : { مَا كَانَ للنبي وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] الآية قالوا : فلو لم يكن هذا عن اجتهاد ، لما قال { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } الآية . ولما قال : { مَا كَانَ لنبي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } .
· ورد أيضا بأن معنى قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى }كما تقدم ، معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عن الله إلا شيئاً أوحى الله إليه أن يبلغه ، فمن يقول : إنه شعر أو سحر أو كهانة ، أو أساطير الأولين فالظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية .
· وهذا الاجتهاد لم يكن في القواعد بل في الفروع .
· وتمام المسألة في كتب أصول الفقه .

ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
[h=1]الربط : [/h]لما أكد سبحانه نفي ضلاله وغوايته ونطقه عن الهوى تنزيهاً له عما نسب إليه ، فكان ذلك مظنة السؤال عن أصل ما جاء به أجاب بالحصر ، والآية أصرح وأدفع لإنكارهم البالغ، فالجملة الكريمة استئناف بياني لجملة { وما ينطق عن الهوى } مؤكد لما قبله .
[h=1]إِنْ [/h][h=1]في الآية مبالغات : [/h]· أولا : استعمال (إن) النافية أبلغ وأقوى من استعمال (ما) في النفي
· ثانيا : {إن هو إلا وحي} أبلغ من قول القائل هو وحي .
· وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن ، هو قول شاعر فأراد سبحانه نفي قولهم ، وذلك يحصل بصيغة النفي ، فقال : ما هو كما يقولون وزاد فقال : بل هو وحي .









[h=1]هُو : [/h]في الضمير (هو) ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه للقرآن الكريم ) فـ(هو) ضمير يعود إلى معلوم من السياق[12] وهو القرآن ، وأيضا لأن كلام المنكرين في قولهم :ضالٌ غاوٍ كان بسبب ما جاءهم الرسول به من
القرآ ن، كأنه يقول : ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه[13].
قاله : الطبري وابن عطية قاله قتادة ومقاتل والفراء والطبري ومكي والطبراني وابن الجوزي والقرطبي والخازن والزمخشري وأبو السعود والقاسمي وابن عاشور ودروزة و الطباطبائي والمنتخب والسمرقندي والقشيري والوسيط (البحوث) والمراغي وقدمه البيضاوي ابن جزي.
[h=1]القول الثاني: أنه يعود للمنطوق الذي ينطق به من القرآن والسنة والدين أي كل أقواله من القرآن وبيانه والسنة ، فالضمير (هو) عائد إلى مذكور ضمنا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه ، وذلك لأن قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } في ضمنه النطق وهو كلام وقول فكأنه تعالى يقول وما كلامه وهو نطقه إلا وحي.[/h]قاله : الواحدي و البغوي وابن كثير والبقاعي والشوكاني واطفيش التيسير والمراغي والسعدي والشيرازي في الأمثل والشربيني وصديق خان وسيد طنطاوي .

[h=1]القول الثالث: الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وفي توجيه الكلام طريقتان : [/h][h=2]الطريقة الأولى : تقدير مضاف إما قبل كلمة {هو}فيكون التقدير إن قوله إلا وحي يوحى ، أو قبل كلمة {وحي} فيكون المعنى { إنْ هُو } أي صاحبكم صلى الله عليه وسلم { إلاَّ وحْي يُوحى } أي إلا ذو وحى يوحى.[/h]قدمه اطفيش في البيان وفي الهميان .
الطريقة الثانية : أن يجعل على سبيل المبالغة في وصفه صلى الله عليه وسلم بالنطق بالوحي كأنه نفسه وحي مبالغة في أنه لا ينطق إلا عن وحي ، وله نظائر { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } جعل البر عين من آمن { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } جعل الرسول هو الذكر { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} لما أراد نفي الجنون عنه سبحانه قال وما هو إلا ذكر فكثير من المفسرين قالوا الضمير يرجع للقرآن المفهوم من السياق وبعضهم قال بالغ في جعل الرسول صلى الله عليه وسلم عين الذكر كقول عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن .
[h=1]إِلا وَحْيٌ[/h]وحي من الله تعالى .
الوحي: إلقاء المعنى في باطن غيره بطريق خفي دقيق سريع بحيث يعلمه و يتيقنه وينتهي إلى تأثيرٍ ونفوذٍ قاطعٍ في القلب ،وهذه عبارة تعم ما كان عن طريق الملك أي إرسال الله الملائكة بأوامره إلى أنبيائه :{ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} ، والإلهام سواء كان إلى أنبيائه أو خلقه كالنحل :{ وأوحى ربك إلى النحل} ، أو للأرض : { بأن ربك أوحى لها} ، ونحو الوسوسة :{ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} ، { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } ، والإشارة : { فأوحى إليهم أن سبحوا} ، والقذف في الرُّوع ، ويشمل الوحي بالكلام المباشر ، وكل ما يحفظ من معاني الوحي إلا أنه صار في عرف أهل الإسلام كالعَلم فيما ينزله الله تعالى على الأنبياء قال حبنكة : الوحي في المفهوم الديني : هو إعلام الله رسولا من رسله أو نبيا من أنبيائه ما يشاء من كلام أو معنى بطريقة تفيد الرسول أو النبي العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به .
قال المعجم الاشتقاقي: يقال سمعت وحاة الرعد وهو صوته الممدود الخفي ، ومن أمثالهم وحي في حجر ، ويقال : وحى إليه وأوحى كلمه بكلام يخفيه ، والمعنى المحوري: تحصيل شيء في الأثناء لطيف المادة حاد الأثر أو قويه كوجود النار في حجرها ومعنى المكتوب في الحجر أو في أي مادة شديدة ومن ذلك الإيحاء : إيقاع المعنى في القلب بطريقة خفية كالإفهام .
قال التحقيق: الأصل الواحد هو إلقاء أمر في باطن غيره سواء كان الإلقاء بالتكوين أو يإيراد في القلب وسواء كان الأمر علما أو إيمانا أونورا أو وسوسة أو غيرها سواء كان إنسانا أو ملكا أو غيرهما وسواء كان بواسطة أو بغير واسطة ويفيد العلم واليقين ــ ـ ـ وقد يكون البيان بإيجاد كلام أو بمخاطبة ملك أو برؤيا منام إذا انتهى كل منها إلى تأثير ونفوذ قاطع في القلب كالوحي حتى يكون ذلك البيان حجة تامة من الله تعالى .
[h=1] يُوحَى[/h]· ( يوحى ) مِنْ أوحى يُوحِي، وهي صفةٌ لـ" وَحْيٌ ".
· يوحيه الله إليه
· فمتعلِّق { يوحى } محذوف تقديره : إليه ، أي :إلى صاحبكم .
· وتُرك فاعل الوحي لضرب من الإِجمال الذي يعقبه التفصيل ؛ لأنه سيرد بعده ما يبينه من قوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } .
· وفي ذكر هذا الوصف {يوحى} فائدتان يلخصهما أنها : "صفةٌ مؤكدةٌ لـ(وحي) رافعةٌ لاحتمالِ المجازِ ، مفيدةٌ للاستمرارِ التجدديِّ " .
· وتفصيل ذلك أن في ذكر (يوحى) فائدتين :
الفائدة الأولى : أنه يَنْفي المجازَ أي : هو وحيٌ حقيقةً لا بمجردِ تسميتِه ، كما تقول : هذا قولٌ يقال ؛وكقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } ، ففيه تحقيق الحقيقة ، فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر ، فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز ، كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة :كلام فلان وحي ، كما يقول شعره سحر ، وكما يقول قوله معجزة ، فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد .
الفائدة الثانية : أن التعبير بالمضارع : لبيان أن الوحي يجدد إليه إيحاؤه منه تعالى ، وقتاً بعد وقت فهي مفيدةٌ للاستمرارِ التجدديِّ.
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ



عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
[h=1]الربط[/h]الجملة الكريمة : مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان كيفية الوحي ، فلما كان الوحي ظاهراً فيما يكون بواسطة الملك ، تشوف السامع إلى بيان ذلك ، فقال مبيناً جانبا من أوصافه ؛ لأن ذلك أضخم في حقه وأعلى لمقداره ، فهذا الوحي معروف حاملُه مستيقَنٌ طريقتُه فهو عن طريق الملك الشديد القوى ، ذو مرة ، فلم يكن واهما ولا مخدوعا ، وقيل : الجملة خبر ثان وقيل : نعت لـ(وحي).
[h=1] عَلَّمَهُ [/h][h=2]في مرجع الضمير (الهاء) قولان : [/h][h=2]القول الأول : وهو الأصح أَنْ تكونَ هذه الهاءُ للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الظاهرُ وحينئذ يكون عائدا إلى صاحبكم ، تقديره علم صاحبَكم شديدُ القوى وهو جبريل ،ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً أي : عَلَّم الرسولَ القرآن أو جميع ما بلغكم من قرآن وسنة وشرع ، على الخلاف السابق في الضمير في { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي} .[/h][h=2] رجح هذا القول الأول : ابن عطية والرازي وأبو حيان والسمين الحلبي وغيرهم .[/h][h=2]القول الثاني: وأن يكونَ للقرآنِ والوحيِ ، فيكونَ المفعولُ الأولُ محذوفاً أي : عَلَّم الوحيَ الرسولَ . مال إليه ابن عاشور .[/h]
[h=1]شَدِيدُ القوى : [/h][h=2]في المراد بشديد القوى قولان : [/h][h=2]القول الأول : [/h]المراد جبريل عليه السلام
وهذا قول: قتادة والربيع وابن عباس وجميع العلماء سوى الحسن البصري ، واستدلوا بقوله تعالى { ذي قوة عند ذي العرش مكين } ، وهو المناسب للأوصاف التي بعده.
[h=2]القول الثاني: قول الحسن قال : هو الله عز وجل وهو بعيد لأنه لا يلائم الأوصاف بعده .[/h][h=1]شديد : [/h]الشد: الربط القوي وإتقانه و العقد القوي وإيثاقه ، يقال : شددت الشيء: قويت عقده ، شِدةُ الخلقِ : كونه موثق الشد والإحكام ومتقن الربط ، قال ابن فارس : أصل المادة يدل على قوة في الشيء ومنه شددت العقد .
[h=1]القوى : [/h]القوى. جمع قوة كـ(غرف و غرفة) و، أصله قوَو وبفتح الواو الأولى ، قلبت الثانية ألفاً لتحركها بعد فتحة .
[h=2] شرح معنى القوة لغة : [/h][h=2]القوة لغة : ما به يُتَمكن من العمل ، وهي مبدأ الأفعال الشاقة ؛فإنها شدة البدن والتئام الأثناء ، ولها مراتب في الشدة والضعف .[/h][h=2] من استعمالات مادة (قوو):[/h]· القوة بالضم الخصلة الواحدة من قوى الحبل (الطاقة الواحدة من طاقات الحبل ، قال الحرالِّي : القوة باطن القدرة من القوى وهي طاقات .
· الحبل الذي يمتن بها ويؤمن انقطاعه.
· والقاوية : البيضة فيها الفرخ سميت بذلك ؛لأنها تحوي الفرخ في أثنائها وتلتئم عليه .
[h=2]الاصل الواحد في مادة ( ق، و، و): [/h]· قال المعجم الاشتقاقي : المعنى المحوري : شدة في الأثناء بالالتئام أو الالتواء مع امتداد كطاقة الحبل تلتوي على ذاتها عند الفتل مع امتدادها فتشتد أثناؤها ، وذلك مع التوائه على الطاقة الأخرى ، ومن الأصل القوة ضد الضعف : فإنها شدة البدن والتئام الأثناء .
· قال ابن قتيبة : وأصل هذا من { قُوى الحبل } وهي طاقاته ، الواحدة : قوة .
[h=2]شديد القوى : [/h]صفة لمحذوف يدل عليه ما يذكر بعد مما هو من شؤون الملائكة ، أي مَلَكٌ شديدٌ قُواهُ ، أي :قواه العلمية والعملية كلها شديدة ، شديد القوة الظاهرة والباطنة ، فهو في غاية الإحكام ، قوته في منتهى التمام شديد أسر الخلق عظيم القدرة .
· فهو قوي على تنفيذ ما أمره الله تعالى به ، يستطيع أن ينفذ جميع ما يكلفه بتنفيذه من الأمور العظيمة العقلية والجسمية ، فيعلم ويعمل على غاية الإتقان ، قوي على إيصال الوحي و ما أمر بتبليغه من غير إخلال ، ويستطيع منع الشياطين من إدخال شيء في الوحي مما ليس منه ، وهذا من حفظ الله لوحيه ، أن أرسله مع هذا الرسول القوي الأمين .
· ووصَفَ القوّة بلفظ الجمع{قوى} تنبيها على أنه كثير القوى ، قواه متنوعة ، وهو شديدها عظيم القدرة .
· وعرّفها تعريف الجنس{ القوى} ، والقوى أبلغ من قواه .
· وناهيكَ دليلاً على شدةِ قوتِه أنه وقلع مدائن لوط ، ورفعها إلى السماء ، ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين.
· الإضافة في { شديد القوى} لفظية ؛ لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، أصلها : ملك شديدٌ قواه .
· وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين :
أحدهما : أن هذا الوحي الذي هو القرآن العظيم ، علمه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الله .
والثاني : أن جبريل شديد القوة .
· وفي إبهام هذا الذي علمه بذكر وصفه دون اسمه ثم ذكر أوصاف أخرى زيادةٌ في تفخيم شأن الذي أتاه بالوحي .
[h=1]فوائد هذا الوصف: [/h] ( الأولى ) أن مدح المعلم مدح للمتعلم ، فلو قال علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ظاهرة .
( الثانية ) هي أن فيه ردا عليهم حيث قالوا أساطير الأولين سمعها وقت سفره إلى الشام ، فقال لم يعلمه أحد من الناس بل معلمه شديد القوى ، والإنسان ليس كذلك وما أوتي من العلم إلا قليلا.
( الثالثة ) فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام فقوله تعالى : { علمه شديد القوى } جمع ما يوجب الوثوق ؛لأن شدة القوى شرط الوثوق بقول القائل :لأنا إن ظننا بواحد فسادا ما ثم نَقَلَ إلينا عن بعض الأكابر مسألة مشكلة لا نثق بقوله ، ونقول :هو ما فهم ما قال ، وكذلك قوة الحفظ حتى لا نقول أدركها لكن نسيها وكذلك قوة الأمانة حتى لا نقول حرفها وغيرها فقال : { شديد القوى } ليجمع هذه الشرائط فيصير كقوله تعالى : { ذي قوة عند ذي العرش مكين } إلى أن قال : { أمين } .
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
[h=1]الربط: [/h]تتمة لأوصاف جبريل عليه السلام ليطمئن الناس أن الوحي وصل بدقة متناهية ، فهذا هو الذي أنزل الوحي وهذا هو طريق الوحي ، وهذه هي الرحلة ، مشهودة بدقائقها { استوى وهو بالأفق الأعلى} حيث رآه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في مبدأ الوحي حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها ، يسد الأفق بخلقه الهائل .
[h=1]ذو مرة : [/h]المراد بهذا الوصف قولان :
القول الأول :صفة لجبريل ( عليه السلام ) أي صاحب مرة يعني جبريل عليه السلام
[h=2] في قول سائر المفسرين ، سوى الحسن .[/h][h=2]القول الثاني:[/h][h=2]صفة لله تعالى عز وجل ، ويكون قوله تعالى : " ذو مرة " معناه ذو قوة ، والقوة من صفات الله تعالى ، ويكون معنى { فاستوى}على هذا : استوى على العرش ، ويكون{ وهو بالأفق الأعلى } صفة الله تعالى على معنى :عظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو «الأفق الأعلى » .[/h][h=2]وهذا قول الحسن البصري .[/h][h=2] والأصح هو القول الأول .
ذو:
[/h]تدل على تمكن الوصف وثباته ، وقوة اتصافه ، ووفرة ما تضاف إليه .
«ذومرة » صفة لـ {شَدِيدُ الْقُوَى} أو للملك المحذوف قبل { شديد القوى .

[h=1]مرة :أصله من شدة فتل الحبل وإحكامِ عمله ، كأنه استمر به الفتل وكُرِّر فَتْلُه مرةً بعد أخرى حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل ، يقال : أمررتُ الحبلَ : إذا فتلته . والمرير والمُمَرّ: المفتول ، وَالْمَرِيرُ من الحبال: ما لطف وطال واشتد فتله ، والمرمر: الرخام وصلابته من شدة تركز ذراته، ومر السحاب : انسحابه ومضيه ، والمرور : المُضي والاجتياز بالشيء .[/h] ومنه فلان ذو مِرَّة: كأنه محكم الفتل فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة ذو قوة وشدة في خلقته .
وأحسن عبارة في بيان معنى { ذومرة } للبقاعي حيث قال : { ذو مرة } أي جزمٍ في قوةٍ وقدرةٍ عظيمةٍ على الذهاب فيما أمر به ، والطاقة لحمله بغاية النشاط والحدة ، كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المِراسِ ماضٍ في مراوته على طريقة واحدة على غاية من الشدة لا توصف ، لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به ، فهو على غاية الخلوص، فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة لا يسأم في شيء يزاوله .
[h=1]وللعلماء أقوال في معنى { ذو مرة} :
القول الأول : ذو قوة شديدة وشدة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" .
[/h][h=1] ، قاله : مجاهد وسفيان وابن زيد والحسن والربيع والواحدي والطوسي و البغوي وابن عطية وقتادة و الطبرسي وابن الجوزي وابن جزي والخازن والزجاج والسمعاني والطبراني وأبو عبيد والنيسابوري .[/h]قال النيسابوري: والمرة : القوة ، والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله تعالى ؛{ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ،وقال السمعاني : قَالَ الْحسن: ذُو مرّة أَي: ذُو منظر حسن. وَقَالَ غَيره ـ وَهُوَ الأولى ـ ذُو قُوَّة. يُقَال: حَبل مري أَي: مُحكم الفتل ، وقال الطبراني: قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } ؛ أي : جبريل عليه السلام ذو قوَّةٍ وشدَّةٍ في خَلقهِ.
[h=2]القول الثاني: كالقول الأول لكن زادوا تفصيلا .[/h]الراغب والبقاعي والخطيب الشربيني وعبد الكريم الخطيب وقد تقدمت عبارة البقاعي ونقلها السراج المنير .
قال الراغب : فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة ذو قوة وشدة في خلقته .
قال عبد الكريم الخطيب: ومن صفات جبريل كذلك أنه «ذو مرّة» أي جلد وصبر، وقدرة على حمل هذه الأمانة التي كلّف بحملها.. .
[h=2]القول الثالث : ذو مرة : أي صحة في الجسم وسلامة من الآفات والعاهات ، و إذا كان كذلك كان قويا ، ومنه حديث ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) .[/h]اختاره الطبري ورده غير واحد .
[h=2]القول الرابع: متانة العقل والرأي واستحكامه وكمال في الدين ، من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي :ذو مرة ، وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله، فعلى هذا تكون {شديد القوى} : لبيان قوة بدنه وقوّة فعله ، و {ذو مرة} :لبيان متانة عقله وحصافته وقوّة نظره ومنه قول الشاعر :
قد كنت قبلَ لِقائكُمُ ذا مِرّةٍ *** عندي لِكلّ مخاصِمٍ مِيزانُهُ
[/h]اختاره : الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود والشوكاني و المراغي و ابن عاشور و القاسمي اطفيش و دروزة حسنين مخلوف والمنتخب و الوسيط (البحوث).
قالوا والتفسير للمرّة بهذا أولى ؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله : { شَدِيدُ القوى } .
قال قطرب : تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل إنه لذو مرّة .
لكن قال الآلوسي :{ ذُو مِرَّةٍ } ذو حصافة و استحكام في العقل كما قال بعضهم ، لكن قيل : إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوى العقل والرأي { ذُو مِرَّةٍ } وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البدعية .
وأجاب عن هذا اطفيش في التيسير حيث قال: ولا بأس بأن توصف الملائكة بالعقول وهو الصحيح ، والمانع يفسر ذلك بالكناية عن ظهور الآثار البديعة .
وأجاب القونوي عن هذا أيضا بقوله : قوله (ذو مرة) لبيان استحكام القوة العقلية وزيادتها فإن للملائكة قوة عقلية ، وأنهم متفاوتون فيها ، وجبريل عليه السلام كامل في تلك القوة العقلية ، ولهذا عين لتبليغ الوحي فهذا الكلام إشارة إليه فلا جرم أن وصف الملائكة به على ظاهره .
[h=2]القول الخامس: ذو مرة أي : ذو منظر حسن و هيئة حسنة .[/h]نقل عن الحسن وابن عباس .
[h=2]القول السادس: ذو خَلْق طويل حسن .[/h][h=2]نقل عن قتادة .[/h][h=2]القول السابع : الجمع بين قولين: [/h]قال سيد طنطاوي والصابوني: ذو مرة : قوة الذات وحصافة العقل ورصانته .
قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين ؛ فإنه ، عليه السلام ، ذو منظر حسن ، وقوة شديدة
وقال السعدي :{ ذُو مِرَّةٍ } أي : قوة ، وخلق حسن ، وجمال ظاهر وباطن.
[h=2]القول الثامن : ذُو مُرورٍ في الجوِّ مُنحَدرٍ أو صاعدٍ على السُّرعة.[/h][h=1]الراجح : [/h]هو القول الأول والثاني وهو قول الجمهور ، وأحسنه الذين زادوا توضيحا ومعنى وهم أصحاب القول الثاني ، وأحسن عبارة كانت للبقاعي والراغب التي قدمناها على ذكر الأقوال وعلى قولهما يتضح أنه لا تكرار مع { شديد القوى }فلا نحتاج أن نسأل ونجيب لماذا كرر ذي قوة مع أنه بمعنى شديد القوى لأن السؤال على قولهما لا يرد أصلا .
وأما إن عبرنا بما عبر به أصحاب القول الأول فقلنا : ذو قوة شديدة وشدة ، فظاهره أنه مكرر مع { شديد القوى} وقد دفع الإشكال الإمام الرازي وابن عرفة
قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل على قولنا المراد ذو قوة قد تقدم بيان كونه ذا قوى في قوله { شديد القوى } فكيف نقول قواه شديدة وله قوة ؟ نقول ـ ــ والوجه الآخر في الجواب هو أن إفراد قوة بالذكر ربما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصه الله بها ، يقال : فلان كثير المال ، وله مال لا يعرفه أحد أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن ، على أنا نقول المراد ذو شدة وتقديره : علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضا شدة ، فإن الإنسان ربما تكون قواه شديدة وفي جسمه صغر وحقارة ورخاوة ، وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله { شديد القوى } قوته في العلم . ثم قال تعالى : { ذو مرة } أي شدة في جسمه فقدم العلمية على الجسمية كما قال تعالى : { وزاده بسطة في العلم والجسم }وقال ابن عرفة : فأفاد شديد القوى المبالغة في ذوات القوة، وأفاد ذو مرة المبالغة في عددها وكثرة آحادها.
يقول علي هاني : من تأمل كلام البقاعي وما قدمناه في معنى ذو مرة قبل ذكر الأقوال يتضح له عدم التكرار ، ويستغني عما قاله الإمام الرازي وابن عرفة رحمهما الله .

[h=1]سر تنكير مرة : تنكير مرة للتعظيم.[/h][h=1]فاستوى : [/h][h=1]في معنى استوى والضمير في استوى هنا ستة أقوال : [/h][h=2]القول الأول : اعتدال الشيء في ذاته واستقراره أي اعتدل جبريل واستقر في الجو إذ رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحراء.[/h]قال الراغب: واسْتَوَى يقال على وجهين: أحدهما: يسند إليه فاعلان فصاعدا، نحو: اسْتَوَى زيد وعمرو في كذا، أي: تَسَاوَيَا، وقال :لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّه الثاني: أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته، نحو: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وقال :فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ [المؤمنون/ 28] ، لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف/ 13] ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ، واستوى فلان على عمالته، واستوى أمر فلان.
قال العكبري: قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْتَوَى) : أَيْ فَاسْتَقَرَّ.
قال ابن جزي: فَاسْتَوى أي استوى جبريل في الجو إذ رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو بغار حراء، وقيل: معنى استوى: ظهر في صورته على ستمائة جناح.
قال الآلوسي : فالاستواء ههنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب ، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج ، ومنه استوى الثمر إذا نضج.
اختاره : الراغب والعكبري وابن جزي و الآلوسي والقطان والجزائري .
[h=2]القول الثاني: فَاسْتَوى فاستقام جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها[/h][h=2]اختاره البيضاوي وأبو السعود وجماعة ، ورده الآلوسي وابن جزي وجماعة .[/h]قال البيضاوي: فَاسْتَوى : فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها.
قال الشهاب: فسر استوى باستقام، وأشار إلى أنّ الاستقامة ليست ضد الاعوجاج بل كونه على خلقته الأصلية ؛ لأنها أتم صورة فهو من استوى الثمر إذا نضج ، وكون استوى يرد بهذا المعنى لا خفاء فيه ".
[h=2]القول الثالث : الجمع بين القولين : [/h]اعتدل جبريل في ذاته واستقام بغاية ما يكون من قوته ، على صورته الحقيقية .
اختاره البقاعي ،و حسن جبل وحسنين مخلوف.
قال البقاعي: { فاستوى } : فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها.
قال حسن جبل : وفي قوله تعالي: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) "6/النجم" أي استقام واعتدل على صورته الحقيقية.
[h=2]القول الرابع : [/h](فَاسْتَوى) أَيِ ارْتَفَعَ وَعَلَا جبريل إِلَى مَكَانٍ فِي السَّمَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قاله سعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ و الشوكاني .
[h=2]القول الخامس: بمعنى استويا ، والضمير في (هو) للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو معطوف على الضمير في (استوى) ، وذلك لما أسري به ، أي : فاستوى جبريل و النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون (بالأفق) متعلقا باستوى أو حالا من هو [/h][h=2] قال الطبري في تقريره: وقوله : فاسْتَوَى وَهُوَ بالأُفُقِ الأعْلَى يقول : فاستوى هذا الشديد القويّ وصاحبكم محمد بالأفق الأعلى ، وذلك لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم استوى هو وجبريل عليهما السلام بمطلع الشمس الأعلى ، وهو الأفق الأعلى ، وعطف بقوله : «وهو » على ما في قوله : «فاستوى » من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم .[/h] اختاره : الفراء والخازن والطبري وجماعة وهو قول متكلف رده العلماء منهم القرطبي والآلوسي وابن كثير قالوا :
لأن فيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل وهو مذهب الكوفيين ، وقال البصريون يقال : استوى هو وفلان ، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر ، وأيضا لأن لمعنى ليس عليه عند الأكثرين ، ؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء .
[h=2]القول السادس: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند استواء نفسه ، صار { بالأفق الأعلى } الروحانيّ في كمال رفعة استعداده ، وعلو مرتبته استوى بمكان وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر .[/h][h=2]الرازي والقاشاني والمهايمي والمظهري .[/h][h=2]قال المهايمي { فاستوى وهو } "أي صاحبكم عند استواء نفسه ، صار { بالأفق الأعلى } الروحانيّ " . [/h][h=2]قال المظهري :" { وهو } يعني محمد صلى الله عليه وسلم { بالأفق الأعلى } يعني كان محمد صلى الله عليه وسلم إذ يوحى إليه في كمال رفعة استعداده وعلو مرتبته ، والأفق الناحية على منتهى دائرة الإمكان حيث يكون وراء ذلك دائرة الوجوب التي لا يتصور هناك للسالك سير قدمي" .قال الفخر الرازي:والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم . معناه : استوى بمكان ، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان . [/h]الراجح : هو القول الأول ، وأما كونه على صورته الحقيقية فهذا ظاهر من السياق فيجتمع القول الأول مع الثالث فيكون المعنى : اعتدل جبريل في ذاته واستقام بغاية ما يكون من قوته ، على صورته الحقيقية .




[h=1]الفاء في فاستوى:[/h][h=2]القول الأول : قالوا في الآية حذف وطي ؛ لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : فهل رآه على صورته الحقيقية : فقيل؟ نعم مرّة لما أراده منه فاستوى أي رآه فاستوى الخ .[/h]اختاره الشهاب و الآلوسي واطفيش .
[h=2]القول الثاني :[/h]فاء تفصيلية تفسيرية عطفٌ على { علَّمه} بطريقِ التفسير والتفصيل ، لـ{علمه }فإنَّ قوله تعالى { فاستوى ثم دنا فتدلى } إلى قولِه تعالى { ما أَوْحَى} بيانٌ لكيفيةِ التعليمِ فهو من عطف المفصل على المجمل .
اختاره أبو السعود وحقي واطفيش وابن عاشور والقونوي وهو الراجح عندي .
واعترضه الآلوسي بقوله :" وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر" يقول علي هاني : هذا الاعتراض لا يتجه لأن القائل بالفاء التفصيلية لا يقول بالانحصار ، وإنما ذكر أعظم حالاته وأدلها على صدقه وأنه لم يتوهم صلى الله عليه وسلم .
وتوضيح عطف المفصل على المجمل (الذي يعطف بالفاء التفسيرية): أن الخبر الثاني هو عين الأول غير أن الأول خبر مجمل والثاني مفصل ، فكأن المتكلم بعد أن ألقى الخبر مجملا استأنف إخبارا آخر يفصل فيه ما أجمله ، والتفصيل بعد الإجمال نوع من البيان الرفيع يوقظ قوى الإدراك عند المتلقي ويبعث فضوله ويحرك شوقه ، وفيه أمر مهم هو أنه أوثرت الفاء دون ترك العاطف كما هو شأن التفسير : لأن مراد المتكلم بيان التفاوت في المنزلة بين المتعاطفين ، وذلك في المواطن التي تتطلب الترقي في الإيضاح والبيان : كالاستعطاف والتهديد والتشديد على المخاطب التي تتدرج الفاء فيها من شديد إلى أشد أو عظيم إلى أعظم منه ، ففي نوح { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } فما بعد الفاء تفصيل للنداء وتعقيبه بالفاء دلالة على أنه أبلغ في الاستعطاف لما تضمنه من بسط الشكوى واستنجاز الله وعده بإنجاء أهله ، فكأنه سبحانه يقول : دعا نوح ربه فبالغ في دعائه ، فالحاصل أن الفاء فيها تفصيل للمجمل وتعقيبه ؛ لأن تعقيب الخبر المجمل بخبر مفصل تدرج وارتقاء وإبراز لفضل الزيادة في المعطوف ، وفيه ترتيب رتبي ، فهنا قوله تعالى { فاستوى وهو بالأفق ـ ـ أو أدنى } تفصيل للتعليم على سبيل التعظيم له والتفخيم ، فالفاء دلت على عظم هذا الاستواء والتدلي والكون قاب قوسين وأنها درجة عالية جدا من التعليم[14] .
القول الثالث: الفاء للعطف تفيد الترتيب بلا سببية ، للعطف على علَّمه ،أي علم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل على غير صورته وبعد ذلك ارتفع وعاد إلى مكانه في السماء على صورته الحقيقية بعد أن علم محمداً صلى الله عليه وسلم ، على معنى علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية ، ويكون معنى استوى على هذا ارتفع
اختاره : سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، و الشوكاني ، والقرطبي ، والقاسمي ، والشيخ زاده .
[h=2]واعترضه الآلوسي قائلا : وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ولا يحسن به النظام .[/h][h=2]رد عليه اطفيش - التيسير : والكلام في ذلك كله منتظم حسن ،يقول علي هاني اعتراض الآلوسي في مكانه . [/h][h=2]القول الرابع : الفاء تفيد السببية .[/h]لما دلت الصفتان السابقتان { شديد القوى ذو مرة } على أنه فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة، ومن جملة ذلك ما أعطى من القوة والقدرة على التشكل، سبب عن شدة قوته وكونه ذا مرة قوله: {فاستوى } أي فاستقام واعتدل بغاية ما يكون فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق.
اختاره : البقاعي والسراج المنير ، و باهر البرهان لمؤلفه بيان الحق ، وفهم القاسمي من عبارة الزمخشري أنه يجوز أنه أراد هذا المعنى للفاء بقول الزمخشري: "فاستقام على صورة نفسه الحقيقة، دون الصورة التي كان يتمثل بها، كلما هبط بالوحي وكان ينزل في صورة دحية" قال القاسمي: فالفاء- كما قال شراحه- سببية، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو بمعنى ـ ـ ـ } .
الراجح : الراجح عندي هو القول الثاني وهو كونها تفصيلية لأن التفصيل يكثر في مواطن التفخيم والتعظيم كقوله تعالى { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا } ونحو الفاء في فأرادوا من قوله تعالى { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} لما فيه من الدقائق البلاغية التي ذكرتها ، وأما القول القائل بأن هناك حذفا فهو داخل في كونها تفصيلية لأن التفصيل يأتي في المواقف التي تحتاج إلى تعظيم وتحتاج إلى كشف ، وأما القول الثالث فقد تبين ما فيه من اعتراض الآلوسي .
[h=1]الأحاديث الواردة في وصف هذه الرؤية ووصف جبريل عليه الصلاة والسلام :[/h]· روى البخاري ومسلم عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} [التَّكْوِيرِ:23] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى} فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ". لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، بِهِ .
· وَعَنْ أبي إِسْحَاقٍ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)) قَالَ: «أَخْبَرَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ». أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب بدء الخلق، حديث (3232)، ومسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، حديث (174).
· وأخرج ابن جرير مرفوعا "قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت جبريل له ست مائة جناح».
· وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق.
· وقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدّ الْأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ (1) . انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ (2) . قال حبنكة إسناده حسن .
· قال ابن كثير : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَلَهُ ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل من الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به أعلم. إسناده حسن أيضا.
· وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى قَالَ: رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[1577]- جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
· وَلَهُ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى : قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ
[h=1]وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)[/h][h=1]الربط [/h][h=1]جملة " وهو بالأفق الأعلى " مبتدأ وخبر في موضع الحال من الفاعل في فاستوى، وتقديره ذو مرة فاستوى في حال كونه بالأفق الأعلى، والضميرُ (هو)لِجبريلَ.[/h][h=2]وقيل : " هو " معطوفٌ على الضميرِ المستترِ في " استوى " وضمير" هو " لسيدنا محمد عليه السلام أي فاستوى جبريل وهو: يعني النبي ؛ صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بالأفق حالا من هو ، أو متعلق بـ(استوى) ، وهذا الوجهُ ـ كما تقدم ـ إنما يتمشَّى على قول الكوفيين ؛ لأن فيه العطفَ على الضمير المرفوع المتصل مِنْ غيرِ تأكيدٍ ولا فاصلٍ ولا يستقيم معنى كما تقدم .[/h][h=1]بِالأُفُقِ [/h]أفق :الهمزة والفاء والقاف أصل واحد، يدلّ على تباعُد ما بين أطراف الشيء واتساعِه، وعلى بلوغ النهاية بحيث تفوق وتعلو ومنه الآفِق الذي بلغ الغاية في العلم والكرم وغيره من الخير ، وأفَقَ كضرب غلب كأنما علا. قال التحقيق: "المعنى الحقيقي لهذه المادة هو الناحية الواسعة من أطراف الأرض أو السماء مادية أو معنوية { سنريهم آياتنا في الآفاق }"
الآفاق : يقال آفاق الأرض وآفاق السماء ، أما آفاق السماء :فجمع (أفق) اسم للجو والجانب الذي يبدو للناظر ملتقيا بين طَرَف منتهى النظر من الأرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء ، أدناه ملتق بالأرض وهو جزء من قبتها العظمى وهو بالنسبة للناظر يرى له أسفل فأوسط فأعلى من قبة السماء ونواحيها ، يقال هو كالنجم في الافق .
قال ابن عاشور: الأفُق: الفضاء الذي يبدو للعين من الكُرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شَفق الغروب وهو يلوح كأنه قبة زرقاء".
وأما آفاق الأرض : فهي نواحي الأرض وجهاتها وأطرافها الواسعة من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها وجهاتها المتعددة، وتشمل الآفاق الأبعاد العليا المحيطة بالأرض ، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب. قال امرؤ القيس في المعنى الثاني:
وَقَدْ طوفتُ في الآفَاقِ حَتَّى ... رضِيتُ مِنْ الغنيمةِ بَالإيَابِ
قال لسان العرب : ( أفق ) الأُفْق والأُفُق مثل عُسْر وعسُر ما ظهر من نواحي الفَلَك وأَطراف الأَرض وكذلك آفاق السماء نواحيها".
الباء في {بالأفق}: والباء ظرفية بمعنى في ، قال محمد الأمين الخضري "في أسرار حروف الجر": سر مجيء الباء بمعنى الظرفية باعتبار ملاصقة الحدث للزمان والمكان ، فحرف الظرفية (في) يتلاءم مع كل ما يراد به الدلالة على التمكن والاستقرار والضرب في أعماق الشيء والتغلغل في أطوائه ، أما حرف الإلصاق الباء إذا استعمل للظرفية يستعمل في كل غرض يراد منه مطلق التلبس والمصاحبة لأي جزء من أجزاء الملتصق به دون الدلالة على الدخول في أعماقه والاختفاء فيه ، ـ ـ ويدل على ملابسة هذه الأحداث للزمن كله واستغراق الزمن كله دون القصد إلى أعماقه أو الدلالة على التمكن فيه وكذلك حين تدخل الباء على المكان فإنها تدل على وقوع الحدث به دون قصد إلى احتواء المكان له وتمكنه فيه بل مجرد الملابسة له والالتصاق بأي جزء من أجزائه .
يقول علي هاني: فيؤخذ من ذلك ومن الروايات الواردة أن الأفق الأعلى لم يكن ظرفا لجبريل عليه السلام بل سد وملأ الأفق ؛لأنه أعظم من ذلك بكثير والله أعلم .
[h=1] الأَعْلَى[/h]في المراد بالأفق الأعلى ثلاثة أقوال :
[h=2]القول الأول : الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر(القبة السماوية )(وهو ما يسميه القدماء سمت الرأس أو قمة الرأس وما حوله الذي إن وصلت الشمس له ينعدم الظل) فاستقام وظهر وملأ الأفق .[/h]اختاره : الربيع ، و الشهاب ، والقونوي على البيضاوي، والآلوسي، والطباطبائي ، وابن القيم ، وسيد طنطاوي ، وحبنكة ، وابن عطية ، وابن عرفة ، والقطان ، والمراغي، الوسيط(مجمع البحوث) والموسوعة القرآنية ، و الزحيلي ، والمقدم ، والسعدي ، شحاته ، و تعيلب و المنتخب ، وهذا الأرجح عندي لما سيأتي .
قال الآلوسي: {وَهُوَ بالأفق الأعلى }: أي الجهة العليا من السماء وأصله الناحية، وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي[15] ، وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله ، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن : هو أفق المشرق.
قال حبنكة : إذا مد الإنسان نظره إلى جهة الأفق فقد يرى ما ظهر فيه قد ظهر من أعلاه أو أوساطه أو من أدناه اتصالا بالأرض ومن كان واقفا في واد تحجبه عن الأفق الأدنى والأوساط جبال فإنما يرى من الأفق أعلاه ، وفي طريق أجياد من مكة حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في الأفق لا يرى السالك فيه من الأفق إلا الجانب الأعلى منه لأن المقادير الوسطى والدنيا منه محجوبة بجبال من مكة .
قال القونوي: قال البيضاوي(أفق السماء) قوله أفق السماء احتراز عن أفق الأرض والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر.
يقول علي هاني: ويؤيد هذا الرأي ما في الصحيحين من رواية مسروق عن عائشة «أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي رأيته عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» فقوله منهبطا من السماء مع قول الله تعالى { دنا فتدلى} يصوره تماما هذا الرأي الأول الذي يقول الأفق الأعلى : الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر بخلاف الأقوال الأخرى التي تقول أقبل من مشرق الشمس فسد الأفق ونحو هذا القول ، وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جبريل: (رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض)، يعني: جبريل سد ما بين السماء والأرض لعظم خلقه.


وقد رد ابن عطية والطباطبائي على الجمهور القائلين بالقول الثاني :
قال ابن عطية : وأما { الأعلى } فهو عندي لِقِمَّة الرأسِ وما جرى معه ، وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه .
قال الطباطبائي : "قوله تعالى : { و هو بالأفق الأعلى } الأفق الناحية قيل : المراد بالأفق الأعلى ناحية الشرق من السماء لأن أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء وهو كما ترى ، والظاهر أن المراد به أفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه أفقا شرقيا ".
[h=2]القول الثاني : [/h][h=2]مطلع الشمس بأفق المشرق الذي يأتي منه النهار أي؛ مكان طلوع الفجر ظهر جبريل من المشرق من مطلع الشمس فسدّ الأفق الى المغرب .[/h]قاله : مجاهد و قتادة و ابن زيد وسفيان الثوري ومقاتل والكلبي وتبعهم جمهور المفسرين: الزجاج والصنعاني والسمعاني و مكي والقرطبي و البغوي و الواحدي والخازن وابن كثير والجلال وأبو السعود وحقي والنسفي الطبرسي وابن عجيبة والشوكاني والهواري و السمرقندي والشربيني و ابن أبي زمنين والصابوني و أبوبكر الجزائري وظاهر الزمخشري
َقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَأْتِي مِنْهُ الشَّمْسُ وَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَطْلُعُ مِنْهُ الشَّمْسُ .
[h=2]وقد وضح بعض العلماء هذا القول بقوله : فالمراد بالأفق الأعلى : ناحية الشرق من السماء لأن أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء، فالأفق الأعلى مطلع الشمس كما أن الأفق الأدنى مغربها.[/h][h=2]القول الثالث: كالقول الثاني لكن قيد بقوله بأفق المشرق الأعلى أي مطلع الشمس الأعلى.[/h]قال الواحدي:وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق .
الحسن البصري ، وزيد بن علي ،والطبري .
قال الحسن: بأفق المشرق الأعلى بينهما . وقال زيد بن علي : هو مطلعُ الشَّمسِ الأَعلى .قال الطبري: بمطلع الشمس الأعلى، وهو الأفق الأعلى.
قال زاد عند قول البيضاوي في سورة التكوير في قوله تعالى { ولقد رآه بالأفق المبين } (بمطلع الشمس الأعلى): المراد بالأفق ههنا حيث تطلع الشمس استدلالا بوصفه بالمبين، فإن نفس الأفق لا مدخل له في إبانة الأشياء وإظهارها وإنما يكون له ذلك من حيث كونه مطلعا لكوكب نَيِّر يبين الأشياء بضيائه ، وذلك الكوكب هو الشمس ، وأسند الإبانة إلى مطلعها مجازا باعتبار تسببه لها في الجملة فإن الإبانة في الحقيقة لضياء الطالع منه ثم خص من بين المطالع ما هو أعلى المطالع وأرفعها وهو المطلع الذي إذا طلعت الشمس منه تكون في غاية الارتفاع ويكون النهار في غاية الطول وإنما فعل ذلك حملا للمبين على كمال الإبانة فإنه كلما كان الكوكب الطالع أرفع وأعلى وكان النهار أطول كانت الإبانة والإظهار أتم وأكمل" .وسيأتي مزيد تفصيل في الآية لهذا في آية { بالأفق المبين} .
[h=2]القول الرابع :[/h] الأفق الأعلى احتراز عن أفق الأرض وَالْمَعْنَى رَآهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ في ناحية من جو السماء .
قال ابن عاشور : والأفق : اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طَرَف منتهى النظر من الأرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء ، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب ووصفه ب { الأعلى } في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء . وذكر هذا ليرتب عليه قوله : { ثم دنا فتدلى }، قال ابن بعض المعاصرين : { بالأُفق الأَعلى } أي : الأرفع ، وهو أفق السماء، يقول علي هاني : وهذا القول أقرب للقول الأول.
ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ــ ــ ـ ــ ـ ـ
[h=1]{ ولقد رآه بالأفق المبين } في التكوير : [/h]الأفق المبين: إما بمعنى الأفق الذي يبين الحقائق ولا يشتبه فيه أمر على شاهده[16] ، أو الأفق الواضح جدا الذي تبين فيه الأشياء والحقائق ولا يشتبه فيه أمر على شاهده فهو واضح مشرق لا غبش فيه في غاية البيان[17].
[h=2]أقوال العلماء في معنى قوله تعالى{ ولقد رآه بالأفق المبين } في التكوير:[/h][h=2]القول الأول:[/h]المبين هو الأعلى المقابل للناظر أَعْلَى ما يلوحُ لِلْبَصَرِفي قبة السماء الأعلى من سائر الآفاق في الجهة العليا لأن الأفق كلما علا يكون أبين ، وهو الذي ذكره سبحانه في الآية من سورة النجم { وهو بالأفق الأعلى} ، و المبين الواضح الذي جدا الذي تبين فيه الأشياء والحقائق ولا يشتبه فيه أمر على شاهده فهو في غاية البيان ،.
اختاره : ابن القيم ،والشهاب على البيضاوي، والقاسمي، والميزان ،والسعدي ،و الطباطبائي، وكلمات القرآن ، والطوسي ، إبراهيم القطان ، جواد مغنية .
قال الشهاب: قوله: (بمطلع الشمس الأعلى) أراد به وسط السماء فإنه أعلى مكان تطلع منه في كل يوم.
قال السعدي : {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} أي: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق البين، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
قال ابن القيم: الثامن: أنه أخبر هناك: انه رآه بالأفق المبين، وهاهنا: أنه رآه بالأفق الأعلى. وهو واحد وصف بصفتين، فهو مبين وأعلى فإن الشيء كلما علا بان وظهر.
قال القاسمي : أي ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى المظهر لما يرى فيه .
قال الطباطبائي:و الأفق المبين: الناحية الظاهرة ، والظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله : { وهو بالأفق الأعلى } : و المعنى وأقسم لقد رآى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جبريل حال كون جبريل كائنا في الأفق المبين وهو الأفق الأعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة و قيل : المعنى لقد رآى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جبريل على صورته الأصلية حيث تطلع الشمس وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق و فيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه وخاصة في تعلق الرؤية بصورته الأصلية ورؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته ، وكأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة وهو بين السماء والأرض جالس على كرسي ، وهو محمول على التمثل . قال بعض المعاصرين: { بالأفق المبين } أي البين الظاهر العالي ، قال الزحيلي : فظهر له في الأفق الأعلى أي في الجهة العليا من السماء قال ابن القيم : وصف بأنه (الأعلى) و(المبين) وهو وصف واحد لصفتين فهو مبين وأعلى فإن الأفق الاعلى كما سورة النجم يدل عليه أنه تدلى فكان قاب قوسين
[h=2]القول الثاني: من المشرق حَيثُ تَطلَعُ الشّمسُ ولقد رآه أي محمد جبريلَ صلى الله عليه وسلم في صورته بالناحية التي تبين الأشياء فهو في غاية البيان ، وذلك من ناحية مطلع الشمس من قِبَل المشرق[/h]قتادة وسفيان الثوري و زيد بن علي ومقاتل و الطبري والقرطبي و الخازن والثعلبي والبيضاوي والنسفي و الهواري و السمعاني و السمرقندي وابن أبي زمنين وابن عطية والطبرسي و الميرغني في الناحية التي تتبين فيها الأشياء
قال النسفي : { بالأفق المبين } بمطلع الشمس
قال أبو حيان : ووصف الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، قاله قتادة وسفيان .
القول الثالث: البيِّن وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق بمطلع الشمس الأعلى الْمُرْتَفع الذي هو أعلى المطالع وأرفعها وهو المطلع الذي إذا طلعت الشمس منه تكون في غاية الارتفاع ويكون النهار في أطول يوم فإنه كلما كان الكوكب الطالع أرفع وأعلى وكان النهار أطول كانت الإبانة والإظهار أتم وأكمل ، والمراد مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة.
الزمخشري وأبو السعود والبغوي والواحدي و الصابوني وحسنين مخلوف والأعقم و ابن عجيبة واطفيش و فريد وجدي .
قال البغوي: وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق .قال الزمخشري : { بالأفق المبين } بمطلع الشمس الأعلى .قال اطفيش - التيسير : هو الأُفق الأَعلى من ناحية المشرق نحو أجياد كما رواه مجاهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجياد مشرق مكة وذلك مطلع رأس السرطان على مطالع أهل مكة.قال البيضاوي: بمطلع الشمس الأعلى[18]. قال زاده: على قول البيضاوي : "المراد بالأفق ههنا حيث تطلع الشمس استدلالا بوصفه بالمبين فإن نفس الأفق لا مدخل له في إبانة الأشياء وإظهارها وإنما يكون له ذلك من حيث كونه مطلعا لكوكب نير يبين الأشياء بضيائه وذلك الكوكب هو الشمس وأسند الإبانة إلى مطلعها مجازا باعتبار تسببه لها في الجملة فإن الإبانة في الحقيقة لضياء الطالع منه ثم خص من بين المطالع ما هو أعلى المطالع وأرفعها وهو المطلع الذي إذا طلعت الشمس منه تكون في غاية الارتفاع ويكون النهار في غاية الطول وإنما فعل ذلك حملا للمبين على كمال الإبانة فإنه كلما كان الكوكب الطالع أرفع وأعلى وكان النهار أطول كانت الإبانة والإظهار أتم وأكمل" .
زاد حقي البروسوي على ما قال الشيخ زاده: وذلك عندما تكون الشمس عند رأس السرطان قبيل تحولها الى برج الأسد وتوجه النهار الى الانتقاص وانما فعل ذلك حملا للمبين على الكمال فانه كلما كان الكوكب ارفع وأعلى وكلما كان النهار أطول كان البيان والإظهار.
يقول علماء الفلك: نقطة المنقلب الصيفي وهو يوم حلول الشمس برأس السرطان لاثنتين وعشرين ليلة من حزيران (22/6) لأن الشمس إذا بلغته تناهى طول النهار ، فالشمس تطلع من أخفض مطالعها في أقصر يوم في السنة و لم تزل بعد ذلك ترتفع في المطالع ، فتطلع كل يوم من مطلع فوق مطلعها بالأمس طالبة مشرق الصيف ، فلا تزال على ذلك حتى تصل إلى أعلى منصب (مطلع) في السماء مرة في السنة في اثنين وعشرين من حزيران ونحن اذا نظرنا الى الكره الأرضية نجد أنه في كل جزء من الثانية مشرق تشرق الشمس فيه على مدينه وتغيب عن مدينه أخرى وبالتالي هناك ملايين المشارق و زاوية شروق الشمس وغروبها تختلف من يوم لآخر خلال السنة ، ففي مدينة من المدن مثلاً تشرق الشمس يوم 20 مارس من الشرق تماماً عند زاوية 90 درجة، ثم تتحرك كل يوم شيئاً يسيراً حتى تصل إلى منتهى مطلعها الشمالي يوم 21 حزيران (السادس) عند الزاوية 64 درجة، يعني بانحراف عن الشرق بمقدار 26 درجة إلى الشمال، ثم تتحرك عائدة إلى الشرق مرة أخرى حتى تصل إلى الشرق تماماً يوم 23 أيلول التاسع ، ثم تكمل تحركها إلى الجنوب حتى تصل منتهى بعدها إلى الجنوب الشرقي في 21 كانون الأول (الشهر الثاني عشر)، عند زاوية 116 درجة، بانحراف عن الشرق بمقدار 26 درجة إلى الجنوب. من هذا نعرف أن مشرق الشمس يختلف كل يوم عن سابقه، ولذلك فمشارق الشمس بعدد أيام السنة.
clip_image002.jpg

الشكل بين تغير ميل الشمس خلال السنة .
[h=1]فائدة الوصف بالأفق الأعلى وبالأفق المبين : [/h]المقصود من هذا الوصف نعت الأفق الذي تراءى منه جبريل للنبيء عليهما الصلاة والسلام بأنه أفق واضح بيّن لا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال فما رآه ليس وهما ولا خيالا ولا أخذه عن جن ولا شيطان بل حق اليقين ، لقد أخذ من رسولنا الذي أرسل وهو جبريل ما أرسل به ورآه حق الرؤية في ظروف ليس فيها أي لبس ولا غبش و ما التبس عليه فيه الأمر وهذا رد على المشركين الذين كانوا إذا أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رأى جبريل كذبوه و استهزءوا به .
[h=1]هل كان ذلك قرب حراء في أول مرة لقي جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم[19]: [/h][h=2]القول الأول : قالوا كان ذلك عند حراء بطلب من النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن جبريل كان يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صورة الآدميين فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريه نفسه على صورته التي جعل عليها فأراه نفسه مرتين. مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغشيًّا عليه، فنزل جبريل في سورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، ومثل هذا قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، [/h]قاله : الربيع والزجاج والواحدي و الطبرسي والصابوني والشربيني والطبراني وهميان الزاد والجلال ذكروا ذلك في سورة النجم .
[h=2]القول الثاني: من حيال عرفات بطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ويقع عرفات شرقي مكة يبعد 22 كلم من مكة .[/h]روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام «إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال: لن تقوى على ذلك قال، بلى قال، فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح، قال لا يسعني ذلك، قال: فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات، قال: لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت. فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشه، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق، والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم خر مغشيا عليه، فتحول جبريل عن صورته، وضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته»
اختاره البغوي والخازن وحقي في سورة التكوير .
[h=2]القول الثالث: بعد حراء على كرسي بعد انقطاع الوحي وحراء شمال شرق مكة [/h][h=2]وهذه الرؤية بعد حراء بعد انقطاع الوحي حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض في صورته له ستمائة جناح قد سد ما بين المشرق والمغرب[20] .[/h]اختاره في سورة التكوير :أبو حيان و الآلوسي والصابوني وابن جزي والثعالبي واطفيش وصديق حسن خان وابن عاشور وكذا البقاعي في النجم يقول علي هاني في هذا نظر كما سيأتي وهو نفسه الذي عناه ابن كثير وروي في الترمذي أنه رآه بالبطحاء كما سيأتي
قال ابن عاشور : أنه عندما رآه على كرسي رآه بصورته التي رآه فيها في غار حراء
البقاعي : { بالأفق الأعلى } أي الناحية التي هي النهاية في العلو والفضل من السماوات مناسبة لحالة هذا الاستواء ، وذلك حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق .
قال اطفيش: رآه على كرسي إما بصورة صغيرة أو بالصورة التي خلقه الله عليها
قال في البحر: وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب.
رد هذا الطباطبائي في رده أن يكون معنى الأفق المبين الافق الشرقي قائلا : و قيل: المعنى لقد رآى (صلى الله عليه وآله وسلم) جبريل على صورته الأصلية حيث تطلع الشمس و هو الأفق الأعلى من ناحية المشرق.
و فيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه و خاصة في تعلق الرؤية بصورته الأصلية و رؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، و كأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة و هو بين السماء و الأرض جالس على كرسي، و هو محمول على التمثل.
قال في مجلة الجامعة الإسلامية : فقوله عليه الصلاة والسلام فرعبت منه يفيد أنه رآه على صورته الحقيقية وهي صورة لفرط عظمتها تبعث على الروع" ، يقول علي هاني :إن أثبتنا هذه الرواية فلا بد أن نثبت ثلاث مرات لأن المرة الأولى قال تعالى فيها { فاستوى ثم دنا فتدلى } وهذا لا ينطبق على أنه جالس على كرسي بدليل أن الرواية تبين أنه قد سد الأفق له ستمائة جناح وفي الأفق المبين وأنه تدلى إليه فكان قاب قوسين أو أدنى وأنه رآه حق الرؤية لأن الآيات سيقت في النجم والتكوير لتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم متثبت وأنه رأى الوحي بيقين وهذه الرواية تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد خاف وذهب إلى بيته فهي مناسبة لتفسير الآية، فتبين أننا إما أن نقول أنه رآه على الكرسي متمثلا بصورة غير صورته الحقيقية [21] أو نثبت مرة ثالثة قد رأى النبي فيها جبريل على صورته ونؤول الرواية التي ذكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها "أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض "فذكرت مرتين نؤولها بأن الرؤية في المرتين رؤية تأمل وتمكث وبالصورة التامة أما على الكرسي فلم تكن كذلك ثم وجدت ابن حجر أجاب عن رواية أجياد التي ستذكر في القول الخامس قال " وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَامِ صُورَتِهِ" .
يقول علي هاني: وهذا القول هو عين القول الذي عناه ابن كثير في قوله رآه في البطحاء وفي الابطح لكن ابن كثير ذكر هذه الحادثة بعينها دون أن يذكر أنه كان على كرسي وذكر أنه كان على الصورة التي خلق عليها :
قال ابن كثير في سورة النجم: " ، وَكَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْأُولَى فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ بَعْدَ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ صَدْرَ سُورَةِ "اقْرَأْ"، ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا هَمّ بِذَلِكَ نَادَاهُ جِبْرِيلُ مِنَ الْهَوَاءِ: "يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَا جِبْرِيلُ". فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ عَيْنُهُ، وَكُلَّمَا طَالَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ عَادَ لِمِثْلِهَا، حَتَّى تَبَدّى لَهُ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبْطَحِ[22] فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ عُظْم خَلْقِهِ الْأُفُقَ، فَاقْتَرَبَ مِنْهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَعَرَفَ عِنْدَ ذَلِكَ عَظَمَةَ المَلَك الَّذِي جَاءَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَجَلَالَةَ قَدْره، وَعُلُوَّ مَكَانَتِهِ عِنْدَ خَالِقِهِ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَيْهِ".
وقال ابن كثير في سورة التكوير : وقوله- تعالى- وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعنى: ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله- عز وجل- وعلى الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أى: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء- أى بالمكان المجاور لغار حراء. وهي المذكورة في قوله- تعالى-: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى".
[h=2]القول الرابع : قال رآه في البطحاء لكن بطلب من النبي صلى الله عليه وسلم [/h]قال السمعاني: وروى الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن النَّبِي قَالَ لجبريل " إِنِّي أُرِيد أَن أَرَاك فِي صُورَتك فَقَالَ: إِنَّك لَا تطِيق ذَلِك، فَقَالَ: أَنا أحب أَن تفعل، قَالَ: فَخرج رَسُول الله إِلَى الْبَطْحَاء، وَأرَاهُ جِبْرِيل نَفسه فِي صورته الَّتِي خلقه الله تَعَالَى عَلَيْهَا، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، وَرَأسه فِي السَّمَاء، فغشى على النَّبِي ثمَّ أَفَاق وَرَأسه فِي حجر جِبْرِيل، وَقد وضع إِحْدَى يَدَيْهِ على صَدره وَالْأُخْرَى بَين كَتفيهِ،
[h=2]القول الخامس : أنه رآه بأجياد وأجياد [23] موضع معروف شرقي مكة وهذا القول غير القول وأجياد في الشرق وحراء بالبطحاء في الشمال الشرقي من مكة شرّفها الله تعالى وإن كانا يتحدان أنهما في الشرق وفي البطحاء ومنطقة أجياد جزء منها يتجه للشمال الشرقي وجزء للجنوب الشرقي.[/h]وهذا القول هو ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق"
قال ابن حجر في الفتح : وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلُ شَأْنِهِ يَرَى فِي الْمَنَامِ وَكَانَ أَوَّلُ مَا رَأَى جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ صَرَخَ جِبْرِيلُ يَا مُحَمَّدُ فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَرَفَعَ بَصَرَهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ جِبْرِيل جِبْرِيلُ فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ فَنَادَاهُ فَهَرَبَ ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ فَذَكَرَ قصَّة اقرائه اقْرَأ باسم رَبك وَرَأَى حِينَئِذٍ جِبْرِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ يَاقُوتٍ يختطفان الْبَصَر وَهَذَا من رِوَايَة بن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود وبن لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ لَمْ يَرَ مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَمَرَّةً فِي أجياد وَهَذَا يُقَوي رِوَايَة بن لَهِيعَةَ وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَرَّةُ غَيْرَ الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَامِ صُورَتِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَامِ صُورَتِهِ
[h=2]القول السادس : ذكر أنه كان على صورته الحقيقية لكنه لم يقيد بأن ذلك كان عند حراء [/h]الزمخشري والبيضاوي والسمعاني واطفيش ودروزة وحسنين مخلوف و دروزة و الطباطبائي ورواية في أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني .
الزمخشري: { فاستوى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقة دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق قال الزيلعي في تخريج الكشاف لم أجده هكذا[24]..
قال السمعاني:وقوله : ( فاستوى ) أي : فاستوى جبريل في أفق السماء على صورته التي خلق فيها .
قال السيوطي في الدر المنثور: وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسد الأفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك قوله { وهو بالأفق الأعلى لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال : خلق جبريل .
القول الراجح عندي في كيفية رؤية جبريل عليه الصلاة والسلام:
من أحسن الروايات التي تبين هذه الكيفية رواية البخاري ومسلم عن مسروق قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} [التَّكْوِيرِ:23] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى} فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ". لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" والرواية الأخرى في البخاري": أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ» والحاصل : سورة النجم والتكوير أنه رأى جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق عليها فرآه مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ثم استقر في السماء في الأفق العلوي وهي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر(القبة السماوية )(وهو ما يسميه القدماء سمت الرأس أو قمة الرأس الذي إن وصلت الشمس له ينعدم الظل ) فاستقام وظهر وملأ الأفق مدة من الزمن بحيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم رؤية تثبت بما دلت عليه {ثم} في {ثم دنا} دنا فتدلى بأن أنزل جزءا منه وبقي مستقرا في السماء وهذا معنى التدلي كما سيأتي وأنه اقترب بمقدار قوسين أو أقرب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ وأن هذه الرؤية كانت بطلب النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه أو بإخبار جبريل عليه السلام فلم تكن رؤية يصحبها خوف أو هرب أو سرعة بل رآه حق الرؤية لأن الآيات سيقت في النجم والتكوير لتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم متثبت وأنه رأى الوحي بيقين وأما مكان ذلك فمحتمل أن يكون عند حراء أو في أجياد أو في مكان آخر في مكة ، وأما المرة الثانية فكانت في السماء عند سدرة المنتهى في السماء وأما الرواية التي فيها أنه كان جالسا على كرسي فلا تناسب الآية التي في النجم كما تقدم وهذا لا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام بصورته الحقيقية لكن لم تكن بالوضوح والتأمل والكيفية التي كانت في المرتين السابقتين فلذلك لم يعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه مع عائشة رضي الله عنها والله أعلم .
بقي اللقاء الأول بين النبي صلى الله عليه وسلم على أي صورة كان :
الأصح أنه كان على الصورة البشرية
قال في مجلة المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام : بقى سؤال عن الكيفية التي جاء بها الملك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حراء فقد يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه" قد يفهم البعض من هذه العبارة أنه جاء بحراء على صورته الملائكية، وإلا فكيف عرفه حين رآه جالسا؟. ويجاب على هذا: بأنه لو رآه جالسا على نفس الصورة التي رآه بها في الغار لما اعتراه الرعب حين رآه مرة أخرى فإن معاودة الرؤية على حالة واحدة تورث الألفة. وإنما عرف أنه الملك بملابسات الأحوال وقرائنها المحيطة به صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة".
وقال عبد الكريم الخطيب: ولعل الأقرب والأوفق، فى هذا المقام، أن يجىء جبريل إلى النبي فى أول لقاء له معه، فى صورة بشرية، أو أقرب إلى البشرية.. فهكذا يقتضى المنهج الحكيم، فى التربية والتعليم، وذلك بالتدرج من السهل إلى الصعب. وهكذا جاءت ملائكة السماء إلى إبراهيم كما يقول سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» فقد جاءوا إليه فى صورة بشرية كاملة.. كما جاءوا إلى لوط فى تلك الصورة البشرية نفسها، إذ يقول عنهم مخاطبا قومه..«إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ» (68: الحجر) ..وهكذا جاء رسول السماء إلى «مريم» كما يقول: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
[h=1]فائدة : [/h]قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى : كان علمه صلى الله عليه وسلم أكمل وأشرف وأقوى ، لأنه حصل من التعليم الرباني ، وما اشتغل قط بالتعليم الإنساني ، قال تعالى : { علمه شديد القوى } .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أرجو ممن وجد خطأ أن يرسله لهذا البريد الالكتروني
[email protected]





[1] قال أبو جعفر ابن الزبير في برهانه : لما قطع سبحانه تعليقهم بقوله : ساحر وشاعر ومجنون - إلى ما هو به مما علموا أنه لا يقوم على ساق ، ولكن شأن المنقطع المبهوت أن يستريح إلى ما أمكنه وإن لم يغن عنه ، أعقب الله سبحانه بقسمه على تنزيه نبيه وصفيه من خلقه عما تقوله وتوهمه الضعفاء فقال تعالى : { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } ثم أتبع سبحانه هذا القسم ببسط الحال في تقريبه عليه السلام وإدنائه وتلقيه لما يتلقاه من ربه وعظيم منزلته لديه ، وفي إبداء ذلك يحركهم عزّ وجلّ ويذكرهم ويوبخهم على سوء نكاياتهم بلطف واستدعاء كريم منعم فقال تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى } والتحمت الآي على هذه الأغراض إلى الإعلام بانفراده سبحانه بالإيجاد والقهر والإعزاز والانتقام ، لا يشاركه في شيء من ذلك غيره فقال : { وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى } . ولما بين ذلك فقال : { فبأي آلاء ربك تتمارى } أي في أيّ نعمة تشكون أم بأي آية تكذبون ؟ ثم قال : { هذا نذير من النذر الأولى } وإذا كان عليه الصلاة والسلام . . . فشأن مكذبيه شأن مكذبي غيره - انتهى .

[2] قال ابن عاشور : ويكون { إذا } اسم زمان مجرداً عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم ، وبذلك نتفادى من إشكال طَلب متعلق { إذَا } وهو إشكال أورده العلامة الجَنْزِي [SUP]33[/SUP] على الزمخشري ، قال الطيبي وفي « المقتبس » قال الجَنْزِي : « فاوضتُ جارَ الله في قوله تعالى : { والنجم إذا هوى } ما العامل في { إذا } ؟ فقال : العامل فيه ما تعلّق به الواو ، فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأن معنا أُقسم الآن ، وليس معناه أُقسم بعد [SUP]34[/SUP] هذا فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف تقديره : وهُوِيّ النجم إذا هَوَى ، فعرضته على زين المشائخ [SUP]35[/SUP] فلم يستحسن قوله الثاني . والوجه أن { إذا } قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ، ونحوه : آتيك إذا احمرّ البسر ، أي وقت احمراره فقد عُرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله : آتيك اهـ . كلام الطيبي

[3] قال ابن دريد : "والثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي ، يمتحن الناس به أبصارهم " والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما قال ابن عاشور : وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريّا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار

[4] وتستعمل كلمة النجوم على أقساط الدين وأمور أخر من هذا القبيل أيضاً .

[5] نحو ( أصحاب الجنة ) { أصحاب النار ) (أصحاب الحجر ) { أصحاب الحجر } .

[6] الفَصيلُ: ولَدُ النّاقَةِ إِذا فُصِلَ عَن أُمِّه، وَقد يُقال فِي الْبَقر أَيضاً ، والمراد هنا ولد الناقة مطلقا .

[7] قال الإمام الرازي : أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي ، والذي قاله بعضهم عند محاولة الفرق : أن الضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد ، قال تعالى : { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } وقال تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالا في الوضع ، تقول ضل بعيري ورحلي ، ولا تقول غوى ، فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا ، والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنه ضال ، والضال كالكافر ، والغاوي كالفاسق ، فكأنه تعالى قال : { ما ضل } أي ما كفر ، ولا أقل من ذلك فما فسق ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } أو نقول الضلال كالعدم ، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة


[8] وهل يقال على للحيوان أنه ينطق قولان : القول الأول : قالوا نعم يقال عنه أنه ينطق فأدخلوا الحيوانات فيه :ابن سيده وابن منظور في لسان العرب ، والمصطفوي في التحقيق ، و ابن باديس ، وهو الحق .القول الثاني: أجازوا اطلاقه على الحيوان على سبيل التشبيه أو الاستعارة وهذا اختاره الراغب والبيضاوي والآلوسي قال الراغب: ولا يكاد يقال إلا للإنسان ولا يقال لغيره إلا على سبيل التبع نحو الناطق والصامت فيراد بالناطق ما له صوت وبالصامت ما ليس له صوت ، ولا يقال للحيوانات ناطق إلا مقيدا وعلى طريق التشبيه .وقال البيضاوي: وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد ، فإن الأصوات الحيوانية من حيث أنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات لا سيما وفيها ما يتفاوت بتفاوت الأغراض بحيث يفهمها ما هو من جنسه» ، وقال الآلوسي : مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي : نطقه ، وهو في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا أو مركبا، وقد يطلق على كل ما يصوت به ، ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالإنسان ويكون هناك استعارة بالكناية وإثبات النطق تخييلا، وقيل يجوز أيضا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك.وقد يطلق على ذلك للمشاكلة كما في قولهم: الناطق والصامت للحيوان والجماد.


[9] ومن استعماله في الخير ما ورد في الحديث الصحيح من قول سيدنا عمرَ في أُسارى بدر: «فَهَوِي رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالَ أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت. وما ورد عن عائشة رضي الله عنها:» واللهِ ما أَرى ربَّك إلا يُسارع في هَوَاك والحديثان أخرجهما مسلم ، وما ورد (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فعلى هذا الإطلاق يكون قد سمي هوى لما فيه من انحدار بقوة وانجذاب للمحبوب المشتهى كأنما هو في مكان و هُوِيَ بالمحب إليه بغاية القوة والسرعة .

[10] وأما قوله تعالى { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} ففيه تفسيران :
التفسير الأول : حيل بينهم وبين ما يشتهون من نعيم الدنيا وزهرتها وملاذ الدنيا ،وكل ثرواتهم وأموالهم ، وقصورهم ومقاماتهم ، وأمانيهم ،عند حلول العذاب بدلالة { كما فعل بأشياعهم من قبل} وهذا المعنى ظاهر فيه استعمال الاشتهاء ورجحه مجاهد و الطباطبائي وجماعة . والتفسير الثاني : حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة والإيمان والرجوع إلى الدنيا فعلى هذا يكون استعمال الاشتهاء في أمر معنوي وهو خلاف المستعمل في جميع القرآن فإن اخترنا هذا القول يكون توجيهه أن فيه استعارة وهو أنه شبه قوة حبهم لهذا الأمر بالأمر المشتهى أي أنهم يميلون إليه ميلاً عظيماً إلى هذا الأمر .قال الأمثل : ثمّ يضيف تعالى : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل )ففي لحظة مؤلمة ، فصل بينهم وبين كلّ ثرواتهم وأموالهم ، وقصورهم ومقاماتهم ، وأمانيهم ، فكيف سيكون حالهم ؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار ، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية . . كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كلّ ذلك وداعاً أخيراً ، ثمّ يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش . جملة ( حيل بينهم وبين ما يشتهون ) ، فُسّرت بتفسيرين : الأوّل : هو ما عرضناه سابقاً . الثاني : أنّه حيل بينهم وبين رغبتهم في الإيمان وجبران ما فاتهم . . غير أنّ التّفسير الأوّل ينسجم أكثر مع جملة ( ما يشتهون ) . فضلا عن أنّ جملة ( أنّى لهم التناوش من مكان بعيد ) قد تعرّضت إلى قضيّة عدم تمكّنهم من الإيمان عند الموت وعذاب الإستئصال كما ذكرنا ، فلا يبدو أنّ هناك داعياً للتكرار . من الجدير بالذكر أيضاً أنّ كثيراً من مفسّري هذه الآية اعتبروا هذه الآيات ممّا يخصّ الحديث في عقوبات الآخرة وندامة المسيئين في المحشر ، ولكن الآية الأخيرة وبالأخصّ جملة ( كما فعل بأشياعهم من قبل ) لا تنسجم مع هذا المعنى ، بل إنّ المقصود هو لحظة الموت ومشاهدة عذاب الفناء .يقول علي هاني وقد يؤيده أن في هذه السورة : { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} .

[11] واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي تستنبطها المجتهدون بالقياس وحياً ، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين، وقال القاضي البيضاوي : إنه حينئذ بالوحي لا وحي ، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحياً حقيقة.

[12] وجعله ابن عاشور وأبو السعود وجماعة عائدا إلى المنطوق به المأخوذ من فعل { ينطق }وهو القرآن .

[13] هذا على القول الراجح القائل النجم ليس المراد منه القرآن ، وأما على قول من يقول هو القرآن فهو عائد إلى مذكور

[14] فصل هذا أحسن تفصيل الشيخ محمد الأمين الخضري حفظه الله تعالى في كتابه القيم من أسرار حروف العطف .

[15] قال المقدم : الأفق: الناحية، وجمعه: آفاق، والمراد: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة؛ لأن أهل الهيئة -علماء الفلك- يقولون: الأفق هو الملتقى الذي يلتقي فيه مد البصر أقصى شيء يلتقي من الأرض بالسماء، أو من البحر مثلاً بالسماء، فهذا الجزء يُسمى الملتقى لا يُسمى الأفق؛ لكن المقصود بالأفق هنا: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، يعني: ما يعبر عنه أحياناً بالقبة السماوية.

[16] إن كان من أبان المتعدي .

[17] إما على اعتبار أبان بمعنى بان اللازم أو أبان المتعدي فهو من كثرة وضوحه كأنه يبين عن نفسه أنه واضح جدا .

[18] . لكن الشهاب وابن عرفة فهما من (مطلع الشمس الأعلى ) غير ذلك قال الشهاب: قوله: (بمطلع الشمس الأعلى) أرادبه وسط السماء فإنه أعلى مكان تطلع منه في كل يوم لكن فهم زاده ادق من فهمهما للنص ويؤيد ذلك أن القونوي أيد الشيخ زاده في فهمه قال القونوي:عند قول البيضاوي(بمطلع الشمس الأعلى ) والأعلى صفة المطلع أراد به وسط السماء فإنه أعلى مكان تطلع الشمس كل يوم منه فالصفة ليست احترازية وقيل هو رأس السرطان فتكون احترازية أفق السماء ناحيتها لكن المفسرين أجمعوا على أن المراد مطلع الشمس كما نبه عليه المصنف لأن المبين يناسبه لا للأفق المذكور فإنه لا مدخل له في تبيين الأشياء وظهورها فله مدخل في ذلك من حيث إنه مطلع للشمس فالظاهر أن المبين من الإبانة المتعدية أي المظهرة ويحتمل أن يكون لازما أي الظاهر فإنه ظاهر أيضا

[19] سأذكر ما ذكره العلماء في هذه الآية وفي آية { ولقد رآه بالأفق المبين } .

[20] ونص الراوية في البخاري: «جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني» وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي- وذكر نحوه- فإذا هو قاعد على عرش في الهواء- يعني جبريل- فأخذتني رجفة شديدة» فإذا هو قاعد على عرش بين السّماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه يقول علي هاني : وهناك رواية أخرى تبين هذا : عَن عَائِشَة أَن نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أول شَأْنه يرى فِي الْمَنَام، فَكَانَ أول مَا رأى جِبْرِيل بأجياد أَنه خرج لبَعض حَاجته فَصَرَخَ بِهِ: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَنظر يَمِينا وَشمَالًا فَلم ير شَيْئا، ثمَّ نظر فَلم ير شَيْئا، فَرفع بَصَره فَإِذا هُوَ يرَاهُ ثَانِيًا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى على أفق السَّمَاء فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، جِبْرِيل جِبْرِيل، يسكنهُ، فهرب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى دخل فِي النَّاس فَنظر فَلم ير شَيْئا، ثمَّ خرج من النَّاس ثمَّ نظر فَرَآهُ فَدخل فِي النَّاس (فَنظر) فَلم ير شَيْئا، ثمَّ خرج فَنظر فَرَآهُ، فَذَلِك قَول الله عز وَجل: {والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} يَعْنِي إِلَى قَوْله: {علمه شَدِيد القوى} وَهُوَ جِبْرِيل {ذُو مرّة فَاسْتَوَى وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى}.



[21] وقد يؤيده قول الإمام النووي تعليقا على حديث أنه رأى على كرسي قال النووي : وفى هذا الحديث وشبهه تحقيق العلم بتصور الملائكة على صورٍ مختلفة، وإقدار الله لهم على التركيب فى أى شكل شاؤوا من صور بنى آدم وغيرها، وأنَّ لهم صوراً فى أصل خلقتهم مخصوصة بهم، كلُّ منهم على ما خُلِق عليه وشُكِّل" . ويؤيده أيضا الراوية التي عن السيدة عائشة رضي الله عنها " فَرفع بَصَره فَإِذا هُوَ يرَاهُ ثَانِيًا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى على أفق السَّمَاء"


[22] يقول علي هاني أخذا من كلام العلماء : أصل البطحاء والأبطح : وَهُوَ المسيل الْوَاسِع الَّذِي فِيهِ دقاق الْحَصَى ومنه بطحاء مكة وَكَانَتْ الْبَطْحَاءُ عَلَمًا عَلَى جُزْءٍ مِنْ وَادِي مَكَّةَ، هُوَ: بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِنْهَا الْغَزَّةُ وَسُوقُ اللَّيْلِ ولم يبق اليوم بطحاء، لأن الأرض كلها معبدة وهي فوق المسجد الحرام فَإِذَا ذُكِرَتْ بَطْحَاءُ مَكَّةَ فَهِيَ هَذَا الْمَوْضِعُ، سميت لانْبِطاحها وحراء و أجياد من بطحاء مكة وحدودها : ما حاز السيل، من الردم إلى الحنّاطين يمينا مع البيت؛ وليس الصّفا من البطحاء .


[23] من بطحاء مكة ، قال في كتاب معالم مكة التاريخية والأثرية لعاتق الحربي : أجيَاد: كَأنه جمع جواد، والناس تقول (جيَاد) كان الاسم يطلق على شعبين كبيرين من شعاب مكة، يأتي أحدهما من الجنوب، يقاسم خُمَّاً الماء فيتجه شمالاً، والآخر يأتي من الشرق من جبل الأعرف، ثم يجتمعان أمام المسجد الحرام من الجنوب فيدفعان في وادي ابراهيم. وقد أصبحا اليوم مأهولين بأحياء عديدة من أحياء مكة، أشهرها: حي جياد، والمصافي، وبئر بليلة. ومن جياد الكبير طريق يفرع ريع بخش -رأس جياد- ثم ينحدر في (خُمّ) فإلى بطحاء قُريش فثوْر جنوباً. وقال بعض الكاتبين : قسم المؤرخون أجياد إلى قسمين فقالوا أجياد الكبير، وأجياد الصغير، ويقصدون بأجياد الصغير المكان المعروف اليوم بأجياد السد وهو يبدأ من أوائل باب أجياد ويسير منعطفاً نحو الشمال الشرقي وينتهي بخطم جبل الخندمة الفاصل بين أجياد وشعب أبي يوسف ، وأجياد الكبير يبدأ بعد أوائل أجياد بقليل من إدارة الصحة تقريباً ويسير في خط مستقيم نحو الجنوب الشرقي ثم ينعطف نحو الشمال الشرقي حتى يلتقي أجياد الصغير

[24] قال الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف : لم أجده هكذا. وفي الصحيحين من رواية مسروق عن عائشة «أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي رأيته عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» وللترمذي وابن حبان «ولكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين:مرة عند سدرة المنتهى. ومرة في أجياد، له ستمائة جناح، وقد سد الأفق» .

 
عودة
أعلى