رضا البطاوى
New member
نقد تفسير سورة النصر لابن رجب
الكتاب للمؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي وقد سمى الكتاب الكلام على سورة النصر وليس كما سماه محقق الكتاب تفسير سورة النصر وقد استهله بالقول :
«الكلام على سورة النصر»
جاء في حديث أنها: «تعدل ربع القرآن» "
والخطأ هنا هو أن سورة النصر ربعع ،لنا أن نتساءل ما هى أرباع القرآن ؟قطعا لا رد ودعونا نتساءل هل المراد ربع المعانى أم الألفاظ ؟إذا كان أراد المعانى فإن هذه السورة كلها لا تشكل إلا أقل من 1%من معانى القرآن بدليل عدم ورود أحكام فيها سوى حكم واحد على الأكثر بينما القرآن فيه ألوف الأحكام وإذا كان الرد الألفاظ فألفاظها مجتمعة لا تشكل واحد من مائة ألف ثم دعونا نتساءل كيف يساوى قليل نصف أو ثلث أو ربع القرآن إذا كان لا تفاضل بين سور القرآن فى أى شىء لأنها كلها كلام الله وكلام الله سواء فى المصدر وفى العمل به
ثم قال :
"وهي مدنية بالاتفاق؛ بمعنى: أنها نزلت بعد الهجرة إلى المدينة، وهي من أواخر ما نزل
وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: "إذا جاء نصر الله والفتح "
واختلف في وقت نزولها، فقيل: نزلت في السنة التي توفي فيها رسول الله(ص)
وفي «مسند الإمام أحمد» عن محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح "قال رسول الله(ص)«نعيت إلى نفسي بأنه مقبوض في تلك السنة» عطاء هو ابن السائب اختلط بآخره
ويشهد له ما أخرجه البزار في «مسنده» والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار وصدقة بن يسار عن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة على رسول الله(ص)بمنى وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع "إذا جاء نصر الله والفتح "فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء، فرحلت له، ثم ركب فوقف للناس بالعقبة فحمد الله وأثنى عليه وذكر خطبة طويلة
هذا إسناد ضعيف جدا، وموسى بن عبيدة قال أحمد: «لا تحل عندي الرواية عنه»
وعن قتادة قال: عاش رسول الله(ص)بعدها سنتين
وهذا يقتضي أنها نزلت قبل الفتح، وهذا هو الظاهر لأن قوله "إذا جاء نصر الله والفتح "يدل دلالة ظاهرة على أن الفتح لم يكن قد جاء بعد، لأن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان هذا هو المعروف في استعمالها، وإن كان قد قيل: أنها تجيء للماضي كقوله: "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها "[الجمعة: 11]
وقوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه "[التوبة: 92]
وقد أجيب عن ذلك بأنه أريد أن هذا شأنهم ودأبهم، لم يرد به الماضي بخصوصه، وسنذكر أن النبي(ص)قال بعد نزول هذه السورة: «جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن» ومجيء أهل اليمن كان قبل حجة الوداع "
وأما وقت نزولها فكما ناقشه ابن رجب فهى لا يمكن أن تكون من أواخر ما نزل من القرآن لأنها تتحدث عن فتح مكة قبل وقوعه ومن ثم كل الروايات التى تتحدث عن نزولها فى أواخر حياة النبى(ص) كاذبة فهى لابد أن تكون نزلت قبل فتح مكة
ثم قال :
"قوله تعالى: "إذا جاء نصر الله والفتح "
أما نصر الله فهو معونته على الأعداء حتى غلب النبي(ص)العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم وذكر النقاش عن ابن عباس أن النصر: هو صلح الحديبية
وأما الفتح فقيل: هو فتح مكة بخصوصها، قال ابن عباس وغيره: لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي(ص)على مكة
وفي «صحيح البخاري» عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله(ص)، وكانت الأحياء تلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي
وعن الحسن قال لما فتح رسول الله(ص)مكة قالت العرب أما إذا ظفر محمد بأهل مكة وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فدخلوا في دين الله أفواجا
وقيل: إن الفتح يعم مكة وغيرها مما فتح بعدها من الحصون والمدائن، كالطائف وغيرها من مدن الحجاز واليمن وغير ذلك، وهو الذي ذكره ابن عطية "
والرجل ناقش هنا اختلاف القوم فى الفتح والنصر باعتبار الفتح فتح مكة والنصر صلح الحديبية وهو ما يخالف أن الله سمى الحج للبيت دخول له كان الفتح قريبا بعده فقال :
"لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا"
ومن ثم فالفتح هنا هو النصر لأن النصر يكون فى القتال والحروب كما قال تعالى :
"لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة "
ثم قال :
"وقوله: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا "
المراد بالناس العموم على قول الجمهور، وعن مقاتل: أنهم أهل اليمن
وفي «مسند الإمام أحمد» من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري عن النبي "[أنه] قال: لما نزلت هذه السورة: "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت"قال: قرأها رسول الله(ص)حتى ختمها فقال «الناس حيز وأنا وأصحابي حيز» وقال «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» وأن مروان كذبه فصدق رافع بن خديج وزيد بن ثابت أبا سعيد على ما قال وهذا يستدل به على أن المراد بالفتح فتح مكة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي(ص)قال يوم الفتح: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية»
وأيضا فالفتح المطلق هو فتح مكة كما في قوله: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل "[الحديد: 10] ولهذا قال: «الناس حيز وأنا وأصحابي حيز»
وروى النسائي من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح "إلى آخر السورة قال: نعيت لرسول الله(ص)نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة"
ابن رجب هنا يناقض نفسه بتصديق أن السورة نعى فقد كذب هذا الحديث فى أول الكتاب بقوله" وهذا يقتضي أنها نزلت قبل الفتح، وهذا هو الظاهر لأن قوله "إذا جاء نصر الله والفتح "يدل دلالة ظاهرة على أن الفتح لم يكن قد جاء بعد"
ثم نقل أحاديث كاذبة كلها عن أن المراد بالناس أهل اليمن فقال :
"وقال رسول الله(ص)بعد ذلك: «جاء الفتح وجاء نصر الله وجاء أهل اليمن» فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟
قال: «قوم رقيقة قلوبهم لينة قلوبهم ، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان»
وروى ابن جرير من طريق الحسين بن عيسى الحنفي عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال: بينما رسول الله(ص)في المدينة إذ قال «الله أكبر الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن» قيل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم لينة طباعهم ، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية»
ورواه أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن عكرمة مرسلا ، وكذا هو في «تفسير عبد الرزاق»: عن معمر أخبرني من سمع عكرمة فأرسله "
وقد كذب الرجل تلك الأحاديث فقال :
"وهذا لا يدل على اختصاص أهل اليمن بالناس المذكورين في الآية، وإنما يدل على أنهم داخلون في ذلك فإن الناس أعم من أهل اليمن
قال ابن عبد البر: لم يمت رسول الله(ص)وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف، منهم من قدم، ومنهم من قدم وافده، ثم كان بعد من الردة ما كان، ورجعوا كلهم إلى الدين
قال ابن عطية: المراد – والله أعلم – العرب عبدة الأوثان وأما نصارى بني تغلب فما أراهم أسلموا قط في حياة رسول الله(ص)،لكن أعطوا الجزية
"والأفواج): الجماعة إثر الجماعة كما قال [الله تعالى] "كلما ألقي فيها فوج "[الملك: 8] وفي المسند» من طريق الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله يسلم على فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال سمعت رسول الله(ص)يقول «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا» "
وأقوال المفسرين متناقضة فابن عبد البر يقول بإسلام العرب كلها وبناقضه ابن عطيه بأن تغلب لم تسلم والحقيقة أن الآية عامة فى إسلام كثير من الناس عرب وعجم ومن كل بلاد العالم
ثم قال :
وقوله: "فسبح بحمد ربك "
فيه قولان حكاهما ابن الجوزي
أحدهما: أن المراد به الصلاة، نقله عن ابن عباس
والثاني: التسبيح المعروف
وفي الباء في بحمد قولان:
أحدهما: أنها للمصاحبة فالحمد مضاف إلى المفعول، أي فسبحه حامدا له، والمعنى: أجمع بين تسبيحه وهو تنزيهه عما لا يليق به من النقائص، وبين تحميده وهو إثبات ما يليق به من المحامد والثاني: أنها للاستعانة، والحمد مضاف إلى الفاعل، أي سبحه بما حمد به نفسه إذ ليس كل تسبيح بمحمود كما أن تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات، كما كان بشر المريسي يقول: سبحان ربي الأسفل "
والتسبيح فى القرآن يعنى إما الصلاة المعروفة كما فى قوله" فى بيوت أذن الله الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والأصال رجال" وإما طاعة الله وهنا تعنى طاعة الله لأن الاستغفار يكون على الذنوب وهى عصيان لله وقد ذكر بعدها
ثم قال :
"وقوله: واستغفره
أي اطلب مغفرته، والمغفرة هي وقاية شر الذنب لا مجرد ستره
والفرق بين العفو والمغفرة أن العفو محو أثر الذنب، وقد يكون بعد عقوبة بخلاف المغفرة فإنها لا تكون مع العقوبة
ثم قال :
"وقوله: "إنه كان توابا "
إشارة إلى أنه سبحانه يقبل توبة المستغفرين المنيبين إليه، فهو ترغيب في الاستغفار، وحث على التوبة وقد فهم طائفة من الصحابة "أن النبي(ص)أمر بالتسبيح والتحميد والاستغفار عند مجيء نصر الله والفتح، شكرا لله على هذه النعمة كما صلى النبي(ص)يوم فتح مكة ثماني ركعات وكذلك صلى سعد يوم فتح المدائن، وكانت تسمى: صلاة الفتح"
لا يوجد شىء اسمه صلاة الفتح ولا سجود النصر فهذا زيادة على شرع الله
ثم حدثنا الرجل حديثا بعيدا عن كون الله تواب فقال :
"وأما عمر وابن عباس فقالا: بل كان مجيء النصر والفتح علامة اقتراب أجله، وانقضاء عمره، فأمر أن يختم عمله بذلك، ويتهيأ للقاء الله، والقدوم عليه على أكمل أحواله وأتمها، فإنه لما جاء نصر الله والفتح بحيث صارت مكة دار إسلام، وكذلك جزيرة العرب كلها، ولم يبق بها كافر، ودخل الناس في دين الله أفواجا
وقد بلغ رسول الله(ص)رسالات ربه، وعلم أمته مناسكهم وعباداتهم، وتركهم على البيضاء، ليلها كنهارها، ولم يبق له من الدنيا حاجة، فحينئذ تهيأ للنقلة إلى الآخرة فإنها خير له من الأولى ، ولهذا نزلت "اليوم أكملت لكم دينكم "[المائدة: 35] بعرفة
وعلم الأمة مناسكهم وقال لهم: «لعلي لا أراكم بعد عامي هذا»
وقال لهم: «هل بلغت» قالوا نعم، وأشهد الله عليهم بذلك، وودع الناس فقال: «هذه حجة الوداع»
وقد خير "بين الدنيا وبين لقاء ربه، فكان آخر ما سمع منه «اللهم الرفيق الأعلى»
ونظير هذا الفهم الذي فهمه عمر من هذه السورة ما فهمه أبو بكر من قول النبي(ص)في خطبته: «إن عبدا خير بين الدنيا وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه» وقد سبق من حديث ابن عباس ما يدل على ذلك
وفي «صحيح البخاري» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قول الله عز وجل "إذا جاء نصر الله والفتح "؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره فلم يقل شيئا! فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا! قال: ما تقول؟ قلت هو أجل رسول الله أعلمه له قال "إذا جاء نصر الله والفتح "فذاك علامة أجلك، "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا "فقال عمر بن الخطاب : ما أعلم منها إلا ما تقول وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من غير وجه
وفي «المسند» عن أبي رزين عن ابن عباس قال: «لما نزلت: "إذا جاء نصر الله والفتح "علم النبي أنه قد نعيت إليه نفسه»
وقد سبق من حديث ابن عباس أن النبي(ص)لما نزلت هذه السورة أخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة
وروى الخرائطي في «كتاب الشكر» من طريق شاذ بن فياض عن الحارث بن سبل عن أن النعمان الكندية عن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا "[الفتح: 1] اجتهد النبي(ص)في العبادة فقيل له: يا رسول الله ما هذا الاجتهاد؟ أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» إسناده ضعيف
وروى البيهقي من طريق سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: "إذا جاء نصر الله والفتح "دعا رسول الله(ص)فاطمة، وقال: «إنه قد نعيت إلى نفسي»، فبكت، ثم ضحكت، وقالت أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسي فبكيت، ثم أخبرني بأنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت
وكان النبي(ص)يكثر من التسبيح والتحميد والاستغفار بعد نزول هذه السورة في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله(ص)يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن وفي «المسند» و «صحيح مسلم» عنها قالت: كان رسول الله(ص)يكثر في آخر أمره من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» وقال: «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا، فقد رأيتها: "إذا جاء نصر الله والفتح "السورة كلها
وروى ابن جرير من طريق حفص ثنا عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله(ص)في آخر أمره لا يقوم ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: «سبحان الله وبحمده» فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من «سبحان الله وبحمده»، لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: «سبحان الله وبحمده» قال: «إني أمرت بها»، فقال: "إذا جاء نصر الله والفتح "إلى آخر السورة غريب
وفي «المسند» عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت على رسول الله(ص)"إذا جاء نصر الله والفتح "كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» ثلاثا "
وكل هذا الكلام عن نعى نفس الرسول(ص) إليه خبل وجنون مع كون الآية نزلت قبل وفاته بأربع سنوات والمفروض أن نعى النفس يكون فى السنة الأخيرة مثلا
أقول هذا افتراضا لأن الله لا يقول لأحد لأنه سيموت لأن هذا علم خاص به وحده كما قال تعالى :
"ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا"
وقد أعلنها الله على لسان رسوله(ص) أنه لا يعرف ما يقعل به فقال:
"وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم"
فكيف يعلمه بزمن موته ؟
ثم عاد للكلام عن التسبيح والاستغفار والحمد فقال :
"واعلم أن التسبيح والتحميد فيه إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص والعيوب
والاستغفار يتضمن وقاية شر الذنوب
فذاك حق الله، وهذا حق عبده، ولهذا في خطبة الحاجة: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره»
وكان رجل في زمن الحسن البصري معتزل الناس فسأله الحسن عن حاله؟ فقال إني أصبح بين نعمة وذنب فأحدث للنعمة حمدا، وللذنب استغفارا، فأنا مشغول بذلك فقال الحسن: الزم ما أنت عليه، فأنت عندي أفقه من الحسن
والاستغفار: هو خاتمة الأعمال الصالحة فلهذا أمر النبي(ص)أن يجعله خاتمة عمره
كما يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثا ، وكما يشرع للمجتهد من الليل أن يستغفر بالأسحار قال تعالى: "وبالأسحار هم يستغفرون "[الذاريات: 18]، وقال "والمستغفرين بالأسحار "[آل عمران: 17] وكما يشرع الاستغفار عقيب الحج قال تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم "[البقرة: 199]
وكما يشرع ختم المجالس بالتسبيح والتحميد والاستغفار وهو كفارة المجلس ، وروي أنه يختم به الوضوء أيضا
وسبب هذا أن العباد مقصرون عن القيام بحقوق الله كما ينبغي، وأدائها على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يؤدونها على قدر ما يطيقونه، فالعارف يعرف أن قدر الحق أعلى وأجل من ذلك، فهو يستحي من علمه ويستغفر من تقصيره فيه كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته، وكلما كان الشخص بالله أعرف كان له أخوف، وبرؤية تقصيره أبصر، ولهذا كان خاتم المرسلين وأعرفهم برب العالمين "يجتهد في الثناء على ربه، ثم يقول في آخر ثنائه: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك»
ومن هذا قول مالك بن دينار: لقد هممت أن أوصي إذا مت أن أقيد ثم ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده، فإذا سألني؟ قلت يا رب لم أرض لك نفسي طرفة عين، وكان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة، فإذا صلى أخذ بلحيته، ثم يقول لنفسه: قومي يا ماوى كل سوء، فوالله ما رضيتك لله طرفة عين "
وكل هذا الكلام ليس تفسيرا وإنما نقل لكلام لا داعى له يزيد من الأمور تعقيدا لأنه كلام بشر ولا يتعلق بتفسير السورة
وعاد لاثارة مشاكل لا داعى لها فقال عن الاستغفار:
"فائدة
الاستغفار: يرد مجردا ويرد مقرونا بالتوبة، فإن ورد مجردا دخل فيه طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء، والندم عليه وشر وقاية الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع عنه
وهذا الاستغفار الذي يمنع الإصرار بقوله: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة» وبقوله: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار» خرجهما ابن أبي الدنيا
وكذا في قوله تعالى: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم "[آل عمران: 135]، وفي الصحيح: «أذنب عبد ذنبا » الحديث
وهو المانع من العقوبة في قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "[الأنفال: 33]، وإن ورد مقرونا بالتوبة اختص بالنوع الأول، فإن لم يصحبه الندم على الذنب الماضي، بل كان سؤالا مجردا فهو دعاء محض، وإن صحبه ندم فهو توبة
والعزم على الإقلاع من تمام التوبة والتوبة إذا قبلت فهل تقبل جزما أم ظاهرا فيه خلاف معروف
فيقال: الاستغفار المجرد هو التوبة، مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون بالتوبة: هو طلب المغفرة بالدعاء فقط
وكذلك التوبة إن أطلقت دخل فيها الانتهاء عن المحظور، وفعل المأمور ولهذا علق الفلاح عليها، وجعل من لم يتب ظالما فالتوبة حينئذ تشمل فعل كل مأمور، وترك كل محظور ولهذا كانت بداية العبد ونهايته هي حقيقة دين الإسلام
وتارة يقرن بالتقوى، أو بالعمل فتختص حينئذ بترك المحظور والله أعلم
وفي فضائل الاستغفار أحاديث كثيرة منها:
حديث «جلاء القلوب تلاوة القرآن والاستغفار»
وحديث: «فإن تاب واستغفر ونزع صقل قلبه»
وحديث: «ابن آدم إنك لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني على ما كان منك، غفرت لك ولا أبالي وحديث ابن عمر: كنا نعد لرسول الله(ص)في المجلس الواحد: «رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور مائة مرة» وحديث أبي هريرة مرفوعا: «إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، وأتوب إليه» خرجه البخاري
ومن حديثه مرفوعا «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم» خرجه مسلم
وفي «المسند» من حديث عطية عن أبي سعيد عن النبي(ص): «من قال حين يأوي إلى فراشه، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر الله له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت مثل رمل عالج، وإن كانت عدد ورق الشجر»
وحديث: «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا» خرجه أحمد من حديث ابن عباس ويعضده قوله تعالى: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا "[نوح: 10]، وقوله "وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا "[هود: 3]
قال رباح القيسي: "لي نيف وأربعون ذنبا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة"
وقال الحسن: "لا تملوا من الاستغفار"
وقال بكر المزني: " إن أعمال بني آدم ترفع فإذا رفعت صحيفة فيها استغفار رفعت بيضاء، وإذا رفعت ليس فيها استغفار رفعت سوداء"
وعن الحسن قال: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة "
وقال لقمان: لابنه: "أي بني عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا "
ورئي عمر بن عبد العزيز في النوم فقيل له: ما وجدت أفضل؟ قال:"الاستغفار""
وهذه الكلام وهذه الأحاديث لا علاقة لها بتفسير السورة فقوله واستغفره ليس له دلالة سوى أن النبى(ص) ارتكب ذنوبا وعليه أن يتوب منها كما قال له فى سورة أخرى:
" واستغفر لذنبك"
وأما أحكام الاستغفار ككل كطرقه ووقته وما شابه فهذا موضوع أخر ليس من ضمن تفسير سورة وإنما يكون كتاب مستقل بالتفسير ولو فعل كل واحد ما كان يفعله المفسرون القدامى فهذا معناه زيادة حجم الكتاب وعدد صفحاته دون فائدة فالاقتصار واجب على معنى الآية وأما موضوع كل لفظ فشىء أخر يكون فى كتب تتناول كل شىء عنه
الكتاب للمؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي وقد سمى الكتاب الكلام على سورة النصر وليس كما سماه محقق الكتاب تفسير سورة النصر وقد استهله بالقول :
«الكلام على سورة النصر»
جاء في حديث أنها: «تعدل ربع القرآن» "
والخطأ هنا هو أن سورة النصر ربعع ،لنا أن نتساءل ما هى أرباع القرآن ؟قطعا لا رد ودعونا نتساءل هل المراد ربع المعانى أم الألفاظ ؟إذا كان أراد المعانى فإن هذه السورة كلها لا تشكل إلا أقل من 1%من معانى القرآن بدليل عدم ورود أحكام فيها سوى حكم واحد على الأكثر بينما القرآن فيه ألوف الأحكام وإذا كان الرد الألفاظ فألفاظها مجتمعة لا تشكل واحد من مائة ألف ثم دعونا نتساءل كيف يساوى قليل نصف أو ثلث أو ربع القرآن إذا كان لا تفاضل بين سور القرآن فى أى شىء لأنها كلها كلام الله وكلام الله سواء فى المصدر وفى العمل به
ثم قال :
"وهي مدنية بالاتفاق؛ بمعنى: أنها نزلت بعد الهجرة إلى المدينة، وهي من أواخر ما نزل
وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: "إذا جاء نصر الله والفتح "
واختلف في وقت نزولها، فقيل: نزلت في السنة التي توفي فيها رسول الله(ص)
وفي «مسند الإمام أحمد» عن محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح "قال رسول الله(ص)«نعيت إلى نفسي بأنه مقبوض في تلك السنة» عطاء هو ابن السائب اختلط بآخره
ويشهد له ما أخرجه البزار في «مسنده» والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار وصدقة بن يسار عن ابن عمر قال: نزلت هذه السورة على رسول الله(ص)بمنى وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع "إذا جاء نصر الله والفتح "فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء، فرحلت له، ثم ركب فوقف للناس بالعقبة فحمد الله وأثنى عليه وذكر خطبة طويلة
هذا إسناد ضعيف جدا، وموسى بن عبيدة قال أحمد: «لا تحل عندي الرواية عنه»
وعن قتادة قال: عاش رسول الله(ص)بعدها سنتين
وهذا يقتضي أنها نزلت قبل الفتح، وهذا هو الظاهر لأن قوله "إذا جاء نصر الله والفتح "يدل دلالة ظاهرة على أن الفتح لم يكن قد جاء بعد، لأن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان هذا هو المعروف في استعمالها، وإن كان قد قيل: أنها تجيء للماضي كقوله: "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها "[الجمعة: 11]
وقوله: "ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه "[التوبة: 92]
وقد أجيب عن ذلك بأنه أريد أن هذا شأنهم ودأبهم، لم يرد به الماضي بخصوصه، وسنذكر أن النبي(ص)قال بعد نزول هذه السورة: «جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن» ومجيء أهل اليمن كان قبل حجة الوداع "
وأما وقت نزولها فكما ناقشه ابن رجب فهى لا يمكن أن تكون من أواخر ما نزل من القرآن لأنها تتحدث عن فتح مكة قبل وقوعه ومن ثم كل الروايات التى تتحدث عن نزولها فى أواخر حياة النبى(ص) كاذبة فهى لابد أن تكون نزلت قبل فتح مكة
ثم قال :
"قوله تعالى: "إذا جاء نصر الله والفتح "
أما نصر الله فهو معونته على الأعداء حتى غلب النبي(ص)العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم وذكر النقاش عن ابن عباس أن النصر: هو صلح الحديبية
وأما الفتح فقيل: هو فتح مكة بخصوصها، قال ابن عباس وغيره: لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي(ص)على مكة
وفي «صحيح البخاري» عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله(ص)، وكانت الأحياء تلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي
وعن الحسن قال لما فتح رسول الله(ص)مكة قالت العرب أما إذا ظفر محمد بأهل مكة وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فدخلوا في دين الله أفواجا
وقيل: إن الفتح يعم مكة وغيرها مما فتح بعدها من الحصون والمدائن، كالطائف وغيرها من مدن الحجاز واليمن وغير ذلك، وهو الذي ذكره ابن عطية "
والرجل ناقش هنا اختلاف القوم فى الفتح والنصر باعتبار الفتح فتح مكة والنصر صلح الحديبية وهو ما يخالف أن الله سمى الحج للبيت دخول له كان الفتح قريبا بعده فقال :
"لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا"
ومن ثم فالفتح هنا هو النصر لأن النصر يكون فى القتال والحروب كما قال تعالى :
"لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة "
ثم قال :
"وقوله: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا "
المراد بالناس العموم على قول الجمهور، وعن مقاتل: أنهم أهل اليمن
وفي «مسند الإمام أحمد» من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري عن النبي "[أنه] قال: لما نزلت هذه السورة: "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت"قال: قرأها رسول الله(ص)حتى ختمها فقال «الناس حيز وأنا وأصحابي حيز» وقال «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» وأن مروان كذبه فصدق رافع بن خديج وزيد بن ثابت أبا سعيد على ما قال وهذا يستدل به على أن المراد بالفتح فتح مكة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي(ص)قال يوم الفتح: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية»
وأيضا فالفتح المطلق هو فتح مكة كما في قوله: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل "[الحديد: 10] ولهذا قال: «الناس حيز وأنا وأصحابي حيز»
وروى النسائي من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح "إلى آخر السورة قال: نعيت لرسول الله(ص)نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة"
ابن رجب هنا يناقض نفسه بتصديق أن السورة نعى فقد كذب هذا الحديث فى أول الكتاب بقوله" وهذا يقتضي أنها نزلت قبل الفتح، وهذا هو الظاهر لأن قوله "إذا جاء نصر الله والفتح "يدل دلالة ظاهرة على أن الفتح لم يكن قد جاء بعد"
ثم نقل أحاديث كاذبة كلها عن أن المراد بالناس أهل اليمن فقال :
"وقال رسول الله(ص)بعد ذلك: «جاء الفتح وجاء نصر الله وجاء أهل اليمن» فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟
قال: «قوم رقيقة قلوبهم لينة قلوبهم ، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان»
وروى ابن جرير من طريق الحسين بن عيسى الحنفي عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال: بينما رسول الله(ص)في المدينة إذ قال «الله أكبر الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن» قيل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم لينة طباعهم ، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية»
ورواه أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن عكرمة مرسلا ، وكذا هو في «تفسير عبد الرزاق»: عن معمر أخبرني من سمع عكرمة فأرسله "
وقد كذب الرجل تلك الأحاديث فقال :
"وهذا لا يدل على اختصاص أهل اليمن بالناس المذكورين في الآية، وإنما يدل على أنهم داخلون في ذلك فإن الناس أعم من أهل اليمن
قال ابن عبد البر: لم يمت رسول الله(ص)وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف، منهم من قدم، ومنهم من قدم وافده، ثم كان بعد من الردة ما كان، ورجعوا كلهم إلى الدين
قال ابن عطية: المراد – والله أعلم – العرب عبدة الأوثان وأما نصارى بني تغلب فما أراهم أسلموا قط في حياة رسول الله(ص)،لكن أعطوا الجزية
"والأفواج): الجماعة إثر الجماعة كما قال [الله تعالى] "كلما ألقي فيها فوج "[الملك: 8] وفي المسند» من طريق الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله يسلم على فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال سمعت رسول الله(ص)يقول «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا» "
وأقوال المفسرين متناقضة فابن عبد البر يقول بإسلام العرب كلها وبناقضه ابن عطيه بأن تغلب لم تسلم والحقيقة أن الآية عامة فى إسلام كثير من الناس عرب وعجم ومن كل بلاد العالم
ثم قال :
وقوله: "فسبح بحمد ربك "
فيه قولان حكاهما ابن الجوزي
أحدهما: أن المراد به الصلاة، نقله عن ابن عباس
والثاني: التسبيح المعروف
وفي الباء في بحمد قولان:
أحدهما: أنها للمصاحبة فالحمد مضاف إلى المفعول، أي فسبحه حامدا له، والمعنى: أجمع بين تسبيحه وهو تنزيهه عما لا يليق به من النقائص، وبين تحميده وهو إثبات ما يليق به من المحامد والثاني: أنها للاستعانة، والحمد مضاف إلى الفاعل، أي سبحه بما حمد به نفسه إذ ليس كل تسبيح بمحمود كما أن تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات، كما كان بشر المريسي يقول: سبحان ربي الأسفل "
والتسبيح فى القرآن يعنى إما الصلاة المعروفة كما فى قوله" فى بيوت أذن الله الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والأصال رجال" وإما طاعة الله وهنا تعنى طاعة الله لأن الاستغفار يكون على الذنوب وهى عصيان لله وقد ذكر بعدها
ثم قال :
"وقوله: واستغفره
أي اطلب مغفرته، والمغفرة هي وقاية شر الذنب لا مجرد ستره
والفرق بين العفو والمغفرة أن العفو محو أثر الذنب، وقد يكون بعد عقوبة بخلاف المغفرة فإنها لا تكون مع العقوبة
ثم قال :
"وقوله: "إنه كان توابا "
إشارة إلى أنه سبحانه يقبل توبة المستغفرين المنيبين إليه، فهو ترغيب في الاستغفار، وحث على التوبة وقد فهم طائفة من الصحابة "أن النبي(ص)أمر بالتسبيح والتحميد والاستغفار عند مجيء نصر الله والفتح، شكرا لله على هذه النعمة كما صلى النبي(ص)يوم فتح مكة ثماني ركعات وكذلك صلى سعد يوم فتح المدائن، وكانت تسمى: صلاة الفتح"
لا يوجد شىء اسمه صلاة الفتح ولا سجود النصر فهذا زيادة على شرع الله
ثم حدثنا الرجل حديثا بعيدا عن كون الله تواب فقال :
"وأما عمر وابن عباس فقالا: بل كان مجيء النصر والفتح علامة اقتراب أجله، وانقضاء عمره، فأمر أن يختم عمله بذلك، ويتهيأ للقاء الله، والقدوم عليه على أكمل أحواله وأتمها، فإنه لما جاء نصر الله والفتح بحيث صارت مكة دار إسلام، وكذلك جزيرة العرب كلها، ولم يبق بها كافر، ودخل الناس في دين الله أفواجا
وقد بلغ رسول الله(ص)رسالات ربه، وعلم أمته مناسكهم وعباداتهم، وتركهم على البيضاء، ليلها كنهارها، ولم يبق له من الدنيا حاجة، فحينئذ تهيأ للنقلة إلى الآخرة فإنها خير له من الأولى ، ولهذا نزلت "اليوم أكملت لكم دينكم "[المائدة: 35] بعرفة
وعلم الأمة مناسكهم وقال لهم: «لعلي لا أراكم بعد عامي هذا»
وقال لهم: «هل بلغت» قالوا نعم، وأشهد الله عليهم بذلك، وودع الناس فقال: «هذه حجة الوداع»
وقد خير "بين الدنيا وبين لقاء ربه، فكان آخر ما سمع منه «اللهم الرفيق الأعلى»
ونظير هذا الفهم الذي فهمه عمر من هذه السورة ما فهمه أبو بكر من قول النبي(ص)في خطبته: «إن عبدا خير بين الدنيا وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه» وقد سبق من حديث ابن عباس ما يدل على ذلك
وفي «صحيح البخاري» من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال ما تقولون في قول الله عز وجل "إذا جاء نصر الله والفتح "؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره فلم يقل شيئا! فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا! قال: ما تقول؟ قلت هو أجل رسول الله أعلمه له قال "إذا جاء نصر الله والفتح "فذاك علامة أجلك، "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا "فقال عمر بن الخطاب : ما أعلم منها إلا ما تقول وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من غير وجه
وفي «المسند» عن أبي رزين عن ابن عباس قال: «لما نزلت: "إذا جاء نصر الله والفتح "علم النبي أنه قد نعيت إليه نفسه»
وقد سبق من حديث ابن عباس أن النبي(ص)لما نزلت هذه السورة أخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة
وروى الخرائطي في «كتاب الشكر» من طريق شاذ بن فياض عن الحارث بن سبل عن أن النعمان الكندية عن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا "[الفتح: 1] اجتهد النبي(ص)في العبادة فقيل له: يا رسول الله ما هذا الاجتهاد؟ أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» إسناده ضعيف
وروى البيهقي من طريق سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: "إذا جاء نصر الله والفتح "دعا رسول الله(ص)فاطمة، وقال: «إنه قد نعيت إلى نفسي»، فبكت، ثم ضحكت، وقالت أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسي فبكيت، ثم أخبرني بأنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت
وكان النبي(ص)يكثر من التسبيح والتحميد والاستغفار بعد نزول هذه السورة في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله(ص)يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن وفي «المسند» و «صحيح مسلم» عنها قالت: كان رسول الله(ص)يكثر في آخر أمره من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» وقال: «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا، فقد رأيتها: "إذا جاء نصر الله والفتح "السورة كلها
وروى ابن جرير من طريق حفص ثنا عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله(ص)في آخر أمره لا يقوم ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: «سبحان الله وبحمده» فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من «سبحان الله وبحمده»، لا تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: «سبحان الله وبحمده» قال: «إني أمرت بها»، فقال: "إذا جاء نصر الله والفتح "إلى آخر السورة غريب
وفي «المسند» عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت على رسول الله(ص)"إذا جاء نصر الله والفتح "كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» ثلاثا "
وكل هذا الكلام عن نعى نفس الرسول(ص) إليه خبل وجنون مع كون الآية نزلت قبل وفاته بأربع سنوات والمفروض أن نعى النفس يكون فى السنة الأخيرة مثلا
أقول هذا افتراضا لأن الله لا يقول لأحد لأنه سيموت لأن هذا علم خاص به وحده كما قال تعالى :
"ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا"
وقد أعلنها الله على لسان رسوله(ص) أنه لا يعرف ما يقعل به فقال:
"وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم"
فكيف يعلمه بزمن موته ؟
ثم عاد للكلام عن التسبيح والاستغفار والحمد فقال :
"واعلم أن التسبيح والتحميد فيه إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص والعيوب
والاستغفار يتضمن وقاية شر الذنوب
فذاك حق الله، وهذا حق عبده، ولهذا في خطبة الحاجة: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره»
وكان رجل في زمن الحسن البصري معتزل الناس فسأله الحسن عن حاله؟ فقال إني أصبح بين نعمة وذنب فأحدث للنعمة حمدا، وللذنب استغفارا، فأنا مشغول بذلك فقال الحسن: الزم ما أنت عليه، فأنت عندي أفقه من الحسن
والاستغفار: هو خاتمة الأعمال الصالحة فلهذا أمر النبي(ص)أن يجعله خاتمة عمره
كما يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثا ، وكما يشرع للمجتهد من الليل أن يستغفر بالأسحار قال تعالى: "وبالأسحار هم يستغفرون "[الذاريات: 18]، وقال "والمستغفرين بالأسحار "[آل عمران: 17] وكما يشرع الاستغفار عقيب الحج قال تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم "[البقرة: 199]
وكما يشرع ختم المجالس بالتسبيح والتحميد والاستغفار وهو كفارة المجلس ، وروي أنه يختم به الوضوء أيضا
وسبب هذا أن العباد مقصرون عن القيام بحقوق الله كما ينبغي، وأدائها على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يؤدونها على قدر ما يطيقونه، فالعارف يعرف أن قدر الحق أعلى وأجل من ذلك، فهو يستحي من علمه ويستغفر من تقصيره فيه كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته، وكلما كان الشخص بالله أعرف كان له أخوف، وبرؤية تقصيره أبصر، ولهذا كان خاتم المرسلين وأعرفهم برب العالمين "يجتهد في الثناء على ربه، ثم يقول في آخر ثنائه: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك»
ومن هذا قول مالك بن دينار: لقد هممت أن أوصي إذا مت أن أقيد ثم ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده، فإذا سألني؟ قلت يا رب لم أرض لك نفسي طرفة عين، وكان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة، فإذا صلى أخذ بلحيته، ثم يقول لنفسه: قومي يا ماوى كل سوء، فوالله ما رضيتك لله طرفة عين "
وكل هذا الكلام ليس تفسيرا وإنما نقل لكلام لا داعى له يزيد من الأمور تعقيدا لأنه كلام بشر ولا يتعلق بتفسير السورة
وعاد لاثارة مشاكل لا داعى لها فقال عن الاستغفار:
"فائدة
الاستغفار: يرد مجردا ويرد مقرونا بالتوبة، فإن ورد مجردا دخل فيه طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء، والندم عليه وشر وقاية الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع عنه
وهذا الاستغفار الذي يمنع الإصرار بقوله: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة» وبقوله: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار» خرجهما ابن أبي الدنيا
وكذا في قوله تعالى: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم "[آل عمران: 135]، وفي الصحيح: «أذنب عبد ذنبا » الحديث
وهو المانع من العقوبة في قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "[الأنفال: 33]، وإن ورد مقرونا بالتوبة اختص بالنوع الأول، فإن لم يصحبه الندم على الذنب الماضي، بل كان سؤالا مجردا فهو دعاء محض، وإن صحبه ندم فهو توبة
والعزم على الإقلاع من تمام التوبة والتوبة إذا قبلت فهل تقبل جزما أم ظاهرا فيه خلاف معروف
فيقال: الاستغفار المجرد هو التوبة، مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون بالتوبة: هو طلب المغفرة بالدعاء فقط
وكذلك التوبة إن أطلقت دخل فيها الانتهاء عن المحظور، وفعل المأمور ولهذا علق الفلاح عليها، وجعل من لم يتب ظالما فالتوبة حينئذ تشمل فعل كل مأمور، وترك كل محظور ولهذا كانت بداية العبد ونهايته هي حقيقة دين الإسلام
وتارة يقرن بالتقوى، أو بالعمل فتختص حينئذ بترك المحظور والله أعلم
وفي فضائل الاستغفار أحاديث كثيرة منها:
حديث «جلاء القلوب تلاوة القرآن والاستغفار»
وحديث: «فإن تاب واستغفر ونزع صقل قلبه»
وحديث: «ابن آدم إنك لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني على ما كان منك، غفرت لك ولا أبالي وحديث ابن عمر: كنا نعد لرسول الله(ص)في المجلس الواحد: «رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور مائة مرة» وحديث أبي هريرة مرفوعا: «إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، وأتوب إليه» خرجه البخاري
ومن حديثه مرفوعا «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم» خرجه مسلم
وفي «المسند» من حديث عطية عن أبي سعيد عن النبي(ص): «من قال حين يأوي إلى فراشه، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر الله له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت مثل رمل عالج، وإن كانت عدد ورق الشجر»
وحديث: «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا» خرجه أحمد من حديث ابن عباس ويعضده قوله تعالى: "استغفروا ربكم إنه كان غفارا "[نوح: 10]، وقوله "وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا "[هود: 3]
قال رباح القيسي: "لي نيف وأربعون ذنبا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة"
وقال الحسن: "لا تملوا من الاستغفار"
وقال بكر المزني: " إن أعمال بني آدم ترفع فإذا رفعت صحيفة فيها استغفار رفعت بيضاء، وإذا رفعت ليس فيها استغفار رفعت سوداء"
وعن الحسن قال: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة "
وقال لقمان: لابنه: "أي بني عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا "
ورئي عمر بن عبد العزيز في النوم فقيل له: ما وجدت أفضل؟ قال:"الاستغفار""
وهذه الكلام وهذه الأحاديث لا علاقة لها بتفسير السورة فقوله واستغفره ليس له دلالة سوى أن النبى(ص) ارتكب ذنوبا وعليه أن يتوب منها كما قال له فى سورة أخرى:
" واستغفر لذنبك"
وأما أحكام الاستغفار ككل كطرقه ووقته وما شابه فهذا موضوع أخر ليس من ضمن تفسير سورة وإنما يكون كتاب مستقل بالتفسير ولو فعل كل واحد ما كان يفعله المفسرون القدامى فهذا معناه زيادة حجم الكتاب وعدد صفحاته دون فائدة فالاقتصار واجب على معنى الآية وأما موضوع كل لفظ فشىء أخر يكون فى كتب تتناول كل شىء عنه