نفائس الوزير ابن هبيرة في تعليقاته على بعض الآيات

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
5
النقاط
38
الإخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
لقد فتح الأخ الفاضل أبو مجاهد زاوية مفيدة في هذا الملتقى ، وأعاد عنوانها للتوافق مع مضمونها أكثر ، ولتكون واضحة لمن أراد أن يشارك فيها .
أقوال في التفسير من غير كتب التفسير (مع التنبيه على فوائد تهم الباحثين في هذا المجال)
وهذه الزاوية نفيسة جدًّا ، لأنك قد تجد في كتابٍ من كتاب الأدب ، أو من كتب التاريخ ، أو من كتب التراجم ، أو غيرها = تعليقات على بعض الآيات هي كالشوارد التي لا يمكن أن تُعقَل بعقالٍ إلا عقال التقييد ، وقد كفانا الأخ الفاضل أبو مجاهد في هذا الملتقى مكان عقلِ هذه الفوائدِ ، فكل من ظفر بصيد طرحه في هذه الزاوية ، حتى يجتمع لأرباب هذا التخصص فوائد هذه الشوارد في مكان واحد يرتادونه ، وينهلون منه .
وإني أستأذنه في طرح هذه المشاركة مستقلة ، لطولها ، ثمَّ يمكن بعد ذلك ضمُّها إلى زاويته المباركة .
وهذا الصيد الذي أقدمه لكم من نفائس الوزير الحنبلي ابن هبيرة ( ت : 560 ) ، وهي تدلُّ على فكر ثاقب ، ونظر عميق ، وتدبر في كتاب الله ، وسعة اطلاعٍ في العلم ، وسأرتبها مرقمة ، وسأحذف مما ذكره المصدر ما لا علاقة له بالآيات ، وهو صالح لأن يخرج في كراسٍ صغير مع التعليق عليه ، وموازنته بما ذكره غيره من العلماء في الآيات التي أظهر فيها فوائد والله الموفق .
قال ابن رجب في ذيل الطبقات 1/264
قال ابن الجوزي في المقتبس :
(1) سمعت الوزير يقول : الآيات اللواتي في الأنعام ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) [الأنعام: من الآية151] محكمات ، وقد اتفقت عليها الشرائع ، وإنما قال في الآية الأولى : ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [البقرة: من الآية73 ] في الثانية : ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [الأنعام: من الآية152] وفي الثالثة : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة: من الآية21] ؛ لأن كل آية يليق بها ذلك ، فإنه قال في الأولى : ( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [الأنعام: من الآية151] والعقل يشهد أن الخالق لا شريك له ، ويدعوا العقل إلى بر الوالدين ، ونهى عن قتل الولد ، وإتيان الفواحش ؛ لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته ، فكذلك هو ، ينبغي أن يجتنبها ، وكذلك قتل النفس ، فلما لاقتت هذه الأمور بالعقل ، قال : ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ولما قال في الآية الثانية : ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ) [الأنعام: من الآية152] والمعنى : أذكر لو هلكت فصار ولدك يتيماً ، واذكر عند ورثتك ، لو كنت الموروث له ، واذكر كيف تحب العدل لك في القول ؟ فاعدل في حق غيرك ، وكما لا تؤثر أن يخان عهدك فلا تخن ، فلاق بهذه الأشياء التذكر ، فقال : ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [الأنعام: من الآية152] وقال في الثالثة : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) [الأنعام: من الآية153] ، فلاق بذلك اتقاء الزلل ، فلذلك قال : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة: من الآية21] .
(2) قال : وسمعته يقول في قوله تعالى : ( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) [صّ: من الآية80] قال : ليس هذا بإجابة سؤاله ، وإنما سأل الانتظار ، فقيل له : كذا قدر ، لا أنه جواب سؤالك ، لكنه مما فهم .
(3) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ) [التوبة: من الآية51] قال : إنما لم يقل : ما كتب علينا ؛ لأنه أمر يتعلق بالمؤمن ، ولا يصيب المؤمن شيء إلا وهو له ، إن كان خيراً فهو له في العاجل ، وإن كان شراً فهو ثواب له في الآجل .
(4) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( حِجَاباً مَسْتُوراً ) [الاسراء: من الآية45] قال أهل التفسير : يقولون : ساتراً ، والصواب : حمله على ظاهره ، وأن يكون الحجاب مستوراً عن العيون فلا يرى ، وذلك أبلغ .
(5) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ ) [الكهف: من الآية39] قال : ما قال : ما شاء الله كان ولا يكون ، بل أطلق اللفظ ؛ ليعم الماضي والمستقبل والراهن .
(6) قال : وتدبرت قوله تعالى : ( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ) [الكهف: من الآية39] فرأيت لها ثلاثة أوجه .
أحدها : أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته ، ويسلم الأمر إلى مالكه .
والثاني : أنه يعلم أن لا قوة للمخلوقين إلا بالله ، فلا يخاف منهم ؛ إذ قواهم لا تكون إلا بالله ، وذلك يوجب الخوف من الله وحده .
والثالث : أنه رد على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدعون القوى في الأشياء بطبيعتها ، فإن هذه الكلمة بينت أن القوىّ لا يكون إلاَّ بالله .
(7) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) [الكهف:97] قال ( التاء ) من حروف الشدة ، تقول في الشيء القريب الأمر : ما استطعته ، وفي الشديد : ما استطعته ، فالمعنى : ما أطاقوا ظهوره لضعفهم ، وما قدروا على نقله لقوته وشدته .
(8) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) [طـه: من الآية15] قال : المعنى إني قد أظهرت حين أعلمت بكونها ، لكن قاربت أن أخفيها بتكذيب المشرك بها ، وغفلة المؤمن عنها ، فالمشرك لا يصدق كونها ، والمؤمن يهمل الاستعداد لها .
(9) قال : وقرأت عليه ما جمعه من خواطره ، قال : قرأ عندي قارئ ، قال : ( هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي ) [طـه: من الآية84] فأنكرت في معنى اشتقاقها ، فنظرت فإذا وضعها للتنبيه ، والله لا يجوز أن يخاطب بهذا ، ولم أر أحداً خاطب الله عز وجل بحرف التنبيه إلا الكفار ، كما قال الله عز وجل : ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ ) [النحل: من الآية86] ، ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا ) [لأعراف: من الآية38] وما رأيت أحداً من الأنبياء خاطب ربه بحرف التنبيه ، والله أعلم .
فأما قوله : ( وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) [الزخرف:88] فإنه قد تقدم الخطاب بقوله : يا رب ، فبقيت ( ها ) للتمكين ، ولما خاطب الله عز وجل المنافقين ، قال : ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [النساء: من الآية109] وكرم المؤمنين بإسقاط ( ها ) فقال : ( هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ ) [آل عمران: من الآية119] وكان التنبيه للمؤمنين أخف .
(10) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) [الانبياء: من الآية110] المعنى : أنه إذا اشتدت الأصوات وتغالبت فإنها حالة لا يسمع فيها الإنسان . والله عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه ، ولا يشغله سمع عن سمع .
(11) قال : وقوله : ( قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) [الانبياء: من الآية112] قال : المراد منه : كن أنت أيها القائل على الحق ؛ ليمكنك أن تقول : احكم بالحق ، لأن المبطل لا يمكنه أن يقول : احكم بالحق .
(12) وقال في قوله تعالى : ( لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) [النور: من الآية53] قال : وقع لي فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المعنى : لا تقسموا واخرجوا من غير قسم ، فيكون المحرك لكم إلى الخروج الأمر لا القسم ؛ فإن من خرج لأجل قسمه ليس كمن خرج لأمر ربه .
والثاني : أن المعنى نحن نعلم ما في قلوبكم ، وهل أنتم على عزم الموافقة للرسول في الخروج ؟ فالقسم هاهنا إعلام منكم لنا بما في قلوبكم . وهذا يدل منكم على أنكم ما علمتم أن الله يطلع على ما في القلوب .
والثالث : أنكم ما أقسمتم إلا وأنتم تظنون أنا نتهمكم ، ولولا أنكم في محل تهمة ما ظننتم ذلك فيكم . وبهذا المعنى وقع المتنبي ، فقال :
وفي يمينك ما أنت واعده ما دل أنك في الميعاد متهم
(13) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ) [الفرقان:8] قال : العجب لجهلهم حين أرادوا أن يلقى إليه كنز أو تكون له جنة . ولو فهموا علموا أن كل الكنوز له وجميع الدنيا ملكه . أو ليس قد قهر أرباب الكنوز ، وحكم في جميع الملوك ؟ وكان من تمام معجزاته أن الأموال لم تفتح عليه في زمنه ؛ لئلا يقول قائل قد جرت العادة بأن إقامة الدول ، وقهر الأعداء بكثرة الأموال ، فتمت المعجزة بالغلبة والقهر من غير مال ، ولا كثرة أعوان ، ثم فتحت الدنيا على أصحابه ، ففرقوا ما جمعه الملوك بالشره ، فأخرجوه فيما خلق له ، ولم يمسكوه إمساك الكافرين ، ليعلموا الناس بإخراج ذلك المال : أن لنا داراً سوى هذه ، ومقراً غير هذا .
وكان من تمام المعجزات للنبي  : أنه لما جاءهم بالهدى فلم يقبل ، سلّ السيف على الجاحد ، ليعلمه أن الذي ابتعثني قاهر بالسيف بعد القهر بالحجج .
ومما يقوي صدقه أن قيصر وكبار الملوك لم يوفقوا للإيمان به ؛ لئلا يقول قائل : إنما ظهر لأن فلان الملك تعصب له فتقوى به ، فبان أن أمره من السماء لا بنصرة أهل الأرض .
(14) وقال في قوله تعالى : ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) [الفرقان: من الآية19] قال : المعنى : فقد كذبكم أصنامكم بقولكم ؛ لأنكم ادعيتم أنها الآلهة وقد أقررتم أنها لا تنفع فإقراركم يكذب دعواكم .
(15) وقال في قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ) [الفرقان: من الآية20] قال : فهو يدل على فضل هداية الخلق بالعلم ، ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع ؛ فإن النبي  كالطبيب ، والطبيب يكون عند المرضى ، فلو انقطع عنهم هلكوا .
(16) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) [النمل: من الآية19] قال : هذا من تمام برّ الوالدين . كأن هذا الولد خاف أن يكون والده قصرا في شكر الرب عز وجل ، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما ؛ ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصرا .
(17) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ ) [القصص: من الآية80] قال : إيثار ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء ، فمن كان هكذا فهو عالم . ومن آثر العاجل على الآجل فليس بعالم .
(18) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) [القصص: من الآية71] وفي الآية التي تليها : ( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) [القصص: من الآية72] قال : إنما ذكر السماع عند ذكر الليل والإبصار عند ذكر النهار ؛ لأن الإنسان يدرك سمعه في الليل أكثر من إدراكه بالنهار ، ويرى بالنهار أكثر مما يرى بالليل .
وقال المبرد : سلطان السمع في الليل ، وسلطان البصر في النهار .
(19) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) [فاطر: من الآية3] قال : فطلبت الفكر في المناسبة بين ذكر النعمة وبين قوله تعالى : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) [فاطر: من الآية3] فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها ، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة ، وبسوقها إلى المنعم عليه .
(20) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ) [سـبأ: من الآية46] قال : المعنى : أن يكون قيامكم خالصاً لله عز وجل ، لا لغلبة خصومكم ، فحينئذ تفوزون بالهدى .
(21) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) [يّـس: من الآية20] وفي الآية الأخرى : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ) [القصص: من الآية20] فرأيت الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره : أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه ؛ فإن الناس يقولون : الرئيس الأجل فلان ، فنظرت فإذا الذي زيد في مدحه ، وهو صاحب يس أمر بالمعروف ، وأعان الرسل ، وصبر على القتل ، والآخر إنما حذر موسى من القتل ، فسلم موسى بقبوله مشورته . فالأول هو الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، والثاني هو ناصر الآمر بالمعروف . فاستحق الأول الزيادة . ثم تأملت ذكر أقصى المدينة ، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف ، ولم يتقاعدا لبعد الطريق .
(22) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ) [يّـس: من الآية 26ـ27] قال : المعنى : يأتيهم يعلمون بأي شيء وقع غفرانه . والمعنى : أنه غفر لي بشيء يسير فعلته ، لا بأمر عظيم .
(23) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ . إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ . فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ) [الدخان: من الآية 34ـ37] قال : ربما توهم جاهل أنهم لم يجابوا عما سألوا ، وليس كذلك ؛ فإن الذي سألوا لا يصلح أن يكون دليلاً على البعث ؛ لأنهم لو أجيبوا إلى ما سألوا لم يكن ذلك حجة على من تقدم ، ولا على من تأخر ، ولم يزد على أن يكون لمن تقدم وعدا ، ولمن تأخر خبراً ، اللهم إلا أن يجيء لكل واحد أبوه ، فتصير هذه الدار دار البعث . ثم لو جاز وقوع مثل هذه كان إحياء ملك يضرب به الأمثال أولى ، كتبع ، لا أنتم يا أهل مكة ، فإنكم لا تعرفون في بقاع الأرض .
(24) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) [غافر: من الآية7] قال : علمت الملائكة أن الله عز وجل يحب عباده المؤمنين ، فتقربوا إليه بالشفاعة فيهم . وأحسن القرب أن يسأل المحب إكرام حبيبه ، فإنك لو سألت شخصاً أن يزيد في إكرام ولده لارتفعت عنده ، حيث تحته على إكرام محبوبه .
(25) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ) [الواقعة: من الآية65] ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) [الواقعة: من الآية70] قال : تأملت دخول اللام وخروجها ، فرأيت المعنى : أن اللام تقع للاستقبال ، تقول : لأضربنك ، أي فيما بعد ، لا في الحال . والمعنى ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ . أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ) [الواقعة: من الآية 63ـ65] أي : في مستقبل الزمان إذا تم فاستحصد ، وذلك أشد العذاب ، لأنها حالة انتهاء تعب الزراع ، واجتماع الدين عليه ، لرجاء القضاء بعد الحصاد ، مع فراغ البيوت من الأقوات .
وأما في الماء : فقال : ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) [الواقعة:70] أي الآن ؛ لأنا لو أخرنا ذلك لشرب العطشان ، وادخر منه الإنسان .
(26) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) [الممتحنة: من الآية5] قال : المعنى : لا تبتلينا بأمر يوجب افتتان الكفار بنا ، فإنه إذا خذل المتقي ونصر العاصي فتن الكافر ، وقال : لو كان مذهب هذا صحيحاً ما غلب …

(27) وذكر صاحب سيرة الوزير قال : سمعته يقول في قوله تعالى : ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى . قَالَ هِيَ عَصَايَ ) [طـه:18ـ17] قال : في حمل العصا عظة ؛ لأنها من شيء قد كان نامياً فقطع ، فكلما رآها حاملها تذكر الموت .
قال : ومن هذا قيل لابن سيرين رحمه الله : رجل رأى في المنام أنه يضرب بطبل ؟ فقال : هذه موعظة ؛ لأن الطبل من خشب قد كان نامياً فقطع ، ومن أغشية كانت جلود حيوان قد ذبح . وهذا أثر الموعظة .
(28) وسمعته يقول في قوله تعالى : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) [البقرة: من الآية10] قال : المريض يجد الطعوم على خلاف ما هي عليه ، فيرى الحامض حلواً ، والحلو مراً . وكذلك هؤلاء يرون الحق باطلاً ، والباطل حقاً …

(29) قال وسمعته يقول في قوله تعالى : ( إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) [المدثر:25] قال : العرب لا تعرف ذا ولا هذا إلا في الإشارة إلى الحاضر . وإنما أشار هذا القائل إلى هذا المسموع . فمن قال : إن المسموع عبارة عن القديم ، فقد قال : هذا قول البشر …
(30) وكان يقول في قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) [الأنعام: من الآية123] إنه على التقديم والتأخير ، أي : جعلنا مجرميها أكابر …
(31) وقال : الحبس غير مشروع إلا في مواضع .
أحدها : إذا سرق فقطعت يمينه ، ثم سرق فقطعت رجله ، ثم سرق : حبس ولم يقطع ، في إحدى الروايتين .
الثاني : أمسك رجل رجلاً لآخر فقتله : حبس الممسك حتى يموت ، في إحدى الروايتين أيضاً .
الثالث : ما يراه الإمام كفَّا لفساد مفسد ؛ لقوله تعالى : ( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ) [صّ:38] وما يراه أبو حنيفة في قطاع الطريق ، فإنه يحبسهم حتى يتوبوا ، فأما الحبس على الدين فمن الأمور المحدثة ، وأول من حبس فيه شريح القاضي ، وقضت السنة في عهد رسول الله  وأبي بكر وعمر وعثمان : أنه لا يحبس على الدين ، ولكن يتلازم الخصمان .
فأما الحبس الذي هو الآن فإني لا أعرف أنه يجوز عند أحد من المسلمين . وذلك أنه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم ، غير متمكنين من الوضوء والصلاة ، ويتأذون بذلك بحره وبرده . فهذا كله محدث . ولقد حرصت مراراً على فكه ، فحال دونه ما قد اعتاده الناس منه ، وأنا في إزالته حريص والله الموفق .
(32) وقال في حديث الزبير في شراج الحرة : فيه جواز أن يكون السقي للأول ، ثم الذي بعده . إلا أن هذا في النخل خاصة ، وما يجري مجراه . وأما الزرع وما لا يصبر على العطش أكثر من جمعة ونحو ذلك : فإن الماء يتناصف فيه بالسوية ، كما قال تعالى : ( وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) [القمر: من الآية28] .
(33) وقال في سورة الضحى لما توالى فيها قسمان ، وجوابان مثبتان ، وجوابان نافيان ، فالقسمان : ( وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) [الضحى: 1ـ2] والجوابان النافيان : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) [الضحى:3] والجوابان المثبتان : ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) [الضحى: 4ـ5] .
ثم قرر بنعم ثلاث ، وأتبعهن ثلاث : كل واحدة من الوصايا شكر النعمة التي قوبلت بها .
فإحداهن : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) [الضحى:6] وجوابها : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) [الضحى:9] .

والثانية : ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) [الضحى:7] فقابلها بقوله : ( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [الضحى:10] وهذا لأن السائل ضال يبغي الهدى .
والثالثة : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) [الضحى:8] فقابلها بقوله : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) [الضحى:11] .
وإنما قال : ( وَمَا قَلَى ) [الضحى: من الآية3] ولم يقل : وما قلاك ؛ لأن القلى بغض بعد حب ، وذلك لا يجوز على الله تعالى . والمعنى : وما قلى أحداً قط ، ثم قال : ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ) [الضحى:4] ولم يقل : خير من الإطلاق . وإنما المعنى خير لك ولمن آمن بك .
وقوله : ( فَآوَى ) [الضحى: من الآية6] ولم يقل : فآواك ، لأنه أراد : آوى بك إلى يوم القيامة …
(34) وقد ذكر الوزير في كلامه على شرح حديث : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " وهو الذي أفرد من كتابه ( الإفصاح ) فوائد غريبة .
فذكر في أول كلامه : أن اختصاص المساجد ببعض أرباب المذاهب بدعة محدثة ، فلا يقال : هذه مساجد أصحاب أحمد ، فيمنع منها أصحاب الشافعي ، ولا بالعكس ؛ فإن هذا من البدع . وقد قال تعالى في المسجد الحرام : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) [الحج: من الآية25] وهو أفضل المساجد …
انتهى ، ولله الحمد والمنة .
 
تعليقاً على قول الوزيرابن هبيرة : ( قوله تعالى : ( حِجَاباً مَسْتُوراً ) [الاسراء: من الآية45] قال أهل التفسير : يقولون : ساتراً ، والصواب : حمله على ظاهره ، وأن يكون الحجاب مستوراً عن العيون فلا يرى ، وذلك أبلغ .)
قال ابن القيم مبيناً معنى الحجاب ، ولم وُصف بهذا الوصف : (... ووصفه بكونه مستوراً ، فقيل: بمعنى ساتر، وقيل: على النسب ، أي: ذو ستر.
والصحيح أنه على بابه ، أي : مستوراً عن الإبصار فلا يرى . ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت ، والنسب في مفعول لم يشتق من فعله ، كمكان مهول، أي: ذي هول، ورجل مرطوب أي: ذي رطوبة ، فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور.) شفاء العليل 1/187 .
 
سبحان الله !
اليوم فرغت من قراءة ترجمة هذا الوزير العالم ، وفرحت بهذه الاستنباطات الدقيقة منه ،وقلت ـ في نفسي ـ : لعلي أنقلها في الملتقى ، وأحظى بلفت النظر إليها ، فلقد طربت لها جداً ..

وقبل أن أذكرها بحثت حتى لا تتكرر المواضيع ، فإذا بالشيخ المفيد ـ أبي عبدالملك ـ يسبقني إليها ،وما ذاك عليه بغريب ، فهو سباق إلى كل خير ..

أحببت تسجيل هذه الخاطرة ،وأنا بصدد كتابة الموضوع ..
فعلاً .. كم في هذا الملتقى من فوائد ومفيدين !!
لا حرمنا الله إياهم ،ولا من علمهم وتحقيقهم .

ولعلي لا أخلي هذه المداخلة من فائدة وقفت عليها في ترجمة هذا الإمام لها صلة بالقرآن ،وهي :
قال ابن رجب في "الذيل" 2/138 (ط.العثيمين ـ عن مكتبة العبيكان) :

قال صاحب سيرته :
ولقد كنا يومًا بالمجلس على العادة لسماع الحديث، إذ دخل حاجبه أبو الفضائل بن تركان ، فسار الوزير بشيء لم يسمعه أحد.
فقال له الوزير: أدخل الرجل، فأبطأ عليه !
فقال الوزير: أين الرجل ؟ فأبطأ، فقال : أين الرجل ؟
فقال الحاجب : إن معه شملة صوف مكورة ،. وقد قلت له : اتركها مع أحد الغلمان خارجًا عن الستر وادخل !
قال: لا أدخل إلا وهي معي !
فقال له الوزير : دعه يدخل وهي معه، فخرج وعاد ، وإذا معه شيخ طوال من أهل السواد، وعليه فوطة قطن، وثوب خام، وفي رجليه جمجان، فسلم، وقال للوزير: يا سيدي ! إن أم فلان - يعني: أم ولده - لما علمت أني متوجه إليه. قالت لي: باللّه سلم على الشيخ يحيى ـ تعني ابن هبيرة ـ عني، وادفع إليه هذه الشملة فقد خبزتها على اسمه !
فتبسم الوزير إليه وأقبل عليه، وقال: الهدية لمن حضر، وأمر بحلها، فحلت الشملة بين يديه ، وإذا فيها خبز شعير مشطور بكامخ ، اكشوث (وهو جرادٌ ونحوه) ، فأخذ الوزير منه رغيفين، وقال : هذا نصيبي، وفرق الباقي على من حضر من صدور الدولة، والسادة الأجلة .
وسأله عن حوائجه جميعها ، وتقدم بقضائها على المكان، ثم التفت إلى الجماعة ،وقال :
هذا شيخ قد تقدمت صحبتي له قديمًا، واختبرته في زرع بيننا فوجدته أمينًا، ولم يظهر منه تأفف بمقال الشيخ، ولا تكبر عليه، ولا أعرض عنه، بل أحسن لقاءه، وقضى حوائجه، وأجزل عطاءه.
ثم حكى : أنه كان بينه وبين هذا الشيخ زرع، وأنهم خشوا عليه من جيش عظيم نزل عندهم فقرأوا على جوانبه القرآن فسلم ولم يرع منه سنبلة واحدة.
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد ذكرتني ابا عبد الملك _ وما كنت ناسيا _ فرائد وشوارد العالم الوزير ابن هبيرة فقد وقفت عليها قديما

وأعجبت بها ونقلتها وعلقت على بعضها بنية نشرها فصرفتني الشواغل والتكاسل عنها فعسى أن اعود إليها
 
أستاذنا الكريم أبا تركي ، هذه بشرى طيبة ، وأأسأل الله أن يبارك لك في وقتك ، وأن يعينك على نشرها .
 
بحث زميلنا الشيخ / عبدالعزيز الخزيم (المعيد بجامعة القصيم) في رسالته الماجستير
(أقوال الوزير ابن هبيرة في التفسير) وننتظرمناقشته إن شاء الله قريباً
أسأل الله للجميع التوفيق
 
موضوع قيم جزاك الله خيراً يا دكتور مساعد .
وليت الدكتور محمد الشايع ينشط لجمعها وطباعتها جزاه الله خيراً .
 
بارك الله فيك يا استاذ الدكتور , والله كأني قد سألتك عن إخراج هذه الأقوال لأني قبل شهور تقريبا وقع عيني على هذه العبارات من الطبقات فذكرت تلك النفائس لزملائي في المدرسة وقلت لو أخرجه أخ لنا للإستفادة منها ,
جزاك الله عنا خيرا .
أظن أن ابن هبيرة له مؤلفات منها ما يعتني فيها بالصحيحين
و أنا أيضا مع الشيخ عبدالرحمن أرجوا أن يكملوا إخراج أقواله في التفسير .
وفق الله الجميع
 
عودة
أعلى