نعَمْ الخبرُ صحيحٌ، عن وفاةِ الشيخِ المقرئِ علي رحَّال رحمَه اللهُ

إنضم
30/12/2011
المشاركات
36
مستوى التفاعل
1
النقاط
8
الإقامة
المدينة المنورة
نعَمْ الخبرُ صحيحٌ​
كثيرةٌ هي هواجسُ المرءِ في غربته: من سيمرَضُ دونَ أن يَعُودَه؟ أو سيتعرَّضُ لمشكلةٍ دونَ أن يكونَ بجانبِه؟ أو سيموتُ دونَ أن يصلِّيَ عليه؟ هواجسُ لا تنتهي.
هذا هو حالي منذُ سنواتٍ عدَّةٍ، وخاصَّةً بعد عِلمِي بمرضِ أستاذِنا الشيخ علي علي سعد رحَّالٍ بالكبدِ، لكن لا يسعُني إلا التسليمُ لقضاءِ اللهِ وقدَرِه.
بعدَ مرَضِ الشيخِ كنتُ كلَّما انتهَتْ إجازتي التي أقضيها بالإسكندريَّةِ أذهبُ إلى بيتِه لأودِّعَه وأطلبَ منه الدعاءَ، وأسترضيَه إن كنتُ قد قصَّرْتُ في حقِّه عليَّ، وفي نهايةِ هذه الزيارةِ تعودُ إليَّ تلك الهواجِسُ الذي كنتُ منها في مأمنٍ طَوالَ فترةِ الإجازةِ، فأقولُ لنفسي: املأْ عينَيكَ منه، فلعلَّكَ لا تجدُ فرصةً أخرى تراهُ فيها.
اليومَ جاءَني خبرُ وفاتِه، حاولتُ أن لا أبكيَ، لكن دون جَدْوى.
تذكرتُ تلك الساعاتِ الطويلةَ التي قضيتُها جالسًا بينَ يدَيه أقرأُ عليه القرآنَ وهو يصحِّحُ لي فيها أخطائي في التلاوةِ.
تذكرتُ أوَّلَ مرةٍ رأيتُه فيها ببيتِ جدِّي وأنا ابنُ خمسِ سنواتٍ، كنتُ يومَها أقرأُ من سورةِ الملك وآخذُ نفسي في أثناءِ القراءةِ كسائرِ الأطفالِ، فلمَّا سمعني أجلسَني على رجلِه وعلَّمَني أن أقفَ إذا أحسسْتُ بقربِ انقطاعِ النفسِ، ثم أواصِلَ القراءةَ، ومن يومِها وأنا أفعلُ ما علَّمَني.
تذكرتُ كيف كانَ حالي أوَّلَ ما جئتُه لأقرأَ عليه ختمةً كاملةً للقرآنِ، كنتُ كشعبةَ الذي قال له أستاذه عاصمٌ: «احمدِ اللهَ؛ فإنَّكَ جئتَ وما تحسنُ شيئًا»، نعم الحمدُ للهِ.
تكاثرّتْ عليَّ الذكرياتُ، فبكيْتُ على نفسي، فمثلُ الشيخِ لا يُحزَنُ عليه، نعم يحزَنُ على فراقِه والفراغِ الذي ترَكَه، أمَّا هو فإنِّي أرجو أنَّه لقيَ اللهَ على ما عاشَ عليه، فقد جلسَ لتعليمِ القرآنِ أكثرَ من خمسين سنةً، وكانَ مداومًا على قراءةِ وِردِه منه في العافيةِ والمرَضِ والسَّفَرِ والحضَرِ، وعلى صيامِ النوافلِ، معَ إلحاحِنا عليه أن لا يفعلَ بسبَبِ مرضِه.
بكيتُ لأنِّي لم أستطعْ أن أؤُمَّ المصلِّين عليه كما كانَ يوصيني دائمًا، فأرُدُّ عليه وأنا أحاولُ أن أذهَبَ بفكري بعيدًا عن هذا اليومِ: ربنا يبارك لنا في عمرِك يا مولانا.
بكيتُ لأني لم أحمِلْ نعْشَه على كتِفِي، ولم أقِفْ على قبرِه، أو في صفِّ من يتلقَّون العزاءَ فيه.
سأمضي بإذن الله على الطريق الذي أرادني وكلَّ تلامذتِه أن نسيرَ فيه، متمسِّكًا بكتابِ اللهِ متعلِّمًا ومعلِّمًا له ابتغاءَ رِضوانِ اللهِ.
سأجتهدُ كي أكونَ مِثلَك يا سيدي: غيورًا على القرآن، مقيمًا لحروفِه وحدودِه.
رحمَك اللهُ، آنَسَكَ اللهُ، لقَّنَكَ اللهُ حُجَّتَك​
اليومَ تحقَّقَ جزءٌ كبيرٌ من هَوَاجسي في الغُربةِ، وصحَّ ذاك الخبرُ الذي كانَ يؤرِّقُني حينَ يسألُني بعضُ الأصدقاءِ: هل خبرُ وفاةِ الشيخِ علي رحال صحيحٌ؟ وقتَها كنتُ أفزَعُ إلى هاتفي لأتَّصِلَ بالشيخِ، حتى إذا سمعْتُ صوتَه هدأْتُ وسكنَ قلبي، ثمَّ أعودُ لأجيبَ السائل: الشيخُ بخيرٍ وللهِ الحمدُ، والخبرُ ليس صحيحًا.
اليومَ جاءتْني هذه الرسالةُ مرَّةً أخرى، فرددتُّ عليها لأوَّلِ مرَّةٍ دونَ أن ألتقِطَ هاتفي لأتَّصِلَ بالشيخِ: نعَمْ، الخبرُ صحيحٌ.
كتَبَه
أحمد محمد فريد شوقي
بالمدينةِ المنوَّرةِ
السبت 28 جمادى الأولى 1438 هـ
الموافق 25 فبراير 2017 م
 
عودة
أعلى