مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
لقد اطلعت على ما نقله الأخ الكريم عبد الرحمن الشهري من مقال في مجلة الفرقان للدكتور عودة الله منيع القيسي تحت عنوان (( فرضيَّّة (الشعوب الساميّة، واللغات الساميّة( فرضيّةٌ خرافيةٌ لا أصل لها )) ، وأحببت أن أشارك في هذا الموضوع بشيء كان في نفسي أن اكتب عنه منذ زمن ، لكن هذا المقال دفعني إلى أن أحرر هذه المقالة الموجزة التي تواطئ ما ذهب إليه الدكتور الفاضل ، فكلامه صحيح بلا ريب ، لا يخفى على من يقرأ في تاريخ هذه المنطقة العريقة في القِدم .
إن من العجيب أن تكون الفرضية حقيقة ، مع اليقين بأنها فرضية ، والأعجب من هذا أن تتحول إلى ولاء وبراء بامتياز خاصٍ لليهود فقط .
إنه استغلال اليهود الذي تميزوا به ، فحصروا هذا المصطلح الخرافي عليهم ، ونقلوه إلى مصطلح سياسي يعادون عليه من يعادون ، وإن كانوا ساميين ـ كالعرب ـ على مصطلحهم هذا ، لكن الإعلام له سيطرته الغالبة التي تحول الصادق كاذبًا ، والكاذب صادقًا ، وترى كثيرًا من الناس يصدقونهم ، فياللعجب !.
وهذه الكذبة في هذه المصطلح التي اخترعها المستشرق اللاهوتي ( شلوتزر ) ، وهي نسبة إلى سام بن نوح عليه السلام .
يقول : (( ... من المتوسط إلى الفرات ، ومن بلاد النهرين إلى شبه جزيرة العرب تسود كما هو معروف لغة واحد وعليه فالسوريون والبابليون والعبريون والعرب كانوا أمة واحدة ، والفينيقيون والحاميون أيضًا تكلموا بهذه اللغة التي أود أن أدعوها ساميَّة )) ( نقلاً عن معرب القرآن عربي أصيل للدكتور جاسر أبو صفية / ص : 12 ) .
وقد اعترض عليه المستشرق الفرنسي بيرو روسي في كتابه ( مدينة إيزيس التاريخ الحقيقي للعرب / ترجمة فريد جحا ص : 18 ) ، فقال : (( إننا نعرف عندما نتكلم عن الوطن العربي أننا في سبيلنا إلى معارضة نظرية مقدسة تجعل العربي شخصية صحراوية انبثقت في التاريخ في عهد غير محدد أو معروف .
لقد كتبت دائرة معارف الإسلام : (( إن عهود العرب الأولى في التاريخ غامضة جدًّا ، إننا لا نعرف من أين أتوا ، ولا ماهو وجودهم البدائي )) .ولكن شيئًا وحيدًا يبدو مؤكدًا لكاتب المقال ، وهو انهم ساميون . وهاهو ذا التفسير الهزيل الهزيل ، التعبير الخالي من الحقيقة ، من أي معنى ، تعبير فارغ إلى حدِّ أن دائرة معارف الإسلام هذه نفسها لم تستطع أن تضع تعبير (( الساميين )) على مائدة البحث .
وهل هناك ضرورة لإضافة أن تعبير ( سامي ) لم يرد ذكره بين مفردات اللغة الإغريقية أو اللاتينية ؟!
وما يقال في هذا المجال طويل ، إننا لن نجد هذا التعبير قبل نهاية القرن الثامن عشر ، وذلك أن العالم ( أ .ل . شلوتسر ) هو الذي صاغ هذا النعت (السامي) في مؤلف نشره عام 1781 ، وأعطاه هذا العنوان ( فهرس الأدب التوراتي والشرقي ) ، كأن الأدب التوراتي ليس شرقيًّا ... ))
وهذه التسمية مرجعها أسفار بني إسرائيل ، حيث يعدُّون لنوح ثلاثة أبناء : سام ، وحام ، ويافث ، ويقسمون الشعوب عليهم ، وهذا فيه نظر ليس هذا محله .
ويجعلون شعوب السامية متكونة من ( الآشورية البابلية والآرامية والعبرية والعربية والحبشية وغيرها ) .
وإذا تأملت أماكن عيش هذه الشعوب ، فإنه سيظهر أربعة مناطق : ( جزيرة العرب ، والحبشة ، والعراق ، والشام ) .
وهذا التقسيم يوحي لك بأن هذه الشعوب تتكلم لغات مختلفة ، وإن كانوا يقولون بأن أصلها واحد ، وهو السامية المزعومة ، التي لا يُعرف لها كنه ولا صفة .
ولو تأملنا المصادر التي يعتمدها هؤلاء الدارسون لوجدنا الأول عندهم هو أسفار بني إسرائيل ( الموسومة عندهم بالكتاب المقدس ) ، فهم يجعلون هذا الكتاب ، ولغتهم العبرية المزعومة الأساس في دراسة هذه المنطقة لغة وتاريخًا .
وقد يزيد بعض الباحثين ما يجدونه من أثريات قد دُّوِّن فيها شيء من الأخبار أو التاريخ ، لكنهم يدرسونها حسب المنظور التوراتي فحسب .
وقد قابل هؤلاء باحثون لا دينيون فاعترضوا على كل ما هو توراتي ، وأظهروا زيف بعض أقاصيص هذه الأسفار المكذوبة ، لكن لأجل هذا المنطلق غير الديني أوقعهم في تكذيب أخبار صحيحة قد وردت في كتاب ربنا وسنة نبينا الصحيحة ، وإن كانوا احسنوا في ردِّ بعض خرافات بني إسرائيل .
أما نحن المسلمين ـ وياللأسف ـ فقلَّ أن تجد عندنا باحثين متخصصين في هذه الأمور ينطلقون من تراثنا العريق الذي قد صُحِّح فيه شيء من أخبار هؤلاء .
ولهذا أقول : إننا ـ نحن المسلمين ـ بحاجة إلى إبراز المنهج العلمي الإسلامي القائم على العدل ، وإيضاح الحقِّ ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 8 ) ، لكي لا تأخذنا العاطفة وردة الفعل في ردِّ كل ما مصدره يهوديُّ أو نصراني (1) .
وإنني من خلال قراءتي في هذا الموضوع وما يدور حوله = أحسُّ بأن الموضوع بحاجة ماسَّة إلى متخصصين يتخصصون فيه ؛ لأن تاريخ منطقتنا العربية ولغاتها القديمة من جزيرتها وعراقها وشامها ومغربها قد كُتِب بأيدي أناس خارجين عن المنطقة وليس لهم علم بلغتها ، هذا على أحسن الأحوال ، وإن كان كثيرٌ ممن كتب في ذلك لا يخلو من تزيييف متعمد من توراتيين يهود أو مستشرقين ، والاستدلال لهذه المسألة يطول ، وهو يصلح أن يكون بحثًا أكاديميًّا لمن يكون متخصصًا في الآثار أو اللغة أو التاريخ ، فهذه المجالات الثلاثة لا يستغني الدارسون فيها عن بعضهم البعض .
ولئلا يطول الموضوع أُلمح إلى بعض القضايا المتعلقة بهذا المصطلح ، فأقول :
1 ـ لا ريب أن المصدر الوحيد لهذه التسمية ( وكذا تقسيم الشعوب ) هو أسفار بني إسرائيل ، وهي ـ كما لا يخفاك ـ ينقصها التوثيق ، ولا تصلح لأن تكون المصدر الوحيد فقط .
وقد ورد في كتاب ( مدخل إلى الكتاب المقدس ، تأليف جماعة من النصارى ، إصدار دار الثقافة ) ( ص : 23 ) : (( كاتب التكوين مجهول ، لكن العهد الجديد يدلنا ضمنًا على أن كاتبه هو موسى ، ولم يعترض أحد على هذا المفهوم حتى العصر الحديث .. كما لا نعرف كيف كُتب هذا السفر ، لكن من المعقول أن نرى موسى كمحرر استطاع أن يضم عددًا كبيرًا من القصص والحقائق التي قد يكون بعضها قد أصبح شائعًا قبل تاريخ تدوينه )) .
وهذا الكلام فيه من الضعف والسقطات ما يُغني عن التعليق عليه .
2 ـ أن سفر التكوين يذكر أمرًا يتعلق بامتياز سام على ابني نوح الآخرين ( يافث وحام ) ، فصار سام هو المقدَّم عند اليهود ، وينسبون أنفسهم إليه .
3 ـ أن جميع الشعوب ـ كما في أسفارهم ـ قد خرجت من أبناء نوح عليه السلام .
4 ـ أن الناس كانوا على لغة واحدة ، حتى بنوا أرض بابل ، فكان ما كان من بلبلة الله لألسنتهم ـ كما تزعم هذه الأسفار ـ ، وذلك بعد فترة من عيش أبناء أحفاد أولاد نوح .
وبعد هذه النقاط المأخوذة من أسفارهم يقع سؤال ؟
لماذا نُسِبت اللغة وهذه الشعوب إلى سام ، وقد وقع تبلبل ألسنة الناس ؟
كيف عُرِفت هذه اللغات ، وكيف أمكن الناس أن يتفاهموا عليها ؟!
هل اللسان الذي كان يتكلم به الناس قبل البلبلة المزعومة هو اللسان السامي ؟!
إذا كان اللسان هو السامي ، فأين إخوة سام ، ولم لم تُنسب إليهم لغات ؟ لماذا أُهملوا كل هذا الإهمال ؟!
أين نوح عليه السلام ، ولم لم تكن نسبة اللسان إليه بدلاً من سام ؟
هل يُنسب الأب إلى لغة ابنه كما وقع في كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) ، فقد ورد فيه ( ص : 982 ) : (( نوح : اسم سامي معناه : راحة )) .
ليس هناك إلا الافتراض والتحكُّم ، والتحكُّم لا يعجز عنه أحدٌ .
ولعلك تتساءل : أين أخبار بني نوح في أسفار بني إسرائيل ؟
لا عليك ، فإن الأسفار إنما هي أسفار بني إسرائيل ، ولا شأن لها بغير أخبارهم ، وإن كانوا ساميين ـ على زعمهم ـ فهم قد خرجوا من دائرة الاصطفاء الذي يزعمون أنه صار في سام وأولاده ، ثم اختير من أولاده إبراهيم ، ثم اختير من أولاد إبراهيم إسحاق ، ثم في يعقوب وأبنائه ، وعليهم وقف الاصطفاء فلم يتغير ولم يتبدل كما يزعمون ، لذا قلَّ أن تجد خبرًا عن غيرهم في أسفارهم ، كما أنك تجد أنه بعد ذكر نوح وأبنائه انتقل الحديث إلى إبراهيم دون ذكر ما كان بينهما من التاريخ الطويل ، فياللعجب كيف أغفلوا تاريخ أجدادهم ؟!
وانظر ما يقوله مؤلفو كتاب ( مدخل إلى الكتاب المقدس ) عن سفر التكوين ( ص : 23 ) : (( أهمية سفر التكوين : ... ويتحدث سفر التكوين عن بداية العالم والإنسان والمجتمع والعائلات والأمم ، وبداية الخطيئة والخلاص ، وبصفة خاصة هو يتكلم عن بداية نشأة الجنس العبراني )) .
أقول : كم يمثل الجنس العبراني من بين تلك الشعوب التي ذكروها ؟ ولماذا أهملوا كل الأجناس ، واعتنوا بهذا الجنس القليل جدًّا ، ألا يدل هذا على أنهم لا يرون غيرهم ، وأنهم هم أصحاب الامتياز ؟
إن الموضوع طويل جدًّ ، ولا يكفي أن أقرر لك ما يتعلق به في مثل هذا المقال ، لكن ألفت نظرك إلى بعض الأمور ، منها :
1 ـ إن وجود الأخطاء والتحريفات والكذب في أسفار اليهود واضح وضوح الشمس في رائعة النهار ، ولا ينكر ذلك إلا مكابرٌ .
2 ـ إن وصول أسفار اليهود إليهم غير متصل السند البتة ، وهم يعرفون ذلك بيقين ، ويعلمون أنهم فقدوا التوراة في السبي البابلي ، وان الكاتب عزرا قد أملاها ، لأنه ـ كما قيل ـ كان يحفظ التوراة .
ولا يخفاك ما قاله أصحاب كتاب ( المدخل إلى الكتاب المقدس ) بشأن سفر التكوين .
3 ـ إن هذه الأسفار إنما هي ـ في أغلبها ـ أخبار كُتِبت لأحداث شاهدها أشخاص ، أو وردت إليهم شفاهًا عمن حدثت له ، وبهذا فهي لا تمثِّل كلام الله الموحى به ، سوى بعض ما في الأسفار الخمسة ، وبعض الأسفار التي فيها بقايا وحي ، ومع ذلك لا يمكن الجزم به جزمًا يقينيًّا .
والدليل على أنه بقي عندهم شيء من الوحي ، خبر اليهودي واليهودية الذين زنيا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلوا ما في التوراة من حكم الزنى ،والقصة معروفة .
4 ـ إن هذه الأسفار لا يصلح أن تكون المصدر الوحيد لأخذ الاسم أو الحدث ، كما حصل في أخذ مصطلح السامية منها .
وإذا كان ولابدَّ من أخذ التسمية منه ، فلم لم يكن ( النوحية ) ؟
ما لغة نوح الأب ؟
هل تغيرت لغة أبنائه عنه حتى تسمى لغة بعضهم سامية ، وبعضهم غير سامية ؟
وأحب أن تلحظ أن لغة نوح هي لغة من سبقه من أبائه ، وهي لغة ( عروبية ) فيها أسماء عربية نعرف اشتقاقها وأصلها في لغتنا المعيارية التي نزل القرآن بها ، فقد قال تعالى عن قوم نوح ((وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) ( نوح : 23 ) ، وهذه أسماء عربية ، فماذا ياترى تكون لغة نوح وقومه ؟ أليست تلك اللغة العروبية الاشتقاقية التي بقيت في جزيرة العرب صافية أكثر منها في بلاد العرب الأخرى ؛ في عراقهم وشامهم ومصرهم ومغربهم العربي منذ القِدم ؟
وتلك قضية تحتاج إلى مقال مستقلٍ لعل الله ييسر بكتابته بتفصيل يدل على الحقيقة فيه ، والله الموفق .
إن مما يحسن أن يعلمه القارئ أن أسفار بني إسرائيل تكره كل شيء عربيٍّ كائنًا ما كان هذا العربي ، وسأذكر لك بعض الدلائل من كتبهم :
1 ـ الكنعانيون جعلوهم من نسل حامٍ المغضوب عليه مع أنهم ساميون ـ في مصطلحهم ـ فهم من سكان منطقة الساميين وليسوا من مناطق الحاميين ، وإنما أخرجوهم كرهًا لهم لأنهم عرب يشهد بذلك التاريخ ، وهم الجبارون الذين كانوا في زمن موسى فكرهوا محاربتهم ، وجبنوا عن لقائهم .
2 ـ عندهم أن إخوة يوسف باعوا أخاهم يوسف للإسماعيليين ، ولا يخفاك أن إسماعيل سكن جزيرة العرب ، وهو عمُّ هؤلاء الذين يبيعون يوسف عليه السلام ، أفيُعقل أن يخفى عليهم أبناء عمهم ولا يعرفونهم ؟ !
3 ـ أنهم حرفوا العهد الذي جعله الله لأبناء إبراهيم ، وجعلوه لهم ، وأنكروا كل فضيلة لإسماعيل ، حتى لقد زعموا أن إسحاق هو الذبيح الذي له العهد ، مع أن فيما كتبوه ما يدل على كذبهم .
ولقد سرت هذه العداوة عند بعض الغربيين من الباحثين المستشرقين المتأثرين بالدراسات التوراتية ، فعلى سبيل المثال : جعلوا اللغات الآرية مقابل اللغات السامية ، وجعلوا ممن ينطق بالآرية ( الهند وأروبة ) التي قد يُطلق عليها ( الهندوروبية ) ، وزعموا أن بينها أواصر لغوية مشتركة ، فانظر كيف ابتدعوا بأنفسهم إلى من يفصل بينهم وبينه مسافات ، وتركوا العرب الذين تربطهم بهم أواصر لغوية وتاريخية ،
وإذا كان الغرب يرجع إلى السامية ، ولا يريدها ، فلم لم يخترعوا اسمًا لهم من أولاد نوح كما اخترعوا السامية ، لم لمَ يقولوا لهذه اللغة الآرية (يافثية) نسبة إلى يافث بن نوح الذي يجعلون من نسله اليونايين والناضوليين ؟!(2)
وما ذاك إلا حاجة في نفوسهم ، وإلا فأين بُعث موسى وعيسى ، ألم يُبعثا في الشرق ، فلم البعد عن الشرق والارتباط بشرق الشرق ؟!
أإلى هذا الحدِّ وصل الحقد والحسد ؟!
هذا ، ولقد اجتهد اليهود في إثبات صحة كتبهم من خلال البحث في الأثريات ، لكن لم يجدوا شيئًا ، فصاروا يتشبثون بهذه المزاعم التي يصدرونها بين الفينة والفينة كالسامية التي صاروا يوالون ويعادون عليها ، وكأنها أصل الشعوب .
إن نظرت عابرة لتاريخ الأنبياء تدلنا على أن العرب عريقون في أعماق التاريخ ، فنوح عربي بدلالة ما ذكرت لك من أسماءٍ عربية لأصنام قومه التي كانوا يعبدونها ، وهود عليه السلام وقومه عاد عربٌ ، وصالح عليه السلام وقومه ثمود عرب ، وشعيب عليه السلام وقومه أصحاب مدين عرب .
فنوح ـ عليه السلام ـ قبل السامية المزعومة التي صنعوها وتحاكموا إليها ، ومن جاء بعده من الأنبياء المذكورين ـ عليهم السلام ـ كانوا قبل إبراهيم عليه السلام ، وقبل بروز العبرية المزعومة التي يتكلم بها بنو إسرائيل .
فكيف تُغفل تلك الأمة العظيمة التي كانت لها هجرات خمس كبرى إلى أرض الهلال الخصيب وأرض الشام منذ القِدم ، ويُتناسى تاريخها ، وتُتناسى لغتها ، ليؤخذ بمصطلح مخترعٍ ليس عليه دليل علمي ؟!
إننا أما تراث تاريخي ولغوي قد لُعِب به ، ودُرس بغير لغته التي تمتلك ثمانية وعشرين حرفًا بخلاف اللغات التي دُرست بها آثار هذه المنطقة ، فنقصها ست حروف ، فلو سلمت القراءات من الخطأ من جهة ، فإنها لن تسلم بفقدانها هذه الأحرف التي تفكُّ كثيرًا من غموض مدونات الآثار .
واعتمادًا على السامية المزعومة ، فإن الضاد ستنطق دالاً ، والعين ستنطق ألفًا ، والخاء ستنطق كافًا ، والطاء ستنطق تاءً ... الخ من ألفاظ الحروف التي لا تعرفها كثير من لغات الغرب ، فانظر مدى الخطأ الذي سيقرؤه الذي يريد البحث في تاريخ المنطقة القديم ولغاتها القديمة ؟.
وبعد فإن الموضوع له ذيول تحتاج إلى فكٍّ وتحليل ، ولكن الوقت لا يُسعف بأكثر من هذا الآن ، ولعل الله ييسر لي أن أبسط الموضوع ؛ فإن له علاقة بالمعرَّب من جهة ، فأسأل الله التوفيق والسداد ، والبركة في العمر لخدمة كتابه الكريم .
ــــــــــــــــ
(1) من القضايا المهمة في هذا الباب أن تعرف أن أبناء يعقوب الذين من نسلهم بنو إسرائيل كانوا أبناء عمِّ لأبناء إسماعيل عليهم السلام ، فالجد واحد ، وهو إبراهيم عليه السلام ، فوشائج القربى بين العرب وبينهم جاءت من هذا الباب فقط ، ولا يعني هذا أننا نقبل كل ما هو إسرائيلي ، لكن قد يغفل بعض الكاتبين حينما يكتبون عن أولاد يعقوب أو عن بني إسرائيل ، وكأنهم يكتبون عن قوم لا علاقة لهم بالعرب من قريب ولا من بعيد .
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن إبراهيم وبنيه كانوا يتكلمون عربية ذلك الزمان ، فأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهذا لفظ عربي صريح ، وهي من مصر ، وإبراهيم من العراق ، وقد نزل بها إلى مكة ، وقابلت قبيلة جرهم ، وتخاطبت معها ، ولم تحتج إلى ترجمان ، وقد اشتقت اسم ولدها إسماعيل من ( يسمع إئيل ) كما ورد في كتبهم ، ونزل إبراهيم لابنه إسماعيل ، وخاطب زوجتيه ولم يحتج إلى ترجمان .
وإذا نظرت إلى اسم ابن أخي إسماعيل وجدته ( يعقوب ) ؛ أي الذي يعقب ويخلف غيره ، وهو قد عقب أباه ، كما قال تعالى ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) فتأصيل هذا الاسم في العربية قريب المأخذ لمن تأمله ، وهذا كله يدلك على وجود تلك اللغة الاشتقاقية العربية العريقة التي كانت سائدة في هذه المنطقة منذ القدم ، وإن اختلفت وتحورت وتطورت إلا أنها لا تخرج عن لغة الاشتقاق . ولعله يأتي المقام لإكمال حلقات المعرَّب لآتي على هذه الأسماء وأبين علاقتها بالعربية المعيارية التي نزل بها القرآن الكريم .
(2) أشار إلى هذه الفكرة بيرو روسي في كتابه / مدينة إيزيس التاريخ الحقيقي للعرب ، ترجمة فريد جحا ( ص : 19 ) .
( ملاحظة : هذه الترجمة لهذا الكتاب سيئة جدًّا ، ولا أدري هل تُرجم ترجمة أخرى ، ففي الكتاب نقد لنظريات غربية في تعاطيها مع الشرق العربي ).
إن من العجيب أن تكون الفرضية حقيقة ، مع اليقين بأنها فرضية ، والأعجب من هذا أن تتحول إلى ولاء وبراء بامتياز خاصٍ لليهود فقط .
إنه استغلال اليهود الذي تميزوا به ، فحصروا هذا المصطلح الخرافي عليهم ، ونقلوه إلى مصطلح سياسي يعادون عليه من يعادون ، وإن كانوا ساميين ـ كالعرب ـ على مصطلحهم هذا ، لكن الإعلام له سيطرته الغالبة التي تحول الصادق كاذبًا ، والكاذب صادقًا ، وترى كثيرًا من الناس يصدقونهم ، فياللعجب !.
وهذه الكذبة في هذه المصطلح التي اخترعها المستشرق اللاهوتي ( شلوتزر ) ، وهي نسبة إلى سام بن نوح عليه السلام .
يقول : (( ... من المتوسط إلى الفرات ، ومن بلاد النهرين إلى شبه جزيرة العرب تسود كما هو معروف لغة واحد وعليه فالسوريون والبابليون والعبريون والعرب كانوا أمة واحدة ، والفينيقيون والحاميون أيضًا تكلموا بهذه اللغة التي أود أن أدعوها ساميَّة )) ( نقلاً عن معرب القرآن عربي أصيل للدكتور جاسر أبو صفية / ص : 12 ) .
وقد اعترض عليه المستشرق الفرنسي بيرو روسي في كتابه ( مدينة إيزيس التاريخ الحقيقي للعرب / ترجمة فريد جحا ص : 18 ) ، فقال : (( إننا نعرف عندما نتكلم عن الوطن العربي أننا في سبيلنا إلى معارضة نظرية مقدسة تجعل العربي شخصية صحراوية انبثقت في التاريخ في عهد غير محدد أو معروف .
لقد كتبت دائرة معارف الإسلام : (( إن عهود العرب الأولى في التاريخ غامضة جدًّا ، إننا لا نعرف من أين أتوا ، ولا ماهو وجودهم البدائي )) .ولكن شيئًا وحيدًا يبدو مؤكدًا لكاتب المقال ، وهو انهم ساميون . وهاهو ذا التفسير الهزيل الهزيل ، التعبير الخالي من الحقيقة ، من أي معنى ، تعبير فارغ إلى حدِّ أن دائرة معارف الإسلام هذه نفسها لم تستطع أن تضع تعبير (( الساميين )) على مائدة البحث .
وهل هناك ضرورة لإضافة أن تعبير ( سامي ) لم يرد ذكره بين مفردات اللغة الإغريقية أو اللاتينية ؟!
وما يقال في هذا المجال طويل ، إننا لن نجد هذا التعبير قبل نهاية القرن الثامن عشر ، وذلك أن العالم ( أ .ل . شلوتسر ) هو الذي صاغ هذا النعت (السامي) في مؤلف نشره عام 1781 ، وأعطاه هذا العنوان ( فهرس الأدب التوراتي والشرقي ) ، كأن الأدب التوراتي ليس شرقيًّا ... ))
وهذه التسمية مرجعها أسفار بني إسرائيل ، حيث يعدُّون لنوح ثلاثة أبناء : سام ، وحام ، ويافث ، ويقسمون الشعوب عليهم ، وهذا فيه نظر ليس هذا محله .
ويجعلون شعوب السامية متكونة من ( الآشورية البابلية والآرامية والعبرية والعربية والحبشية وغيرها ) .
وإذا تأملت أماكن عيش هذه الشعوب ، فإنه سيظهر أربعة مناطق : ( جزيرة العرب ، والحبشة ، والعراق ، والشام ) .
وهذا التقسيم يوحي لك بأن هذه الشعوب تتكلم لغات مختلفة ، وإن كانوا يقولون بأن أصلها واحد ، وهو السامية المزعومة ، التي لا يُعرف لها كنه ولا صفة .
ولو تأملنا المصادر التي يعتمدها هؤلاء الدارسون لوجدنا الأول عندهم هو أسفار بني إسرائيل ( الموسومة عندهم بالكتاب المقدس ) ، فهم يجعلون هذا الكتاب ، ولغتهم العبرية المزعومة الأساس في دراسة هذه المنطقة لغة وتاريخًا .
وقد يزيد بعض الباحثين ما يجدونه من أثريات قد دُّوِّن فيها شيء من الأخبار أو التاريخ ، لكنهم يدرسونها حسب المنظور التوراتي فحسب .
وقد قابل هؤلاء باحثون لا دينيون فاعترضوا على كل ما هو توراتي ، وأظهروا زيف بعض أقاصيص هذه الأسفار المكذوبة ، لكن لأجل هذا المنطلق غير الديني أوقعهم في تكذيب أخبار صحيحة قد وردت في كتاب ربنا وسنة نبينا الصحيحة ، وإن كانوا احسنوا في ردِّ بعض خرافات بني إسرائيل .
أما نحن المسلمين ـ وياللأسف ـ فقلَّ أن تجد عندنا باحثين متخصصين في هذه الأمور ينطلقون من تراثنا العريق الذي قد صُحِّح فيه شيء من أخبار هؤلاء .
ولهذا أقول : إننا ـ نحن المسلمين ـ بحاجة إلى إبراز المنهج العلمي الإسلامي القائم على العدل ، وإيضاح الحقِّ ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 8 ) ، لكي لا تأخذنا العاطفة وردة الفعل في ردِّ كل ما مصدره يهوديُّ أو نصراني (1) .
وإنني من خلال قراءتي في هذا الموضوع وما يدور حوله = أحسُّ بأن الموضوع بحاجة ماسَّة إلى متخصصين يتخصصون فيه ؛ لأن تاريخ منطقتنا العربية ولغاتها القديمة من جزيرتها وعراقها وشامها ومغربها قد كُتِب بأيدي أناس خارجين عن المنطقة وليس لهم علم بلغتها ، هذا على أحسن الأحوال ، وإن كان كثيرٌ ممن كتب في ذلك لا يخلو من تزيييف متعمد من توراتيين يهود أو مستشرقين ، والاستدلال لهذه المسألة يطول ، وهو يصلح أن يكون بحثًا أكاديميًّا لمن يكون متخصصًا في الآثار أو اللغة أو التاريخ ، فهذه المجالات الثلاثة لا يستغني الدارسون فيها عن بعضهم البعض .
ولئلا يطول الموضوع أُلمح إلى بعض القضايا المتعلقة بهذا المصطلح ، فأقول :
1 ـ لا ريب أن المصدر الوحيد لهذه التسمية ( وكذا تقسيم الشعوب ) هو أسفار بني إسرائيل ، وهي ـ كما لا يخفاك ـ ينقصها التوثيق ، ولا تصلح لأن تكون المصدر الوحيد فقط .
وقد ورد في كتاب ( مدخل إلى الكتاب المقدس ، تأليف جماعة من النصارى ، إصدار دار الثقافة ) ( ص : 23 ) : (( كاتب التكوين مجهول ، لكن العهد الجديد يدلنا ضمنًا على أن كاتبه هو موسى ، ولم يعترض أحد على هذا المفهوم حتى العصر الحديث .. كما لا نعرف كيف كُتب هذا السفر ، لكن من المعقول أن نرى موسى كمحرر استطاع أن يضم عددًا كبيرًا من القصص والحقائق التي قد يكون بعضها قد أصبح شائعًا قبل تاريخ تدوينه )) .
وهذا الكلام فيه من الضعف والسقطات ما يُغني عن التعليق عليه .
2 ـ أن سفر التكوين يذكر أمرًا يتعلق بامتياز سام على ابني نوح الآخرين ( يافث وحام ) ، فصار سام هو المقدَّم عند اليهود ، وينسبون أنفسهم إليه .
3 ـ أن جميع الشعوب ـ كما في أسفارهم ـ قد خرجت من أبناء نوح عليه السلام .
4 ـ أن الناس كانوا على لغة واحدة ، حتى بنوا أرض بابل ، فكان ما كان من بلبلة الله لألسنتهم ـ كما تزعم هذه الأسفار ـ ، وذلك بعد فترة من عيش أبناء أحفاد أولاد نوح .
وبعد هذه النقاط المأخوذة من أسفارهم يقع سؤال ؟
لماذا نُسِبت اللغة وهذه الشعوب إلى سام ، وقد وقع تبلبل ألسنة الناس ؟
كيف عُرِفت هذه اللغات ، وكيف أمكن الناس أن يتفاهموا عليها ؟!
هل اللسان الذي كان يتكلم به الناس قبل البلبلة المزعومة هو اللسان السامي ؟!
إذا كان اللسان هو السامي ، فأين إخوة سام ، ولم لم تُنسب إليهم لغات ؟ لماذا أُهملوا كل هذا الإهمال ؟!
أين نوح عليه السلام ، ولم لم تكن نسبة اللسان إليه بدلاً من سام ؟
هل يُنسب الأب إلى لغة ابنه كما وقع في كتاب ( قاموس الكتاب المقدس ) ، فقد ورد فيه ( ص : 982 ) : (( نوح : اسم سامي معناه : راحة )) .
ليس هناك إلا الافتراض والتحكُّم ، والتحكُّم لا يعجز عنه أحدٌ .
ولعلك تتساءل : أين أخبار بني نوح في أسفار بني إسرائيل ؟
لا عليك ، فإن الأسفار إنما هي أسفار بني إسرائيل ، ولا شأن لها بغير أخبارهم ، وإن كانوا ساميين ـ على زعمهم ـ فهم قد خرجوا من دائرة الاصطفاء الذي يزعمون أنه صار في سام وأولاده ، ثم اختير من أولاده إبراهيم ، ثم اختير من أولاد إبراهيم إسحاق ، ثم في يعقوب وأبنائه ، وعليهم وقف الاصطفاء فلم يتغير ولم يتبدل كما يزعمون ، لذا قلَّ أن تجد خبرًا عن غيرهم في أسفارهم ، كما أنك تجد أنه بعد ذكر نوح وأبنائه انتقل الحديث إلى إبراهيم دون ذكر ما كان بينهما من التاريخ الطويل ، فياللعجب كيف أغفلوا تاريخ أجدادهم ؟!
وانظر ما يقوله مؤلفو كتاب ( مدخل إلى الكتاب المقدس ) عن سفر التكوين ( ص : 23 ) : (( أهمية سفر التكوين : ... ويتحدث سفر التكوين عن بداية العالم والإنسان والمجتمع والعائلات والأمم ، وبداية الخطيئة والخلاص ، وبصفة خاصة هو يتكلم عن بداية نشأة الجنس العبراني )) .
أقول : كم يمثل الجنس العبراني من بين تلك الشعوب التي ذكروها ؟ ولماذا أهملوا كل الأجناس ، واعتنوا بهذا الجنس القليل جدًّا ، ألا يدل هذا على أنهم لا يرون غيرهم ، وأنهم هم أصحاب الامتياز ؟
إن الموضوع طويل جدًّ ، ولا يكفي أن أقرر لك ما يتعلق به في مثل هذا المقال ، لكن ألفت نظرك إلى بعض الأمور ، منها :
1 ـ إن وجود الأخطاء والتحريفات والكذب في أسفار اليهود واضح وضوح الشمس في رائعة النهار ، ولا ينكر ذلك إلا مكابرٌ .
2 ـ إن وصول أسفار اليهود إليهم غير متصل السند البتة ، وهم يعرفون ذلك بيقين ، ويعلمون أنهم فقدوا التوراة في السبي البابلي ، وان الكاتب عزرا قد أملاها ، لأنه ـ كما قيل ـ كان يحفظ التوراة .
ولا يخفاك ما قاله أصحاب كتاب ( المدخل إلى الكتاب المقدس ) بشأن سفر التكوين .
3 ـ إن هذه الأسفار إنما هي ـ في أغلبها ـ أخبار كُتِبت لأحداث شاهدها أشخاص ، أو وردت إليهم شفاهًا عمن حدثت له ، وبهذا فهي لا تمثِّل كلام الله الموحى به ، سوى بعض ما في الأسفار الخمسة ، وبعض الأسفار التي فيها بقايا وحي ، ومع ذلك لا يمكن الجزم به جزمًا يقينيًّا .
والدليل على أنه بقي عندهم شيء من الوحي ، خبر اليهودي واليهودية الذين زنيا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلوا ما في التوراة من حكم الزنى ،والقصة معروفة .
4 ـ إن هذه الأسفار لا يصلح أن تكون المصدر الوحيد لأخذ الاسم أو الحدث ، كما حصل في أخذ مصطلح السامية منها .
وإذا كان ولابدَّ من أخذ التسمية منه ، فلم لم يكن ( النوحية ) ؟
ما لغة نوح الأب ؟
هل تغيرت لغة أبنائه عنه حتى تسمى لغة بعضهم سامية ، وبعضهم غير سامية ؟
وأحب أن تلحظ أن لغة نوح هي لغة من سبقه من أبائه ، وهي لغة ( عروبية ) فيها أسماء عربية نعرف اشتقاقها وأصلها في لغتنا المعيارية التي نزل القرآن بها ، فقد قال تعالى عن قوم نوح ((وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا )) ( نوح : 23 ) ، وهذه أسماء عربية ، فماذا ياترى تكون لغة نوح وقومه ؟ أليست تلك اللغة العروبية الاشتقاقية التي بقيت في جزيرة العرب صافية أكثر منها في بلاد العرب الأخرى ؛ في عراقهم وشامهم ومصرهم ومغربهم العربي منذ القِدم ؟
وتلك قضية تحتاج إلى مقال مستقلٍ لعل الله ييسر بكتابته بتفصيل يدل على الحقيقة فيه ، والله الموفق .
إن مما يحسن أن يعلمه القارئ أن أسفار بني إسرائيل تكره كل شيء عربيٍّ كائنًا ما كان هذا العربي ، وسأذكر لك بعض الدلائل من كتبهم :
1 ـ الكنعانيون جعلوهم من نسل حامٍ المغضوب عليه مع أنهم ساميون ـ في مصطلحهم ـ فهم من سكان منطقة الساميين وليسوا من مناطق الحاميين ، وإنما أخرجوهم كرهًا لهم لأنهم عرب يشهد بذلك التاريخ ، وهم الجبارون الذين كانوا في زمن موسى فكرهوا محاربتهم ، وجبنوا عن لقائهم .
2 ـ عندهم أن إخوة يوسف باعوا أخاهم يوسف للإسماعيليين ، ولا يخفاك أن إسماعيل سكن جزيرة العرب ، وهو عمُّ هؤلاء الذين يبيعون يوسف عليه السلام ، أفيُعقل أن يخفى عليهم أبناء عمهم ولا يعرفونهم ؟ !
3 ـ أنهم حرفوا العهد الذي جعله الله لأبناء إبراهيم ، وجعلوه لهم ، وأنكروا كل فضيلة لإسماعيل ، حتى لقد زعموا أن إسحاق هو الذبيح الذي له العهد ، مع أن فيما كتبوه ما يدل على كذبهم .
ولقد سرت هذه العداوة عند بعض الغربيين من الباحثين المستشرقين المتأثرين بالدراسات التوراتية ، فعلى سبيل المثال : جعلوا اللغات الآرية مقابل اللغات السامية ، وجعلوا ممن ينطق بالآرية ( الهند وأروبة ) التي قد يُطلق عليها ( الهندوروبية ) ، وزعموا أن بينها أواصر لغوية مشتركة ، فانظر كيف ابتدعوا بأنفسهم إلى من يفصل بينهم وبينه مسافات ، وتركوا العرب الذين تربطهم بهم أواصر لغوية وتاريخية ،
وإذا كان الغرب يرجع إلى السامية ، ولا يريدها ، فلم لم يخترعوا اسمًا لهم من أولاد نوح كما اخترعوا السامية ، لم لمَ يقولوا لهذه اللغة الآرية (يافثية) نسبة إلى يافث بن نوح الذي يجعلون من نسله اليونايين والناضوليين ؟!(2)
وما ذاك إلا حاجة في نفوسهم ، وإلا فأين بُعث موسى وعيسى ، ألم يُبعثا في الشرق ، فلم البعد عن الشرق والارتباط بشرق الشرق ؟!
أإلى هذا الحدِّ وصل الحقد والحسد ؟!
هذا ، ولقد اجتهد اليهود في إثبات صحة كتبهم من خلال البحث في الأثريات ، لكن لم يجدوا شيئًا ، فصاروا يتشبثون بهذه المزاعم التي يصدرونها بين الفينة والفينة كالسامية التي صاروا يوالون ويعادون عليها ، وكأنها أصل الشعوب .
إن نظرت عابرة لتاريخ الأنبياء تدلنا على أن العرب عريقون في أعماق التاريخ ، فنوح عربي بدلالة ما ذكرت لك من أسماءٍ عربية لأصنام قومه التي كانوا يعبدونها ، وهود عليه السلام وقومه عاد عربٌ ، وصالح عليه السلام وقومه ثمود عرب ، وشعيب عليه السلام وقومه أصحاب مدين عرب .
فنوح ـ عليه السلام ـ قبل السامية المزعومة التي صنعوها وتحاكموا إليها ، ومن جاء بعده من الأنبياء المذكورين ـ عليهم السلام ـ كانوا قبل إبراهيم عليه السلام ، وقبل بروز العبرية المزعومة التي يتكلم بها بنو إسرائيل .
فكيف تُغفل تلك الأمة العظيمة التي كانت لها هجرات خمس كبرى إلى أرض الهلال الخصيب وأرض الشام منذ القِدم ، ويُتناسى تاريخها ، وتُتناسى لغتها ، ليؤخذ بمصطلح مخترعٍ ليس عليه دليل علمي ؟!
إننا أما تراث تاريخي ولغوي قد لُعِب به ، ودُرس بغير لغته التي تمتلك ثمانية وعشرين حرفًا بخلاف اللغات التي دُرست بها آثار هذه المنطقة ، فنقصها ست حروف ، فلو سلمت القراءات من الخطأ من جهة ، فإنها لن تسلم بفقدانها هذه الأحرف التي تفكُّ كثيرًا من غموض مدونات الآثار .
واعتمادًا على السامية المزعومة ، فإن الضاد ستنطق دالاً ، والعين ستنطق ألفًا ، والخاء ستنطق كافًا ، والطاء ستنطق تاءً ... الخ من ألفاظ الحروف التي لا تعرفها كثير من لغات الغرب ، فانظر مدى الخطأ الذي سيقرؤه الذي يريد البحث في تاريخ المنطقة القديم ولغاتها القديمة ؟.
وبعد فإن الموضوع له ذيول تحتاج إلى فكٍّ وتحليل ، ولكن الوقت لا يُسعف بأكثر من هذا الآن ، ولعل الله ييسر لي أن أبسط الموضوع ؛ فإن له علاقة بالمعرَّب من جهة ، فأسأل الله التوفيق والسداد ، والبركة في العمر لخدمة كتابه الكريم .
ــــــــــــــــ
(1) من القضايا المهمة في هذا الباب أن تعرف أن أبناء يعقوب الذين من نسلهم بنو إسرائيل كانوا أبناء عمِّ لأبناء إسماعيل عليهم السلام ، فالجد واحد ، وهو إبراهيم عليه السلام ، فوشائج القربى بين العرب وبينهم جاءت من هذا الباب فقط ، ولا يعني هذا أننا نقبل كل ما هو إسرائيلي ، لكن قد يغفل بعض الكاتبين حينما يكتبون عن أولاد يعقوب أو عن بني إسرائيل ، وكأنهم يكتبون عن قوم لا علاقة لهم بالعرب من قريب ولا من بعيد .
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن إبراهيم وبنيه كانوا يتكلمون عربية ذلك الزمان ، فأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهذا لفظ عربي صريح ، وهي من مصر ، وإبراهيم من العراق ، وقد نزل بها إلى مكة ، وقابلت قبيلة جرهم ، وتخاطبت معها ، ولم تحتج إلى ترجمان ، وقد اشتقت اسم ولدها إسماعيل من ( يسمع إئيل ) كما ورد في كتبهم ، ونزل إبراهيم لابنه إسماعيل ، وخاطب زوجتيه ولم يحتج إلى ترجمان .
وإذا نظرت إلى اسم ابن أخي إسماعيل وجدته ( يعقوب ) ؛ أي الذي يعقب ويخلف غيره ، وهو قد عقب أباه ، كما قال تعالى ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) فتأصيل هذا الاسم في العربية قريب المأخذ لمن تأمله ، وهذا كله يدلك على وجود تلك اللغة الاشتقاقية العربية العريقة التي كانت سائدة في هذه المنطقة منذ القدم ، وإن اختلفت وتحورت وتطورت إلا أنها لا تخرج عن لغة الاشتقاق . ولعله يأتي المقام لإكمال حلقات المعرَّب لآتي على هذه الأسماء وأبين علاقتها بالعربية المعيارية التي نزل بها القرآن الكريم .
(2) أشار إلى هذه الفكرة بيرو روسي في كتابه / مدينة إيزيس التاريخ الحقيقي للعرب ، ترجمة فريد جحا ( ص : 19 ) .
( ملاحظة : هذه الترجمة لهذا الكتاب سيئة جدًّا ، ولا أدري هل تُرجم ترجمة أخرى ، ففي الكتاب نقد لنظريات غربية في تعاطيها مع الشرق العربي ).