بودفلة فتحي
New member
- إنضم
- 10/08/2010
- المشاركات
- 295
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
نظرية الصرفة حقيقتها القائلون به والردّ عليها
بحث من إعداد الطالب : فتحي بودفلة
مــقــدمـــة :
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله
ألا وإنّ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار أعاذني الله وإيّاكم كمها
أما بعد ...
تعتبر نظرية الصرفة التي جهر بها النظّام في نهاية القرن الثاني وبداية الثالث للهجرة الشرارة الأولى التي أثارت علماء الإسلام للبحث بموضوعية ومنهجية علمية دقيقة في مسألة إعجاز القرآن الكريم , فطابقت بحق وصدق المثل السائر "ربّ ضارة نافعة" ... فجلّ ما كتب بعدها في إعجاز القرآن وبلاغته جاء كردة فعل لهذه النظرية بدءاً بضحدها وإبطالها ثم إثبات كون القرآن معجز بذاته وبيان أوجه الإعجاز فيه ...
واللافت للانتباه أنّ أوّل وأكثر من ردّ على النظّام وأبطل نظريته سواء إبطال كلي بضحدها أو جزئي بإعادة تهذيبها هم أصحابه وأهل مذهبه , المعتزلة وكأنهم أرادوا بذلك نفي شبهة القول بها عن مذهبهم والحفاظ على تقدمهم واختصاصهم من دون سائر الفرق بمهمة الدفاع عن القرآن الكريم والذوذ عنه
ثم إنّ هذا التقدم والاختصاص في الحديث عن ظاهرة إعجاز القرآن وبلاغته والدفاع والذوذ عنه أمام المشككين والملحدين كان بمثابة الشرارة الثانية أو الدافع إلى مزيد من الدراسات القرآنية المتخصصة والتي قادتها باقي الفرق الإسلامية وعلى رأسها أهل السنة والجماعة والأشاعرة وغيرهم سواء من باب الردّ عليهم لأنهم ألبسوا هذه الدراسات الإعجازية والبلاغية كثيرا من عقائدهم وفلسفاتهم أو من باب نقض هذا الاختصاص والتقدم فظهرت نتيجة لذلك ابتداء من القرن الرابع الهجري أسماء بارزة كالخطابي والبقلاني والجرجاني وغيرهم ...
الشرارة الثالثة والأسباب والدوافع الأخيرة التي أعادت الحياة والجدّة ــ إذا صحّ التعبير ــ لهذا العلم هو الاتصال بالحضارة الغربية والغرف من معينها ومختلف علومها سواء اللسانية منها أو غيرها كالعلوم الاجتماعية والنفسية والطبية والفلكية ....إلخ...
فلكي يتم الإحاطة بإعجاز القرآن وحقيقة النظريات التي قيلت فيه لا بدّ من الوقوف على هذه الشرارات والدوافع الثلاث التي أثّرت في هذه الدراسات أيّما تأثير وهي كما سبق ذكره وبيانه :
نظرية الصرفة ودورها الريادي في بداية الكلام العلمي والمنهجي في إعجاز القرآن وبلاغته...
جهود المعتزلة في الدرس البلاغي سلبا وإيجابا ودورهم في إثارة باقي الفرق الإسلامية...
الحضارة الغربية وما أضافته للدرس البلاغي ودورها توسيع مجالات وبحوث إعجاز القرآن ...
وما سأحاوله في هذه الخلاصة هو التعرض للشرارة الأولى ــ نظرية الصرفة ــ معتمدا المنهج التحليلي والمقارن من أجل الوقوف على حقيقة هذه النظرية وعلى ما أثارته من ردود أفعال مقسما بحثي إلى مقدمة خاتمة يتوسطهما فصلان أما المقدمة فتوطئة لبيان أهمية وسبب اختيار الموضوع كما تعرضت فيها لمنهجية وعناصر البحث وفي الخاتمة تناولت أهم النتائج التي صدر عنها البحث وفي الفصل الأوّل تعرضت لحقيقة نظرية الصرفة لصاحبها لتعريفها لحقيقتها ولأصلها ... بينما خصصت الفصل الثاني للردّ عليها وإبطالها ......
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد وصل اللهمّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلّم ...
حول مصادر ومراجع هذا البحث :
لعل أوّل ملاحظة أسجلها ها هنا هو النقص الشديد إن لم أقل انعدام مرجع معتزلي خالص يتحدث عن نظرية الصرفة وخاصة للنظّام نفسه أول وأشهر من قال بها فجلّ أقواله منقولة من كتب خصومه وأشياعه ... وسواء هؤلاء وهؤلاء ــ من الناحية المنهجية ــ لا يمكن الثقة المطلقة بها ولا الطمأنينة لها لأنه لا يبعد أن تكون محاطة وملفقة بأحكام ذاتية أو ذوقية أو مذهبية بعيدة عن الموضوعية من شأنها أن تصرف هذه النصوص عن حقيقته الأولى ...
الملاحظة الثانية أنني استعنت بالعديد من المصادر والمراجع الخاصة المتاحة في حدود الإمكانيات البسيطة ... وقد أثبتها جميعا في فهرس خاص تجدونه في آخر البحث... ولكن جلّ المصادر والمراجع المذكورة في حشو البحث لم أقف عليها مباشرة وإنما هي منقولة من المصادر والمراجع المثبتة في الفهرس الخاص
الملاحظة الأخيرة هي الاستعانة الكبيرة بالشبكة العنكبوتية والبرامج الإلكترونية والإحالة عليها ليست بالشيء السهل الميسور في كلّ الأحوال ...وطريقة الإحالة ليست متفق عليها كلّ الاتفاق ...
فهرست الموضوعات وعناصر البحث :
1. المقدمة
• حول مصادر ومراجع هذا البحث
• فهرست الموضوعات وعناصر البحث
2. الفصل الأول : نظرية الصرفة
د- من هو النظّام ؟
ذ- الصرفة والصرف في لغة العرب
ر- الصرفة في اصطلاح المتكلمين
ز- حقيقة الصرفة
س- أوجه الصرفة الواقعة على المتحدين
ش- الصرفة النظّامية
ص- أصل نظرية الصرفة ومصدرها
• الأصل الهندي
• الأصل الاعتزالي
• أصلها منهج الاستدلال عند النظام
• أصلها الافتتان ببلاغة العرب
د- القائلون بالصرفة غير النظّام
o من المعتزلة
o من غير المعتزلة ـ الأشاعرة
o ـ الشيعة الإمامية
ذ- الصرفة عند الجاحظ
ر- الانصراف عند القاضي عبد الجبار
ز- الصرفة عند الأشاعرة
3. الفصل الثاني : إبطال نظرية الصرفة
أولا : الأدلة العلمية النقلية والعقلية
ثانيا : الأدلة التطبيقية العملية الواقعية
1. النظر في أضرب وأصناف كلام العرب
2. النظر في بلاغة القرآن
3. تتبع معارضات القرآن
أ- ما المقصود بالمعارضة
ب- نماذج من معارضات القرآن
ت- شبهات حول هذه المعارضات:
- المعارضات الحقيقية أتلفها المسلمون
- المعرضون المذكورون سفلة جهال لا تنتقض بمثلهم نظرية الصرفة
- هذه المعارضات من وضع المسلمين من أجل إثبات إعجاز القرآن والتفكه على خصومهم
... يتبع إن شاء الله
الفصل الأوّل
من هو النظّام ؟
لأنّ أوّل من جهر بنظرية الصرفة وأشهر من قال بها هو النظّام حتى صارت لا تذكر إلاّ مقرونة باسمه ولا تعرف إلاّ من خلاله وبعض القاصرين يحسبها من شذوذه وانفراداته التي لم يوافقه عليها أحد ارتأينا أن نبدأ هذا البحث بالوقوف على ترجمة بسيطة لهذا العلم الاعتزالي الذي أعطى للدرس البلاغي والإعجازي دفعا قويا سواء من حيث أراد ذلك أو لم يرد وسواء من حيث حاول الدفاع عن القرآن الكريم أو الطعن فيه ...
مصادر ومراجع الترجمة :
الوافي بالوفيات - (ج 2 / ص 226)
سيّر أعلام النبلاء للذهبي 10\542\172
الفرق بين الفرق ص270
تاريخ الفلسفة في الإسلام , الأستاذ الدكتور ج. دي بور جامعة أمستردام ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة كلية الآداب جامعة القاهرة . ط الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1980 من الصفحة 111 إلى الصفحة 121
شوقي ضيف , تاريخ الآداب العربي العصر العباسي الأول ج3\ص430 وما بعدها ط دار المعارف مصر الطبعة السادسة
نشأة الفكر الفلسفي , أ د علي سامي النشار دار السلام 2008 ج1ص555 ...
إبراهيم بن سيار بن هانئ أبو إسحاق مولى آل الحارث بن عباد الصبعي البصري المتكلم , ابن أخت أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة
المعروف بالنظام بالظاء المعجمة المشددة،
قالت المعتزلة: إنما لقب بذلك لحسن كلامه نظماً ونثراً، وقال غيرهم: إنما سمي بذلك لأنه كان ينظم الخرز بسوق البصرة ويبيعها.
وكان منذ صباه شديد الذكاء، حكي أنه أتى أبو الهذيل العلاف إلى صالح بن عبد القدوس وقد مات له ولد وهو شديد التحرق عليه ومعه النظام وهو حدث فقال له أبو الهذيل: لا أعرف لتحرقك وجهاً إذ كان الناس عندك كالزرع، فقال: إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك، فقال: وما هو؟ قال: كتاب وضعته من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم فيما كان أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه كان، فقال النظام: فشك أنت في موت ابنك واعمل على أنه لم يمت أو أنه عاش وقرأ هذا الكتاب ولم يمت إلاّ بعد ذلك، فبهت صالح وحصر.
ويحكى عنه أيضاً أنه أتي به إلى الخليل ابن أحمد فيما أظن ليتعلم البلاغة فقال له: ذم هذه النخلة! فذمها بأحسن كلام، فقال له: امدحها! فمدحها بأحسن كلام فقال: اذهب فما لك إلى التعليم من حاجة. وزعموا أنّه قال له : يا بنيّ نحن إلى السماع منك أحوج "
قال الجاحظ عن عظم علمه وسعة ثقافته :"ما رأيت أحدا أعلم في الفقه والكلام من النظام"
وعنه يقول ابن المرتضى :"حفظ القرآن والإنجيل والتوراة والمزامير وتفسيرها مع كثرة حفظه للأشعار والأخبار واختلاف الناس في الفتيا ..." [نقلا عن المنية والأمل ص 4]
ممّا قاله الأستاذ الدكتور علي سامي النشار واصفا النظام و مبيّنا منزلته بين علماء الإسلام :"...أكبر شخصية فلسفية معتزلية في العالم الإسلامي , صدر عن فكر مبدع ونظام فلسفي دقيق , وقد تنبّه الأقدمون إلى ما له من قيمة عظيمة وأثر كبير, وقد شغلت هذه الشخصية القرن الثالث والرابع وتأثرت به المجامع الفكرية سواء كان أصحابها فلاسفة أو متكلمين أو شعراء أو أدباء بحيث نجد اسمه ستردد على ألسنتهم جميعا ..." اهـ
ويعتبر كلٌّ من ابن حزم الظاهري (طوق الحمامة ص123 الفصل 4\174) وابن نباتة (سرح العيون 122) النظام أعظم رجال المعتزلة مطلقا
أما المعتزلة فيبالغون في تعظيم الرجل رغم سعة الخلاف بينه وبينهم فهذا تلميذه وأوّل منتقديه الجاحظ يزعم أنّ الأوائل يقولون في كلّ ألف سنة رجل لا نظير له وإن كان هذا صحيحا فإن رجل ألفيته هو أبو إسحاق النظام .
ويقول ابن المرتضى المعتزلي الشيعي في كتابه المنية والأمل ص28 :"إنه لا ينبغي أن يكون في الدنيا مثله"
أما المستشرقون فهم يعتبرونه رائد الفلسفة الإسلامية وأول رجالاتها إذ قبله لم تكن الفلسفة الأسلامية قائمة على أسس وأصول علمية منهجية واضحة وعلى رأس هؤلاء ستين (STEIN) وهورفيتز (HORVITZ) وماكدونالد (Mac Donald) وديبور (Débord)
أقواله ومذاهبه سواء منها التي وافق جمهور المعتزلة أو التي انفرد بها دونهم:
ومنها أن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، ولو كان قادرا، لكنا لا نأمن وقع ذلك، وإن الناس يقدرون على الظلم، وصرح بأن الله لا يقدر على إخراج أحد من جهنم، وأنه ليس يقدر على أصلح مما خلق
منها أن الله تعالى إنما يقدر على فعل ما علم أن فيه صلاح العباد هذا بالنظر إلى أحكام هذه الدنيا وما في الآخرة فلا يوصف بالقدرة على زيادة عذاب أهل النار ولا ينقص منه شيئاً ولا يقدر على أن يخرج أحداً من الجنة.
ومنها أنه نفى إرادة الله تعالى حقيقةً فإذا قيل إنه مريد لأفعال العباد فالمراد أنه أمر بها، وعنه أخذ هذا المذهب أبو القاسم الكعبي.
ومنها أنه وافق الفلاسفة على أن الإنسان حقيقة هو النفس، والبدن قالبها، ثم إنه قصر عن إدراك مذهب الفلاسفة فمال إلى قول الطبيعيين فقال: الروح جسم لطيف مشابك للبدن داخل بأجزائه فيه كالدهن في السمسم والسمن في اللبن .
ومنها أنه وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ، وما حسن قول ابن سناء الملك:
ولو عاين النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد ولما ألزم النظام مشي نملةٍ على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى وهي متناهية فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى أحدث القول بالطفرة
ومنها أنه قال: إن الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت وإن الألوان والطعوم والروائح أجسام.
ومنها أن الله تعالى خلق جميع الحيوانات دفعةً واحدةً على ما هي عليه الآن حيوانات وإنس ونبات ومعادن ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده ولكن الله أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكانها لا في حدوثها، وهذه المسألة أخذها من أصحاب الكمون والظهور وأكثر ميل النظام إلى مذاهب الطبيعيين دون الإلهيين.
ومنها أنه قال: الإجماع ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس ليس بحجة وإنما الحجة قول الإمام المعصوم.
ومنها ميله إلى الرفض ووقوعه في أكابر الصحابة رضي الله عنهم وقال: نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإمام علي وعينه وعرفت الصحابة ذلك ولكن كتمه عمر لأجل أبي بكر رضي الله عنهما، وقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم لبيعة حتى ألقت المحسن من بطنها، ووقع في جميع الصحابة فيما حكموا فيه بالاجتهاد، فقال: لا يخلو إما إن جهلوا فلا يحل لهم أو أنهم أرادوا أن يكونوا أرباب مذاهب فهو نفاق، وعنده الجاهل بأحكام الدين كافر والمنافق فاسق أو كافر وكلاهما يوجب الخلود في النار.
ومنها أنه قال: من سرق مائة درهم وتسعةً وتسعين درهماً أو ظلمها لم يفسق حتى يبلغ النصاب في الزكاة وهو مائتان.
قيل: لم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم" كما ذكر الإمام الذهبي فقد كان فاسقا مدمنا على شرب الخمر توفي وفي يده قدحا من الخمر يشربه في مكان عالٍ وهو ينشد :
اشرب على طربٍ وقل لمهددٍ ... هون عليك يكون ما هو كائن
فلما فرغ من إنشاد ذلك البيت وقع وسقط من مكانه فمات سنة ثلاثين ومائتين 230هـ
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن النظام كان في الباطن على مذهب البراهمة الذين ينكرون النبوة وأنه لم يظهر ذلك خوفاً من السيف، فكفره معظم العلماء وكفره جماعة من المعتزلة حتى أبو الهذيل والإسكافي وجعفر ابن حرب كلٌ منهم صنف كتاباً في تكفيره،
وذكر غير واحد من علماء التراجم والفرق أنه كان رجلا ديّنا تقيا وأنّ تهمة الفسق والخمر من اختراعات وادّعاءات أعدائه لا غير وممّن قال بهذا الأستاذ الدكتور علي سامي النشار في نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1\558 حيث يقول :"هاجم معظم مفكري أهل السنة والنظام , واعتبروه ملحدا من كبار الملاحدة وصوروا حياته تصوير رجل مستهتر يقضي جلّ وقته في الفسق والفجور ونحن لا نسرع بتصديق هذا فقد اشتهر المعتزلة بأنهم رجال أتقياء وزهاد متعبدون وقد دافع الخياط عنه دفاعا مجيدا وذكر لنا في مواضع عدة دفاع النظام عن الإسلام . وقيامه في وجه الملاحدة والثنوية والسمنية والفلاسفة وذكر القاضي عبد الجبار أنّ النظام كان يقول وهو يجود بنفسه "اللهمّ إن كنت تعلم إني لم أقصّر في توحيدك , اللهمّ ولا أعتقد مذهبا إلاّ سنده التوحيد اللهم إن كنت تعلم ذلك فاغفر لي ذنبي وسهّل عليّ سكرة الموت ." [مقالات الإسلاميين للأشعري 3\66 ـ 177] فمات لساعته وهذا دليل على انتهاء حياة الرجل صادقا لم يأل جهدا في الدفاع عن الإسلام . اهـ
قال ابن أبي الدم قاضي حماة وغيره في كتب الملل والنحل إن النظام كان في حداثته يصحب الثنوية وفي كهولته يصحب ملاحدة الفلاسفة فطالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وصار رأساً في المعتزلة وإليه تنسب الطائفة النظامية
قال الإمام الذهبي : وله نظم رائق، وترسل فائق، وتصانيف جمة، منها: كتاب " الطفرة " وكتاب " الجواهر والاعراض "، وكتاب " حركات أهل الجنة "، وكتاب " الوعيد "، وكتاب " النبوة "، وأشياء كثيرة لا توجد ذكر مؤلفاته ابن النديم في الفهرست ص206
ومن كتبه ومؤلفاته كذلك (الجزء) ذكره الأشعري في مقالات الإسلاميين . (الحركة) أو (حركة الأجسام) ذكره الأشعري و(الثنوية) ذكره البغدادي (التوحيد) ذكره الجاحظ وهو في إثبات وجود الله عن طريق الحركة
(العالم) و(نقض كتاب أرسططاليس)
الصرفة والصرف في اللغة:
لسان العرب
( صرف ) الصَّرْفُ رَدُّ الشيء عن وجهه صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفاً فانْصَرَفَ وصارَفَ نفْسَه عن الشيء صَرفَها عنه وقوله تعالى ثم انْصَرَفوا أَي رَجَعوا عن المكان الذي استمعُوا فيه وقيل انْصَرَفُوا عن العمل بشيء مما سمعوا صَرَفَ اللّه قلوبَهم أَي أَضلَّهُم اللّه مُجازاةً على فعلهم وصَرفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ... وقوله عز وجل فما يَسْتَطِيعُون صَرْفاً ولا نَصْراً أَي ما يستطيعون أَن يَصْرِفُوا عن أَنفسهم العَذابَ... والصَّرْفُ أَن تَصْرِفَ إنساناً عن وجْهٍ يريده إلى مَصْرِفٍ غير ذلك وصَرَّفَ الشيءَ أَعْمله في غير وجه كأَنه يَصرِفُه عن وجه إلى وجه
العين , (ف , ر , ص)
وتصريف الرِّياحِ: تَصَرُّفُها من وَجْهٍ الى وَجهٍ، وحالٍ الى حال، وكذلك تصريف الخُيُول والسُّيُول والأمُور...
المحيط في اللغة للصاحب ابن العباد (ص ر ف)
وأنْ تَصْرِفَ إنساناً عن وَجْهٍ تُرِيْدُه إلى مَصْرفٍ غَيْرِ ذلك
الصحاح في اللغة للجوهري (ص ر ف)
صَرَفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ. وصَرَفْتُ الصبيان: قَلَبْتهم. وصَرَفَ الله عنك الأذى
القاموس المحيط
..." فما يَسْتَطيعُونَ صَرْفاً ولا نَصْراً " ، أي ما يَسْتَطِيعُونَ أن يَصْرِفوا عن أنْفُسِهِم العَذابَ ... واسْتَصْرَفْتُ اللّهَ المَكارِهَ: سألتُه صَرْفَها عَنِّي. وانْصَرَفَ: انكَفَّ،...
اللعاب الزاخر (ص ر ف)
والانصراف: الانكفاء...
وخلاصة القول في مادة صرف أنها تدور حول معنى تغير شيء عن وجهته وأصله وهو معنى ظاهر في صرف العرب بذواتهم أو هممهم عن معارضة القرآن فهم محوّلون من اتجاه الإتيان بمثل القرآن إلى وجهة أخرى وهي عدم الإتيان بمثله ...
الصرفة في اصطلاح المتكلمين :
يمكننا تعريف نظرية الصرفة في اصطلاح المتكلمين والمختصين بقولنا هي صرف العرب عن إجابة التحدي الرباني والإتيان بمثل القرآن الكريم رغم قدرتهم على ذلك .
حقيقة الصرفة :
إنّ نظرية الصرفة تقابل عند المتكلمين وعلماء الإسلام نظرية القول بإعجاز القرآن في ذاته أو ما يسميه البعض الإعجاز بالنظم , فإذا كان جمهور المسلمين يرون أنّ القرآن من حيث بلاغته وبداعة سبكه وروعة نظمه وجمال أسلوبه وصل درجة الكمال والإعجاز وبالتالي تقصر القدرة البشرية وتعجز عن الإتيان بمثله سواء في زمن الوحي والنبوة يوم وقع التحدي أوّل مرة أو قبله أو بعده على حدّ سواء ...
بينما نظرية الصرفة على خلاف مذهب الجمهور قائمة على ثلاثة أسس :
أولا : الاعتراف بفصاحة القرآن وبلاغته ولكن ليس إلى حدّ الكمال والإعجاز ...
ثانيا : إمكانية الإتيان بمثله فإنّ ذلك في طوق بلغاء العرب وقدرتهم ...
ثالثا : إنّ إعجاز القرآن يكمن في الحيلولة دون معارضته رغم إمكانية ذلك ...
يقول الإمام الزركشي (794هـ) مبيّنا وشارحا قول النظّام :"إنّ الله صرف العرب عن معارضته , وسلب عقولهم , وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات ."
ويقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (1360هـ 1948م) :"ومن الباحثين من طوّعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة ؛ أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا : إنّ الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته , إما لأنّ البواعث على هذا العمل لم تتوافر , وإما لأنّ الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأنّ حدثا مفاجئا لا قِبَلَ له به قد اعترضه فعطّل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهراً عنه , على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه . فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ..."
قال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (388هـ) : "وذهب قوم إلى أنّ العلة في إعجازه الصرفة أي صرف الهمم عن المعارضة , وإن كانت مقدورا عليها و غير معجوز عنها , إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات , صار كسائر المعجزات فقالوا : ولو كان الله عزّ وجلّ بعث نبيا في زمان النبوات , وجعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه , ثم قيل له ما آيتك فقال أن أخرج يدي أو أمدّ رجلي ولا يمكن أحدا منكم أن يفعل مثل فعلي , والقوم أصحاء الأبدان , لا آفة بشيء من جوارحهم , فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه و كان ذلك آية دالّة على صدقه . وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي , ولا إلى فخامة منظره , وإنما تعتبر صحتها خارجا عن مجرى العادات ناقضا لها و فمهما كانت بهذا الوصف كانت آية دالّة على صدق من جاء بها وهذا أيضا وجه قريب"
أوجه الصرفة الواقعة على المتحدين:
لا تخرج جميع أوجه الصرف التي تحدث عنها القائلون بها أو مثلوا لها عن ثلاثة أوجه :
الأولى : صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة يقول الرّماني مبيّنا هذا الوجه من الصرفة : (أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول...)
الثانية : سلبهم علوم وأدوات المعارضة وفي هذا يقول السيد المرتضى من الشيعة الإمامية : "إنّ تعالى سلب العرب العلوم الّتي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة الّتي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم..." ويقول ابن سنان الخفاجي وهو شيعي كذلك : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك...) قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (447 هـ): "معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة الّتي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً، لأنّ التحدي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصرَّف )
الثالثة : توفر الدواعي والهمم والعلوم ولكن " لم يمنعهم إلاّ إلجاؤه تعالى فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم " وعلى هذا الوجه يحمل كلام العديد من القائلين بصرفة العرب عن معارضة القرآن رغم توفر الدواعي الباعثة والعلوم المساعدة ومنهم الراغب الأصفهاني في جامع التفسير : ( فلما رئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم ، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، وليس تهتز غرائزهم ألبتة للتصدي لمعارضته ، لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهيا يصرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيرة في الظاهر أن يعارضوه ، ومجبرة في الباطن عن ذلك ، وما أليقهم بإنشاد أبي تمام :
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع .
والله ولي التوفيق والعصمة . ) ويقول الفخر الرازي في مفتاح العلوم : ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب )
وحقيقة هذه الأوجه الثلاثة أنّ الأولى متوجهة للهمم والدواعي فكأنها لم تتخطى مخيلة وأفكار المتحدين بينما هي في الثانية متوجهة لآليات هذا التحدي وأدواته أما في الثالثة فهي متعلقة بعوارض منفصلة تحول دون الوصول إلى التحدي
الصرفة النظّامية :
نظرة النظّام للقرآن أنه كتاب عادي كسائر الكتب السماوية أنزل لبيان الحلال والحرام لا غير وأنّ كلّ ما فيه من الإعجاز منحصر في أخبار الغيب أما من حيث نظمه فلا إعجاز فيه ومثله في كلام العرب كثير بل العرب قادرة على الإتيان بما هو أفضل وأرقى منه
فمن أقوال النظام التي تنص صراحة على هذا المعتقد قوله : (الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف والنَّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أَحدثهما فيهم...) ويقول أيضا:(... وإنّه من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية ومنع العرب عن الإهتمام به جبراً وتعجيزاً، حتى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغةً وفصاحةً ونظماً ...)
يقول أبو منصور عبد القاهر الجرجاني مبيّنا معتقد النظّام في القرآن من حيث إعجازه : (والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ، ليست بمعجزة للنبي – عليه الصلاة والسلام - ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة ، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ، ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته ، فإن العباد قادرون على مثله ، وعلى ما هو أحسن منه في النظم ، والتأليف )
ولعل أكبر دليل على أنّ النظّام لم يكن يرى للقرآن في باب البلاغة والفصاحة أدنى فضل على كلام العرب وأنّه أبدا ما بلغ حدّ الإعجاز كما كان سائدا قبله بل ومجمع عليه قبل ظهور مقالته الفاسدة كلام تلميذه الجاحظ (255هـ) وهو أقرب الناس إليه وأعرفهم بمقالاته ...حيث يقول مخاطبا ابن أبي داؤد (240هـ) في (حجج النبوة) : (فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي ، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن ، والرد على الطعان ، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي ، ولا لحشوي ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ، ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.) ويقول الفخر الرازي (606هـ) : (قال النظام : إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليؤيد به النبوة ، بل هو كتاب مثل سائر الكتب المنزلة ، لبيان الأحكام من الحلال والحرام ، وإنما لم يعارضه العرب ، لأن الله صرفهم عن ذلك وسلب دواعيهم عن الاعتراض)
فخلاصة الصرفة عند النظام وأسسها ما يلي :
1. الوجه الأوّل لإعجاز القرآن هو ما حواه من الأخبار الغيبية
2. الوجه الثاني لإعجاز القرآن ــ وهو الأهمّ ــ يكمن في صرف الله تعالى العرب عن معرضة القرآن والإتيان بمثله
3. القرآن ليس بمعجز من حيث نظمه
4. قدرة العرب على معارضة القرآن الكريم والإتيان بمثله وبما هو أفضل منه
أصل نظرية الصرفة ومصدرها :
1) الأصل الهندي لنظرية الصرفة :
إنّ للهنود كتابا دينيا وثنيا يسمونه " الفيدا" وهو عبارة عن مجموعة شعرية لإلههم "براهما" يدّعون لها الإعجاز وعدم قدرتهم على الإتيان بمثلها لا من جهة محتواها أو بلاغتها ولكن لأنّ براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها
يقول البيروني (430 هـ) في كتابه (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) :"إنّ خاصتهم يقولون إنّ في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها ..."
قال د . أحمد العمري معلقا على قول البيروني : " ولم يبين البيروني وجه , أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى , أم هو منع تكويني بمعنى أنّ براهما صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها والأخير هو الظاهر لأنه الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم وما اشتهروا من أنّ القول بالصرفة نبع في واديهم "
وممّا يؤكد ويؤيد أنّ أصل نظرية الصرفة هندي دخيل على أمّة الإسلام أمور أهمّها ما يلي:
رواج الفلسفة والعقائد اليونانية والهندية في البيئة التي ظهرت فيها نظرية الصرفة: لقد كان لانتشار الفلسفات الأجنبية الوافدة على الأمة وافتتان الفرق الإسلامية بها فتلقفتها وتتبعتها محاولة ـ زعما ـ خدمة الدين بمثل هذه الأقوال الغريبة أو عرضها على مبادئ الإسلام وأصوله فيبطلون ويردون ما يتعارض مع هذه الأصول ويثبتون ويتبنون ما ناسبها ووافقها بحسب فهمهم وإدراكهم لهذه الأصول . وممّا يدللّ على أنّ سوق الفلسفة كان نافقا راجحا والاشتغال بها مربحا ما ورد في كتاب البخلاء للجاحظ وهو من تلامذة النظام ومعاصريه قال الجاحظ : " إنّ طبيبا عربيا مسلما يدعى أسد بن حاني كسدت حاله مرة , فقال له قائل : السَنةُ وَبيئة ٌ ـ أي كثيرة الأوبئة ـ والأمراض فاشية , وأنت عالم , ولك صبر وخدمة , ولك بيان ومعرفة , فمن أين أتاك الكساد ؟ قال: أما واحدة فإني عندهم مسلم , وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب , بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطبّ , واسمي أسد , وكان ينبغي أن يكون اسمي : صليبا أو يوحنا , وكنيتي أبو الحارث , وكان ينبغي أن تكون : أبو عيسى , أو أبو زكريا , أو أبو إبراهيم , وعليَّ رداء قطن أبيض وكان ينبغي أن يكون علي رداء حرير أسود , ولفظي عربي وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل ـ جند نيسابور ـ " بدأت هذه الأفكار تلج بلاد الإسلام في زمن الخليفة أبي جعفر المنصور (156هـ) لما قرّب إليه بعض الأطباء النصارى وعهد إلى بعض حكماء بني إسرائيل بترجمة شيئا من الكتب القديمة ثم ما زالت هذه الظاهرة تزيد وتتفاقم حتى بلغت أشدّها وأوجّها في زمن الرشيد (193هـ) وابنيه الأمين (198هـ) والمأمون (218هـ) وكانت البصرة على وجه الخصوص تعجّ بحكمة الهند وأشعارها وآدابها وفلسفاتها وعقائدها ... فمنها أخذ الإعجام وعلم الضبط وترجمت الكثير من أعمالهم الأدبية كما تبنت العديد من الفرق الإسلامية مبادئ وأفكارا هندية خالصة كإخوان الصفة وغيرهم ....
علاقة النظّام بالفرق الهندية والمذاهب الفلسفية : فقد ذكروا أنّ النظّام كان في شبابه على علاقة وطيدة ببعض الفرق الهندية كالسمنية وهي فرقة بوذية ترى بقدم العالم وتناسخ الأرواح والثنوية ؛ فرقة ترى بأزلية الظلمة والنور وخالط الفلاسفة ودوّن مذاهبهم وشبههم بل لقد رماه غير واحد من أصحابه والعارفين به أنه فُتِنَ بمذهب البراهمية وأنه كان يقول به ويبطنه دون الإسلام ذكر القاضي عبد الجبار أنّ جعفر البرمكي ذكر أرسططاليس , فقال النظام : قد نقضت عليه مقالته فقال جعفر: كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه ؟ فقال: أيّهما أحب إليك أن أقرأه من أوّله أم من آخره ؟ ثم اندفع يقرأ شيئا فشيئا وينقض عليه [ابن المرتضى ص29] وقد ذكر ابن نباتة أنّ العلة فيما انتهى إليه النظام من مذاهب استُبشعت منه أنّه اطّلع على كتب الفلاسفة ومال في كلامه إلى الطبعيين منهم والإلهيين وأنه استنبط من كتبهم مسائل خلطها بكلام المعتزلة
اختلاف المعتزلة على النظام وشدّة معارضتهم له : وممّا يدل على أن نظرية الصرفة لم تكن نتاج بعض الأفكار الاعتزالية المبنية على نفي صفات الله عزّ وجلّ (التوحيد) هو اختلاف المعتزلة على النظام بل من أوّل واشدّ من انتقد هذه النظرية أصحابه وعلى رأسهم تلميذه الجاحظ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تكفيره ولعل هذه الشدّة من المعتزلة في انتقاد النظام ونظرية الصرفة سببها محاولتهم التنصل منها حتى لا تنسب إليهم ويرمون بها . وفي هذا المعنى يقول الدكتور سامي عطا حسن : "...انّ عدم اتفاقهم ـ يعني المعتزلة ـ على مفهوم واحد لنظرية الصرفة يدل على أنها لم تصدر عن عقيدتهم في كلام الله وفي خلق القرآن لذا أميل على ما ذكره كل من البيروني والبغدادي والشهرستاني من أقوال ... تبين مصدرها الخارجي ..."
2. الأصل الإعتزالي لنظرية الصرفة :
أوّلا من الناحية العملية: عُرف المعتزلة ــ في أوّل لقاء وتصادم بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم ــ بأنّهم حملة لواء الدفاع عن الدين والذوذ عن الكتاب المبين وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم فهم الذين واجهوا الملحدين والدهريين والمشككين وضحدوا الشبهات والنظريات الوافدة من خارج دولة الإسلام سواء منها خرفات وهرقطة فلسفة الهند واليونان أو تحريفات وتضليلات اليهود والنصارى
ونظرية الصرفة ما هي إلاّ حلقة في سلسلة ردودهم على المشككين في معجزة القرآن الكريم وكونه كلام الله تعالى الموحى به إلى خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم
وفي هذا السياق يقول الدكتور أحمد أبو زيد " ...فإيراد قضية إعجاز القرآن في سياق هذا البحث المتعلق بالصرفة , وفي معرض الرد على الدهريين يفيد بأنّ هذه النظرية إنما وُضعت للدفاع عن القرآن وتنزيهه عن مطاعن الملحدين ..."
ثانيا من الناحية العلمية : هذا من الجهة العملية التطبيقية أمّا من الجهة العلمية النظرية فإنّ الاعتزال قائم على أصول ستة لعلّ أوّلها وأهمها ما يصطلحون عليه بالتوحيد وحقيقته وأساسه نفي الصفات عن الله عزّ وجلّ
وما القول بنظرية الصرفة إلاّ انعكاسا لهذا الأصل إذ منطلقها نفي الكلام عن الله عزّ وجلّ ...فلفظ القرآن خلقه الله سبحانه وتعالى وليس هو من صفاته ... لأنّ القول بأنه صفة من صفاته يقتضي بالضرورة مغايرته لكلام البشر في لفظه ومعناه وفي أسلوبه ومحتواه ... وبالتالي إعجازه من جهة ذاته .... لهذا السبب لجأ المعتزلة إلى إثبات إعجازه خارج لفظه واهتدوا إلى نظرية الصرفة
وإلى بيان هذه الفكرة أشار الدكتور محمد زغلول سلام في سياق ذكره أصول هذه النظرية ــ وهي عنده أصلين اثنين هذا أحدها ــ يقول : "... إنّ هذا الرأي يبدو أنه صادر عن عقيدتين في نفس الرجل : الأولى :عقيدته في التوحيد والعدل على مذهب المعتزلة ونفي صفات الله عن ذاته ومن ثم فلا كلام لله في الشكل اللفظي المعهود من الخلق وإنما كلام الله وحي وإلقاء في الروع ...."
3. منهج النظّام في الاستدلال والاستنباط أصل نظرية الصرفة :
و هو الأصل الثاني الذي ذكره د. محمد زغلول سلاّم في كتابه أثر القرآن في النقد العربي وتمام كلامه الذي سبق ذكر بعضه :"...الثانية: مذهبه القياسي التجريبي الطبيعي في التفكير , وتزمته في تطبيقه على القرآن وبيانه " اهـ
وقصد الدكتور بهذا المنهج أنّ النظّام كان يظنّ الظنّ ويعتقده حتى يصير عنده قطعيا ويقينيا سواء استقاه من مجرد تخمينه وتفكيره أو من كلام الفلاسفة الهنود أو اليونان ثم ينطلق منه يقيس عليه ويحكم به وكأنه أصلٌ ميلّمٌ لا جدال فيه ولا نقاش ...
ولعل أشهر من فضح منهجه هذا وانتقده تلميذه وأعرف الناس به الجاحظ حيث يقول في كتابه الحيوان :"إنما عيبه الذي لا يفارقه سوء الظنّ وجودة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل, الذي قاس عليه , كان أمره على الخلاف , ولكنه كان يظنّ الظنّ , ثم يقيس عليه , وينسى أن بدء أمره كان ظنا , فإذا أتقن ذلك , وأيقن , جزم عليه , وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه , ولكنه كان لا يقول : سمعت زلا رأيت , وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة , فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه أو معاينة قد بهرته ..." اهـ
وللتمثيل لهذا المنهج في غير نظرية الصرفة نعرج على ثاني أشهر أقوال النظام ونظرياته وهو القول بالطفرة فإنّه كان ابتداء ينكر الجزء الذي لا يتجزأ وهو مجرد رأي وتخمين وظنّ [بل هو مخالف للقطعي المشاهد المحسوس] لكنه جعله أصلا لا يُعارض بشيء وكلّ ما خالفه لا بدّ أن يؤوّل أو يردّ ... فلما أقحم بأدلة تردّ هذا الذي زعمه صوابا وجعله أصلا أجاب بما هو أقبح وأخطر وأفظع أجاب بنظرية الطفرة ....
4. افتتانه بفصاحة العرب وبلاغتهم هي أصل القول بالصرفة :
إنّ العرب بلغوا في صناعة الكلام وحسن صياغته وسبكه الشأن العظيم الذي لم يبلغه أحدٌ من البشر ولقد كان النظّام على علم واسع بذلك وعلى دراية كبيرة بدقائق بلاغة العرب ونكت فصاحتهم وتفصيلاتها ... فهو الشاعر البارع والخطيب المفوّه ...
يصفه الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي بقوله :"وله شعر كثير يدور في كتب التراجم وهو مطبوع بطوابع المتكلمين والمعتزلة منهم خاصة إذ نراه يمزجه باصطلاحاتهم نافذا إلى أغوار المعاني متصرفا فيها تصرف الحاذق الفطن وملائما بينها إلى أبعد حدود الملاءمة يعينه في ذلك حسٌ دقيق مرهف وشعور رقيق حادّ..."
فلعل افتتانه ببلاغة العرب جعلته يحسبهم قادرين على مصل القرآن الكريم وإلى هذا الأصل يشير بعض الدارسين بقوله : "...فإنّ القول بالصرفة نجم من الإغترار بما روي من رشيق الكلمات , وبليغ العبارات عن العرب فزعم هؤلاء أنّ كلّ من قدر على تلك الأساليب البلاغية يقدر على المعارضة , إلاّ أنه سبحانه عرقلهم عنها وثبّطهم فيها ...." اهـ
القائلون بالصرفة غير النظّام :
ليس القول بالصرفة مقصورا على النظّام كما يظنه البعض بل لقد سلك هذا الطريق كثير من علماء الإسلام سواء من فرقة المعتزلة أو من غيرهم
المعتزلة:
عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى المردار 226هـ كان معروفا بالناسك أخذ الاعتزال عن بشر بن المعتمر تولى رئاسة المعتزلة ببغداد وهو القائل "الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو أفصح منه "
عباد بن سليمان الصخري : معتزلي من أهل البصرة من تلامذة هشام بن عمرو القوطي
القاضي هشام بن عمرو القوطي بصري عدّه القاضي في نهاية الطبقة السادسة من المعتزلة كان يحظى باحترام المأمون
أبو إسحاق النصيبي من الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة وكان يشك في النبوات كلّها
الجاحظ
الرماني
القاضي عبد الجبار.... وسيأتي الحديث عن هؤلاء الثلاثة وعن مذهبهم في الصرفة مفصلا إن شاء الله
من غير المعتزلة (الأشاعرة) : وجلّهم إنّما يقبل بنظرية الصرفة إماّ كوجه ثانوي من أوجه الإعجاز فهو عندهم تابع للوجه الأوّل والأهمّ وهو إعجاز القرآن بنظمه وذاته وإمّا يقولون بها من باب المجادلة والمنافحة عن الحق لا غير
ينسب إلى أبي الحسن الشعري يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم ( ت548هـ ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري : - ( والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة ، والنظم ، والفصاحة ، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة ، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة ، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي ، وهو المنع من المعتاد ) وقال الشيخ السفاريني : محمد بن أحمد ( 1189هـ) : -( وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة ، فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن ( الأشعري – ) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ، ولا يكون ، فمنعهم الله هذا ، وعجزهم عنه .)
الفخر الرازي (606هـ) أطلق القول بالصرفة في بعض مواضع تفسيره كقوله عند تعرضه لآية التحدي في سورة البقرة : ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب ) وفي مواضع أخرى قيدها بالسور القصار حيث يقول ( فإن قيل : قوله (فأتوا بسورة من مثله ) يتناول سورة الكوثر ، وسورة العصر ، وسورة ( قل يا أيها الكافرون) ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله ، أو بما يقرب منه ممكن ، فإن قلتم : إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر، كان ذلك مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين، قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن الأمر كذلك ، كان امتناعهم عن المعارضة - مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره -معجزا ، فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز .)
الحافظ ابن كثير (774هـ) أقرّها على سبيل المجادلة والمنافحة على الحق لا غير حيث يقول: )وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة ، وقول المعتزلة في الصرفة ، فقال : إن كان القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ، ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ، ولم يفعلوا مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ، لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة -وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا - إلا أنها تصلح على سبيل التنزل ، والمجادلة ، والمنافحة عن الحق ، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار ، كالعصر ، وإنا أعطيناك الكوثر.)
أبو إسحاق الاسفراييني (418هـ) فقد عدّها وجها من أوجه الإعجاز حيث قال في شرحه للمواقف : ( وقيل : إعجازه بالصرفة ، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة ، لكن الله صرفهم عن معارضته ، واختلف في كيفية الصرف ، (فقال الأستاذ) أبو اسحاق منا ، (والنظام ) من المعتزلة ، ( صرفهم الله عنها مع قدرتهم ) عليها ، وذلك بأن صرف دواعيهم إليها ، مع كونهم مجبولين عليها ، خصوصا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم ، كالتقريع بالعجز ، والاستنزال عن الرياسات ، والتكليف بالانقياد ، فهذا الصرف خارق للعادة ، فيكون معجزا .)
الراغب الأصبهاني (425هـ) حيث يقول :(اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين ، أحدهما : إعجاز يتعلق بنفسه ، والثاني : بصرف الناس عن معارضته) ثم يتبع ذلك بقوله : ( فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة ، الذين يهيمون في كل واد من المعاني - بسلاطة لسانهم - إلى معارضة القرآن ، وعجزوا عن الإتيان بمثله ، ولم يقصدوا لمعارضته ، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة مصروفة في الباطن عنها.)
أبو الحسن الماوردي (450هـ) قال في أعلام النبوة : ( الوجه العشرون من أوجه إعجازه : الصرفة عن معارضته ، واختلف من قال بها : هل صرفوا عن القدرة على معارضته مع دخوله في مقدورهم ..؟ على قولين : أحدهما :- إنهم صرفوا عن القدرة ، ولو قدروا لعارضوا .
والقول الثاني :- إنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم .
والصرفة إعجاز على القولين معا ....) ثم يقول : ( فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها ، صح أن يكون كل واحد منها معجزا ، فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر ، وحجاجه أظهر ، وصار كفلق البحر ، واحياء الموتى ، لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله ) ومثل ذلك يقوله في تفسير النكت والعيون : ( فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله ، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه، إلى أن يقول : والثامن : أن إعجازه هو الصرفة ، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته ، مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله ، فلم تحركهم أنفة التحدي ، فصبروا على نقص العجز ، فلم يعارضوه ، وهم فصحاء العرب ، مع توفر دواعيهم على إبطاله ، وبذل نفوسهم في قتاله ، فصار بذلك معجزا لخروجه عن العادة كخروج سائر المعجزات عنها . واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين :
أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة عليه ، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.
والثاني : -أنهم صرفوا عن التعرض له ، مع كونه في قدرتهم ، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه . فهذه ثمانية أوجه ، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا ، فإذا جمعها القرآن ، وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره ، صار إعجازه من الأوجه الثمانية ، فكان أبلغ في الإعجاز ، وأبدع في الفصاحة والإيجاز )
إمام الحرمين الجويني (478هـ) يقول في العقيدة النظامية : (وقد أكثر الناس في وجه إعجاز القرآن ، وتقطعوا فيه أيادي سبأ ، وصار معظم الناس إلى أن القرآن تميز على صنوف الكلام بمزية البلاغة والجزالة ، خارج عن المعتاد في ذلك ، ثم زعم زاعمون : أن إعجازه في شرف جزالته ، وذهب آخرون : إلى أن إعجازه في الجزالة الفائقة ، وأسلوبه الخارج عن أساليب النظم والنثر ، والخطب ، والأراجيز، ثم يقول : - من رام أن يثبت إعجاز القرآن بأنه في جزالته خارق للعادات ، مجاوز لفصاحة اللدد البلغاء ،واللسن الفصحاء ، فقد حاد عن مدرك الحق ) ثم يقرر ويقول : (فتبين قطعا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدورهم ، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها ، ومن هدي إلى هذا المسلك فقد رشد إلى الحق المنير ، وانعكس كل مطعن ذكره الطاعنون عضدا وتأييدا .)
إلى أن يقول : (فإذا لم تجر المعارضة ، لم يبق لامتناعها ، مع توفر الدواعي عليها محمل إلا صرف الله الخلق ، فكيف يهتدي إلى إعجاز القرآن ، من يحاول أن يثبت خروجه عن العادة في الجزالة ، وشفاء الصدور في الحكم ؟ فإن مثله من مقدورات الخلق ، ولكنهم مصدودون ممنوعون بصرف الله إياهم )
أبو حامد الغزالي (505هـ) الذي يقول في باب المحاجاة : (فإن قيل : لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ، ولو قصدت لقدرت عليه ، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به ، والجواب : - إن ما ذكروه هوس ، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف ، مهما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي ، وشن الغارات ، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا ، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى ، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات .)
القائلون بها من الشيعة الإمامية : وهم حملة لواء القول بالصرفة في العصور المتأخرة خاصة وأنهم ورثة الفكر الاعتزالي
الشيخ المفيد (338هـ) قال في جهة إعجاز القرآن : ("إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان. وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الإعتزال...)
علي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (355هـ) نقل عنه الطوسي قوله : - ( إن الله سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن ، متى راموا المعارضة ، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم )
نصر الدين الطوسي (385هـ) قال بها في كتابه (تمهيد الأصول في علم الكلام ) وهو شرح لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد)
ابن سنان الخفاجي (466هـ) يقول في كتابه سرّ الفصاحة : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك ...) و يقول أيضا : ( إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف ...) و في موضع آخر : ( متى رجع الانسان الى نفسه ، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه …!! )
الصرفة عند الجاحظ :
يعترف الجاحظ بإعجاز القرآن من حيث نظمه فلا قدرة للعرب على إجابة التحدي الرباني بمعارضته والإتيان بمثله ولكن ذلك لم يمنعه من القول بالصرفة كذلك حتى يحفظ القرآن من عبث العابثين وتشكيك المشككين
يقول الجاحظ : ( ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب ، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن ، بعد أن تحداهم بنظمه ، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه ، ولو طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلف بعضهم ذلك، فجاء بأمر فيه أدنى شبهة ، لعظمت القضية على الأعراب ، وأشباه الأعراب ، والنساء، وأشباه النساء ، ولألقى ذلك للمسلمين عملا ، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب ، ولكثر القيل والقال )
ويقول أيضا : ( وذكرنا من صرف أوهام العرب عن محاولة معارضة القرآن ، ولم يأتوا به مضطربا، ولا ملفقا ، ولا مستكرها ، إذ كان في ذلك لأهل الشغب متعلق ) فلا تعارض بين الصرفة وبين إعجاز القرآن بنظمه عند الجاحظ فالتحدي عنده واقع بنظم القرآن وما الصرفة إلاّ تدبير رباني حفظ به الله تعالى كتابه المعجز عن تلاعب السفهاء وعن الأخذ فيه والعطاء الذي من شأنه أن يُذهب هبته وينزل من قدره وعظمته يقول الدكتور سامي عطا حسن مبينا الفرق بين نظرية الصرفة عند كلّ من النظام والجاحظ : (فهناك فرق بين مفهومي النظام ، والجاحظ للصرفة ، فالنظام : يرى قدرة المنشئين على أن ينظموا مثل القرآن ، والإعجاز في صرف الله لهم عن هذا الصنيع . أما الجاحظ : فلم يستعمل الصرفة بمفهومها النظامي الذي سبق أن أنكره عليه ، وإنما استعملها بمفهوم آخر ، لا يتنافى والقول بإعجاز القرآن بالنظم . فانصراف العرب عن معارضة القرآن ، إنما وقع بعد أن تحداهم الرسول
_ صلى الله عليه وسلم – - بنظمه ، وهي لذلك ليست تعني أن الله أحدث فيهم منعا ، وعجزا ، وإنما تعني أن له تعالى تدبيرا ، حفظ به القرآن من شغب المعاندين ، فصرف أوهامهم ونفوسهم ، عن كل محاولة لمعارضة القرآن ، لما قد يدخل بذلك من الشبه على ضعاف العقول ، ولما قد ينشأ عنه من الفتنة .)
الانصراف بدل الصرفة عند القاضي عبد الجبار :
هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني قاضي القضاة شيخ المعتزلة في زمانه توفي سنة 415 هـ
انتقد أصحابه القائلين بالصرفة أشدّ الانتقاد معتبرا هذه النظرية تطعن في القرآن الكريم من حيث بلاغته المعجزة ومن حيث ثبوته أو ثبوت بعض آياته ثم من حيث مزيته وخصيته يقول عليه رحمة الله معددا أوجه انتقاده لنظرية الصرفة :
( أولا :- لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .
ثانيا : - ولو ثبت هذا المنع ، لكان في حد ذاته هو المعجز، وليس القرآن ، فإن من سلك هذا المسلك في القرآن ، يلزمه أن لا يجعل له مزية ألبتة .
ثالثا : - ولو ثبت هذا المنع بأية صورة من صوره ، لبطل بعض القرآن ، ولما كان صحيحا قوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ...
رابعا : - القول بالصرفة يتعارض مع الآية السابقة ، لأنه لا يقال في الجماعة إذا امتنع عليها الشيء : إن بعضها يكون ظهيرا لبعض ، لأن المعاونة، والمظاهرة ،إنما تمكن مع القدرة ، ولا تصح مع العجز ، والمنع .)
ولكنّه لجأ إلى نظرية أخرى أو نظرة مقاربة ليحاول تبرير عدم محاولة العرب معارضة القرآن فهو يقول في هذا الصدد : (أن دواعيهم انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم بأنها غير ممكنة ، على ما دللنا عليه ، ولولا علمهم بذلك ، لم تكن لتنصرف دواعيهم ، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة ..) ويقول أيضا : ( فالصحيح ما قلناه ، من أنهم علموا بالعادة تعذر مثله ، فصار علمهم صرفا عن المعارضة .) فالمانع من المعارضة عند القاضي عبد الجبار لم يعد خارجيا كما كان عند النظام وأصحابه بل هو صارف داخلي وهو يشبه الشعور باليأس عند المتحدين من إمكانية الإتيان بمثله ....ولهذا اصطلحنا عليه بالانصراف لا الصرفة ...
الصرفة عند الأشاعرة :
اجتهاد الأشاعرة في حديثهم عن البلاغة والإعجاز ابتداء من القرن الخامس الهجري كان عبارة عن ردّة فعل لاشتغال واختصاص المعتزلة بهاتين القضيتين
فجاءت هذه الاجتهادات في شكل ردود أفعال تمثلت ابتداء بمحاولة تصفية وتمييز الدرس البلاغي والإعجازي عن المعتقد الاعتزالي ... ثم محاولة صبغ هاذين العلمين بالمعتقد الأشعري
ثم إنّ غالب من تكلم في إعجاز القرآن الكريم من الأشاعرة أنكر مسألة الصرفة جملة وتفصيلا ... ولكن ذلك لم يمنع بعض كبار القوم وعليتهم من القول بها وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري فيم يزعم البعض ...
والقول بالصرفة عند الأشاعرة غير القول بها عند المعتزلة فهم يقولون بها في حدود ضيقة جدّا وبضوابط صارمة لعل أهمها ما يلي :
أنّ أعظم معجزات القرآن بلاغته (وليست معجزته الوحيدة ...)
أنّ العرب والعجم بل الإنس كلّهم والجنّ معهم لا يقدرون على معارضة القرآن والإتيان بمثله...
ليس في كلام البشر قديما وحاضرا ومستقبلا شيئا يشبه القرآن أو يقاربه ...
صرف المتحدين عن معارضة القرآن والإتيان بمثله وجه آخر لإعجاز القرآن ولكنه وجه تابع وثانوي ...
صرف المتحدين عن معارضة القرآن والإتيان بمثله إنما سببه إبعاد الشكوك عن إعجاز القرآن وحتى لا يصير مجالا للقيل والقال والأخذ والعطاء فيتأثر الضعفاء ومن في قلوبهم مرض ...
يتبع إن شاء الله...
فتحي بودفلة
الفصل الثاني
إبطال نظرية الصرفة :
يمكننا تصنيف وترتيب جملة الأدلة التي تمّ بها إبطال نظرية الصرفة في مجموعتين اثنين الأولى عبارة عن ردود وأدلة نظرية وعلمية نقلية وعقلية والثانية عبارة عن ردود عملية تطبيقية واقعية
أولا الأدلة العلمية النقلية والعقلية المبطلة لنظرية الصرفة :
1) استدلّ الإمام الخطابي على بطلان نظرية الصرفة بقوله تعالى : قال عليه رحمة الله الواسعة : " ...فأشار في ذلك إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدلّ على أنّ المراد غيرها والله أعلم ." اهـ ويقول الإمام السيوطي مستدلا بهذه الآية : (...فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ،...)
لو كان الإعجاز في الصرفة كما يزعمون لكان الأبلغ فيها أن يأتي القرآن في أدنى مراتب البلاغة والبيان فالعجز عن الإتيان بالشيء البسيط بالصرفة أبلغ وأوكد من العجز عن الإتيان بالشيء العظيم , وإلى هذا الوجه أشار الباقلاني (403هـ) بقوله : (لو كان الأمر على ما ذهبوا اليه ، وكان الإعجاز بالصرفة حقا ، لكان الأقوى في الحجة ، والأبين في الدلالة ، أن يجيء القرآن في أدنى درجات البلاغة ، لأن ذلك أبلغ في الأعجوبة ، فإن الذي يعجز عن كلام هو في مستوى كلام الناس أو أدنى منه، يكون ذلك دليلاعلى أن هناك قوة غلابة ، حالت بينه وبين المعارضة، ولم يكن هناك حاجة لمجيء القرآن الكريم في نظم بديع ، ومستوى رفيع عجيب ، لأن الأقرب إلى قوة الدليل ، ووضوح الحجة حين تكون الصرفة هي الوجه للإعجاز- أن يكون القرآن في مستوى كلامهم ، أو دونه .)
2) الآيات الدالة على التحدي والإعجاز تحمل في طياتها دلالة واضحة على مزية القرآن وأنّه فوق قدرة البشر فإنّ الخطاب القرآني لم يوقع التحدي إلاّ بعد الحديث عن نظم القرآن وعن معارضة العرب ورفضهم لدعوته وأحكامه ومعانيه والقول بالصرفة مناقض ومخالف لذلك
3) الإجماع وقع قبل قول النظام بالصرفة على أنّ القرآن معجز بنظمه ولا سبيل لخرقه يقول الإمام القرطبي في أحكام القرآن مفندا القول بالصرفة : ( وهذا فاسد ، لأن الإجماع قبل حدوث المخالف : أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا : إن المنع والصرفة هو المعجز ، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك ، علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة ، لم يكن معجزا .) وممّا قاله السيوطي رادّا على القاشلين بالصرفة : (...هذا مع أنّ الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز للقرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة الإعجاز ...) وممن ذكر هذا الإجماع واستدل به كذلك علي بن محمد الجرجاني (812هـ) في شرح المواقف والألوسي في روح المعاني
4) إذا كان العرب صرفوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم بعد نزوله ووقوع التحدي فما بالنا لا نجد في كلامهم قبل وقوع التحدي ما يشبهه أو يقاربه في بلاغته وبيانه ؟ يقول الإمام الباقلاني : (إننا لوسلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب الرصف ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله) ويقول أبو القاسم الخوئي (1413هـ) من علماء الشيعة الإمامية ) لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لكثرة الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل ، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا ، خارجا عن طاقة البشر . ) وإلى مثل هذا أشار الشريف الجرجاني (812هـ) بقوله : (إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة ، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به ، بل قبل نزوله ، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي ، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة)
5) القول بالصرفة يقتضي أنّ بلاغة العرب تعطّلت أو على الأقل تراجعت بعد وقوع التحدي والواقع خلاف ذلك فإنّ شعراءهم هم هم وخطباءهم كذلك وكلامهم الفصيح وأسلوبهم البديع والألفاظ المنمقة والمعاني الجليلة السامية بقيت هي هي لم يتغير من ذلك كلّه شيء ... ممّا يؤكد أنّ العجز واقع في أنفسهم وقدرتهم لمزية هذا القرآن وعلوّ شأنه وإعجازه في بلاغته ونظمه لا غير ... وإلى مثل هذا أشار القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ) : (لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .) وليس بعيد عن هذا قول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز : (البرهان الثالث : الرجع بالصرفة التي زعموها ، هو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ ، فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله ، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة في مدة يسيرة ، يدل على نقصان العقل ، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره ، فلو أصبح في بعض الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة ، لكان دليلا على فساد عقله وتغيره ، والمعلوم من حال العرب ، أن عقولهم ما زالت بعد التحدي بالقرآن ، وأن حالهم في الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل ، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة . ) ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) :( أنه يلزم على ادعائهم هذا ، أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، - من بعد أن أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحدوا إلى المعارضة - قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها ، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره ، ولكانوا قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به ، ولكنك سحرتنا ، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه ، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوا البعض إلى البعض ، ويقولوا : ما لنا نقصنا في قرائحنا ..؟ وإذا كان ذلك لم يرد ، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، فهذا دليل على أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.)
6) لو عرض للعرب صارف منعهم من معارضة القرآن كما يدعيه القائلون بالصرفة لنقل وأثِر عنهم ذلك لوجود الدواعي فقد كانوا يجهدون أنفسهم ويبالغون في البحث عن شيء يعللون به رفضهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان حتى , وما أيسر وأسهل أن يقولوا إننا قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ولكن طرأ لنا كذا أو منعنا كذا أو أنّ سحر محمد حرمنا من بياننا وبلاغتنا ولكن كلّ ذلك لم ينقل لا لشيء إلاّ لأنه لم يقع أصلا والله أعلم ...يقول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز ( إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها،لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأنْ يُميزوا بين أوقات المنع والتخلية. ولو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. ولو تذاكروه، لظهر وانتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دّلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة) وإلى مثل هذا أشار علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز
7) فإن قيل وقعت الصرفة دون أن يشعروا بها لزم من هذا القول أنّ حجة الله تعالى الواقعة بتحديهم لا تصحّ في حقهم بل لا بدّ من وقوع التحدي وأن يعلم المتحدي به ويتأكد من عجزه وجهة عجزه كذلك وإلاّ بطل الإعجاز أصلا
8) القول بالصرفة يقتضي أنّ الإعجاز فيها وفي قدرة الله الخارقة لا في القرآن الكريم الذي يفقد بذلك كلّ فضيلة وتميز على غيره من الكلام وهذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة التي تثني على القرآن الكريم وتؤكد على خصوصيته وتميزه عن سائر الكلام بما في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي الشريف ....وإلى هذا أشار الباقلاني في إعجاز القرآن بقوله : (إنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره.)
9) تعظيم العرب لبلاغة القرآن وإجلالهم وإكبارهم له رغم معارضته وكره أحكامه وحدوده وما جاء به ...والقصص في سيرته العطرة التي تثبت ذلك كثيرة فمنها ما رواه الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ..ويكف عنا..؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة ، والكمال في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أ مورا ، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا : جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد شرفا : سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا: ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالناحتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع إليه قال : أفرغت يا أبا الوليد ..؟ قال : نعم ، قال: فاسمع مني ، قال : أفعل ، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : [ بسم الله الرحمن الرحيم . حم. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ] ثم مضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه السورة وعتبة ينصت إليه ، وهو ملق يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، حتى انتهى الرسول إلى السجدة ، ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ) ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس اليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ..؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : قد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .) وقصة إسلام عمر والطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنهما وتأثر خالد وعمرو بن العاص بالقرآن الكريم كلّ ذلك معروف مشهور في كتب السيرة يقول يحيى بن حمزة العلوي (749هـ) : (لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة - كما زعموه - ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته ، وحسن فصاحته - كما أثر عن الوليد بن المغيرة - حيث قال : إن أعلاه لمورق ، وإن أسفله لمعذق ، وإن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه ، فإنه يدهش عقله ، ويحير لبه ، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف ، وحسن مواقع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان ما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه ، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دل على فساد هذه المقالة .) وبمثل هذا استدلّ عبد القاهر الجرجاني على بطلان القول بالصرفة حيث يقول : (فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون مايوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم ، لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة ، والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه ، بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : - إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنما نأتيك في غيره من المعاني بما شئت ، وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه )
10) لكلّ نبيّ معجزة تتوافق وطبيعة قومه وقدراتهم فموسى عليه السلام بعث في قوم كثر فيهم السحر وبعث كلّ من هود وصالح في قوم فتنوا بالتفاخر والتعالي في البنيان وبعث عيسى عليه السلام في قوم يحسنون الطب ويشتغلون به ــ وقيل غير ذلك ــ وبعث نبينا عليه الصلاة والسلام في قوم صناعتهم الكلام يقول ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ما نصه : ( وإنما يعرف فضل القرآن من كثُر نظره واتّسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتّساع المجال ما أوتيته العرب خِصيصَا [خِصيصَ] من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب فجعله عَلَمَهُ , كما جعل عَلَمَ كلّ نبيّ من المرسلين مِن أشبهِ الأمور بما في زمانهم المبعوث فيه : فكان لموسى فلق البحر واليد والعصا وتفجّر الحجر في التيه بالماء الروّاء على سائر أعلامه زمن السحر وكان لعيسى إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وغبراء الأكمه والأبرص إلى سائر أعلامه زمن الطبّ وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إلى سائر أعلامه زمن البيان ...) ويقول الجاحظ في حجج النبوة : ( بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا ، وقتل من أعلامهم ، وعليائهم ، وأعمامهم ، وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خافيا .. إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة ، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا ، لا تهاونا وتغافلا ، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد ، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب ، والبدو خاصة ، لما فيهم من الأنفة والعزة ، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان ، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة ..؟ )
11) صرف الناس وحملهم قهرا على شيء معين من خصائص الله سبحانه وتعالى ولا يتحدى به إلاّ من ادّعى شيئا منها كما فعل إبراهيم عليه السلام مع النمرود في مسألة إحياء الموتى وشروق الشمس وغروبها أما العرب فهم مقرون بقدرة الله على الإحياء والإماتة والخلق والرزق ... وعلى الصرفة فلا يجوز أن يتحدون بما يقرون به أصلا ...
12) جميع المعجزات السابقة استمدت إعجازها من ذاتها كالعصا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فما بال أعظم المعجزات لخلودها وعمومها ... تستثنى من هذا الأصل الذي يقدح فيها ينقص من قيمتها أمام باقي المعجزات بل أمام غير المعجزات حتى ... (الكلام البشري العادي)
13) إنّ إعجاز القرآن سببه إحاطة صاحبه بالعلم كلّه وعجز العرب عن الإتيان بمثله لأنّ علمهم محدود يقول ابن عطية (546هـ) ( ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه .
والصحيح : أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة ، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لايزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال فيها بعد ذلك مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد .)
14) من الأدلة على أنّ القرآن الكريم في مقدور البشر أن يأتوا بمثله أنّه متكون من الكلمات والجمل وقالوا أنّ القول بعدم القدرة على مثل كلماته تمحل ومكابرة وأنّ القدرة على الجزء تقضي القدرة على الكل لأنّ ما هو إلاّ مجموعة من الأجزاء .... وممّا قاله أبو القاسم الخوئي مفندا هذه المقولة : ( قالوا إن العارف باللغة العربية ، قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن ، وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد . الجواب : إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر ، فإن القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته ، لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، فإن القدرة على المادة ، لا تستلزم القدرة على التركيب ، ولهذا لا يصح لنا أن نقول : إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة ، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء ، أو نقول : إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد ، لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرداتها، وكأن هذه الشبهة هي التي دعت(النظام) وأصحابه ، إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة ، وهذا القول في غاية الضعف...)
.... إلخ ...
ثانيا الأدلة التطبيقية العملية الواقعية :
لإبطال نظرية الصرفة وإثبات الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم من الناحية العملية التطبيقية ثلاثة طرق تتبع كلام العرب , النظر في بلاغة القرآن وأخيرا الوقوف على معارضات القرآن ومحاولات تقليده وإجابة تحديه ...
وسنكتفي في النقطة الأولى والثانية بمجرد إشارات ونحاول قدر الاستطاعة والتمكين التفصيل في النقطة الثالثة
1) أوّلا النظر في أضرب وأصناف كلام العرب من شعر وأمثال وخطب ... قبل وقوع التحدي وأثناءه وبعده وخاصة قبل وقوع التحدي لأنّ حجيته على القائلين بالصرفة قطعية وواضحة... ومحاولة مقارنة ذلك كلّه بالقرآن الكريم هل نجد في هذا الإنتاج الحافل والزاخر شيئا يماثل أو يشابه القرآن الكريم أو يصل ولو بدرجة قريبة إلى بلاغته وأحيل القارئ ها هنا إلى ما كتبه العلماء في هذا الموضوع وعلى رأسهم الجاحظ في الكثير من كتبه وخاصة البيان والتبيين فإنّه انتهج أسلوب التمثيل والمقارنة والموازنة بين التراث الأدبي العربي بل والعالمي كذلك في مقابل الأسلوب القرآني المعجز البليغ ... ومثله وبطريقة أعنف صنع الباقلاني في إعجاز القرآن لما راح يبحث في تراث أبلغ الشعراء ليبرز شطحاتهم ويظهر نقائصهم وترهاتهم في مقابل أسلوب القرآن الذي لا يعتريه نقص أبدا وسأكتفي في هذا المبحث بنقل كلام لأبي حيان الأندلسي (654هـ) يردّ به على القائلين بالصرفة افتتانا ببلاغة العرب وبيانها يقول عليه رحمة الله الواسعة : (اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوغل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب ، فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ، ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته . والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء ، حين رأت زوجها يطأ جارية ، فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر ذكر الله فيه ورسوله وكتابه فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق)
2) ثانيا النظر بتمعن وتفحص وعمق في بلاغة القرآن الكريم لنقف على نكته وأعاجيبه البيانية التي لا ولن يستطيعها الإنس والجنّ ولو اجتمعوا عليه ظهيرا ... وسأكتفي ها هنا بنقل نماذج من بلاغة القرآن ـ مع تسجيل ملاحظة مهمة هي كون القرآن كلّه بجميع آياته وأجزائه معجز وليس بعضه دون بعض ـ فهذه بعض الآيات نقف فيها على بعض نكتها
[ الكهف 18] إثبات الهيئة لا غير لأنّ الكلب ميّت والفعل يقتضي التجدد فلا يصلح مكانَ الاسم
• [مريم 4] فالإعجاز هنا ليس للاستعارة كما يقولون ولكن للترتيب فلو قلت (شيب الرأس) لما اشتمل جميع الرأس , أما هنا فمعنى الشمول والشيب أتيا كالقول : اشتعلت الدارُ نارًا
[يوسف 23] ولم يسمّها ويقل امرأة العزيز لتنزيه يوسف عن الفحشاء
• [العصر2]
• •• [البقرة 96] الحياة هنا نكرة لتفاهتها
[البقرة179] تنكير الحياة هنا معناه حياة عظيمة لأنها يرتدع فيها القاتل فتخلو الحياة من القتل
• [طه 18]
[يوسف 18] أي فأمري وأمركم صبر جميل اعتمادا على الحال وتعويلا على دلالة الموقف بينه وبين أولاده
فهذه بعض النماذج ولمن أراد المزيد أن يعود إلى مظان المسألة ....
3. ثالثا تتبع معارضات القرآن الكريم :
وهذا هو الذي يهمنا في هذا البحث وهو الذي سنركز عليه أكثر باعتباره يردّ ردّا مباشرا على القائلين بالصرفة , فإذا كان النظّام وأصحابه يزعمون أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم فإنّنا في هذا المبحث نثبت خلاف ذلك وهو أنّ العرب والعجم كذلك قد عارضوا القرآن وحاولوا إجابة التحدي ولكنهم لم يستطيعوا أن يبلغوا مبلغه ويصلوا إلى بيانه وفصاحته ....
ما المقصود بالمعارضة ؟
قال السبحاني في الإلهيات : (معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً، يجي الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين،فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق...)
ولعل في المعارضات والموازنات التي تقع بين شعراء العرب وخطبائهم وبلغائهم بعيدا عن الحديث عن القرآن الكريم وإعجازه ما يبيّن ويوضح ذلك أتمّ توضيح
كالموازنة بين شعر النابغة وامرؤ القيس في وصف الليل وما يحمله من الحزن والهموم أو كنقائض الشعر الأموي أو الموازنة بين شعر البحتري وأبي تمام فإنّ الموازنة والمعارضة في جميع ذلك تقع على مستوى الألفاظ والتركيب والمعاني وغيرها ... أما أن يعارض بتكرار ألفاظ القرآن بمعان وأفكار مستقبحة أومعان القرآن الجليلة بألفاظ غريبة أو رديئة .فهذا لا يسمى معارضة بل تقليد على مستوى استعمال الألفاظ أو اقتباس على مستوى استعمال المعاني
وأذكر ها هنا نموذجين للمعارضات والموازنات بين بعض الشعراء حتى نعتمد نفس الطريقة في الحكم على من عارض القرآن وزعم أنّه أتى بما يماثله ــ زعمًا ــ
المثال الأوّل : بين النابغة وامرئ القيس :
يقول الأوّل :
كِليني لهمّّ يا أمَيمةُ ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همّه تضاعفَ فيه الحزنُ من كلّ جانبِ
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف معلقا على هذه الأبيات : (... فهو محزون في أوّل القصيدة يخاطب ابنته أمامة ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع في قبضة الغساسنة من أسرى قومه , ونراه يصور الليل وهمّه فيه تصويرا بديعا , فالكواكب بطيئة لا تجري , حتى ليظنّ أنّ الصبح الذي يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدا لن يؤوب , والليل يثقل على صدره بما يردّ عليه من موجات الهمّ والحزن , وهي براعة استهلال رائعة تدلّ دلالة بيّنة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسّم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرا واضحا مستقيما بالصور ....)
ويقول امرؤ القيس في نفس الموضوع :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بصلبه وأردفَ أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأنّ نجومه بكلّ مُغارِ الفتلِ شُدّت بيذبُل
كأنّ الثُريا عُلّقت في مصامها بأمراس كَتّانٍ إلى صمِّ جندل
يقول الأستاذ شوقي ضيف :( فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي , ويحس كأنه طال وأسرف في الطول حتى ليظنّ كأنّ نجومه شدّت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهي لا تتحرك ولا تزول و كأنّما سمّرت في مكانها , فهي لا تجري ولا تسير , وقد ردّد الشعراء بعده هذا المعنى طويلا ...)
وفي الموازنة بين الشاعرين وشعرهما يقول السحباني ما نصّه : (فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصاً قوله: «وصدر أراح الليلُ عازب همّه». وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة.إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة، وحسن التشبيه، وإبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحب الوثيقة، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل [المفاضلة] بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما ....)
المثال الثاني : بين جرير وأبي نواس
يقول الأوّل : إذا غضِبتْ عليك بنو تميم حسبتَ الناسَ كلّهم غضابا
ويقول الثاني : ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالَم في واحد
انظر كيف جعل جرير من بني تميم الناس كلّهم حين يغضبون لشدّة هول هذا الغضب ووقع أثره على المغضوب عليه ثمّ انظر كيف زاد أبي نواس عليه زيادة رشيقة بديعة فهو لم يجمع الناس في قبيلة كما صنع جرير بل رجلٌ واحد يجمع عنده العالَم كلّه "فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام "
وننتقل الآن لسرد نماذج من المعارضات التي زعم أصحابها أنّهم تحدوا بها القرآن وأتوْا بمثله
أ- مسيلمة الكذاب : مسيلمة بن حبيب الكذّاب ادّعى النبوة باليمامة وزعم أنّ الله أشركه في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم فجعل لكلّ منهما نصف الأمر ... ممّا عارض به القرآن وحاول محاكاته قوله :
( لقد أنعم الله على الحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , بين صِفاق وحَشَى ) وفي رواية (ألم تر كيف فعل ربّك بالحبلى...) والصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن وهو الذي إذا انشقّ كان منه الفتق
(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ...)
ياضفدع يا بنت ضفدعين , نقي ما تنقين , نصفك في الماء ونصفك في الطين , لا الماء تكدّرين , ولا الشارب تمنعين...)
( والمُبذرات زرعا , والحاصدات حصدا, والذاريات قمحا, والطاحنات طحنا , والعاجنات عجنا , والخابزات خبزا, والثاردات ثردا, واللاقمات لقما , إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر , وما سبقكم أهل المدر , ريفكم فامنعوه , والمعتر فآووه والباغي فناوئوه...)
( والشاء وألوانها , وأعجبها السود وألبانها , والشاة السوداء , واللبن الأبيض , إنّه لعجب محض , وقد حرم المَذق فما لكم لا تمجعون...) المذق : مزج اللبن بالماء والمجمع: اللبن يشرب بالتمر أو يعجن به قال الأستاذ محمد سعيد العريان معلقا على هذا الكلام : (...ولعمر الله ما ندري أكان هذا القرآن ينزل على قلب مسيلمة أو على معدته ... أو كان بين قومٍ جياع فتأثيره أن يسيل لعابهم ...!)
وكلامه هذا في غاية الحماقة والسقط يُعرب عن كذب الرجل وجهله بل وعن مكابرته للحقّ الفاضحة ... يروى عن الأحنف بن قيس أنّه دخل مع عمّه على مسيلمة الكذّاب بعد أنِ ادّعى النبوة فلمّا خرجا سأل الأحنف عمّه : كيف وجدته أو رأيته فأجابه : ( ليس بمتنبئ صادق ولا بكذّاب حاذق )
قال السحباني معلقا على كلام مسيلمة ومقارنا بينه وبين كلام الله عزّوجلّ: (...فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى : "الحاقّة ما الحاقّة وما أدراك ما الحاقّة..." وقوله: "القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة.." ثم ما أتبع قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله: "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش..." فإين هو من قول القائل "الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل" فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن متناه الغاية , فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذنب والمشفر , ويتصور أنه تحققت المعارضة ...)
ب- طلحة بن خويلد الأسدي : كان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي فمن كلماته التي عارض بها القرآن :
( إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم , وقبح أدباركم شيئا . فاذكروا الله قياما , فإنّ الرغوة فوق الصريح) فنسخ ـ زعما ـ بكلامه هذا الركوع والسجود في الصلاة ولم يبق فيها سوى القيام
( والحمام واليمام , والصرد الصوام , ليبلغ ملكنا العراق والشام)
ت- سجاح بنت الحارث : من بني تغلب القبيلة النصرانية المعروفة ادّعت النبوة وعارضت القرآن بما زعمته يوحى به إليها , فمن نماذج ذلك :
(...إنّه الوحي , أعدّوا الركاب , واستعدوا للنهاب , ثمّ أغيروا على الرباب , فليس دونهم حجاب ...)
وممّا قالته وهي متوجهة لقتال مسيلمة الكذاب (عليكم باليمامة , ودقوا دفيف الحمامة و فإنها غزوة صرامة , لا يلحقكم بعدها ندامة ...)
(يا أيها المؤمنون المتقون , لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون ...)
ث ـ الأسود العنسي : من أهل اليمن كان معروفا بالفصاحة والكهانة والسجع ممّا يؤثر عنه قوله :
( سبح اسم ربّك الأعلى , الذي يسر على الحبلى , فأخرج منها نسمة تسعى , من بين أضلاع وحشى , فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى , ومنهم مي يعيش ويبقى ...)
ج- ابن المقفّع (145هـ) : كان مجوسيا وأسلم أو ادّعى الإسلام كما يقول البعض قيل أنّه عارض القرآن بكتابه (الدرة اليتيمة) وهو مطبوع متداول وليس فيه شيء ينص ويدلّ على ذلك بل جلّ ما فيه حكم الفرس والهند وكثير من حكم علي رضي الله عنه مدوّنة فيه وغير منسوبة إليه ... وقيل أنه عارض القرآن وكتب فيه الشيء الكثير ولكنه مزّق ذلك كلّه لما بلغ قوله تعالى : [هود 44] وقال : هذا الكلام لا يستطيعه البشر...
ح- ابن الراوندي : أبو الحسن أحمد بن يحيى (293هـ وقيل غير ذلك) قيل أنّه عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) وممّا قاله المعري في انتقاد هذا الكتاب والردّ عليه قوله في رسالة الغفران : (.. وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا ... وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : أفٍّ وتُفّ وجوربٌ وخفّ . قيل: وما جورب وخف؟ قالت: واديان بجهنّم )
خ- المتنبي (354هـ) : تنبأ وفي عمره سبعة عشر عاما ببادية السمَّاوة بين الكوفة والشام وقد تبعه قوم كُثر ثم ما لبث أن عاد إلى رشده وممّا يؤثر عنه قوله : (والنجم السيّار , والفلك الدوّار , والليل والنهار , إنّ الكافر لفي أخطار , امض على سُنّتِك , واقْفُ أثر من قبلك من المرسلين , فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من ألحد في دينه وضلّ عن سبيله ...)
د- أبو العلاء المعري (449هـ) : زعموا أنّه ألف كتابا في معارضة القرآن سمّاه (الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات) ممّا جاء فيه قوله : ( أقسم بخالق الخيل , والريح الهابّة بليل , بين الشرط مطلع سهيل , إنّ الكافر لطويل الويل , وإنّ العمر لمكفوف الذيل , تَعَّدَ مدارج السيل , زطالع التوبة من قبيل , تنج وما إخالك بناج .) قال الأستاذ الرافعي معلقا على هذا الكلام المسجوع لا غير: ( فلفظة "ناج" هي الغاية , وما قبلها فصل مسجوع , فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية , وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم , لأنّها تأتي خواتم لآياته , فكأن المعارضة نقضٌ للوضع ومجاراة للموضوع , وكأنها صنعة وطبع .)
شبهة 1: زعموا أنّ العرب في زمن النبوة عارضوا القرآن بسور وربما بكتب ولكن صولة الإسلام وقوة دولته أخفت ذلك كلّه ومحته عن الوجود حتى لا يصلنا شيء منه
والجواب أنّه رجم بالغيب وتخيّل مناف للمنهج العلمي يحتاج إلى أدلة ونقول تثبته
يقول السحباني في الردّ على هذه الشبهة : (إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا على غيرهم. كيف، وإن الإتيان بمثل معجزته،يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم.)
ويقول الخوئي : (إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها،وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيدا ًيوقعونه في كل مجلس، وذكراً يرددونه في كل مناسبة، وعَلَّمَه السلف للخلف، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعي على حجّته، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف.كيف، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة..)
وممّا قاله الإمام الخطابي مفندا هذا الزعم الباطل قوله : (إنّ هذا السؤال ساقط , والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأمور التي لها شأن وللنفوس بها تعلق , وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب , وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظم خطره , وجلالة قدره , لجاز أن يقال إنه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد , وتنزّلت عليهم كتب من السماء وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة , وكتم الخبر فيها فلم يظهر , وهذا ممّا لا يحتمله عاقل ...)
شبهة 2 أنّ الذين أقدموا على معارضة القرآن هم سفلة القوم وجهلتهم لهذا جاءت هذه المعارضات بهذا الشكل الهزيل ولو تقدم لهذا الأمر فصحاء العرب وحكمائهم لأتوا بمثل القرآن أو بما هو أفضل منه
والجواب على هذه الشبهة من جهتين اثنين أولاهما : أنّ الواقع يكذّب هذا الزعم فالذين عارضوا القرآن ــ ممّن سبق ذكرهم ــ ليسوا سفلة ولا أراذل قومهم بل هم سادة القوم وشرفائهم وهم قادة قبائلهم وحكمائهم ... فمسيلمة بن حبيب سيّد اليمامة وزعيمها بلا منازع وكذلك جلّ من ذكر من المتنبئين في الزمن الأوّل ... وقد ملكوا من الفصاحة وأدوات البلاغة الشيء الكثير فلا يظنّنّ القارئ لمعارضاتهم المتقدمة أنّهم جاهلون بفنّ البيان ومواضع الكلام فمسيلمة كان معروفا بلسانه القويم وكلامه الفصيح والجميل وهو القائل لسجاح بنت الحارث (هل لكِ أن أتزوّجك فآكل بقومي وقومك العرب) فهذه كلمة بسيطة ولكنها بليغة حيث خَيّلَ لسجاح أنّه يريد أكل العرب بقومه وقومها أي يريد الغلبة والسيطرة ... وهو القائل لمّا استحرّ القتل (أمّا الدين فلا دين , قاتلوا عن أنسابكم) "فأيّ إيجاز , وأيّ قوة , وأيّ إيحاء وتحميس أقوى من هذا : قاتلوا عن أحسابكم ؟ ..."
وطليحة بن خويلد الأسدي من مشهور كلامه وبليغه ما قاله لعمر رضي الله عنه حين أسِر وأراد قتله لقتله عكاشة بن محصن وثابت بن أكرم رضي الله عنهما فأجابه : (ما تَهُمُّ من رجل يكرمهما الله بيدي ولم يُهِنّي بأيديهما) فهذه الكلمة البليغة والوجيزة قد بلغت من قوة بيانها وفصاحتها وتأثيرها أن دفعت عمر ــ رضي الله عنه ــ الذوّاق والناقد العارف بأسرار كلام العرب إلى العفو عنه وهكذا الأمر والشأن مع جميع من ذكر من معارضي القرآن الأوائل أما المتأخرين منهم فالمتنبي هو أشعر العرب عند جمهور النقاد والمطّلع على أدب المعري يعرف مقدار بيان الرجل وفصاحته ... إذًا ليس صحيحا ما يدّعونه من أنّ هذه المعارضات المذكورة إنّما قام بها سفهاء الناس وجهلتهم وأنّ هذه المحاولات لا تنتقد نظرية الصرفة بل المعارضين سادة شرفاء حكماء وبلغاء ...
الجواب الثاني أنّ هذا الانحطاط وهذه الرداءة التي نلاحظها في معارضات القرآن ليس سببها بلادة قائليها وحقارتهم وسفاهتهم وكذا جهلهم بفنّ الكلام وعجزهم عن فصيحه وبليغه كما تزعمون بل إنّ السبب الرئيس وراء ذلك كلّه هو مقابلة القرآن وما نشعر بهذا التفكه والاستهزاء والتحقير لهذه المحاولات إلاّ لأنّنا وازنّا بينها وبين القرآن الكريم وجعلناها في مقابله لا غير وسيأتي في جواب الشبهة الموالية مزيد بيان عنّ سرّ هذا الشعور الملازم لجميع معارضات القرآن الكريم ...
شبهة 3 حول الشعور بالاستهزاء والتفكّه والتحقير في هذه المعارضات
قد يقول القائل حين نستعرض لمثل هذه المعارضات التافهة "يحتمل أن تكون هذه المعارضات من اختلاق وصنع المسلمين حتى يتفكهون على المعارضين ويثبتون الإعجاز والتقدم للقرآن الكريم" والجواب على هذا من وجوه : أوّلها أنّ القرآن الكريم لا يحتاج إلى الكذب والافتراء لإثبات إعجازه لأنّ الواقع يثبته سواء عن طريق أسلوب المماثلة والموازنة بينه وبين كلام البشر أو عن طريق استقصاء الأساليب القرآنية المعجزة في بلاغتها أو غيرها من الطرق والأساليب العلمية المنهجية المثبتة لبلاغة القرآن المعجزة ... ثانيا هذا الذي زعموه إدّعاء يحتاج إلى دليل فلا يكفي في مجال البحث العلمي مجرد الرمي والقذف بالغيب خاصة وأنّ المسلمين قد ذكروا من الشبه التي رُمي بها الإسلام الشيء الكثير فلما يعدلون عن منهجهم الذي أثبته استقراءُ كتبهم ومؤلفاتهم التي لا تعدّ ولا تحصى إلى هذا الذي يدّعونه من اختلاق هذا الكلام لأجل التفكّه .ثمّ إنّ الكذب على الغير ــ ولو كافرــ محرم في شريعة الإسلام ... ثالثا ــ وهي النقظة المهمة في الردّ على هذه الشبهة ــ إذا كان سبب هذا الذي زعموه ركاكة وتفاهة هذه المعارضات فكأنّهم استغربوا أن تصدر من عاقل حكيم ندب نفسه لشيء عظيم كمعارضة رسالة الإسلام وكتابه القرآن... والسبب الحقيقي وراء هذا الاستغراب ليس ركاكة ألفاظها وبداءة معانيها ــ وإن كان فيها شيء من ذلك ــ ولكن السبب الحقيقي هو المقارنة والموازنة الواقعة بين هذه المعارضات البشرية الناقصة وبين كلام الله عزّ وجلّ البديع الكامل المعجز , فهذه المعارضات ــ مهما قيل ــ شبيهة تمام المشابهة بسجع الكهان الذي كان منتشرا في جاهلية العرب كقول سَلِمة بن أبي حَيّة المعروف بعزّى سَلِمة وهو كما قال الجاحظ أكهن العرب وأسجعهم : (والأرض والسماء , والعقاب والصقعاء , واقعة ببقعاء , لقد نفّر المجدُ بني العُشَراء للمجد والسناء...) ومنه قول زبراء كاهنة بني رِئام تنذرهم غارة (واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنّجم الطارق والمزن الوادق إنّ شجر الوادي ليأدو خَتلا ويحرِق أنيابا عُصْلا , وإنّ صخر الطّود ليُنذِر ثُكلا , لا تجدون عنه مَعْلا ...) ولا فرق بين هذا الكلام ومعارضات مسيلمة وغيره من العرب القدماء من حيث بناؤه وتركيبه ومن حيث سجعُه وغريبُ لفظه ... إلاّ فيما يشعر به القارئ وهو يردّد كلاّ منهما فإذا كان الأثر الذي يتركه سجع الكهان هو الاستغراب وربّما الاستطراف أحيانا والاستعذاب فإنّ كلام مسيلمة وهو بنفس الطريقة والأسلوب يترك هذا الشعور بالاستهزاء والتفكه والتحقير ... لا لشيء إلاّ لأنّ القارئ والسامع يضعه ــ وضع مقارنة ــ في مقابل كلام الله الكامل والمعجز ...
وللتّأكد من هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن ينكرها أحد للننظر في بعض كلام العرب القديم قبل نزول القرآن أي قبل وقوع التحدي والصرفة ؛ الكلام الذي جاء فيه شيء من مواضيع القرآن الكريم كالحديث عن اليوم الآخر ونبذ الشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المواضيع دون أن يقترن هذا الكلام بمعارضة القرآن ومجابهته
فمن ذلك شعر أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
لك الحمد والنّعماء والملك ربّنا فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدا
ومنه قوله يصف الملائكة بين يدي الله سبحانه وتعالى :
ملائكة أقدامهم تحت عرشه بكفَّيه لولا الله كلُّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته فرائصهم من شدّة الخوف تُرْعَدُ
وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه يُصيخون بالأسماع للوحي رُكّد
أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ
وحُرّاس أبواب السماوات دونهم قيام عليها بالمقاليد رُصّدُ
ومنه قول زيد بن عمرو مخاطبا قومه: (يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيرالله ؟) ومن رائق شعره قوله :
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له الأرض تحملُ صخرا ثِقالا
دحاها فلمّا رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له المُزنُ تحمل عذبا زُلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصُبّت عليها سجالا
ويقول قس بن ساعدة خطيب الجاهلية : (أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آت آت ...) ومن شعره
في الذاهبين الأوّلــــ ينَ من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محـــا لة حيث صار القوم صائر
ولورقة بن نوفل قوله :
لقد نصحتُ لأقوام وقلتُ لهم أنا النذير فلا يغرركم أحدُ
فهذا الكلام وهذه الأشعار جميعها في غاية الجمال ومنتهى الحسن ولكن هل تبلغ مبلغ القرآن الكريم ؟ وهل تصل إلى فصاحته وبلاغته ؟ أبدا لن تدرك ذلك !!! ولم يقل أحد بذلك !!! لا قائلوها ممّن أدرك الإسلام كورقة بن نوفل الذي أسلم أو أمية بن أبي الصلت الذي كفر... ولا العرب وهم أحوج ما يكونون يومها لتقديم مثل هذا الكلام لمعارضة كلام الله ... فالقرآن لم يطلب منهم الإنشاء بل مطلق الإتيان والإنشاء يقتضي الجِدّة بينما الإتيان يجزئ فيه القديم كذلك ...
ثم لننظر في وقع هذا الكلام على النفوس هل يستوجب الاستهزاء والتفكّه والتحقير كما هو الشأن في جميع معارضات القرآن ؟ لا وإنّما يجد الواحد منّا في نفسه وهو يقرأ مثل هذا الكلام شيئا من التعظيم والتقديس والاتعاظ كذلك , ولكنه لا يبلغ مبلغ كلام الله عزّ وجلّ ولا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد يجعله المتساهل منّا في منزلة كلام الوعاظ من علماء الإسلام كالحسن البصري وابن الجوزي ... وأخيرا لنسأل السؤال المتعلق بمبحثنا لما لم يستوجب هذا الكلام الاستهزاء والتفكّه والتحقير ؟ السبب هو ببساطة عدم مقابلته مع كلام الله عزّ وجلّ واعتقاد أنّ صاحبه يدّعي أنّ كلامه هذا يوازي القرآن الكريم
نقطة أخرى تؤكّد أنّ معارضة كلام البشر الناقص لكلام الباري الكامل والمعجز هي التي استوجبت هذا الشعور الذي لا يفارق معارضات القرآن عبر مختلف الأزمان ... إنّنا إذا نظرنا في النصوص العربية الإسلامية الشعرية منها والنثرية نجدها معبّأة بالاقتباس من كتاب الله عزّ وجلّ ونلاحظ أنّ هذا الاقتباس ــ وهو شبيه إلى حدٍّ بعيد بما يفعله المعارضون ــ يزيد النصّ جمالاً من جهة الألفاظ المستعملة والتي تترك في النفس أثراً بليغًا ووقعا جميلاً كما تزيده قوّة وتوثيقا من جهة الأفكار والمعاني المقتبسة
سأنقل ها هنا نماذج لشاعر معاصر يكثر من الاقتباس القرآني إلى درجة أنّه يستعمل في كثير من الأحيان آيات كاملة وأجزاء كبيرة منها في أشعاره وهو الأستاذ أحمد مطر :
يقول في قصيدة قلّة أدب :
قرأتُ في القرآنِ
"تبّت يدا أبي لهب "
فأعلنت وسائل الإذعانِ
"إنّ السكوت من ذهب"
أحببتُ فقري ...لم أزل أتلو :
"وتبّ
ما أغنى عنه ماله وما كسب"
فصودرت حنجرتي
بجرم قلّة الأدب
وصودر القرآن
لأنّه حرضني على الشغب
وفي قصيدة له بعنوان : فبأيّ آلاء الشعوب تكذبان
غفتْ الحرائق...
أسبلت أجفانها سحب الدخان
الكلّ فان
لم يبق إلاّ وجه ربّك ذي الجلال واللجان
ولقد تفجرَ شاجبا ومنددا ولقد أدان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان !
وله الجواري الثائرات بكلّ حان
وله القيان
وله الإذاعة
دجن المذياع لقّنه البيان
الحقّ يرجع بالربابة والكمان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان
وله أيضا :
والعصر...
إنّ الإنسان لفي خسر
في هذا العصر
فإذا الصبح تنفس
أذّنَ في الطرقات نباحُ كلاب القصر
قبل أذان الفجر
وانغلقت أبواب اليتامى ...
وانفتحت أبواب القبر
والأمثلة والشواهد كثيرة وما يهمنا منها هو رغم هذا الاقتباس الكثير من القرآن ورغم هذا التشابه الكبير مع المعارضات التي سبق ذكرها فإننا لا نجد هذا الشعور بالفكاهة والاستهزاء والتحقير الذي نجده في المعارضات والسبب هو عدم مقابلتها بالقرآن الكريم ...
بحث من إعداد الطالب : فتحي بودفلة
مــقــدمـــة :
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله
ألا وإنّ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار أعاذني الله وإيّاكم كمها
أما بعد ...
تعتبر نظرية الصرفة التي جهر بها النظّام في نهاية القرن الثاني وبداية الثالث للهجرة الشرارة الأولى التي أثارت علماء الإسلام للبحث بموضوعية ومنهجية علمية دقيقة في مسألة إعجاز القرآن الكريم , فطابقت بحق وصدق المثل السائر "ربّ ضارة نافعة" ... فجلّ ما كتب بعدها في إعجاز القرآن وبلاغته جاء كردة فعل لهذه النظرية بدءاً بضحدها وإبطالها ثم إثبات كون القرآن معجز بذاته وبيان أوجه الإعجاز فيه ...
واللافت للانتباه أنّ أوّل وأكثر من ردّ على النظّام وأبطل نظريته سواء إبطال كلي بضحدها أو جزئي بإعادة تهذيبها هم أصحابه وأهل مذهبه , المعتزلة وكأنهم أرادوا بذلك نفي شبهة القول بها عن مذهبهم والحفاظ على تقدمهم واختصاصهم من دون سائر الفرق بمهمة الدفاع عن القرآن الكريم والذوذ عنه
ثم إنّ هذا التقدم والاختصاص في الحديث عن ظاهرة إعجاز القرآن وبلاغته والدفاع والذوذ عنه أمام المشككين والملحدين كان بمثابة الشرارة الثانية أو الدافع إلى مزيد من الدراسات القرآنية المتخصصة والتي قادتها باقي الفرق الإسلامية وعلى رأسها أهل السنة والجماعة والأشاعرة وغيرهم سواء من باب الردّ عليهم لأنهم ألبسوا هذه الدراسات الإعجازية والبلاغية كثيرا من عقائدهم وفلسفاتهم أو من باب نقض هذا الاختصاص والتقدم فظهرت نتيجة لذلك ابتداء من القرن الرابع الهجري أسماء بارزة كالخطابي والبقلاني والجرجاني وغيرهم ...
الشرارة الثالثة والأسباب والدوافع الأخيرة التي أعادت الحياة والجدّة ــ إذا صحّ التعبير ــ لهذا العلم هو الاتصال بالحضارة الغربية والغرف من معينها ومختلف علومها سواء اللسانية منها أو غيرها كالعلوم الاجتماعية والنفسية والطبية والفلكية ....إلخ...
فلكي يتم الإحاطة بإعجاز القرآن وحقيقة النظريات التي قيلت فيه لا بدّ من الوقوف على هذه الشرارات والدوافع الثلاث التي أثّرت في هذه الدراسات أيّما تأثير وهي كما سبق ذكره وبيانه :
نظرية الصرفة ودورها الريادي في بداية الكلام العلمي والمنهجي في إعجاز القرآن وبلاغته...
جهود المعتزلة في الدرس البلاغي سلبا وإيجابا ودورهم في إثارة باقي الفرق الإسلامية...
الحضارة الغربية وما أضافته للدرس البلاغي ودورها توسيع مجالات وبحوث إعجاز القرآن ...
وما سأحاوله في هذه الخلاصة هو التعرض للشرارة الأولى ــ نظرية الصرفة ــ معتمدا المنهج التحليلي والمقارن من أجل الوقوف على حقيقة هذه النظرية وعلى ما أثارته من ردود أفعال مقسما بحثي إلى مقدمة خاتمة يتوسطهما فصلان أما المقدمة فتوطئة لبيان أهمية وسبب اختيار الموضوع كما تعرضت فيها لمنهجية وعناصر البحث وفي الخاتمة تناولت أهم النتائج التي صدر عنها البحث وفي الفصل الأوّل تعرضت لحقيقة نظرية الصرفة لصاحبها لتعريفها لحقيقتها ولأصلها ... بينما خصصت الفصل الثاني للردّ عليها وإبطالها ......
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد وصل اللهمّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلّم ...
حول مصادر ومراجع هذا البحث :
لعل أوّل ملاحظة أسجلها ها هنا هو النقص الشديد إن لم أقل انعدام مرجع معتزلي خالص يتحدث عن نظرية الصرفة وخاصة للنظّام نفسه أول وأشهر من قال بها فجلّ أقواله منقولة من كتب خصومه وأشياعه ... وسواء هؤلاء وهؤلاء ــ من الناحية المنهجية ــ لا يمكن الثقة المطلقة بها ولا الطمأنينة لها لأنه لا يبعد أن تكون محاطة وملفقة بأحكام ذاتية أو ذوقية أو مذهبية بعيدة عن الموضوعية من شأنها أن تصرف هذه النصوص عن حقيقته الأولى ...
الملاحظة الثانية أنني استعنت بالعديد من المصادر والمراجع الخاصة المتاحة في حدود الإمكانيات البسيطة ... وقد أثبتها جميعا في فهرس خاص تجدونه في آخر البحث... ولكن جلّ المصادر والمراجع المذكورة في حشو البحث لم أقف عليها مباشرة وإنما هي منقولة من المصادر والمراجع المثبتة في الفهرس الخاص
الملاحظة الأخيرة هي الاستعانة الكبيرة بالشبكة العنكبوتية والبرامج الإلكترونية والإحالة عليها ليست بالشيء السهل الميسور في كلّ الأحوال ...وطريقة الإحالة ليست متفق عليها كلّ الاتفاق ...
فهرست الموضوعات وعناصر البحث :
1. المقدمة
• حول مصادر ومراجع هذا البحث
• فهرست الموضوعات وعناصر البحث
2. الفصل الأول : نظرية الصرفة
د- من هو النظّام ؟
ذ- الصرفة والصرف في لغة العرب
ر- الصرفة في اصطلاح المتكلمين
ز- حقيقة الصرفة
س- أوجه الصرفة الواقعة على المتحدين
ش- الصرفة النظّامية
ص- أصل نظرية الصرفة ومصدرها
• الأصل الهندي
• الأصل الاعتزالي
• أصلها منهج الاستدلال عند النظام
• أصلها الافتتان ببلاغة العرب
د- القائلون بالصرفة غير النظّام
o من المعتزلة
o من غير المعتزلة ـ الأشاعرة
o ـ الشيعة الإمامية
ذ- الصرفة عند الجاحظ
ر- الانصراف عند القاضي عبد الجبار
ز- الصرفة عند الأشاعرة
3. الفصل الثاني : إبطال نظرية الصرفة
أولا : الأدلة العلمية النقلية والعقلية
ثانيا : الأدلة التطبيقية العملية الواقعية
1. النظر في أضرب وأصناف كلام العرب
2. النظر في بلاغة القرآن
3. تتبع معارضات القرآن
أ- ما المقصود بالمعارضة
ب- نماذج من معارضات القرآن
ت- شبهات حول هذه المعارضات:
- المعارضات الحقيقية أتلفها المسلمون
- المعرضون المذكورون سفلة جهال لا تنتقض بمثلهم نظرية الصرفة
- هذه المعارضات من وضع المسلمين من أجل إثبات إعجاز القرآن والتفكه على خصومهم
... يتبع إن شاء الله
الفصل الأوّل
من هو النظّام ؟
لأنّ أوّل من جهر بنظرية الصرفة وأشهر من قال بها هو النظّام حتى صارت لا تذكر إلاّ مقرونة باسمه ولا تعرف إلاّ من خلاله وبعض القاصرين يحسبها من شذوذه وانفراداته التي لم يوافقه عليها أحد ارتأينا أن نبدأ هذا البحث بالوقوف على ترجمة بسيطة لهذا العلم الاعتزالي الذي أعطى للدرس البلاغي والإعجازي دفعا قويا سواء من حيث أراد ذلك أو لم يرد وسواء من حيث حاول الدفاع عن القرآن الكريم أو الطعن فيه ...
مصادر ومراجع الترجمة :
الوافي بالوفيات - (ج 2 / ص 226)
سيّر أعلام النبلاء للذهبي 10\542\172
الفرق بين الفرق ص270
تاريخ الفلسفة في الإسلام , الأستاذ الدكتور ج. دي بور جامعة أمستردام ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة كلية الآداب جامعة القاهرة . ط الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1980 من الصفحة 111 إلى الصفحة 121
شوقي ضيف , تاريخ الآداب العربي العصر العباسي الأول ج3\ص430 وما بعدها ط دار المعارف مصر الطبعة السادسة
نشأة الفكر الفلسفي , أ د علي سامي النشار دار السلام 2008 ج1ص555 ...
إبراهيم بن سيار بن هانئ أبو إسحاق مولى آل الحارث بن عباد الصبعي البصري المتكلم , ابن أخت أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة
المعروف بالنظام بالظاء المعجمة المشددة،
قالت المعتزلة: إنما لقب بذلك لحسن كلامه نظماً ونثراً، وقال غيرهم: إنما سمي بذلك لأنه كان ينظم الخرز بسوق البصرة ويبيعها.
وكان منذ صباه شديد الذكاء، حكي أنه أتى أبو الهذيل العلاف إلى صالح بن عبد القدوس وقد مات له ولد وهو شديد التحرق عليه ومعه النظام وهو حدث فقال له أبو الهذيل: لا أعرف لتحرقك وجهاً إذ كان الناس عندك كالزرع، فقال: إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك، فقال: وما هو؟ قال: كتاب وضعته من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم فيما كان أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه كان، فقال النظام: فشك أنت في موت ابنك واعمل على أنه لم يمت أو أنه عاش وقرأ هذا الكتاب ولم يمت إلاّ بعد ذلك، فبهت صالح وحصر.
ويحكى عنه أيضاً أنه أتي به إلى الخليل ابن أحمد فيما أظن ليتعلم البلاغة فقال له: ذم هذه النخلة! فذمها بأحسن كلام، فقال له: امدحها! فمدحها بأحسن كلام فقال: اذهب فما لك إلى التعليم من حاجة. وزعموا أنّه قال له : يا بنيّ نحن إلى السماع منك أحوج "
قال الجاحظ عن عظم علمه وسعة ثقافته :"ما رأيت أحدا أعلم في الفقه والكلام من النظام"
وعنه يقول ابن المرتضى :"حفظ القرآن والإنجيل والتوراة والمزامير وتفسيرها مع كثرة حفظه للأشعار والأخبار واختلاف الناس في الفتيا ..." [نقلا عن المنية والأمل ص 4]
ممّا قاله الأستاذ الدكتور علي سامي النشار واصفا النظام و مبيّنا منزلته بين علماء الإسلام :"...أكبر شخصية فلسفية معتزلية في العالم الإسلامي , صدر عن فكر مبدع ونظام فلسفي دقيق , وقد تنبّه الأقدمون إلى ما له من قيمة عظيمة وأثر كبير, وقد شغلت هذه الشخصية القرن الثالث والرابع وتأثرت به المجامع الفكرية سواء كان أصحابها فلاسفة أو متكلمين أو شعراء أو أدباء بحيث نجد اسمه ستردد على ألسنتهم جميعا ..." اهـ
ويعتبر كلٌّ من ابن حزم الظاهري (طوق الحمامة ص123 الفصل 4\174) وابن نباتة (سرح العيون 122) النظام أعظم رجال المعتزلة مطلقا
أما المعتزلة فيبالغون في تعظيم الرجل رغم سعة الخلاف بينه وبينهم فهذا تلميذه وأوّل منتقديه الجاحظ يزعم أنّ الأوائل يقولون في كلّ ألف سنة رجل لا نظير له وإن كان هذا صحيحا فإن رجل ألفيته هو أبو إسحاق النظام .
ويقول ابن المرتضى المعتزلي الشيعي في كتابه المنية والأمل ص28 :"إنه لا ينبغي أن يكون في الدنيا مثله"
أما المستشرقون فهم يعتبرونه رائد الفلسفة الإسلامية وأول رجالاتها إذ قبله لم تكن الفلسفة الأسلامية قائمة على أسس وأصول علمية منهجية واضحة وعلى رأس هؤلاء ستين (STEIN) وهورفيتز (HORVITZ) وماكدونالد (Mac Donald) وديبور (Débord)
أقواله ومذاهبه سواء منها التي وافق جمهور المعتزلة أو التي انفرد بها دونهم:
ومنها أن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، ولو كان قادرا، لكنا لا نأمن وقع ذلك، وإن الناس يقدرون على الظلم، وصرح بأن الله لا يقدر على إخراج أحد من جهنم، وأنه ليس يقدر على أصلح مما خلق
منها أن الله تعالى إنما يقدر على فعل ما علم أن فيه صلاح العباد هذا بالنظر إلى أحكام هذه الدنيا وما في الآخرة فلا يوصف بالقدرة على زيادة عذاب أهل النار ولا ينقص منه شيئاً ولا يقدر على أن يخرج أحداً من الجنة.
ومنها أنه نفى إرادة الله تعالى حقيقةً فإذا قيل إنه مريد لأفعال العباد فالمراد أنه أمر بها، وعنه أخذ هذا المذهب أبو القاسم الكعبي.
ومنها أنه وافق الفلاسفة على أن الإنسان حقيقة هو النفس، والبدن قالبها، ثم إنه قصر عن إدراك مذهب الفلاسفة فمال إلى قول الطبيعيين فقال: الروح جسم لطيف مشابك للبدن داخل بأجزائه فيه كالدهن في السمسم والسمن في اللبن .
ومنها أنه وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ، وما حسن قول ابن سناء الملك:
ولو عاين النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد ولما ألزم النظام مشي نملةٍ على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى وهي متناهية فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى أحدث القول بالطفرة
ومنها أنه قال: إن الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت وإن الألوان والطعوم والروائح أجسام.
ومنها أن الله تعالى خلق جميع الحيوانات دفعةً واحدةً على ما هي عليه الآن حيوانات وإنس ونبات ومعادن ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده ولكن الله أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكانها لا في حدوثها، وهذه المسألة أخذها من أصحاب الكمون والظهور وأكثر ميل النظام إلى مذاهب الطبيعيين دون الإلهيين.
ومنها أنه قال: الإجماع ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس ليس بحجة وإنما الحجة قول الإمام المعصوم.
ومنها ميله إلى الرفض ووقوعه في أكابر الصحابة رضي الله عنهم وقال: نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإمام علي وعينه وعرفت الصحابة ذلك ولكن كتمه عمر لأجل أبي بكر رضي الله عنهما، وقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم لبيعة حتى ألقت المحسن من بطنها، ووقع في جميع الصحابة فيما حكموا فيه بالاجتهاد، فقال: لا يخلو إما إن جهلوا فلا يحل لهم أو أنهم أرادوا أن يكونوا أرباب مذاهب فهو نفاق، وعنده الجاهل بأحكام الدين كافر والمنافق فاسق أو كافر وكلاهما يوجب الخلود في النار.
ومنها أنه قال: من سرق مائة درهم وتسعةً وتسعين درهماً أو ظلمها لم يفسق حتى يبلغ النصاب في الزكاة وهو مائتان.
قيل: لم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم" كما ذكر الإمام الذهبي فقد كان فاسقا مدمنا على شرب الخمر توفي وفي يده قدحا من الخمر يشربه في مكان عالٍ وهو ينشد :
اشرب على طربٍ وقل لمهددٍ ... هون عليك يكون ما هو كائن
فلما فرغ من إنشاد ذلك البيت وقع وسقط من مكانه فمات سنة ثلاثين ومائتين 230هـ
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن النظام كان في الباطن على مذهب البراهمة الذين ينكرون النبوة وأنه لم يظهر ذلك خوفاً من السيف، فكفره معظم العلماء وكفره جماعة من المعتزلة حتى أبو الهذيل والإسكافي وجعفر ابن حرب كلٌ منهم صنف كتاباً في تكفيره،
وذكر غير واحد من علماء التراجم والفرق أنه كان رجلا ديّنا تقيا وأنّ تهمة الفسق والخمر من اختراعات وادّعاءات أعدائه لا غير وممّن قال بهذا الأستاذ الدكتور علي سامي النشار في نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1\558 حيث يقول :"هاجم معظم مفكري أهل السنة والنظام , واعتبروه ملحدا من كبار الملاحدة وصوروا حياته تصوير رجل مستهتر يقضي جلّ وقته في الفسق والفجور ونحن لا نسرع بتصديق هذا فقد اشتهر المعتزلة بأنهم رجال أتقياء وزهاد متعبدون وقد دافع الخياط عنه دفاعا مجيدا وذكر لنا في مواضع عدة دفاع النظام عن الإسلام . وقيامه في وجه الملاحدة والثنوية والسمنية والفلاسفة وذكر القاضي عبد الجبار أنّ النظام كان يقول وهو يجود بنفسه "اللهمّ إن كنت تعلم إني لم أقصّر في توحيدك , اللهمّ ولا أعتقد مذهبا إلاّ سنده التوحيد اللهم إن كنت تعلم ذلك فاغفر لي ذنبي وسهّل عليّ سكرة الموت ." [مقالات الإسلاميين للأشعري 3\66 ـ 177] فمات لساعته وهذا دليل على انتهاء حياة الرجل صادقا لم يأل جهدا في الدفاع عن الإسلام . اهـ
قال ابن أبي الدم قاضي حماة وغيره في كتب الملل والنحل إن النظام كان في حداثته يصحب الثنوية وفي كهولته يصحب ملاحدة الفلاسفة فطالع كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وصار رأساً في المعتزلة وإليه تنسب الطائفة النظامية
قال الإمام الذهبي : وله نظم رائق، وترسل فائق، وتصانيف جمة، منها: كتاب " الطفرة " وكتاب " الجواهر والاعراض "، وكتاب " حركات أهل الجنة "، وكتاب " الوعيد "، وكتاب " النبوة "، وأشياء كثيرة لا توجد ذكر مؤلفاته ابن النديم في الفهرست ص206
ومن كتبه ومؤلفاته كذلك (الجزء) ذكره الأشعري في مقالات الإسلاميين . (الحركة) أو (حركة الأجسام) ذكره الأشعري و(الثنوية) ذكره البغدادي (التوحيد) ذكره الجاحظ وهو في إثبات وجود الله عن طريق الحركة
(العالم) و(نقض كتاب أرسططاليس)
الصرفة والصرف في اللغة:
لسان العرب
( صرف ) الصَّرْفُ رَدُّ الشيء عن وجهه صَرَفَه يَصْرِفُه صَرْفاً فانْصَرَفَ وصارَفَ نفْسَه عن الشيء صَرفَها عنه وقوله تعالى ثم انْصَرَفوا أَي رَجَعوا عن المكان الذي استمعُوا فيه وقيل انْصَرَفُوا عن العمل بشيء مما سمعوا صَرَفَ اللّه قلوبَهم أَي أَضلَّهُم اللّه مُجازاةً على فعلهم وصَرفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ... وقوله عز وجل فما يَسْتَطِيعُون صَرْفاً ولا نَصْراً أَي ما يستطيعون أَن يَصْرِفُوا عن أَنفسهم العَذابَ... والصَّرْفُ أَن تَصْرِفَ إنساناً عن وجْهٍ يريده إلى مَصْرِفٍ غير ذلك وصَرَّفَ الشيءَ أَعْمله في غير وجه كأَنه يَصرِفُه عن وجه إلى وجه
العين , (ف , ر , ص)
وتصريف الرِّياحِ: تَصَرُّفُها من وَجْهٍ الى وَجهٍ، وحالٍ الى حال، وكذلك تصريف الخُيُول والسُّيُول والأمُور...
المحيط في اللغة للصاحب ابن العباد (ص ر ف)
وأنْ تَصْرِفَ إنساناً عن وَجْهٍ تُرِيْدُه إلى مَصْرفٍ غَيْرِ ذلك
الصحاح في اللغة للجوهري (ص ر ف)
صَرَفْتُ الرجل عني فانْصَرَفَ. وصَرَفْتُ الصبيان: قَلَبْتهم. وصَرَفَ الله عنك الأذى
القاموس المحيط
..." فما يَسْتَطيعُونَ صَرْفاً ولا نَصْراً " ، أي ما يَسْتَطِيعُونَ أن يَصْرِفوا عن أنْفُسِهِم العَذابَ ... واسْتَصْرَفْتُ اللّهَ المَكارِهَ: سألتُه صَرْفَها عَنِّي. وانْصَرَفَ: انكَفَّ،...
اللعاب الزاخر (ص ر ف)
والانصراف: الانكفاء...
وخلاصة القول في مادة صرف أنها تدور حول معنى تغير شيء عن وجهته وأصله وهو معنى ظاهر في صرف العرب بذواتهم أو هممهم عن معارضة القرآن فهم محوّلون من اتجاه الإتيان بمثل القرآن إلى وجهة أخرى وهي عدم الإتيان بمثله ...
الصرفة في اصطلاح المتكلمين :
يمكننا تعريف نظرية الصرفة في اصطلاح المتكلمين والمختصين بقولنا هي صرف العرب عن إجابة التحدي الرباني والإتيان بمثل القرآن الكريم رغم قدرتهم على ذلك .
حقيقة الصرفة :
إنّ نظرية الصرفة تقابل عند المتكلمين وعلماء الإسلام نظرية القول بإعجاز القرآن في ذاته أو ما يسميه البعض الإعجاز بالنظم , فإذا كان جمهور المسلمين يرون أنّ القرآن من حيث بلاغته وبداعة سبكه وروعة نظمه وجمال أسلوبه وصل درجة الكمال والإعجاز وبالتالي تقصر القدرة البشرية وتعجز عن الإتيان بمثله سواء في زمن الوحي والنبوة يوم وقع التحدي أوّل مرة أو قبله أو بعده على حدّ سواء ...
بينما نظرية الصرفة على خلاف مذهب الجمهور قائمة على ثلاثة أسس :
أولا : الاعتراف بفصاحة القرآن وبلاغته ولكن ليس إلى حدّ الكمال والإعجاز ...
ثانيا : إمكانية الإتيان بمثله فإنّ ذلك في طوق بلغاء العرب وقدرتهم ...
ثالثا : إنّ إعجاز القرآن يكمن في الحيلولة دون معارضته رغم إمكانية ذلك ...
يقول الإمام الزركشي (794هـ) مبيّنا وشارحا قول النظّام :"إنّ الله صرف العرب عن معارضته , وسلب عقولهم , وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات ."
ويقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (1360هـ 1948م) :"ومن الباحثين من طوّعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة ؛ أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا : إنّ الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته , إما لأنّ البواعث على هذا العمل لم تتوافر , وإما لأنّ الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأنّ حدثا مفاجئا لا قِبَلَ له به قد اعترضه فعطّل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهراً عنه , على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه . فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن ..."
قال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (388هـ) : "وذهب قوم إلى أنّ العلة في إعجازه الصرفة أي صرف الهمم عن المعارضة , وإن كانت مقدورا عليها و غير معجوز عنها , إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات , صار كسائر المعجزات فقالوا : ولو كان الله عزّ وجلّ بعث نبيا في زمان النبوات , وجعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه , ثم قيل له ما آيتك فقال أن أخرج يدي أو أمدّ رجلي ولا يمكن أحدا منكم أن يفعل مثل فعلي , والقوم أصحاء الأبدان , لا آفة بشيء من جوارحهم , فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه و كان ذلك آية دالّة على صدقه . وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي , ولا إلى فخامة منظره , وإنما تعتبر صحتها خارجا عن مجرى العادات ناقضا لها و فمهما كانت بهذا الوصف كانت آية دالّة على صدق من جاء بها وهذا أيضا وجه قريب"
أوجه الصرفة الواقعة على المتحدين:
لا تخرج جميع أوجه الصرف التي تحدث عنها القائلون بها أو مثلوا لها عن ثلاثة أوجه :
الأولى : صرف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة يقول الرّماني مبيّنا هذا الوجه من الصرفة : (أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول...)
الثانية : سلبهم علوم وأدوات المعارضة وفي هذا يقول السيد المرتضى من الشيعة الإمامية : "إنّ تعالى سلب العرب العلوم الّتي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة الّتي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم..." ويقول ابن سنان الخفاجي وهو شيعي كذلك : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك...) قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (447 هـ): "معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة الّتي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً، لأنّ التحدي واقع بهما، وعن الجمع بينهما كان الصرَّف )
الثالثة : توفر الدواعي والهمم والعلوم ولكن " لم يمنعهم إلاّ إلجاؤه تعالى فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم " وعلى هذا الوجه يحمل كلام العديد من القائلين بصرفة العرب عن معارضة القرآن رغم توفر الدواعي الباعثة والعلوم المساعدة ومنهم الراغب الأصفهاني في جامع التفسير : ( فلما رئي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم ، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، وليس تهتز غرائزهم ألبتة للتصدي لمعارضته ، لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهيا يصرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيرة في الظاهر أن يعارضوه ، ومجبرة في الباطن عن ذلك ، وما أليقهم بإنشاد أبي تمام :
فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع .
والله ولي التوفيق والعصمة . ) ويقول الفخر الرازي في مفتاح العلوم : ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب )
وحقيقة هذه الأوجه الثلاثة أنّ الأولى متوجهة للهمم والدواعي فكأنها لم تتخطى مخيلة وأفكار المتحدين بينما هي في الثانية متوجهة لآليات هذا التحدي وأدواته أما في الثالثة فهي متعلقة بعوارض منفصلة تحول دون الوصول إلى التحدي
الصرفة النظّامية :
نظرة النظّام للقرآن أنه كتاب عادي كسائر الكتب السماوية أنزل لبيان الحلال والحرام لا غير وأنّ كلّ ما فيه من الإعجاز منحصر في أخبار الغيب أما من حيث نظمه فلا إعجاز فيه ومثله في كلام العرب كثير بل العرب قادرة على الإتيان بما هو أفضل وأرقى منه
فمن أقوال النظام التي تنص صراحة على هذا المعتقد قوله : (الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف والنَّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أَحدثهما فيهم...) ويقول أيضا:(... وإنّه من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية ومنع العرب عن الإهتمام به جبراً وتعجيزاً، حتى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغةً وفصاحةً ونظماً ...)
يقول أبو منصور عبد القاهر الجرجاني مبيّنا معتقد النظّام في القرآن من حيث إعجازه : (والفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه - أي النظام -: أن نظم القرآن وحسن تأليف كلماته ، ليست بمعجزة للنبي – عليه الصلاة والسلام - ولا دالة على صدقه في دعواه النبوة ، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ، ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فأما نظم القرآن وحسن تأليف آياته ، فإن العباد قادرون على مثله ، وعلى ما هو أحسن منه في النظم ، والتأليف )
ولعل أكبر دليل على أنّ النظّام لم يكن يرى للقرآن في باب البلاغة والفصاحة أدنى فضل على كلام العرب وأنّه أبدا ما بلغ حدّ الإعجاز كما كان سائدا قبله بل ومجمع عليه قبل ظهور مقالته الفاسدة كلام تلميذه الجاحظ (255هـ) وهو أقرب الناس إليه وأعرفهم بمقالاته ...حيث يقول مخاطبا ابن أبي داؤد (240هـ) في (حجج النبوة) : (فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي ، وبلغت أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن ، والرد على الطعان ، فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي ، ولا لحشوي ، ولا لكافر مباد ، ولا لمنافق مقموع ، ولا لأصحاب النظام ، ولمن نجم بعد النظام ، ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة ، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.) ويقول الفخر الرازي (606هـ) : (قال النظام : إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليؤيد به النبوة ، بل هو كتاب مثل سائر الكتب المنزلة ، لبيان الأحكام من الحلال والحرام ، وإنما لم يعارضه العرب ، لأن الله صرفهم عن ذلك وسلب دواعيهم عن الاعتراض)
فخلاصة الصرفة عند النظام وأسسها ما يلي :
1. الوجه الأوّل لإعجاز القرآن هو ما حواه من الأخبار الغيبية
2. الوجه الثاني لإعجاز القرآن ــ وهو الأهمّ ــ يكمن في صرف الله تعالى العرب عن معرضة القرآن والإتيان بمثله
3. القرآن ليس بمعجز من حيث نظمه
4. قدرة العرب على معارضة القرآن الكريم والإتيان بمثله وبما هو أفضل منه
أصل نظرية الصرفة ومصدرها :
1) الأصل الهندي لنظرية الصرفة :
إنّ للهنود كتابا دينيا وثنيا يسمونه " الفيدا" وهو عبارة عن مجموعة شعرية لإلههم "براهما" يدّعون لها الإعجاز وعدم قدرتهم على الإتيان بمثلها لا من جهة محتواها أو بلاغتها ولكن لأنّ براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها
يقول البيروني (430 هـ) في كتابه (ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) :"إنّ خاصتهم يقولون إنّ في مقدورهم أن يأتوا بأمثالها ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها ..."
قال د . أحمد العمري معلقا على قول البيروني : " ولم يبين البيروني وجه , أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواح أخرى , أم هو منع تكويني بمعنى أنّ براهما صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها والأخير هو الظاهر لأنه الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم وما اشتهروا من أنّ القول بالصرفة نبع في واديهم "
وممّا يؤكد ويؤيد أنّ أصل نظرية الصرفة هندي دخيل على أمّة الإسلام أمور أهمّها ما يلي:
رواج الفلسفة والعقائد اليونانية والهندية في البيئة التي ظهرت فيها نظرية الصرفة: لقد كان لانتشار الفلسفات الأجنبية الوافدة على الأمة وافتتان الفرق الإسلامية بها فتلقفتها وتتبعتها محاولة ـ زعما ـ خدمة الدين بمثل هذه الأقوال الغريبة أو عرضها على مبادئ الإسلام وأصوله فيبطلون ويردون ما يتعارض مع هذه الأصول ويثبتون ويتبنون ما ناسبها ووافقها بحسب فهمهم وإدراكهم لهذه الأصول . وممّا يدللّ على أنّ سوق الفلسفة كان نافقا راجحا والاشتغال بها مربحا ما ورد في كتاب البخلاء للجاحظ وهو من تلامذة النظام ومعاصريه قال الجاحظ : " إنّ طبيبا عربيا مسلما يدعى أسد بن حاني كسدت حاله مرة , فقال له قائل : السَنةُ وَبيئة ٌ ـ أي كثيرة الأوبئة ـ والأمراض فاشية , وأنت عالم , ولك صبر وخدمة , ولك بيان ومعرفة , فمن أين أتاك الكساد ؟ قال: أما واحدة فإني عندهم مسلم , وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب , بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطبّ , واسمي أسد , وكان ينبغي أن يكون اسمي : صليبا أو يوحنا , وكنيتي أبو الحارث , وكان ينبغي أن تكون : أبو عيسى , أو أبو زكريا , أو أبو إبراهيم , وعليَّ رداء قطن أبيض وكان ينبغي أن يكون علي رداء حرير أسود , ولفظي عربي وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل ـ جند نيسابور ـ " بدأت هذه الأفكار تلج بلاد الإسلام في زمن الخليفة أبي جعفر المنصور (156هـ) لما قرّب إليه بعض الأطباء النصارى وعهد إلى بعض حكماء بني إسرائيل بترجمة شيئا من الكتب القديمة ثم ما زالت هذه الظاهرة تزيد وتتفاقم حتى بلغت أشدّها وأوجّها في زمن الرشيد (193هـ) وابنيه الأمين (198هـ) والمأمون (218هـ) وكانت البصرة على وجه الخصوص تعجّ بحكمة الهند وأشعارها وآدابها وفلسفاتها وعقائدها ... فمنها أخذ الإعجام وعلم الضبط وترجمت الكثير من أعمالهم الأدبية كما تبنت العديد من الفرق الإسلامية مبادئ وأفكارا هندية خالصة كإخوان الصفة وغيرهم ....
علاقة النظّام بالفرق الهندية والمذاهب الفلسفية : فقد ذكروا أنّ النظّام كان في شبابه على علاقة وطيدة ببعض الفرق الهندية كالسمنية وهي فرقة بوذية ترى بقدم العالم وتناسخ الأرواح والثنوية ؛ فرقة ترى بأزلية الظلمة والنور وخالط الفلاسفة ودوّن مذاهبهم وشبههم بل لقد رماه غير واحد من أصحابه والعارفين به أنه فُتِنَ بمذهب البراهمية وأنه كان يقول به ويبطنه دون الإسلام ذكر القاضي عبد الجبار أنّ جعفر البرمكي ذكر أرسططاليس , فقال النظام : قد نقضت عليه مقالته فقال جعفر: كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه ؟ فقال: أيّهما أحب إليك أن أقرأه من أوّله أم من آخره ؟ ثم اندفع يقرأ شيئا فشيئا وينقض عليه [ابن المرتضى ص29] وقد ذكر ابن نباتة أنّ العلة فيما انتهى إليه النظام من مذاهب استُبشعت منه أنّه اطّلع على كتب الفلاسفة ومال في كلامه إلى الطبعيين منهم والإلهيين وأنه استنبط من كتبهم مسائل خلطها بكلام المعتزلة
اختلاف المعتزلة على النظام وشدّة معارضتهم له : وممّا يدل على أن نظرية الصرفة لم تكن نتاج بعض الأفكار الاعتزالية المبنية على نفي صفات الله عزّ وجلّ (التوحيد) هو اختلاف المعتزلة على النظام بل من أوّل واشدّ من انتقد هذه النظرية أصحابه وعلى رأسهم تلميذه الجاحظ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تكفيره ولعل هذه الشدّة من المعتزلة في انتقاد النظام ونظرية الصرفة سببها محاولتهم التنصل منها حتى لا تنسب إليهم ويرمون بها . وفي هذا المعنى يقول الدكتور سامي عطا حسن : "...انّ عدم اتفاقهم ـ يعني المعتزلة ـ على مفهوم واحد لنظرية الصرفة يدل على أنها لم تصدر عن عقيدتهم في كلام الله وفي خلق القرآن لذا أميل على ما ذكره كل من البيروني والبغدادي والشهرستاني من أقوال ... تبين مصدرها الخارجي ..."
2. الأصل الإعتزالي لنظرية الصرفة :
أوّلا من الناحية العملية: عُرف المعتزلة ــ في أوّل لقاء وتصادم بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم ــ بأنّهم حملة لواء الدفاع عن الدين والذوذ عن الكتاب المبين وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم فهم الذين واجهوا الملحدين والدهريين والمشككين وضحدوا الشبهات والنظريات الوافدة من خارج دولة الإسلام سواء منها خرفات وهرقطة فلسفة الهند واليونان أو تحريفات وتضليلات اليهود والنصارى
ونظرية الصرفة ما هي إلاّ حلقة في سلسلة ردودهم على المشككين في معجزة القرآن الكريم وكونه كلام الله تعالى الموحى به إلى خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم
وفي هذا السياق يقول الدكتور أحمد أبو زيد " ...فإيراد قضية إعجاز القرآن في سياق هذا البحث المتعلق بالصرفة , وفي معرض الرد على الدهريين يفيد بأنّ هذه النظرية إنما وُضعت للدفاع عن القرآن وتنزيهه عن مطاعن الملحدين ..."
ثانيا من الناحية العلمية : هذا من الجهة العملية التطبيقية أمّا من الجهة العلمية النظرية فإنّ الاعتزال قائم على أصول ستة لعلّ أوّلها وأهمها ما يصطلحون عليه بالتوحيد وحقيقته وأساسه نفي الصفات عن الله عزّ وجلّ
وما القول بنظرية الصرفة إلاّ انعكاسا لهذا الأصل إذ منطلقها نفي الكلام عن الله عزّ وجلّ ...فلفظ القرآن خلقه الله سبحانه وتعالى وليس هو من صفاته ... لأنّ القول بأنه صفة من صفاته يقتضي بالضرورة مغايرته لكلام البشر في لفظه ومعناه وفي أسلوبه ومحتواه ... وبالتالي إعجازه من جهة ذاته .... لهذا السبب لجأ المعتزلة إلى إثبات إعجازه خارج لفظه واهتدوا إلى نظرية الصرفة
وإلى بيان هذه الفكرة أشار الدكتور محمد زغلول سلام في سياق ذكره أصول هذه النظرية ــ وهي عنده أصلين اثنين هذا أحدها ــ يقول : "... إنّ هذا الرأي يبدو أنه صادر عن عقيدتين في نفس الرجل : الأولى :عقيدته في التوحيد والعدل على مذهب المعتزلة ونفي صفات الله عن ذاته ومن ثم فلا كلام لله في الشكل اللفظي المعهود من الخلق وإنما كلام الله وحي وإلقاء في الروع ...."
3. منهج النظّام في الاستدلال والاستنباط أصل نظرية الصرفة :
و هو الأصل الثاني الذي ذكره د. محمد زغلول سلاّم في كتابه أثر القرآن في النقد العربي وتمام كلامه الذي سبق ذكر بعضه :"...الثانية: مذهبه القياسي التجريبي الطبيعي في التفكير , وتزمته في تطبيقه على القرآن وبيانه " اهـ
وقصد الدكتور بهذا المنهج أنّ النظّام كان يظنّ الظنّ ويعتقده حتى يصير عنده قطعيا ويقينيا سواء استقاه من مجرد تخمينه وتفكيره أو من كلام الفلاسفة الهنود أو اليونان ثم ينطلق منه يقيس عليه ويحكم به وكأنه أصلٌ ميلّمٌ لا جدال فيه ولا نقاش ...
ولعل أشهر من فضح منهجه هذا وانتقده تلميذه وأعرف الناس به الجاحظ حيث يقول في كتابه الحيوان :"إنما عيبه الذي لا يفارقه سوء الظنّ وجودة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل, الذي قاس عليه , كان أمره على الخلاف , ولكنه كان يظنّ الظنّ , ثم يقيس عليه , وينسى أن بدء أمره كان ظنا , فإذا أتقن ذلك , وأيقن , جزم عليه , وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه , ولكنه كان لا يقول : سمعت زلا رأيت , وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة , فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه أو معاينة قد بهرته ..." اهـ
وللتمثيل لهذا المنهج في غير نظرية الصرفة نعرج على ثاني أشهر أقوال النظام ونظرياته وهو القول بالطفرة فإنّه كان ابتداء ينكر الجزء الذي لا يتجزأ وهو مجرد رأي وتخمين وظنّ [بل هو مخالف للقطعي المشاهد المحسوس] لكنه جعله أصلا لا يُعارض بشيء وكلّ ما خالفه لا بدّ أن يؤوّل أو يردّ ... فلما أقحم بأدلة تردّ هذا الذي زعمه صوابا وجعله أصلا أجاب بما هو أقبح وأخطر وأفظع أجاب بنظرية الطفرة ....
4. افتتانه بفصاحة العرب وبلاغتهم هي أصل القول بالصرفة :
إنّ العرب بلغوا في صناعة الكلام وحسن صياغته وسبكه الشأن العظيم الذي لم يبلغه أحدٌ من البشر ولقد كان النظّام على علم واسع بذلك وعلى دراية كبيرة بدقائق بلاغة العرب ونكت فصاحتهم وتفصيلاتها ... فهو الشاعر البارع والخطيب المفوّه ...
يصفه الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي بقوله :"وله شعر كثير يدور في كتب التراجم وهو مطبوع بطوابع المتكلمين والمعتزلة منهم خاصة إذ نراه يمزجه باصطلاحاتهم نافذا إلى أغوار المعاني متصرفا فيها تصرف الحاذق الفطن وملائما بينها إلى أبعد حدود الملاءمة يعينه في ذلك حسٌ دقيق مرهف وشعور رقيق حادّ..."
فلعل افتتانه ببلاغة العرب جعلته يحسبهم قادرين على مصل القرآن الكريم وإلى هذا الأصل يشير بعض الدارسين بقوله : "...فإنّ القول بالصرفة نجم من الإغترار بما روي من رشيق الكلمات , وبليغ العبارات عن العرب فزعم هؤلاء أنّ كلّ من قدر على تلك الأساليب البلاغية يقدر على المعارضة , إلاّ أنه سبحانه عرقلهم عنها وثبّطهم فيها ...." اهـ
القائلون بالصرفة غير النظّام :
ليس القول بالصرفة مقصورا على النظّام كما يظنه البعض بل لقد سلك هذا الطريق كثير من علماء الإسلام سواء من فرقة المعتزلة أو من غيرهم
المعتزلة:
عيسى بن صبح المكنى بأبي موسى المردار 226هـ كان معروفا بالناسك أخذ الاعتزال عن بشر بن المعتمر تولى رئاسة المعتزلة ببغداد وهو القائل "الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وبما هو أفصح منه "
عباد بن سليمان الصخري : معتزلي من أهل البصرة من تلامذة هشام بن عمرو القوطي
القاضي هشام بن عمرو القوطي بصري عدّه القاضي في نهاية الطبقة السادسة من المعتزلة كان يحظى باحترام المأمون
أبو إسحاق النصيبي من الطبقة الحادية عشرة من المعتزلة وكان يشك في النبوات كلّها
الجاحظ
الرماني
القاضي عبد الجبار.... وسيأتي الحديث عن هؤلاء الثلاثة وعن مذهبهم في الصرفة مفصلا إن شاء الله
من غير المعتزلة (الأشاعرة) : وجلّهم إنّما يقبل بنظرية الصرفة إماّ كوجه ثانوي من أوجه الإعجاز فهو عندهم تابع للوجه الأوّل والأهمّ وهو إعجاز القرآن بنظمه وذاته وإمّا يقولون بها من باب المجادلة والمنافحة عن الحق لا غير
ينسب إلى أبي الحسن الشعري يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم ( ت548هـ ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري : - ( والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة ، والنظم ، والفصاحة ، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة ، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة ، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي ، وهو المنع من المعتاد ) وقال الشيخ السفاريني : محمد بن أحمد ( 1189هـ) : -( وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة ، فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن ( الأشعري – ) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ، ولا يكون ، فمنعهم الله هذا ، وعجزهم عنه .)
الفخر الرازي (606هـ) أطلق القول بالصرفة في بعض مواضع تفسيره كقوله عند تعرضه لآية التحدي في سورة البقرة : ( الطريق الثاني ، أن نقول : القرآن لا يخلو إما أن يقال : إنه كان بالغا في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول : ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني : كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع كون المعارضة ممكنة ، ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه ، وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب ) وفي مواضع أخرى قيدها بالسور القصار حيث يقول ( فإن قيل : قوله (فأتوا بسورة من مثله ) يتناول سورة الكوثر ، وسورة العصر ، وسورة ( قل يا أيها الكافرون) ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله ، أو بما يقرب منه ممكن ، فإن قلتم : إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر، كان ذلك مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين، قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن الأمر كذلك ، كان امتناعهم عن المعارضة - مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره -معجزا ، فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز .)
الحافظ ابن كثير (774هـ) أقرّها على سبيل المجادلة والمنافحة على الحق لا غير حيث يقول: )وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة ، وقول المعتزلة في الصرفة ، فقال : إن كان القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ، ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ، ولم يفعلوا مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ، لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة -وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا - إلا أنها تصلح على سبيل التنزل ، والمجادلة ، والمنافحة عن الحق ، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار ، كالعصر ، وإنا أعطيناك الكوثر.)
أبو إسحاق الاسفراييني (418هـ) فقد عدّها وجها من أوجه الإعجاز حيث قال في شرحه للمواقف : ( وقيل : إعجازه بالصرفة ، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة ، لكن الله صرفهم عن معارضته ، واختلف في كيفية الصرف ، (فقال الأستاذ) أبو اسحاق منا ، (والنظام ) من المعتزلة ، ( صرفهم الله عنها مع قدرتهم ) عليها ، وذلك بأن صرف دواعيهم إليها ، مع كونهم مجبولين عليها ، خصوصا عند توفر الأسباب الداعية في حقهم ، كالتقريع بالعجز ، والاستنزال عن الرياسات ، والتكليف بالانقياد ، فهذا الصرف خارق للعادة ، فيكون معجزا .)
الراغب الأصبهاني (425هـ) حيث يقول :(اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين ، أحدهما : إعجاز يتعلق بنفسه ، والثاني : بصرف الناس عن معارضته) ثم يتبع ذلك بقوله : ( فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة ، الذين يهيمون في كل واد من المعاني - بسلاطة لسانهم - إلى معارضة القرآن ، وعجزوا عن الإتيان بمثله ، ولم يقصدوا لمعارضته ، فلم يخف على ذوي البلاغة أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك ، وأي إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا في الظاهر عن معارضة مصروفة في الباطن عنها.)
أبو الحسن الماوردي (450هـ) قال في أعلام النبوة : ( الوجه العشرون من أوجه إعجازه : الصرفة عن معارضته ، واختلف من قال بها : هل صرفوا عن القدرة على معارضته مع دخوله في مقدورهم ..؟ على قولين : أحدهما :- إنهم صرفوا عن القدرة ، ولو قدروا لعارضوا .
والقول الثاني :- إنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم .
والصرفة إعجاز على القولين معا ....) ثم يقول : ( فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها ، صح أن يكون كل واحد منها معجزا ، فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر ، وحجاجه أظهر ، وصار كفلق البحر ، واحياء الموتى ، لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله ) ومثل ذلك يقوله في تفسير النكت والعيون : ( فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله ، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه، إلى أن يقول : والثامن : أن إعجازه هو الصرفة ، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته ، مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله ، فلم تحركهم أنفة التحدي ، فصبروا على نقص العجز ، فلم يعارضوه ، وهم فصحاء العرب ، مع توفر دواعيهم على إبطاله ، وبذل نفوسهم في قتاله ، فصار بذلك معجزا لخروجه عن العادة كخروج سائر المعجزات عنها . واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين :
أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة عليه ، ولو تعرضوا لعجزوا عنه.
والثاني : -أنهم صرفوا عن التعرض له ، مع كونه في قدرتهم ، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه . فهذه ثمانية أوجه ، يصح أن يكون كل واحد منها إعجازا ، فإذا جمعها القرآن ، وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزا بأولى من غيره ، صار إعجازه من الأوجه الثمانية ، فكان أبلغ في الإعجاز ، وأبدع في الفصاحة والإيجاز )
إمام الحرمين الجويني (478هـ) يقول في العقيدة النظامية : (وقد أكثر الناس في وجه إعجاز القرآن ، وتقطعوا فيه أيادي سبأ ، وصار معظم الناس إلى أن القرآن تميز على صنوف الكلام بمزية البلاغة والجزالة ، خارج عن المعتاد في ذلك ، ثم زعم زاعمون : أن إعجازه في شرف جزالته ، وذهب آخرون : إلى أن إعجازه في الجزالة الفائقة ، وأسلوبه الخارج عن أساليب النظم والنثر ، والخطب ، والأراجيز، ثم يقول : - من رام أن يثبت إعجاز القرآن بأنه في جزالته خارق للعادات ، مجاوز لفصاحة اللدد البلغاء ،واللسن الفصحاء ، فقد حاد عن مدرك الحق ) ثم يقرر ويقول : (فتبين قطعا أن الخلق ممنوعون عن مثل ما هو من مقدورهم ، وذلك أبلغ عندنا من خرق العوائد بالأفعال البديعة في أنفسها ، ومن هدي إلى هذا المسلك فقد رشد إلى الحق المنير ، وانعكس كل مطعن ذكره الطاعنون عضدا وتأييدا .)
إلى أن يقول : (فإذا لم تجر المعارضة ، لم يبق لامتناعها ، مع توفر الدواعي عليها محمل إلا صرف الله الخلق ، فكيف يهتدي إلى إعجاز القرآن ، من يحاول أن يثبت خروجه عن العادة في الجزالة ، وشفاء الصدور في الحكم ؟ فإن مثله من مقدورات الخلق ، ولكنهم مصدودون ممنوعون بصرف الله إياهم )
أبو حامد الغزالي (505هـ) الذي يقول في باب المحاجاة : (فإن قيل : لعل العرب اشتغلت بالمحاربة والقتال فلم تعرج على معارضة القرآن ، ولو قصدت لقدرت عليه ، أو منعتها العوائق عن الاشتغال به ، والجواب : - إن ما ذكروه هوس ، فإن دفع تحدي المتحدي بنظم كلام أهون من الدفع بالسيف ، مهما جرى على العرب من المسلمين بالأسر والقتل والسبي ، وشن الغارات ، ثم ما ذكروه غير دافع غرضنا ، فإن انصرافهم عن المعارضة لم يكن إلا بصرف من الله تعالى ، والصرف عن المقدور المعتاد من أعظم المعجزات .)
القائلون بها من الشيعة الإمامية : وهم حملة لواء القول بالصرفة في العصور المتأخرة خاصة وأنهم ورثة الفكر الاعتزالي
الشيخ المفيد (338هـ) قال في جهة إعجاز القرآن : ("إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان. وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الإعتزال...)
علي بن الحسين المعروف بالشريف المرتضى (355هـ) نقل عنه الطوسي قوله : - ( إن الله سلب العرب العلوم التي كانت تتأتى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن ، متى راموا المعارضة ، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم )
نصر الدين الطوسي (385هـ) قال بها في كتابه (تمهيد الأصول في علم الكلام ) وهو شرح لكتاب (جمل العلم والعمل) للشريف المرتضى ولكنه تراجع عن القول بها صراحة في كتاب (الاقتصاد)
ابن سنان الخفاجي (466هـ) يقول في كتابه سرّ الفصاحة : ( إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن : صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة ، وقت مرامهم ذلك ...) و يقول أيضا : ( إن الصحيح أن إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وإن فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف ...) و في موضع آخر : ( متى رجع الانسان الى نفسه ، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه …!! )
الصرفة عند الجاحظ :
يعترف الجاحظ بإعجاز القرآن من حيث نظمه فلا قدرة للعرب على إجابة التحدي الرباني بمعارضته والإتيان بمثله ولكن ذلك لم يمنعه من القول بالصرفة كذلك حتى يحفظ القرآن من عبث العابثين وتشكيك المشككين
يقول الجاحظ : ( ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب ، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن ، بعد أن تحداهم بنظمه ، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه ، ولو طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلف بعضهم ذلك، فجاء بأمر فيه أدنى شبهة ، لعظمت القضية على الأعراب ، وأشباه الأعراب ، والنساء، وأشباه النساء ، ولألقى ذلك للمسلمين عملا ، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب ، ولكثر القيل والقال )
ويقول أيضا : ( وذكرنا من صرف أوهام العرب عن محاولة معارضة القرآن ، ولم يأتوا به مضطربا، ولا ملفقا ، ولا مستكرها ، إذ كان في ذلك لأهل الشغب متعلق ) فلا تعارض بين الصرفة وبين إعجاز القرآن بنظمه عند الجاحظ فالتحدي عنده واقع بنظم القرآن وما الصرفة إلاّ تدبير رباني حفظ به الله تعالى كتابه المعجز عن تلاعب السفهاء وعن الأخذ فيه والعطاء الذي من شأنه أن يُذهب هبته وينزل من قدره وعظمته يقول الدكتور سامي عطا حسن مبينا الفرق بين نظرية الصرفة عند كلّ من النظام والجاحظ : (فهناك فرق بين مفهومي النظام ، والجاحظ للصرفة ، فالنظام : يرى قدرة المنشئين على أن ينظموا مثل القرآن ، والإعجاز في صرف الله لهم عن هذا الصنيع . أما الجاحظ : فلم يستعمل الصرفة بمفهومها النظامي الذي سبق أن أنكره عليه ، وإنما استعملها بمفهوم آخر ، لا يتنافى والقول بإعجاز القرآن بالنظم . فانصراف العرب عن معارضة القرآن ، إنما وقع بعد أن تحداهم الرسول
_ صلى الله عليه وسلم – - بنظمه ، وهي لذلك ليست تعني أن الله أحدث فيهم منعا ، وعجزا ، وإنما تعني أن له تعالى تدبيرا ، حفظ به القرآن من شغب المعاندين ، فصرف أوهامهم ونفوسهم ، عن كل محاولة لمعارضة القرآن ، لما قد يدخل بذلك من الشبه على ضعاف العقول ، ولما قد ينشأ عنه من الفتنة .)
الانصراف بدل الصرفة عند القاضي عبد الجبار :
هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني قاضي القضاة شيخ المعتزلة في زمانه توفي سنة 415 هـ
انتقد أصحابه القائلين بالصرفة أشدّ الانتقاد معتبرا هذه النظرية تطعن في القرآن الكريم من حيث بلاغته المعجزة ومن حيث ثبوته أو ثبوت بعض آياته ثم من حيث مزيته وخصيته يقول عليه رحمة الله معددا أوجه انتقاده لنظرية الصرفة :
( أولا :- لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .
ثانيا : - ولو ثبت هذا المنع ، لكان في حد ذاته هو المعجز، وليس القرآن ، فإن من سلك هذا المسلك في القرآن ، يلزمه أن لا يجعل له مزية ألبتة .
ثالثا : - ولو ثبت هذا المنع بأية صورة من صوره ، لبطل بعض القرآن ، ولما كان صحيحا قوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ...
رابعا : - القول بالصرفة يتعارض مع الآية السابقة ، لأنه لا يقال في الجماعة إذا امتنع عليها الشيء : إن بعضها يكون ظهيرا لبعض ، لأن المعاونة، والمظاهرة ،إنما تمكن مع القدرة ، ولا تصح مع العجز ، والمنع .)
ولكنّه لجأ إلى نظرية أخرى أو نظرة مقاربة ليحاول تبرير عدم محاولة العرب معارضة القرآن فهو يقول في هذا الصدد : (أن دواعيهم انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم بأنها غير ممكنة ، على ما دللنا عليه ، ولولا علمهم بذلك ، لم تكن لتنصرف دواعيهم ، لأنا نجعل انصراف دواعيهم تابعا لمعرفتهم بأنها متعذرة ..) ويقول أيضا : ( فالصحيح ما قلناه ، من أنهم علموا بالعادة تعذر مثله ، فصار علمهم صرفا عن المعارضة .) فالمانع من المعارضة عند القاضي عبد الجبار لم يعد خارجيا كما كان عند النظام وأصحابه بل هو صارف داخلي وهو يشبه الشعور باليأس عند المتحدين من إمكانية الإتيان بمثله ....ولهذا اصطلحنا عليه بالانصراف لا الصرفة ...
الصرفة عند الأشاعرة :
اجتهاد الأشاعرة في حديثهم عن البلاغة والإعجاز ابتداء من القرن الخامس الهجري كان عبارة عن ردّة فعل لاشتغال واختصاص المعتزلة بهاتين القضيتين
فجاءت هذه الاجتهادات في شكل ردود أفعال تمثلت ابتداء بمحاولة تصفية وتمييز الدرس البلاغي والإعجازي عن المعتقد الاعتزالي ... ثم محاولة صبغ هاذين العلمين بالمعتقد الأشعري
ثم إنّ غالب من تكلم في إعجاز القرآن الكريم من الأشاعرة أنكر مسألة الصرفة جملة وتفصيلا ... ولكن ذلك لم يمنع بعض كبار القوم وعليتهم من القول بها وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري فيم يزعم البعض ...
والقول بالصرفة عند الأشاعرة غير القول بها عند المعتزلة فهم يقولون بها في حدود ضيقة جدّا وبضوابط صارمة لعل أهمها ما يلي :
أنّ أعظم معجزات القرآن بلاغته (وليست معجزته الوحيدة ...)
أنّ العرب والعجم بل الإنس كلّهم والجنّ معهم لا يقدرون على معارضة القرآن والإتيان بمثله...
ليس في كلام البشر قديما وحاضرا ومستقبلا شيئا يشبه القرآن أو يقاربه ...
صرف المتحدين عن معارضة القرآن والإتيان بمثله وجه آخر لإعجاز القرآن ولكنه وجه تابع وثانوي ...
صرف المتحدين عن معارضة القرآن والإتيان بمثله إنما سببه إبعاد الشكوك عن إعجاز القرآن وحتى لا يصير مجالا للقيل والقال والأخذ والعطاء فيتأثر الضعفاء ومن في قلوبهم مرض ...
يتبع إن شاء الله...
فتحي بودفلة
الفصل الثاني
إبطال نظرية الصرفة :
يمكننا تصنيف وترتيب جملة الأدلة التي تمّ بها إبطال نظرية الصرفة في مجموعتين اثنين الأولى عبارة عن ردود وأدلة نظرية وعلمية نقلية وعقلية والثانية عبارة عن ردود عملية تطبيقية واقعية
أولا الأدلة العلمية النقلية والعقلية المبطلة لنظرية الصرفة :
1) استدلّ الإمام الخطابي على بطلان نظرية الصرفة بقوله تعالى : قال عليه رحمة الله الواسعة : " ...فأشار في ذلك إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدلّ على أنّ المراد غيرها والله أعلم ." اهـ ويقول الإمام السيوطي مستدلا بهذه الآية : (...فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ،...)
لو كان الإعجاز في الصرفة كما يزعمون لكان الأبلغ فيها أن يأتي القرآن في أدنى مراتب البلاغة والبيان فالعجز عن الإتيان بالشيء البسيط بالصرفة أبلغ وأوكد من العجز عن الإتيان بالشيء العظيم , وإلى هذا الوجه أشار الباقلاني (403هـ) بقوله : (لو كان الأمر على ما ذهبوا اليه ، وكان الإعجاز بالصرفة حقا ، لكان الأقوى في الحجة ، والأبين في الدلالة ، أن يجيء القرآن في أدنى درجات البلاغة ، لأن ذلك أبلغ في الأعجوبة ، فإن الذي يعجز عن كلام هو في مستوى كلام الناس أو أدنى منه، يكون ذلك دليلاعلى أن هناك قوة غلابة ، حالت بينه وبين المعارضة، ولم يكن هناك حاجة لمجيء القرآن الكريم في نظم بديع ، ومستوى رفيع عجيب ، لأن الأقرب إلى قوة الدليل ، ووضوح الحجة حين تكون الصرفة هي الوجه للإعجاز- أن يكون القرآن في مستوى كلامهم ، أو دونه .)
2) الآيات الدالة على التحدي والإعجاز تحمل في طياتها دلالة واضحة على مزية القرآن وأنّه فوق قدرة البشر فإنّ الخطاب القرآني لم يوقع التحدي إلاّ بعد الحديث عن نظم القرآن وعن معارضة العرب ورفضهم لدعوته وأحكامه ومعانيه والقول بالصرفة مناقض ومخالف لذلك
3) الإجماع وقع قبل قول النظام بالصرفة على أنّ القرآن معجز بنظمه ولا سبيل لخرقه يقول الإمام القرطبي في أحكام القرآن مفندا القول بالصرفة : ( وهذا فاسد ، لأن الإجماع قبل حدوث المخالف : أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا : إن المنع والصرفة هو المعجز ، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك ، علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة ، لم يكن معجزا .) وممّا قاله السيوطي رادّا على القاشلين بالصرفة : (...هذا مع أنّ الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز للقرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة الإعجاز ...) وممن ذكر هذا الإجماع واستدل به كذلك علي بن محمد الجرجاني (812هـ) في شرح المواقف والألوسي في روح المعاني
4) إذا كان العرب صرفوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم بعد نزوله ووقوع التحدي فما بالنا لا نجد في كلامهم قبل وقوع التحدي ما يشبهه أو يقاربه في بلاغته وبيانه ؟ يقول الإمام الباقلاني : (إننا لوسلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب الرصف ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله) ويقول أبو القاسم الخوئي (1413هـ) من علماء الشيعة الإمامية ) لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لكثرة الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل ، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا ، خارجا عن طاقة البشر . ) وإلى مثل هذا أشار الشريف الجرجاني (812هـ) بقوله : (إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة ، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به ، بل قبل نزوله ، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي ، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة)
5) القول بالصرفة يقتضي أنّ بلاغة العرب تعطّلت أو على الأقل تراجعت بعد وقوع التحدي والواقع خلاف ذلك فإنّ شعراءهم هم هم وخطباءهم كذلك وكلامهم الفصيح وأسلوبهم البديع والألفاظ المنمقة والمعاني الجليلة السامية بقيت هي هي لم يتغير من ذلك كلّه شيء ... ممّا يؤكد أنّ العجز واقع في أنفسهم وقدرتهم لمزية هذا القرآن وعلوّ شأنه وإعجازه في بلاغته ونظمه لا غير ... وإلى مثل هذا أشار القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ) : (لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .) وليس بعيد عن هذا قول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز : (البرهان الثالث : الرجع بالصرفة التي زعموها ، هو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ ، فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله ، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة في مدة يسيرة ، يدل على نقصان العقل ، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره ، فلو أصبح في بعض الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة ، لكان دليلا على فساد عقله وتغيره ، والمعلوم من حال العرب ، أن عقولهم ما زالت بعد التحدي بالقرآن ، وأن حالهم في الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل ، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة . ) ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) :( أنه يلزم على ادعائهم هذا ، أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، - من بعد أن أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحدوا إلى المعارضة - قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها ، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره ، ولكانوا قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به ، ولكنك سحرتنا ، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه ، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوا البعض إلى البعض ، ويقولوا : ما لنا نقصنا في قرائحنا ..؟ وإذا كان ذلك لم يرد ، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، فهذا دليل على أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.)
6) لو عرض للعرب صارف منعهم من معارضة القرآن كما يدعيه القائلون بالصرفة لنقل وأثِر عنهم ذلك لوجود الدواعي فقد كانوا يجهدون أنفسهم ويبالغون في البحث عن شيء يعللون به رفضهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان حتى , وما أيسر وأسهل أن يقولوا إننا قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ولكن طرأ لنا كذا أو منعنا كذا أو أنّ سحر محمد حرمنا من بياننا وبلاغتنا ولكن كلّ ذلك لم ينقل لا لشيء إلاّ لأنه لم يقع أصلا والله أعلم ...يقول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز ( إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها،لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأنْ يُميزوا بين أوقات المنع والتخلية. ولو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. ولو تذاكروه، لظهر وانتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دّلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة) وإلى مثل هذا أشار علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز
7) فإن قيل وقعت الصرفة دون أن يشعروا بها لزم من هذا القول أنّ حجة الله تعالى الواقعة بتحديهم لا تصحّ في حقهم بل لا بدّ من وقوع التحدي وأن يعلم المتحدي به ويتأكد من عجزه وجهة عجزه كذلك وإلاّ بطل الإعجاز أصلا
8) القول بالصرفة يقتضي أنّ الإعجاز فيها وفي قدرة الله الخارقة لا في القرآن الكريم الذي يفقد بذلك كلّ فضيلة وتميز على غيره من الكلام وهذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة التي تثني على القرآن الكريم وتؤكد على خصوصيته وتميزه عن سائر الكلام بما في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي الشريف ....وإلى هذا أشار الباقلاني في إعجاز القرآن بقوله : (إنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره.)
9) تعظيم العرب لبلاغة القرآن وإجلالهم وإكبارهم له رغم معارضته وكره أحكامه وحدوده وما جاء به ...والقصص في سيرته العطرة التي تثبت ذلك كثيرة فمنها ما رواه الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ..ويكف عنا..؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة ، والكمال في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أ مورا ، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا : جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد شرفا : سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا: ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالناحتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع إليه قال : أفرغت يا أبا الوليد ..؟ قال : نعم ، قال: فاسمع مني ، قال : أفعل ، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : [ بسم الله الرحمن الرحيم . حم. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ] ثم مضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه السورة وعتبة ينصت إليه ، وهو ملق يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، حتى انتهى الرسول إلى السجدة ، ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ) ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس اليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ..؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : قد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .) وقصة إسلام عمر والطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنهما وتأثر خالد وعمرو بن العاص بالقرآن الكريم كلّ ذلك معروف مشهور في كتب السيرة يقول يحيى بن حمزة العلوي (749هـ) : (لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة - كما زعموه - ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته ، وحسن فصاحته - كما أثر عن الوليد بن المغيرة - حيث قال : إن أعلاه لمورق ، وإن أسفله لمعذق ، وإن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه ، فإنه يدهش عقله ، ويحير لبه ، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف ، وحسن مواقع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان ما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه ، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دل على فساد هذه المقالة .) وبمثل هذا استدلّ عبد القاهر الجرجاني على بطلان القول بالصرفة حيث يقول : (فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون مايوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم ، لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة ، والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه ، بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : - إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنما نأتيك في غيره من المعاني بما شئت ، وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه )
10) لكلّ نبيّ معجزة تتوافق وطبيعة قومه وقدراتهم فموسى عليه السلام بعث في قوم كثر فيهم السحر وبعث كلّ من هود وصالح في قوم فتنوا بالتفاخر والتعالي في البنيان وبعث عيسى عليه السلام في قوم يحسنون الطب ويشتغلون به ــ وقيل غير ذلك ــ وبعث نبينا عليه الصلاة والسلام في قوم صناعتهم الكلام يقول ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ما نصه : ( وإنما يعرف فضل القرآن من كثُر نظره واتّسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتّساع المجال ما أوتيته العرب خِصيصَا [خِصيصَ] من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب فجعله عَلَمَهُ , كما جعل عَلَمَ كلّ نبيّ من المرسلين مِن أشبهِ الأمور بما في زمانهم المبعوث فيه : فكان لموسى فلق البحر واليد والعصا وتفجّر الحجر في التيه بالماء الروّاء على سائر أعلامه زمن السحر وكان لعيسى إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وغبراء الأكمه والأبرص إلى سائر أعلامه زمن الطبّ وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إلى سائر أعلامه زمن البيان ...) ويقول الجاحظ في حجج النبوة : ( بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا ، وقتل من أعلامهم ، وعليائهم ، وأعمامهم ، وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خافيا .. إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة ، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا ، لا تهاونا وتغافلا ، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد ، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب ، والبدو خاصة ، لما فيهم من الأنفة والعزة ، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان ، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة ..؟ )
11) صرف الناس وحملهم قهرا على شيء معين من خصائص الله سبحانه وتعالى ولا يتحدى به إلاّ من ادّعى شيئا منها كما فعل إبراهيم عليه السلام مع النمرود في مسألة إحياء الموتى وشروق الشمس وغروبها أما العرب فهم مقرون بقدرة الله على الإحياء والإماتة والخلق والرزق ... وعلى الصرفة فلا يجوز أن يتحدون بما يقرون به أصلا ...
12) جميع المعجزات السابقة استمدت إعجازها من ذاتها كالعصا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فما بال أعظم المعجزات لخلودها وعمومها ... تستثنى من هذا الأصل الذي يقدح فيها ينقص من قيمتها أمام باقي المعجزات بل أمام غير المعجزات حتى ... (الكلام البشري العادي)
13) إنّ إعجاز القرآن سببه إحاطة صاحبه بالعلم كلّه وعجز العرب عن الإتيان بمثله لأنّ علمهم محدود يقول ابن عطية (546هـ) ( ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه .
والصحيح : أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة ، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لايزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال فيها بعد ذلك مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد .)
14) من الأدلة على أنّ القرآن الكريم في مقدور البشر أن يأتوا بمثله أنّه متكون من الكلمات والجمل وقالوا أنّ القول بعدم القدرة على مثل كلماته تمحل ومكابرة وأنّ القدرة على الجزء تقضي القدرة على الكل لأنّ ما هو إلاّ مجموعة من الأجزاء .... وممّا قاله أبو القاسم الخوئي مفندا هذه المقولة : ( قالوا إن العارف باللغة العربية ، قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن ، وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد . الجواب : إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر ، فإن القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته ، لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، فإن القدرة على المادة ، لا تستلزم القدرة على التركيب ، ولهذا لا يصح لنا أن نقول : إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة ، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء ، أو نقول : إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد ، لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرداتها، وكأن هذه الشبهة هي التي دعت(النظام) وأصحابه ، إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة ، وهذا القول في غاية الضعف...)
.... إلخ ...
ثانيا الأدلة التطبيقية العملية الواقعية :
لإبطال نظرية الصرفة وإثبات الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم من الناحية العملية التطبيقية ثلاثة طرق تتبع كلام العرب , النظر في بلاغة القرآن وأخيرا الوقوف على معارضات القرآن ومحاولات تقليده وإجابة تحديه ...
وسنكتفي في النقطة الأولى والثانية بمجرد إشارات ونحاول قدر الاستطاعة والتمكين التفصيل في النقطة الثالثة
1) أوّلا النظر في أضرب وأصناف كلام العرب من شعر وأمثال وخطب ... قبل وقوع التحدي وأثناءه وبعده وخاصة قبل وقوع التحدي لأنّ حجيته على القائلين بالصرفة قطعية وواضحة... ومحاولة مقارنة ذلك كلّه بالقرآن الكريم هل نجد في هذا الإنتاج الحافل والزاخر شيئا يماثل أو يشابه القرآن الكريم أو يصل ولو بدرجة قريبة إلى بلاغته وأحيل القارئ ها هنا إلى ما كتبه العلماء في هذا الموضوع وعلى رأسهم الجاحظ في الكثير من كتبه وخاصة البيان والتبيين فإنّه انتهج أسلوب التمثيل والمقارنة والموازنة بين التراث الأدبي العربي بل والعالمي كذلك في مقابل الأسلوب القرآني المعجز البليغ ... ومثله وبطريقة أعنف صنع الباقلاني في إعجاز القرآن لما راح يبحث في تراث أبلغ الشعراء ليبرز شطحاتهم ويظهر نقائصهم وترهاتهم في مقابل أسلوب القرآن الذي لا يعتريه نقص أبدا وسأكتفي في هذا المبحث بنقل كلام لأبي حيان الأندلسي (654هـ) يردّ به على القائلين بالصرفة افتتانا ببلاغة العرب وبيانها يقول عليه رحمة الله الواسعة : (اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوغل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب ، فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ، ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته . والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء ، حين رأت زوجها يطأ جارية ، فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر ذكر الله فيه ورسوله وكتابه فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق)
2) ثانيا النظر بتمعن وتفحص وعمق في بلاغة القرآن الكريم لنقف على نكته وأعاجيبه البيانية التي لا ولن يستطيعها الإنس والجنّ ولو اجتمعوا عليه ظهيرا ... وسأكتفي ها هنا بنقل نماذج من بلاغة القرآن ـ مع تسجيل ملاحظة مهمة هي كون القرآن كلّه بجميع آياته وأجزائه معجز وليس بعضه دون بعض ـ فهذه بعض الآيات نقف فيها على بعض نكتها
[ الكهف 18] إثبات الهيئة لا غير لأنّ الكلب ميّت والفعل يقتضي التجدد فلا يصلح مكانَ الاسم
• [مريم 4] فالإعجاز هنا ليس للاستعارة كما يقولون ولكن للترتيب فلو قلت (شيب الرأس) لما اشتمل جميع الرأس , أما هنا فمعنى الشمول والشيب أتيا كالقول : اشتعلت الدارُ نارًا
[يوسف 23] ولم يسمّها ويقل امرأة العزيز لتنزيه يوسف عن الفحشاء
• [العصر2]
• •• [البقرة 96] الحياة هنا نكرة لتفاهتها
[البقرة179] تنكير الحياة هنا معناه حياة عظيمة لأنها يرتدع فيها القاتل فتخلو الحياة من القتل
• [طه 18]
[يوسف 18] أي فأمري وأمركم صبر جميل اعتمادا على الحال وتعويلا على دلالة الموقف بينه وبين أولاده
فهذه بعض النماذج ولمن أراد المزيد أن يعود إلى مظان المسألة ....
3. ثالثا تتبع معارضات القرآن الكريم :
وهذا هو الذي يهمنا في هذا البحث وهو الذي سنركز عليه أكثر باعتباره يردّ ردّا مباشرا على القائلين بالصرفة , فإذا كان النظّام وأصحابه يزعمون أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم فإنّنا في هذا المبحث نثبت خلاف ذلك وهو أنّ العرب والعجم كذلك قد عارضوا القرآن وحاولوا إجابة التحدي ولكنهم لم يستطيعوا أن يبلغوا مبلغه ويصلوا إلى بيانه وفصاحته ....
ما المقصود بالمعارضة ؟
قال السبحاني في الإلهيات : (معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً، يجي الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين،فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق...)
ولعل في المعارضات والموازنات التي تقع بين شعراء العرب وخطبائهم وبلغائهم بعيدا عن الحديث عن القرآن الكريم وإعجازه ما يبيّن ويوضح ذلك أتمّ توضيح
كالموازنة بين شعر النابغة وامرؤ القيس في وصف الليل وما يحمله من الحزن والهموم أو كنقائض الشعر الأموي أو الموازنة بين شعر البحتري وأبي تمام فإنّ الموازنة والمعارضة في جميع ذلك تقع على مستوى الألفاظ والتركيب والمعاني وغيرها ... أما أن يعارض بتكرار ألفاظ القرآن بمعان وأفكار مستقبحة أومعان القرآن الجليلة بألفاظ غريبة أو رديئة .فهذا لا يسمى معارضة بل تقليد على مستوى استعمال الألفاظ أو اقتباس على مستوى استعمال المعاني
وأذكر ها هنا نموذجين للمعارضات والموازنات بين بعض الشعراء حتى نعتمد نفس الطريقة في الحكم على من عارض القرآن وزعم أنّه أتى بما يماثله ــ زعمًا ــ
المثال الأوّل : بين النابغة وامرئ القيس :
يقول الأوّل :
كِليني لهمّّ يا أمَيمةُ ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همّه تضاعفَ فيه الحزنُ من كلّ جانبِ
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف معلقا على هذه الأبيات : (... فهو محزون في أوّل القصيدة يخاطب ابنته أمامة ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع في قبضة الغساسنة من أسرى قومه , ونراه يصور الليل وهمّه فيه تصويرا بديعا , فالكواكب بطيئة لا تجري , حتى ليظنّ أنّ الصبح الذي يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدا لن يؤوب , والليل يثقل على صدره بما يردّ عليه من موجات الهمّ والحزن , وهي براعة استهلال رائعة تدلّ دلالة بيّنة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسّم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرا واضحا مستقيما بالصور ....)
ويقول امرؤ القيس في نفس الموضوع :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بصلبه وأردفَ أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأنّ نجومه بكلّ مُغارِ الفتلِ شُدّت بيذبُل
كأنّ الثُريا عُلّقت في مصامها بأمراس كَتّانٍ إلى صمِّ جندل
يقول الأستاذ شوقي ضيف :( فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي , ويحس كأنه طال وأسرف في الطول حتى ليظنّ كأنّ نجومه شدّت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهي لا تتحرك ولا تزول و كأنّما سمّرت في مكانها , فهي لا تجري ولا تسير , وقد ردّد الشعراء بعده هذا المعنى طويلا ...)
وفي الموازنة بين الشاعرين وشعرهما يقول السحباني ما نصّه : (فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصاً قوله: «وصدر أراح الليلُ عازب همّه». وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة.إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة، وحسن التشبيه، وإبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحب الوثيقة، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل [المفاضلة] بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما ....)
المثال الثاني : بين جرير وأبي نواس
يقول الأوّل : إذا غضِبتْ عليك بنو تميم حسبتَ الناسَ كلّهم غضابا
ويقول الثاني : ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالَم في واحد
انظر كيف جعل جرير من بني تميم الناس كلّهم حين يغضبون لشدّة هول هذا الغضب ووقع أثره على المغضوب عليه ثمّ انظر كيف زاد أبي نواس عليه زيادة رشيقة بديعة فهو لم يجمع الناس في قبيلة كما صنع جرير بل رجلٌ واحد يجمع عنده العالَم كلّه "فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام "
وننتقل الآن لسرد نماذج من المعارضات التي زعم أصحابها أنّهم تحدوا بها القرآن وأتوْا بمثله
أ- مسيلمة الكذاب : مسيلمة بن حبيب الكذّاب ادّعى النبوة باليمامة وزعم أنّ الله أشركه في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم فجعل لكلّ منهما نصف الأمر ... ممّا عارض به القرآن وحاول محاكاته قوله :
( لقد أنعم الله على الحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , بين صِفاق وحَشَى ) وفي رواية (ألم تر كيف فعل ربّك بالحبلى...) والصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن وهو الذي إذا انشقّ كان منه الفتق
(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ...)
ياضفدع يا بنت ضفدعين , نقي ما تنقين , نصفك في الماء ونصفك في الطين , لا الماء تكدّرين , ولا الشارب تمنعين...)
( والمُبذرات زرعا , والحاصدات حصدا, والذاريات قمحا, والطاحنات طحنا , والعاجنات عجنا , والخابزات خبزا, والثاردات ثردا, واللاقمات لقما , إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر , وما سبقكم أهل المدر , ريفكم فامنعوه , والمعتر فآووه والباغي فناوئوه...)
( والشاء وألوانها , وأعجبها السود وألبانها , والشاة السوداء , واللبن الأبيض , إنّه لعجب محض , وقد حرم المَذق فما لكم لا تمجعون...) المذق : مزج اللبن بالماء والمجمع: اللبن يشرب بالتمر أو يعجن به قال الأستاذ محمد سعيد العريان معلقا على هذا الكلام : (...ولعمر الله ما ندري أكان هذا القرآن ينزل على قلب مسيلمة أو على معدته ... أو كان بين قومٍ جياع فتأثيره أن يسيل لعابهم ...!)
وكلامه هذا في غاية الحماقة والسقط يُعرب عن كذب الرجل وجهله بل وعن مكابرته للحقّ الفاضحة ... يروى عن الأحنف بن قيس أنّه دخل مع عمّه على مسيلمة الكذّاب بعد أنِ ادّعى النبوة فلمّا خرجا سأل الأحنف عمّه : كيف وجدته أو رأيته فأجابه : ( ليس بمتنبئ صادق ولا بكذّاب حاذق )
قال السحباني معلقا على كلام مسيلمة ومقارنا بينه وبين كلام الله عزّوجلّ: (...فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى : "الحاقّة ما الحاقّة وما أدراك ما الحاقّة..." وقوله: "القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة.." ثم ما أتبع قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله: "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش..." فإين هو من قول القائل "الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل" فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن متناه الغاية , فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذنب والمشفر , ويتصور أنه تحققت المعارضة ...)
ب- طلحة بن خويلد الأسدي : كان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي فمن كلماته التي عارض بها القرآن :
( إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم , وقبح أدباركم شيئا . فاذكروا الله قياما , فإنّ الرغوة فوق الصريح) فنسخ ـ زعما ـ بكلامه هذا الركوع والسجود في الصلاة ولم يبق فيها سوى القيام
( والحمام واليمام , والصرد الصوام , ليبلغ ملكنا العراق والشام)
ت- سجاح بنت الحارث : من بني تغلب القبيلة النصرانية المعروفة ادّعت النبوة وعارضت القرآن بما زعمته يوحى به إليها , فمن نماذج ذلك :
(...إنّه الوحي , أعدّوا الركاب , واستعدوا للنهاب , ثمّ أغيروا على الرباب , فليس دونهم حجاب ...)
وممّا قالته وهي متوجهة لقتال مسيلمة الكذاب (عليكم باليمامة , ودقوا دفيف الحمامة و فإنها غزوة صرامة , لا يلحقكم بعدها ندامة ...)
(يا أيها المؤمنون المتقون , لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون ...)
ث ـ الأسود العنسي : من أهل اليمن كان معروفا بالفصاحة والكهانة والسجع ممّا يؤثر عنه قوله :
( سبح اسم ربّك الأعلى , الذي يسر على الحبلى , فأخرج منها نسمة تسعى , من بين أضلاع وحشى , فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى , ومنهم مي يعيش ويبقى ...)
ج- ابن المقفّع (145هـ) : كان مجوسيا وأسلم أو ادّعى الإسلام كما يقول البعض قيل أنّه عارض القرآن بكتابه (الدرة اليتيمة) وهو مطبوع متداول وليس فيه شيء ينص ويدلّ على ذلك بل جلّ ما فيه حكم الفرس والهند وكثير من حكم علي رضي الله عنه مدوّنة فيه وغير منسوبة إليه ... وقيل أنه عارض القرآن وكتب فيه الشيء الكثير ولكنه مزّق ذلك كلّه لما بلغ قوله تعالى : [هود 44] وقال : هذا الكلام لا يستطيعه البشر...
ح- ابن الراوندي : أبو الحسن أحمد بن يحيى (293هـ وقيل غير ذلك) قيل أنّه عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) وممّا قاله المعري في انتقاد هذا الكتاب والردّ عليه قوله في رسالة الغفران : (.. وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا ... وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : أفٍّ وتُفّ وجوربٌ وخفّ . قيل: وما جورب وخف؟ قالت: واديان بجهنّم )
خ- المتنبي (354هـ) : تنبأ وفي عمره سبعة عشر عاما ببادية السمَّاوة بين الكوفة والشام وقد تبعه قوم كُثر ثم ما لبث أن عاد إلى رشده وممّا يؤثر عنه قوله : (والنجم السيّار , والفلك الدوّار , والليل والنهار , إنّ الكافر لفي أخطار , امض على سُنّتِك , واقْفُ أثر من قبلك من المرسلين , فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من ألحد في دينه وضلّ عن سبيله ...)
د- أبو العلاء المعري (449هـ) : زعموا أنّه ألف كتابا في معارضة القرآن سمّاه (الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات) ممّا جاء فيه قوله : ( أقسم بخالق الخيل , والريح الهابّة بليل , بين الشرط مطلع سهيل , إنّ الكافر لطويل الويل , وإنّ العمر لمكفوف الذيل , تَعَّدَ مدارج السيل , زطالع التوبة من قبيل , تنج وما إخالك بناج .) قال الأستاذ الرافعي معلقا على هذا الكلام المسجوع لا غير: ( فلفظة "ناج" هي الغاية , وما قبلها فصل مسجوع , فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية , وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم , لأنّها تأتي خواتم لآياته , فكأن المعارضة نقضٌ للوضع ومجاراة للموضوع , وكأنها صنعة وطبع .)
شبهة 1: زعموا أنّ العرب في زمن النبوة عارضوا القرآن بسور وربما بكتب ولكن صولة الإسلام وقوة دولته أخفت ذلك كلّه ومحته عن الوجود حتى لا يصلنا شيء منه
والجواب أنّه رجم بالغيب وتخيّل مناف للمنهج العلمي يحتاج إلى أدلة ونقول تثبته
يقول السحباني في الردّ على هذه الشبهة : (إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا على غيرهم. كيف، وإن الإتيان بمثل معجزته،يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم.)
ويقول الخوئي : (إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها،وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيدا ًيوقعونه في كل مجلس، وذكراً يرددونه في كل مناسبة، وعَلَّمَه السلف للخلف، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعي على حجّته، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف.كيف، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة..)
وممّا قاله الإمام الخطابي مفندا هذا الزعم الباطل قوله : (إنّ هذا السؤال ساقط , والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأمور التي لها شأن وللنفوس بها تعلق , وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب , وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظم خطره , وجلالة قدره , لجاز أن يقال إنه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد , وتنزّلت عليهم كتب من السماء وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة , وكتم الخبر فيها فلم يظهر , وهذا ممّا لا يحتمله عاقل ...)
شبهة 2 أنّ الذين أقدموا على معارضة القرآن هم سفلة القوم وجهلتهم لهذا جاءت هذه المعارضات بهذا الشكل الهزيل ولو تقدم لهذا الأمر فصحاء العرب وحكمائهم لأتوا بمثل القرآن أو بما هو أفضل منه
والجواب على هذه الشبهة من جهتين اثنين أولاهما : أنّ الواقع يكذّب هذا الزعم فالذين عارضوا القرآن ــ ممّن سبق ذكرهم ــ ليسوا سفلة ولا أراذل قومهم بل هم سادة القوم وشرفائهم وهم قادة قبائلهم وحكمائهم ... فمسيلمة بن حبيب سيّد اليمامة وزعيمها بلا منازع وكذلك جلّ من ذكر من المتنبئين في الزمن الأوّل ... وقد ملكوا من الفصاحة وأدوات البلاغة الشيء الكثير فلا يظنّنّ القارئ لمعارضاتهم المتقدمة أنّهم جاهلون بفنّ البيان ومواضع الكلام فمسيلمة كان معروفا بلسانه القويم وكلامه الفصيح والجميل وهو القائل لسجاح بنت الحارث (هل لكِ أن أتزوّجك فآكل بقومي وقومك العرب) فهذه كلمة بسيطة ولكنها بليغة حيث خَيّلَ لسجاح أنّه يريد أكل العرب بقومه وقومها أي يريد الغلبة والسيطرة ... وهو القائل لمّا استحرّ القتل (أمّا الدين فلا دين , قاتلوا عن أنسابكم) "فأيّ إيجاز , وأيّ قوة , وأيّ إيحاء وتحميس أقوى من هذا : قاتلوا عن أحسابكم ؟ ..."
وطليحة بن خويلد الأسدي من مشهور كلامه وبليغه ما قاله لعمر رضي الله عنه حين أسِر وأراد قتله لقتله عكاشة بن محصن وثابت بن أكرم رضي الله عنهما فأجابه : (ما تَهُمُّ من رجل يكرمهما الله بيدي ولم يُهِنّي بأيديهما) فهذه الكلمة البليغة والوجيزة قد بلغت من قوة بيانها وفصاحتها وتأثيرها أن دفعت عمر ــ رضي الله عنه ــ الذوّاق والناقد العارف بأسرار كلام العرب إلى العفو عنه وهكذا الأمر والشأن مع جميع من ذكر من معارضي القرآن الأوائل أما المتأخرين منهم فالمتنبي هو أشعر العرب عند جمهور النقاد والمطّلع على أدب المعري يعرف مقدار بيان الرجل وفصاحته ... إذًا ليس صحيحا ما يدّعونه من أنّ هذه المعارضات المذكورة إنّما قام بها سفهاء الناس وجهلتهم وأنّ هذه المحاولات لا تنتقد نظرية الصرفة بل المعارضين سادة شرفاء حكماء وبلغاء ...
الجواب الثاني أنّ هذا الانحطاط وهذه الرداءة التي نلاحظها في معارضات القرآن ليس سببها بلادة قائليها وحقارتهم وسفاهتهم وكذا جهلهم بفنّ الكلام وعجزهم عن فصيحه وبليغه كما تزعمون بل إنّ السبب الرئيس وراء ذلك كلّه هو مقابلة القرآن وما نشعر بهذا التفكه والاستهزاء والتحقير لهذه المحاولات إلاّ لأنّنا وازنّا بينها وبين القرآن الكريم وجعلناها في مقابله لا غير وسيأتي في جواب الشبهة الموالية مزيد بيان عنّ سرّ هذا الشعور الملازم لجميع معارضات القرآن الكريم ...
شبهة 3 حول الشعور بالاستهزاء والتفكّه والتحقير في هذه المعارضات
قد يقول القائل حين نستعرض لمثل هذه المعارضات التافهة "يحتمل أن تكون هذه المعارضات من اختلاق وصنع المسلمين حتى يتفكهون على المعارضين ويثبتون الإعجاز والتقدم للقرآن الكريم" والجواب على هذا من وجوه : أوّلها أنّ القرآن الكريم لا يحتاج إلى الكذب والافتراء لإثبات إعجازه لأنّ الواقع يثبته سواء عن طريق أسلوب المماثلة والموازنة بينه وبين كلام البشر أو عن طريق استقصاء الأساليب القرآنية المعجزة في بلاغتها أو غيرها من الطرق والأساليب العلمية المنهجية المثبتة لبلاغة القرآن المعجزة ... ثانيا هذا الذي زعموه إدّعاء يحتاج إلى دليل فلا يكفي في مجال البحث العلمي مجرد الرمي والقذف بالغيب خاصة وأنّ المسلمين قد ذكروا من الشبه التي رُمي بها الإسلام الشيء الكثير فلما يعدلون عن منهجهم الذي أثبته استقراءُ كتبهم ومؤلفاتهم التي لا تعدّ ولا تحصى إلى هذا الذي يدّعونه من اختلاق هذا الكلام لأجل التفكّه .ثمّ إنّ الكذب على الغير ــ ولو كافرــ محرم في شريعة الإسلام ... ثالثا ــ وهي النقظة المهمة في الردّ على هذه الشبهة ــ إذا كان سبب هذا الذي زعموه ركاكة وتفاهة هذه المعارضات فكأنّهم استغربوا أن تصدر من عاقل حكيم ندب نفسه لشيء عظيم كمعارضة رسالة الإسلام وكتابه القرآن... والسبب الحقيقي وراء هذا الاستغراب ليس ركاكة ألفاظها وبداءة معانيها ــ وإن كان فيها شيء من ذلك ــ ولكن السبب الحقيقي هو المقارنة والموازنة الواقعة بين هذه المعارضات البشرية الناقصة وبين كلام الله عزّ وجلّ البديع الكامل المعجز , فهذه المعارضات ــ مهما قيل ــ شبيهة تمام المشابهة بسجع الكهان الذي كان منتشرا في جاهلية العرب كقول سَلِمة بن أبي حَيّة المعروف بعزّى سَلِمة وهو كما قال الجاحظ أكهن العرب وأسجعهم : (والأرض والسماء , والعقاب والصقعاء , واقعة ببقعاء , لقد نفّر المجدُ بني العُشَراء للمجد والسناء...) ومنه قول زبراء كاهنة بني رِئام تنذرهم غارة (واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنّجم الطارق والمزن الوادق إنّ شجر الوادي ليأدو خَتلا ويحرِق أنيابا عُصْلا , وإنّ صخر الطّود ليُنذِر ثُكلا , لا تجدون عنه مَعْلا ...) ولا فرق بين هذا الكلام ومعارضات مسيلمة وغيره من العرب القدماء من حيث بناؤه وتركيبه ومن حيث سجعُه وغريبُ لفظه ... إلاّ فيما يشعر به القارئ وهو يردّد كلاّ منهما فإذا كان الأثر الذي يتركه سجع الكهان هو الاستغراب وربّما الاستطراف أحيانا والاستعذاب فإنّ كلام مسيلمة وهو بنفس الطريقة والأسلوب يترك هذا الشعور بالاستهزاء والتفكه والتحقير ... لا لشيء إلاّ لأنّ القارئ والسامع يضعه ــ وضع مقارنة ــ في مقابل كلام الله الكامل والمعجز ...
وللتّأكد من هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن ينكرها أحد للننظر في بعض كلام العرب القديم قبل نزول القرآن أي قبل وقوع التحدي والصرفة ؛ الكلام الذي جاء فيه شيء من مواضيع القرآن الكريم كالحديث عن اليوم الآخر ونبذ الشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المواضيع دون أن يقترن هذا الكلام بمعارضة القرآن ومجابهته
فمن ذلك شعر أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
لك الحمد والنّعماء والملك ربّنا فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدا
ومنه قوله يصف الملائكة بين يدي الله سبحانه وتعالى :
ملائكة أقدامهم تحت عرشه بكفَّيه لولا الله كلُّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته فرائصهم من شدّة الخوف تُرْعَدُ
وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه يُصيخون بالأسماع للوحي رُكّد
أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ
وحُرّاس أبواب السماوات دونهم قيام عليها بالمقاليد رُصّدُ
ومنه قول زيد بن عمرو مخاطبا قومه: (يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيرالله ؟) ومن رائق شعره قوله :
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له الأرض تحملُ صخرا ثِقالا
دحاها فلمّا رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له المُزنُ تحمل عذبا زُلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصُبّت عليها سجالا
ويقول قس بن ساعدة خطيب الجاهلية : (أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آت آت ...) ومن شعره
في الذاهبين الأوّلــــ ينَ من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محـــا لة حيث صار القوم صائر
ولورقة بن نوفل قوله :
لقد نصحتُ لأقوام وقلتُ لهم أنا النذير فلا يغرركم أحدُ
فهذا الكلام وهذه الأشعار جميعها في غاية الجمال ومنتهى الحسن ولكن هل تبلغ مبلغ القرآن الكريم ؟ وهل تصل إلى فصاحته وبلاغته ؟ أبدا لن تدرك ذلك !!! ولم يقل أحد بذلك !!! لا قائلوها ممّن أدرك الإسلام كورقة بن نوفل الذي أسلم أو أمية بن أبي الصلت الذي كفر... ولا العرب وهم أحوج ما يكونون يومها لتقديم مثل هذا الكلام لمعارضة كلام الله ... فالقرآن لم يطلب منهم الإنشاء بل مطلق الإتيان والإنشاء يقتضي الجِدّة بينما الإتيان يجزئ فيه القديم كذلك ...
ثم لننظر في وقع هذا الكلام على النفوس هل يستوجب الاستهزاء والتفكّه والتحقير كما هو الشأن في جميع معارضات القرآن ؟ لا وإنّما يجد الواحد منّا في نفسه وهو يقرأ مثل هذا الكلام شيئا من التعظيم والتقديس والاتعاظ كذلك , ولكنه لا يبلغ مبلغ كلام الله عزّ وجلّ ولا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد يجعله المتساهل منّا في منزلة كلام الوعاظ من علماء الإسلام كالحسن البصري وابن الجوزي ... وأخيرا لنسأل السؤال المتعلق بمبحثنا لما لم يستوجب هذا الكلام الاستهزاء والتفكّه والتحقير ؟ السبب هو ببساطة عدم مقابلته مع كلام الله عزّ وجلّ واعتقاد أنّ صاحبه يدّعي أنّ كلامه هذا يوازي القرآن الكريم
نقطة أخرى تؤكّد أنّ معارضة كلام البشر الناقص لكلام الباري الكامل والمعجز هي التي استوجبت هذا الشعور الذي لا يفارق معارضات القرآن عبر مختلف الأزمان ... إنّنا إذا نظرنا في النصوص العربية الإسلامية الشعرية منها والنثرية نجدها معبّأة بالاقتباس من كتاب الله عزّ وجلّ ونلاحظ أنّ هذا الاقتباس ــ وهو شبيه إلى حدٍّ بعيد بما يفعله المعارضون ــ يزيد النصّ جمالاً من جهة الألفاظ المستعملة والتي تترك في النفس أثراً بليغًا ووقعا جميلاً كما تزيده قوّة وتوثيقا من جهة الأفكار والمعاني المقتبسة
سأنقل ها هنا نماذج لشاعر معاصر يكثر من الاقتباس القرآني إلى درجة أنّه يستعمل في كثير من الأحيان آيات كاملة وأجزاء كبيرة منها في أشعاره وهو الأستاذ أحمد مطر :
يقول في قصيدة قلّة أدب :
قرأتُ في القرآنِ
"تبّت يدا أبي لهب "
فأعلنت وسائل الإذعانِ
"إنّ السكوت من ذهب"
أحببتُ فقري ...لم أزل أتلو :
"وتبّ
ما أغنى عنه ماله وما كسب"
فصودرت حنجرتي
بجرم قلّة الأدب
وصودر القرآن
لأنّه حرضني على الشغب
وفي قصيدة له بعنوان : فبأيّ آلاء الشعوب تكذبان
غفتْ الحرائق...
أسبلت أجفانها سحب الدخان
الكلّ فان
لم يبق إلاّ وجه ربّك ذي الجلال واللجان
ولقد تفجرَ شاجبا ومنددا ولقد أدان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان !
وله الجواري الثائرات بكلّ حان
وله القيان
وله الإذاعة
دجن المذياع لقّنه البيان
الحقّ يرجع بالربابة والكمان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان
وله أيضا :
والعصر...
إنّ الإنسان لفي خسر
في هذا العصر
فإذا الصبح تنفس
أذّنَ في الطرقات نباحُ كلاب القصر
قبل أذان الفجر
وانغلقت أبواب اليتامى ...
وانفتحت أبواب القبر
والأمثلة والشواهد كثيرة وما يهمنا منها هو رغم هذا الاقتباس الكثير من القرآن ورغم هذا التشابه الكبير مع المعارضات التي سبق ذكرها فإننا لا نجد هذا الشعور بالفكاهة والاستهزاء والتحقير الذي نجده في المعارضات والسبب هو عدم مقابلتها بالقرآن الكريم ...