بودفلة فتحي
New member
- إنضم
- 10/08/2010
- المشاركات
- 295
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
الفصل الثاني
إبطال نظرية الصرفة :
يمكننا تصنيف وترتيب جملة الأدلة التي تمّ بها إبطال نظرية الصرفة في مجموعتين اثنين الأولى عبارة عن ردود وأدلة نظرية وعلمية نقلية وعقلية والثانية عبارة عن ردود عملية تطبيقية واقعية
أولا الأدلة العلمية النقلية والعقلية المبطلة لنظرية الصرفة :
1) استدلّ الإمام الخطابي على بطلان نظرية الصرفة بقوله تعالى : قال عليه رحمة الله الواسعة : " ...فأشار في ذلك إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدلّ على أنّ المراد غيرها والله أعلم ." اهـ ويقول الإمام السيوطي مستدلا بهذه الآية : (...فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ،...)
لو كان الإعجاز في الصرفة كما يزعمون لكان الأبلغ فيها أن يأتي القرآن في أدنى مراتب البلاغة والبيان فالعجز عن الإتيان بالشيء البسيط بالصرفة أبلغ وأوكد من العجز عن الإتيان بالشيء العظيم , وإلى هذا الوجه أشار الباقلاني (403هـ) بقوله : (لو كان الأمر على ما ذهبوا اليه ، وكان الإعجاز بالصرفة حقا ، لكان الأقوى في الحجة ، والأبين في الدلالة ، أن يجيء القرآن في أدنى درجات البلاغة ، لأن ذلك أبلغ في الأعجوبة ، فإن الذي يعجز عن كلام هو في مستوى كلام الناس أو أدنى منه، يكون ذلك دليلاعلى أن هناك قوة غلابة ، حالت بينه وبين المعارضة، ولم يكن هناك حاجة لمجيء القرآن الكريم في نظم بديع ، ومستوى رفيع عجيب ، لأن الأقرب إلى قوة الدليل ، ووضوح الحجة حين تكون الصرفة هي الوجه للإعجاز- أن يكون القرآن في مستوى كلامهم ، أو دونه .)
2) الآيات الدالة على التحدي والإعجاز تحمل في طياتها دلالة واضحة على مزية القرآن وأنّه فوق قدرة البشر فإنّ الخطاب القرآني لم يوقع التحدي إلاّ بعد الحديث عن نظم القرآن وعن معارضة العرب ورفضهم لدعوته وأحكامه ومعانيه والقول بالصرفة مناقض ومخالف لذلك
3) الإجماع وقع قبل قول النظام بالصرفة على أنّ القرآن معجز بنظمه ولا سبيل لخرقه يقول الإمام القرطبي في أحكام القرآن مفندا القول بالصرفة : ( وهذا فاسد ، لأن الإجماع قبل حدوث المخالف : أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا : إن المنع والصرفة هو المعجز ، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك ، علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة ، لم يكن معجزا .) وممّا قاله السيوطي رادّا على القاشلين بالصرفة : (...هذا مع أنّ الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز للقرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة الإعجاز ...) وممن ذكر هذا الإجماع واستدل به كذلك علي بن محمد الجرجاني (812هـ) في شرح المواقف والألوسي في روح المعاني
4) إذا كان العرب صرفوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم بعد نزوله ووقوع التحدي فما بالنا لا نجد في كلامهم قبل وقوع التحدي ما يشبهه أو يقاربه في بلاغته وبيانه ؟ يقول الإمام الباقلاني : (إننا لوسلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب الرصف ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله) ويقول أبو القاسم الخوئي (1413هـ) من علماء الشيعة الإمامية ) لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لكثرة الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل ، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا ، خارجا عن طاقة البشر . ) وإلى مثل هذا أشار الشريف الجرجاني (812هـ) بقوله : (إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة ، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به ، بل قبل نزوله ، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي ، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة)
5) القول بالصرفة يقتضي أنّ بلاغة العرب تعطّلت أو على الأقل تراجعت بعد وقوع التحدي والواقع خلاف ذلك فإنّ شعراءهم هم هم وخطباءهم كذلك وكلامهم الفصيح وأسلوبهم البديع والألفاظ المنمقة والمعاني الجليلة السامية بقيت هي هي لم يتغير من ذلك كلّه شيء ... ممّا يؤكد أنّ العجز واقع في أنفسهم وقدرتهم لمزية هذا القرآن وعلوّ شأنه وإعجازه في بلاغته ونظمه لا غير ... وإلى مثل هذا أشار القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ) : (لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .) وليس بعيد عن هذا قول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز : (البرهان الثالث : الرجع بالصرفة التي زعموها ، هو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ ، فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله ، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة في مدة يسيرة ، يدل على نقصان العقل ، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره ، فلو أصبح في بعض الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة ، لكان دليلا على فساد عقله وتغيره ، والمعلوم من حال العرب ، أن عقولهم ما زالت بعد التحدي بالقرآن ، وأن حالهم في الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل ، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة . ) ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) :( أنه يلزم على ادعائهم هذا ، أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، - من بعد أن أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحدوا إلى المعارضة - قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها ، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره ، ولكانوا قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به ، ولكنك سحرتنا ، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه ، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوا البعض إلى البعض ، ويقولوا : ما لنا نقصنا في قرائحنا ..؟ وإذا كان ذلك لم يرد ، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، فهذا دليل على أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.)
6) لو عرض للعرب صارف منعهم من معارضة القرآن كما يدعيه القائلون بالصرفة لنقل وأثِر عنهم ذلك لوجود الدواعي فقد كانوا يجهدون أنفسهم ويبالغون في البحث عن شيء يعللون به رفضهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان حتى , وما أيسر وأسهل أن يقولوا إننا قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ولكن طرأ لنا كذا أو منعنا كذا أو أنّ سحر محمد حرمنا من بياننا وبلاغتنا ولكن كلّ ذلك لم ينقل لا لشيء إلاّ لأنه لم يقع أصلا والله أعلم ...يقول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز ( إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها،لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأنْ يُميزوا بين أوقات المنع والتخلية. ولو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. ولو تذاكروه، لظهر وانتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دّلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة) وإلى مثل هذا أشار علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز
7) فإن قيل وقعت الصرفة دون أن يشعروا بها لزم من هذا القول أنّ حجة الله تعالى الواقعة بتحديهم لا تصحّ في حقهم بل لا بدّ من وقوع التحدي وأن يعلم المتحدي به ويتأكد من عجزه وجهة عجزه كذلك وإلاّ بطل الإعجاز أصلا
8) القول بالصرفة يقتضي أنّ الإعجاز فيها وفي قدرة الله الخارقة لا في القرآن الكريم الذي يفقد بذلك كلّ فضيلة وتميز على غيره من الكلام وهذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة التي تثني على القرآن الكريم وتؤكد على خصوصيته وتميزه عن سائر الكلام بما في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي الشريف ....وإلى هذا أشار الباقلاني في إعجاز القرآن بقوله : (إنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره.)
9) تعظيم العرب لبلاغة القرآن وإجلالهم وإكبارهم له رغم معارضته وكره أحكامه وحدوده وما جاء به ...والقصص في سيرته العطرة التي تثبت ذلك كثيرة فمنها ما رواه الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ..ويكف عنا..؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة ، والكمال في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أ مورا ، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا : جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد شرفا : سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا: ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالناحتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع إليه قال : أفرغت يا أبا الوليد ..؟ قال : نعم ، قال: فاسمع مني ، قال : أفعل ، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : [ بسم الله الرحمن الرحيم . حم. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ] ثم مضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه السورة وعتبة ينصت إليه ، وهو ملق يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، حتى انتهى الرسول إلى السجدة ، ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ) ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس اليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ..؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : قد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .) وقصة إسلام عمر والطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنهما وتأثر خالد وعمرو بن العاص بالقرآن الكريم كلّ ذلك معروف مشهور في كتب السيرة يقول يحيى بن حمزة العلوي (749هـ) : (لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة - كما زعموه - ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته ، وحسن فصاحته - كما أثر عن الوليد بن المغيرة - حيث قال : إن أعلاه لمورق ، وإن أسفله لمعذق ، وإن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه ، فإنه يدهش عقله ، ويحير لبه ، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف ، وحسن مواقع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان ما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه ، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دل على فساد هذه المقالة .) وبمثل هذا استدلّ عبد القاهر الجرجاني على بطلان القول بالصرفة حيث يقول : (فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون مايوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم ، لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة ، والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه ، بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : - إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنما نأتيك في غيره من المعاني بما شئت ، وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه )
10) لكلّ نبيّ معجزة تتوافق وطبيعة قومه وقدراتهم فموسى عليه السلام بعث في قوم كثر فيهم السحر وبعث كلّ من هود وصالح في قوم فتنوا بالتفاخر والتعالي في البنيان وبعث عيسى عليه السلام في قوم يحسنون الطب ويشتغلون به ــ وقيل غير ذلك ــ وبعث نبينا عليه الصلاة والسلام في قوم صناعتهم الكلام يقول ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ما نصه : ( وإنما يعرف فضل القرآن من كثُر نظره واتّسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتّساع المجال ما أوتيته العرب خِصيصَا [خِصيصَ] من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب فجعله عَلَمَهُ , كما جعل عَلَمَ كلّ نبيّ من المرسلين مِن أشبهِ الأمور بما في زمانهم المبعوث فيه : فكان لموسى فلق البحر واليد والعصا وتفجّر الحجر في التيه بالماء الروّاء على سائر أعلامه زمن السحر وكان لعيسى إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وغبراء الأكمه والأبرص إلى سائر أعلامه زمن الطبّ وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إلى سائر أعلامه زمن البيان ...) ويقول الجاحظ في حجج النبوة : ( بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا ، وقتل من أعلامهم ، وعليائهم ، وأعمامهم ، وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خافيا .. إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة ، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا ، لا تهاونا وتغافلا ، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد ، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب ، والبدو خاصة ، لما فيهم من الأنفة والعزة ، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان ، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة ..؟ )
11) صرف الناس وحملهم قهرا على شيء معين من خصائص الله سبحانه وتعالى ولا يتحدى به إلاّ من ادّعى شيئا منها كما فعل إبراهيم عليه السلام مع النمرود في مسألة إحياء الموتى وشروق الشمس وغروبها أما العرب فهم مقرون بقدرة الله على الإحياء والإماتة والخلق والرزق ... وعلى الصرفة فلا يجوز أن يتحدون بما يقرون به أصلا ...
12) جميع المعجزات السابقة استمدت إعجازها من ذاتها كالعصا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فما بال أعظم المعجزات لخلودها وعمومها ... تستثنى من هذا الأصل الذي يقدح فيها ينقص من قيمتها أمام باقي المعجزات بل أمام غير المعجزات حتى ... (الكلام البشري العادي)
13) إنّ إعجاز القرآن سببه إحاطة صاحبه بالعلم كلّه وعجز العرب عن الإتيان بمثله لأنّ علمهم محدود يقول ابن عطية (546هـ) ( ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه .
والصحيح : أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة ، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لايزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال فيها بعد ذلك مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد .)
14) من الأدلة على أنّ القرآن الكريم في مقدور البشر أن يأتوا بمثله أنّه متكون من الكلمات والجمل وقالوا أنّ القول بعدم القدرة على مثل كلماته تمحل ومكابرة وأنّ القدرة على الجزء تقضي القدرة على الكل لأنّ ما هو إلاّ مجموعة من الأجزاء .... وممّا قاله أبو القاسم الخوئي مفندا هذه المقولة : ( قالوا إن العارف باللغة العربية ، قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن ، وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد . الجواب : إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر ، فإن القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته ، لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، فإن القدرة على المادة ، لا تستلزم القدرة على التركيب ، ولهذا لا يصح لنا أن نقول : إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة ، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء ، أو نقول : إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد ، لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرداتها، وكأن هذه الشبهة هي التي دعت(النظام) وأصحابه ، إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة ، وهذا القول في غاية الضعف...)
.... إلخ ...
ثانيا الأدلة التطبيقية العملية الواقعية :
لإبطال نظرية الصرفة وإثبات الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم من الناحية العملية التطبيقية ثلاثة طرق تتبع كلام العرب , النظر في بلاغة القرآن وأخيرا الوقوف على معارضات القرآن ومحاولات تقليده وإجابة تحديه ...
وسنكتفي في النقطة الأولى والثانية بمجرد إشارات ونحاول قدر الاستطاعة والتمكين التفصيل في النقطة الثالثة
1) أوّلا النظر في أضرب وأصناف كلام العرب من شعر وأمثال وخطب ... قبل وقوع التحدي وأثناءه وبعده ... ومحاولة مقارنة ذلك كلّه بالقرآن الكريم هل نجد في هذا الإنتاج الحافل والزاخر شيئا يماثل أو يشابه القرآن الكريم أو يصل ولو بدرجة قريبة إلى بلاغته وأحيل القارئ ها هنا إلى ما كتبه العلماء في هذا الموضوع وعلى رأسهم الجاحظ في الكثير من كتبه وخاصة البيان والتبيين فإنّه انتهج أسلوب التمثيل والمقارنة والموازنة بين التراث الأدبي العربي بل والعالمي كذلك في مقابل الأسلوب القرآني المعجز البليغ ... ومثله وبطريقة أعنف صنع الباقلاني في إعجاز القرآن لما راح يبحث في تراث أبلغ الشعراء ليبرز شطحاتهم ويظهر نقائصهم وترهاتهم في مقابل أسلوب القرآن الذي لا يعتريه نقص أبدا وسأكتفي في هذا المبحث بنقل كلام لأبي حيان الأندلسي (654هـ) يردّ به على القائلين بالصرفة افتتانا ببلاغة العرب وبيانها يقول عليه رحمة الله الواسعة : (اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوغل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب ، فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ، ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته . والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء ، حين رأت زوجها يطأ جارية ، فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر ذكر الله فيه ورسوله وكتابه فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق)
2) ثانيا النظر بتمعن وتفحص وعمق في بلاغة القرآن الكريم لنقف على نكته وأعاجيبه البيانية التي لا ولن يستطيعها الإنس والجنّ ولو اجتمعوا عليه ظهيرا ... وسأكتفي ها هنا بنقل نماذج من بلاغة القرآن ـ مع تسجيل ملاحظة مهمة هي كون القرآن كلّه بجميع آياته وأجزائه معجز وليس بعضه دون بعض ـ فهذه بعض الآيات نقف فيها على بعض نكتها
[ الكهف 18] إثبات الهيئة لا غير لأنّ الكلب ميّت والفعل يقتضي التجدد فلا يصلح مكانَ الاسم
• [مريم 4] فالإعجاز هنا ليس للاستعارة كما يقولون ولكن للترتيب فلو قلت (شيب الرأس) لما اشتمل جميع الرأس , أما هنا فمعنى الشمول والشيب أتيا كالقول : اشتعلت الدارُ نارًا
[يوسف 23] ولم يسمّها ويقل امرأة العزيز لتنزيه يوسف عن الفحشاء
للتفخيم والتهويل
العدول إلى الاسم الموصول للتهويل
هنا استعمل اسم الإشارة للتحقير
• [العصر2]
• •• [البقرة 96] الحياة هنا نكرة لتفاهتها
[البقرة179] تنكير الحياة هنا معناه حياة عظيمة لأنها يرتدع فيها القاتل فتخلو الحياة من القتل
• [طه 18]
[يوسف 18] أي فأمري وأمركم صبر جميل اعتمادا على الحال وتعويلا على دلالة الموقف بينه وبين أولاده
فهذه بعض النماذج ولمن أراد المزيد أن يعود إلى مظان المسألة ....
3. ثالثا تتبع معارضات القرآن الكريم :
وهذا هو الذي يهمنا في هذا البحث وهو الذي سنركز عليه أكثر باعتباره يردّ ردّا مباشرا على القائلين بالصرفة , فإذا كان النظّام وأصحابه يزعمون أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم فإنّنا في هذا المبحث نثبت خلاف ذلك وهو أنّ العرب والعجم كذلك قد عارضوا القرآن وحاولوا إجابة التحدي ولكنهم لم يستطيعوا أن يبلغوا مبلغه ويصلوا إلى بيانه وفصاحته ....
ما المقصود بالمعارضة ؟
قال السبحاني في الإلهيات : (معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً، يجي الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين،فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق...)
ولعل في المعارضات والموازنات التي تقع بين شعراء العرب وخطبائهم وبلغائهم بعيدا عن الحديث عن القرآن الكريم وإعجازه ما يبيّن ويوضح ذلك أتمّ توضيح
كالموازنة بين شعر النابغة وامرؤ القيس في وصف الليل وما يحمله من الحزن والهموم أو كنقائض الشعر الأموي أو الموازنة بين شعر البحتري وأبي تمام فإنّ الموازنة والمعارضة في جميع ذلك تقع على مستوى الألفاظ والتركيب والمعاني وغيرها ... أما أن يعارض بتكرار ألفاظ القرآن بمعان وأفكار مستقبحة أومعان القرآن الجليلة بألفاظ غريبة أو رديئة .فهذا لا يسمى معارضة بل تقليد على مستوى استعمال الألفاظ أو اقتباس على مستوى استعمال المعاني
وأذكر ها هنا نموذجين للمعارضات والموازنات بين بعض الشعراء حتى نعتمد نفس الطريقة في الحكم على من عارض القرآن وزعم أنّه أتى بما يماثله ــ زعمًا ــ
المثال الأوّل : بين النابغة وامرئ القيس :
يقول الأوّل :
كِليني لهمّّ يا أمَيمةُ ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همّه تضاعفَ فيه الحزنُ من كلّ جانبِ
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف معلقا على هذه الأبيات : (... فهو محزون في أوّل القصيدة يخاطب ابنته أمامة ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع في قبضة الغساسنة من أسرى قومه , ونراه يصور الليل وهمّه فيه تصويرا بديعا , فالكواكب بطيئة لا تجري , حتى ليظنّ أنّ الصبح الذي يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدا لن يؤوب , والليل يثقل على صدره بما يردّ عليه من موجات الهمّ والحزن , وهي براعة استهلال رائعة تدلّ دلالة بيّنة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسّم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرا واضحا مستقيما بالصور ....)
ويقول امرؤ القيس في نفس الموضوع :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بصلبه وأردفَ أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأنّ نجومه بكلّ مُغارِ الفتلِ شُدّت بيذبُل
كأنّ الثُريا عُلّقت في مصامها بأمراس كَتّانٍ إلى صمِّ جندل
يقول الأستاذ شوقي ضيف :( فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي , ويحس كأنه طال وأسرف في الطول حتى ليظنّ كأنّ نجومه شدّت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهي لا تتحرك ولا تزول و كأنّما سمّرت في مكانها , فهي لا تجري ولا تسير , وقد ردّد الشعراء بعده هذا المعنى طويلا ...)
وفي الموازنة بين الشاعرين وشعرهما يقول السحباني ما نصّه : (فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصاً قوله: «وصدر أراح الليلُ عازب همّه». وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة.إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة، وحسن التشبيه، وإبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحب الوثيقة، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل [المفاضلة] بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما ....)
المثال الثاني : بين جرير وأبي نواس
يقول الأوّل : إذا غضِبتْ عليك بنو تميم حسبتَ الناسَ كلّهم غضابا
ويقول الثاني : ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالَم في واحد
انظر كيف جعل جرير من بني تميم الناس كلّهم حين يغضبون لشدّة هول هذا الغضب ووقع أثره على المغضوب عليه ثمّ انظر كيف زاد أبي نواس عليه زيادة رشيقة بديعة فهو لم يجمع الناس في قبيلة كما صنع جرير بل رجلٌ واحد يجمع عنده العالَم كلّه "فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام "
وننتقل الآن لسرد نماذج من المعارضات التي زعم أصحابها أنّهم تحدوا بها القرآن وأتوْا بمثله
أ- مسيلمة الكذاب : مسيلمة بن حبيب الكذّاب ادّعى النبوة باليمامة وزعم أنّ الله أشركه في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم فجعل لكلّ منهما نصف الأمر ... ممّا عارض به القرآن وحاول محاكاته قوله :
( لقد أنعم الله على الحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , بين صِفاق وحَشَى ) وفي رواية (ألم تر كيف فعل ربّك بالحبلى...) والصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن وهو الذي إذا انشقّ كان منه الفتق
(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ...)
ياضفدع يا بنت ضفدعين , نقي ما تنقين , نصفك في الماء ونصفك في الطين , لا الماء تكدّرين , ولا الشارب تمنعين...)
( والمُبذرات زرعا , والحاصدات حصدا, والذاريات قمحا, والطاحنات طحنا , والعاجنات عجنا , والخابزات خبزا, والثاردات ثردا, واللاقمات لقما , إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر , وما سبقكم أهل المدر , ريفكم فامنعوه , والمعتر فآووه والباغي فناوئوه...)
( والشاء وألوانها , وأعجبها السود وألبانها , والشاة السوداء , واللبن الأبيض , إنّه لعجب محض , وقد حرم المَذق فما لكم لا تمجعون...) المذق : مزج اللبن بالماء والمجمع: اللبن يشرب بالتمر أو يعجن به قال الأستاذ محمد سعيد العريان معلقا على هذا الكلام : (...ولعمر الله ما ندري أكان هذا القرآن ينزل على قلب مسيلمة أو على معدته ... أو كان بين قومٍ جياع فتأثيره أن يسيل لعابهم ...!)
وكلامه هذا في غاية الحماقة والسقط يُعرب عن كذب الرجل وجهله بل وعن مكابرته للحقّ الفاضحة ... يروى عن الأحنف بن قيس أنّه دخل مع عمّه على مسيلمة الكذّاب بعد أنِ ادّعى النبوة فلمّا خرجا سأل الأحنف عمّه : كيف وجدته أو رأيته فأجابه : ( ليس بمتنبئ صادق ولا بكذّاب حاذق )
قال السحباني معلقا على كلام مسيلمة ومقارنا بينه وبين كلام الله عزّوجلّ: (...فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى : "الحاقّة ما الحاقّة وما أدراك ما الحاقّة..." وقوله: "القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة.." ثم ما أتبع قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله: "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش..." فإين هو من قول القائل "الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل" فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن متناه الغاية , فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذنب والمشفر , ويتصور أنه تحققت المعارضة ...)
ب- طلحة بن خويلد الأسدي : كان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي فمن كلماته التي عارض بها القرآن :
( إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم , وقبح أدباركم شيئا . فاذكروا الله قياما , فإنّ الرغوة فوق الصريح) فنسخ ـ زعما ـ بكلامه هذا الركوع والسجود في الصلاة ولم يبق فيها سوى القيام
( والحمام واليمام , والصرد الصوام , ليبلغ ملكنا العراق والشام)
ت- سجاح بنت الحارث : من بني تغلب القبيلة النصرانية المعروفة ادّعت النبوة وعارضت القرآن بما زعمته يوحى به إليها , فمن نماذج ذلك :
(...إنّه الوحي , أعدّوا الركاب , واستعدوا للنهاب , ثمّ أغيروا على الرباب , فليس دونهم حجاب ...)
وممّا قالته وهي متوجهة لقتال مسيلمة الكذاب (عليكم باليمامة , ودقوا دفيف الحمامة و فإنها غزوة صرامة , لا يلحقكم بعدها ندامة ...)
(يا أيها المؤمنون المتقون , لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون ...)
ث ـ الأسود العنسي : من أهل اليمن كان معروفا بالفصاحة والكهانة والسجع ممّا يؤثر عنه قوله :
( سبح اسم ربّك الأعلى , الذي يسر على الحبلى , فأخرج منها نسمة تسعى , من بين أضلاع وحشى , فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى , ومنهم مي يعيش ويبقى ...)
ج- ابن المقفّع (145هـ) : كان مجوسيا وأسلم أو ادّعى الإسلام كما يقول البعض قيل أنّه عارض القرآن بكتابه (الدرة اليتيمة) وهو مطبوع متداول وليس فيه شيء ينص ويدلّ على ذلك بل جلّ ما فيه حكم الفرس والهند وكثير من حكم علي رضي الله عنه مدوّنة فيه وغير منسوبة إليه ... وقيل أنه عارض القرآن وكتب فيه الشيء الكثير ولكنه مزّق ذلك كلّه لما بلغ قوله تعالى : [هود 44] وقال : هذا الكلام لا يستطيعه البشر...
ح- ابن الراوندي : أبو الحسن أحمد بن يحيى (293هـ وقيل غير ذلك) قيل أنّه عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) وممّا قاله المعري في انتقاد هذا الكتاب والردّ عليه قوله في رسالة الغفران : (.. وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا ... وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : أفٍّ وتُفّ وجوربٌ وخفّ . قيل: وما جورب وخف؟ قالت: واديان بجهنّم )
خ- المتنبي (354هـ) : تنبأ وفي عمره سبعة عشر عاما ببادية السمَّاوة بين الكوفة والشام وقد تبعه قوم كُثر ثم ما لبث أن عاد إلى رشده وممّا يؤثر عنه قوله : (والنجم السيّار , والفلك الدوّار , والليل والنهار , إنّ الكافر لفي أخطار , امض على سُنّتِك , واقْفُ أثر من قبلك من المرسلين , فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من ألحد في دينه وضلّ عن سبيله ...)
د- أبو العلاء المعري (449هـ) : زعموا أنّه ألف كتابا في معارضة القرآن سمّاه (الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات) ممّا جاء فيه قوله : ( أقسم بخالق الخيل , والريح الهابّة بليل , بين الشرط مطلع سهيل , إنّ الكافر لطويل الويل , وإنّ العمر لمكفوف الذيل , تَعَّدَ مدارج السيل , زطالع التوبة من قبيل , تنج وما إخالك بناج .) قال الأستاذ الرافعي معلقا على هذا الكلام المسجوع لا غير: ( فلفظة "ناج" هي الغاية , وما قبلها فصل مسجوع , فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية , وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم , لأنّها تأتي خواتم لآياته , فكأن المعارضة نقضٌ للوضع ومجاراة للموضوع , وكأنها صنعة وطبع .)
شبهة 1: زعموا أنّ العرب في زمن النبوة عارضوا القرآن بسور وربما بكتب ولكن صولة الإسلام وقوة دولته أخفت ذلك كلّه ومحته عن الوجود حتى لا يصلنا شيء منه
والجواب أنّه رجم بالغيب وتخيّل مناف للمنهج العلمي يحتاج إلى أدلة ونقول تثبته
يقول السحباني في الردّ على هذه الشبهة : (إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا على غيرهم. كيف، وإن الإتيان بمثل معجزته،يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم.)
ويقول الخوئي : (إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها،وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيدا ًيوقعونه في كل مجلس، وذكراً يرددونه في كل مناسبة، وعَلَّمَه السلف للخلف، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعي على حجّته، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف.كيف، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة..)
وممّا قاله الإمام الخطابي مفندا هذا الزعم الباطل قوله : (إنّ هذا السؤال ساقط , والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأمور التي لها شأن وللنفوس بها تعلق , وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب , وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظم خطره , وجلالة قدره , لجاز أن يقال إنه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد , وتنزّلت عليهم كتب من السماء وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة , وكتم الخبر فيها فلم يظهر , وهذا ممّا لا يحتمله عاقل ...)
شبهة 2 أنّ الذين أقدموا على معارضة القرآن هم سفلة القوم وجهلتهم لهذا جاءت هذه المعارضات بهذا الشكل الهزيل ولو تقدم لهذا الأمر فصحاء العرب وحكمائهم لأتوا بمثل القرآن أو بما هو أفضل منه
شبهة 3 حول الشعور بشيء من الاستهزاء والتفكّه والتحقير في هذه المعارضات
قد يقول القائل حين نستعرض لمثل هذه المعارضات التافهة "يحتمل أن تكون هذه المعارضات من اختلاق وصنع المسلمين حتى يتفكهون على المعارضين ويثبتون الإعجاز والتقدم للقرآن الكريم" والجواب على هذا من وجوه : أوّلها أنّ القرآن الكريم لا يحتاج إلى الكذب والافتراء لإثبات إعجازه لأنّ الواقع يثبته سواء عن طريق أسلوب المماثلة والموازنة بينه وبين كلام البشر أو عن طريق استقصاء الأساليب القرآنية المعجزة في بلاغتها أو غيرها من الطرق والأساليب العلمية المنهجية المثبتة لبلاغة القرآن المعجزة ... ثانيا هذا الذي زعموه إدّعاء يحتاج إلى دليل فلا يكفي في مجال البحث العلمي مجرد الرمي والقذف بالغيب خاصة وأنّ المسلمين قد ذكروا من الشبه التي رُمي بها الإسلام الشيء الكثير فلما يعدلون عن منهجهم الذي أثبته استقراءُ كتبهم ومؤلفاتهم التي لا تعدّ ولا تحصى إلى هذا الذي يدّعونه من اختلاق هذا الكلام لأجل التفكّه .ثمّ إنّ الكذب على الغير ــ ولو كافرــ محرم في شريعة الإسلام ... ثالثا ــ وهي النقظة المهمة في الردّ على هذه الشبهة ــ إذا كان سبب هذا الذي زعموه ركاكة وتفاهة هذه المعارضات فكأنّهم استغربوا أن تصدر من عاقل حكيم ندب نفسه لشيء عظيم كمعارضة رسالة الإسلام وكتابه القرآن... والسبب الحقيقي وراء هذا الاستغراب ليس ركاكة ألفاظها وبداءة معانيها ــ وإن كان فيها شيء من ذلك ــ ولكن السبب الحقيقي هو المقارنة والموازنة الواقعة بين هذه المعارضات البشرية الناقصة وبين كلام الله عزّ وجلّ البديع الكامل المعجز , فهذه المعارضات ــ مهما قيل ــ شبيهة تمام المشابهة بسجع الكهان الذي كان منتشرا في جاهلية العرب كقول سَلِمة بن أبي حَيّة المعروف بعزّى سَلِمة وهو كما قال الجاحظ أكهن العرب وأسجعهم : (والأرض والسماء , والعقاب والصقعاء , واقعة ببقعاء , لقد نفّر المجدُ بني العُشَراء للمجد والسناء...) ومنه قول زبراء كاهنة بني رِئام تنذرهم غارة (واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنّجم الطارق والمزن الوادق إنّ شجر الوادي ليأدو خَتلا ويحرِق أنيابا عُصْلا , وإنّ صخر الطّود ليُنذِر ثُكلا , لا تجدون عنه مَعْلا ...) ولا فرق بين هذا الكلام ومعارضات مسيلمة وغيره من العرب القدماء من حيث بناؤه وتركيبه ومن حيث سجعُه وغريبُ لفظه ... إلاّ فيما يشعر به القارئ وهو يردّد كلاّ منهما فإذا كان الأثر الذي يتركه سجع الكهان هو الاستغراب وربّما الاستطراف أحيانا والاستعذاب فإنّ كلام مسيلمة وهو بنفس الطريقة والأسلوب يترك هذا الشعور بالاستهزاء والتفكه والتحقير ... لا لشيء إلاّ لأنّ القارئ والسامع يضعه ــ وضع مقارنة ــ في مقابل كلام الله الكامل والمعجز ...
وللتّأكد من هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن ينكرها أحد للننظر في بعض كلام العرب القديم قبل نزول القرآن أي قبل وقوع التحدي والصرفة ؛ الكلام الذي جاء فيه شيء من مواضيع القرآن الكريم كالحديث عن اليوم الآخر ونبذ الشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المواضيع دون أن يقترن هذا الكلام بمعارضة القرآن ومجابهته
فمن ذلك شعر أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
لك الحمد والنّعماء والملك ربّنا فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدا
ومنه قوله يصف الملائكة بين يدي الله سبحانه وتعالى :
ملائكة أقدامهم تحت عرشه بكفَّيه لولا الله كلُّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته فرائصهم من شدّة الخوف تُرْعَدُ
وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه يُصيخون بالأسماع للوحي رُكّد
أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ
وحُرّاس أبواب السماوات دونهم قيام عليها بالمقاليد رُصّدُ
ومنه قول زيد بن عمرو مخاطبا قومه: (يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيرالله ؟) ومن رائق شعره قوله :
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له الأرض تحملُ صخرا ثِقالا
دحاها فلمّا رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له المُزنُ تحمل عذبا زُلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصُبّت عليها سجالا
ويقول قس بن ساعدة خطيب الجاهلية : (أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آت آت ...) ومن شعره
في الذاهبين الأوّلــــ ينَ من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محـــا لة حيث صار القوم صائر
ولورقة بن نوفل قوله :
لقد نصحتُ لأقوام وقلتُ لهم أنا النذير فلا يغرركم أحدُ
فهذا الكلام وهذه الأشعار جميعها في غاية الجمال ومنتهى الحسن ولكن هل تبلغ مبلغ القرآن الكريم ؟ وهل تصل إلى فصاحته وبلاغته ؟ أبدا لن تدرك ذلك !!! ولم يقل أحد بذلك !!! لا قائلوها ممّن أدرك الإسلام كورقة بن نوفل الذي أسلم أو أمية بن أبي الصلت الذي كفر... ولا العرب وهم أحوج ما يكونون يومها لتقديم مثل هذا الكلام لمعارضة كلام الله ... فالقرآن لم يطلب منهم الإنشاء بل مطلق الإتيان والإنشاء يقتضي الجِدّة بينما الإتيان يجزئ فيه القديم كذلك ...
ثم لننظر في وقع هذا الكلام على النفوس هل يستوجب الاستهزاء والتفكّه والتحقير كما هو الشأن في جميع معارضات القرآن ؟ لا وإنّما يجد الواحد منّا في نفسه وهو يقرأ مثل هذا الكلام شيئا من التعظيم والتقديس والاتعاظ كذلك , ولكنه لا يبلغ مبلغ كلام الله عزّ وجلّ ولا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد يجعله المتساهل منّا في منزلة كلام الوعاظ من علماء الإسلام كالحسن البصري وابن الجوزي ... وأخيرا لنسأل السؤال المتعلق بمبحثنا لما لم يستوجب هذا الكلام الاستهزاء والتفكّه والتحقير ؟ السبب هو ببساطة عدم مقابلته مع كلام الله عزّ وجلّ واعتقاد أنّ صاحبه يدّعي أنّ كلامه هذا يوازي القرآن الكريم
نقطة أخرى تؤكّد أنّ معارضة كلام البشر الناقص لكلام الباري الكامل والمعجز هي التي استوجبت هذا الشعور الذي لا يفارق معارضات القرآن عبر مختلف الأزمان ... إنّنا إذا نظرنا في النصوص العربية الإسلامية الشعرية منها والنثرية نجدها معبّأة بالاقتباس من كتاب الله عزّ وجلّ ونلاحظ أنّ هذا الاقتباس ــ وهو شبيه إلى حدٍّ بعيد بما يفعله المعارضون ــ يزيد النصّ جمالاً من جهة الألفاظ المستعملة والتي تترك في النفس أثراً بليغًا ووقعا جميلاً كما تزيده قوّة وتوثيقا من جهة الأفكار والمعاني المقتبسة
سأنقل ها هنا نماذج لشاعر معاصر يكثر من الاقتباس القرآني إلى درجة أنّه يستعمل في كثير من الأحيان آيات كاملة وأجزاء كبيرة منها في أشعاره وهو الأستاذ أحمد مطر :
يقول في قصيدة قلّة أدب :
قرأتُ في القرآنِ
"تبّت يدا أبي لهب "
فأعلنت وسائل الإذعانِ
"إنّ السكوت من ذهب"
أحببتُ فقري ...لم أزل أتلو :
"وتبّ
ما أغنى عنه ماله وما كسب"
فصودرت حنجرتي
بجرم قلّة الأدب
وصودر القرآن
لأنّه حرضني على الشغب
وفي قصيدة له بعنوان : فبأيّ آلاء الشعوب تكذبان
غفتْ الحرائق...
أسبلت أجفانها سحب الدخان
الكلّ فان
لم يبق إلاّ وجه ربّك ذي الجلال واللجان
ولقد تفجرَ شاجبا ومنددا ولقد أدان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان !
وله الجواري الثائرات بكلّ حان
وله القيان
وله الإذاعة
دجن المذياع لقّنه البيان
الحقّ يرجع بالربابة والكمان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان
وله أيضا :
والعصر...
إنّ الإنسان لفي خسر
في هذا العصر
فإذا الصبح تنفس
أذّنَ في الطرقات نباحُ كلاب القصر
قبل أذان الفجر
وانغلقت أبواب اليتامى ...
وانفتحت أبواب القبر
والأمثلة والشواهد كثيرة وما يهمنا منها هو رغم هذا الاقتباس الكثير من القرآن ورغم هذا التشابه الكبير مع المعارضات التي سبق ذكرها فإننا لا نجد هذا الشعور بالفكاهة والاستهزاء والتحقير الذي نجده في المعارضات السبب هو عدم مقابلتها بالقرآن الكريم ...
إبطال نظرية الصرفة :
يمكننا تصنيف وترتيب جملة الأدلة التي تمّ بها إبطال نظرية الصرفة في مجموعتين اثنين الأولى عبارة عن ردود وأدلة نظرية وعلمية نقلية وعقلية والثانية عبارة عن ردود عملية تطبيقية واقعية
أولا الأدلة العلمية النقلية والعقلية المبطلة لنظرية الصرفة :
1) استدلّ الإمام الخطابي على بطلان نظرية الصرفة بقوله تعالى : قال عليه رحمة الله الواسعة : " ...فأشار في ذلك إلى أمر طريقة التكلف والاجتهاد وسبيله التأهب والاحتشاد والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدلّ على أنّ المراد غيرها والله أعلم ." اهـ ويقول الإمام السيوطي مستدلا بهذه الآية : (...فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة ، لم تبق فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ،...)
لو كان الإعجاز في الصرفة كما يزعمون لكان الأبلغ فيها أن يأتي القرآن في أدنى مراتب البلاغة والبيان فالعجز عن الإتيان بالشيء البسيط بالصرفة أبلغ وأوكد من العجز عن الإتيان بالشيء العظيم , وإلى هذا الوجه أشار الباقلاني (403هـ) بقوله : (لو كان الأمر على ما ذهبوا اليه ، وكان الإعجاز بالصرفة حقا ، لكان الأقوى في الحجة ، والأبين في الدلالة ، أن يجيء القرآن في أدنى درجات البلاغة ، لأن ذلك أبلغ في الأعجوبة ، فإن الذي يعجز عن كلام هو في مستوى كلام الناس أو أدنى منه، يكون ذلك دليلاعلى أن هناك قوة غلابة ، حالت بينه وبين المعارضة، ولم يكن هناك حاجة لمجيء القرآن الكريم في نظم بديع ، ومستوى رفيع عجيب ، لأن الأقرب إلى قوة الدليل ، ووضوح الحجة حين تكون الصرفة هي الوجه للإعجاز- أن يكون القرآن في مستوى كلامهم ، أو دونه .)
2) الآيات الدالة على التحدي والإعجاز تحمل في طياتها دلالة واضحة على مزية القرآن وأنّه فوق قدرة البشر فإنّ الخطاب القرآني لم يوقع التحدي إلاّ بعد الحديث عن نظم القرآن وعن معارضة العرب ورفضهم لدعوته وأحكامه ومعانيه والقول بالصرفة مناقض ومخالف لذلك
3) الإجماع وقع قبل قول النظام بالصرفة على أنّ القرآن معجز بنظمه ولا سبيل لخرقه يقول الإمام القرطبي في أحكام القرآن مفندا القول بالصرفة : ( وهذا فاسد ، لأن الإجماع قبل حدوث المخالف : أن القرآن هو المعجز ، فلو قلنا : إن المنع والصرفة هو المعجز ، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك ، علم أن نفس القرآن هو المعجز ، وأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد كلام قط على هذا الوجه ، فلما لم يكن كذلك مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة ، لم يكن معجزا .) وممّا قاله السيوطي رادّا على القاشلين بالصرفة : (...هذا مع أنّ الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز للقرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة الإعجاز ...) وممن ذكر هذا الإجماع واستدل به كذلك علي بن محمد الجرجاني (812هـ) في شرح المواقف والألوسي في روح المعاني
4) إذا كان العرب صرفوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم بعد نزوله ووقوع التحدي فما بالنا لا نجد في كلامهم قبل وقوع التحدي ما يشبهه أو يقاربه في بلاغته وبيانه ؟ يقول الإمام الباقلاني : (إننا لوسلمنا أن العرب المعاصرين للبعثة قد صرفوا كما يزعمون ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة ، وحسن النظم ، وعجيب الرصف ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله) ويقول أبو القاسم الخوئي (1413هـ) من علماء الشيعة الإمامية ) لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ، ويطالبهم بالإتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لكثرة الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل ، كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه إعجازا إلهيا ، خارجا عن طاقة البشر . ) وإلى مثل هذا أشار الشريف الجرجاني (812هـ) بقوله : (إنه لا يتصور الإعجاز بالصرفة ، وذلك لأنهم كانوا حينئذ يعارضونه بما اعتيد منهم من مثل القرآن الصادر عنهم قبل التحدي به ، بل قبل نزوله ، فإنهم لم يتحدوا بإنشاء مثله بل بالإتيان به فلهم بعد الصرفة الواقعة بعد التحدي ، أن يعارضوا القرآن بكلام مثله صادر عنهم قبل الصرفة)
5) القول بالصرفة يقتضي أنّ بلاغة العرب تعطّلت أو على الأقل تراجعت بعد وقوع التحدي والواقع خلاف ذلك فإنّ شعراءهم هم هم وخطباءهم كذلك وكلامهم الفصيح وأسلوبهم البديع والألفاظ المنمقة والمعاني الجليلة السامية بقيت هي هي لم يتغير من ذلك كلّه شيء ... ممّا يؤكد أنّ العجز واقع في أنفسهم وقدرتهم لمزية هذا القرآن وعلوّ شأنه وإعجازه في بلاغته ونظمه لا غير ... وإلى مثل هذا أشار القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ) : (لوكانوا ممنوعين من الإتيان بكلام فصيح ، أو قول بليغ ، لكان ذلك لا يختص بكلام دون كلام ، وأنه لو حصل ذلك في ألسنتهم ، لما أمكنهم الكلام المعتاد ، ولكن القوم ظلوا يتكلمون ، ويأتون بالقول الفني الممتاز ، ولم ينحدر مستوى بيانهم ، أو يهبط ، ولكنه كان - على علوه - ، لا يرقى الى مستوى القرآن .) وليس بعيد عن هذا قول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز : (البرهان الثالث : الرجع بالصرفة التي زعموها ، هو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ ، فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله ، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة في مدة يسيرة ، يدل على نقصان العقل ، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره ، فلو أصبح في بعض الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة ، لكان دليلا على فساد عقله وتغيره ، والمعلوم من حال العرب ، أن عقولهم ما زالت بعد التحدي بالقرآن ، وأن حالهم في الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل ، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة . ) ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) :( أنه يلزم على ادعائهم هذا ، أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ ، وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، - من بعد أن أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحدوا إلى المعارضة - قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وإذا كان الأمر كذلك ، وأنهم منعوا منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها ، لزمهم أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، ولو عرفوا لجاء عنهم ذكره ، ولكانوا قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا كنا نستطيع هذا قبل الذي جئتنا به ، ولكنك سحرتنا ، واحتلت علينا في شيء حال بيننا وبينه ، وكان أقل ما يجب عليهم في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوا البعض إلى البعض ، ويقولوا : ما لنا نقصنا في قرائحنا ..؟ وإذا كان ذلك لم يرد ، ولم يذكر إن كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، فهذا دليل على أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.)
6) لو عرض للعرب صارف منعهم من معارضة القرآن كما يدعيه القائلون بالصرفة لنقل وأثِر عنهم ذلك لوجود الدواعي فقد كانوا يجهدون أنفسهم ويبالغون في البحث عن شيء يعللون به رفضهم لدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان حتى , وما أيسر وأسهل أن يقولوا إننا قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن ولكن طرأ لنا كذا أو منعنا كذا أو أنّ سحر محمد حرمنا من بياننا وبلاغتنا ولكن كلّ ذلك لم ينقل لا لشيء إلاّ لأنه لم يقع أصلا والله أعلم ...يقول يحيى بن حمزة العلوي في الطراز ( إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها،لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأنْ يُميزوا بين أوقات المنع والتخلية. ولو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. ولو تذاكروه، لظهر وانتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دّلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة) وإلى مثل هذا أشار علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز
7) فإن قيل وقعت الصرفة دون أن يشعروا بها لزم من هذا القول أنّ حجة الله تعالى الواقعة بتحديهم لا تصحّ في حقهم بل لا بدّ من وقوع التحدي وأن يعلم المتحدي به ويتأكد من عجزه وجهة عجزه كذلك وإلاّ بطل الإعجاز أصلا
8) القول بالصرفة يقتضي أنّ الإعجاز فيها وفي قدرة الله الخارقة لا في القرآن الكريم الذي يفقد بذلك كلّ فضيلة وتميز على غيره من الكلام وهذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة التي تثني على القرآن الكريم وتؤكد على خصوصيته وتميزه عن سائر الكلام بما في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي الشريف ....وإلى هذا أشار الباقلاني في إعجاز القرآن بقوله : (إنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره.)
9) تعظيم العرب لبلاغة القرآن وإجلالهم وإكبارهم له رغم معارضته وكره أحكامه وحدوده وما جاء به ...والقصص في سيرته العطرة التي تثبت ذلك كثيرة فمنها ما رواه الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ..ويكف عنا..؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة ، والكمال في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أ مورا ، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا : جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تريد شرفا : سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا: ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالناحتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ، حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستمع إليه قال : أفرغت يا أبا الوليد ..؟ قال : نعم ، قال: فاسمع مني ، قال : أفعل ، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم - : [ بسم الله الرحمن الرحيم . حم. تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ] ثم مضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه السورة وعتبة ينصت إليه ، وهو ملق يديه خلف ظهره ، معتمدا عليهما ، حتى انتهى الرسول إلى السجدة ، ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ) ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس اليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ..؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : قد سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم .) وقصة إسلام عمر والطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنهما وتأثر خالد وعمرو بن العاص بالقرآن الكريم كلّ ذلك معروف مشهور في كتب السيرة يقول يحيى بن حمزة العلوي (749هـ) : (لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة - كما زعموه - ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته ، وحسن فصاحته - كما أثر عن الوليد بن المغيرة - حيث قال : إن أعلاه لمورق ، وإن أسفله لمعذق ، وإن له لطلاوة ، وإن عليه لحلاوة ، فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه ، فإنه يدهش عقله ، ويحير لبه ، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف ، وحسن مواقع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان ما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك ، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه ، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دل على فساد هذه المقالة .) وبمثل هذا استدلّ عبد القاهر الجرجاني على بطلان القول بالصرفة حيث يقول : (فمحال أن يعظموه وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون مايوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم ، لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة ، والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه ، بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : - إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنما نأتيك في غيره من المعاني بما شئت ، وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه )
10) لكلّ نبيّ معجزة تتوافق وطبيعة قومه وقدراتهم فموسى عليه السلام بعث في قوم كثر فيهم السحر وبعث كلّ من هود وصالح في قوم فتنوا بالتفاخر والتعالي في البنيان وبعث عيسى عليه السلام في قوم يحسنون الطب ويشتغلون به ــ وقيل غير ذلك ــ وبعث نبينا عليه الصلاة والسلام في قوم صناعتهم الكلام يقول ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ما نصه : ( وإنما يعرف فضل القرآن من كثُر نظره واتّسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة والبيان واتّساع المجال ما أوتيته العرب خِصيصَا [خِصيصَ] من الله لما أرهصه في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب فجعله عَلَمَهُ , كما جعل عَلَمَ كلّ نبيّ من المرسلين مِن أشبهِ الأمور بما في زمانهم المبعوث فيه : فكان لموسى فلق البحر واليد والعصا وتفجّر الحجر في التيه بالماء الروّاء على سائر أعلامه زمن السحر وكان لعيسى إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وغبراء الأكمه والأبرص إلى سائر أعلامه زمن الطبّ وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إلى سائر أعلامه زمن البيان ...) ويقول الجاحظ في حجج النبوة : ( بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم - أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشد ما كانت عدة ، فدعا اقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة ، وصار الذي يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية ، دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا ، وقتل من أعلامهم ، وعليائهم ، وأعمامهم ، وبني أعمامهم ، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحديا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف من نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خافيا .. إلى أن يقول : إن القرآن إذ تحداهم بالحجة ، ولم يقدروا على الإتيان بمثله عجزا منهم ووهنا ، لا تهاونا وتغافلا ، لأن الاتيان بمثل أصغر سورة منه كان كفيلا بأن يكفيهم قتل الأنفس والأولاد ، وأن التقريع بالعجز أشد على نفوس العرب ، والبدو خاصة ، لما فيهم من الأنفة والعزة ، فكيف والقرآن يتحداهم في أخص خصائصهم وهو البيان ، وهم قد عرفوا فيه بالبراعة والبلاغة ..؟ )
11) صرف الناس وحملهم قهرا على شيء معين من خصائص الله سبحانه وتعالى ولا يتحدى به إلاّ من ادّعى شيئا منها كما فعل إبراهيم عليه السلام مع النمرود في مسألة إحياء الموتى وشروق الشمس وغروبها أما العرب فهم مقرون بقدرة الله على الإحياء والإماتة والخلق والرزق ... وعلى الصرفة فلا يجوز أن يتحدون بما يقرون به أصلا ...
12) جميع المعجزات السابقة استمدت إعجازها من ذاتها كالعصا وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فما بال أعظم المعجزات لخلودها وعمومها ... تستثنى من هذا الأصل الذي يقدح فيها ينقص من قيمتها أمام باقي المعجزات بل أمام غير المعجزات حتى ... (الكلام البشري العادي)
13) إنّ إعجاز القرآن سببه إحاطة صاحبه بالعلم كلّه وعجز العرب عن الإتيان بمثله لأنّ علمهم محدود يقول ابن عطية (546هـ) ( ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن ، علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل ، والنسيان ، والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط محيطا ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه .
والصحيح : أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة ، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لايزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال فيها بعد ذلك مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد .)
14) من الأدلة على أنّ القرآن الكريم في مقدور البشر أن يأتوا بمثله أنّه متكون من الكلمات والجمل وقالوا أنّ القول بعدم القدرة على مثل كلماته تمحل ومكابرة وأنّ القدرة على الجزء تقضي القدرة على الكل لأنّ ما هو إلاّ مجموعة من الأجزاء .... وممّا قاله أبو القاسم الخوئي مفندا هذه المقولة : ( قالوا إن العارف باللغة العربية ، قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن ، وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن ، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد . الجواب : إن هذه الشبهة لا تليق بالذكر ، فإن القدرة على الإتيان بمثل كلمة من كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمثل جملة من جملاته ، لا تقتضي القدرة على الإتيان بمثل القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، فإن القدرة على المادة ، لا تستلزم القدرة على التركيب ، ولهذا لا يصح لنا أن نقول : إن كل فرد من أفراد البشر قادر على بناء القصور الفخمة ، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء ، أو نقول : إن كل عربي قادر على إنشاء الخطب والقصائد ، لأنه قادر على أن يتكلم بكل كلمة من كلماتها ومفرداتها، وكأن هذه الشبهة هي التي دعت(النظام) وأصحابه ، إلى القول بأن إعجاز القرآن بالصرفة ، وهذا القول في غاية الضعف...)
.... إلخ ...
ثانيا الأدلة التطبيقية العملية الواقعية :
لإبطال نظرية الصرفة وإثبات الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم من الناحية العملية التطبيقية ثلاثة طرق تتبع كلام العرب , النظر في بلاغة القرآن وأخيرا الوقوف على معارضات القرآن ومحاولات تقليده وإجابة تحديه ...
وسنكتفي في النقطة الأولى والثانية بمجرد إشارات ونحاول قدر الاستطاعة والتمكين التفصيل في النقطة الثالثة
1) أوّلا النظر في أضرب وأصناف كلام العرب من شعر وأمثال وخطب ... قبل وقوع التحدي وأثناءه وبعده ... ومحاولة مقارنة ذلك كلّه بالقرآن الكريم هل نجد في هذا الإنتاج الحافل والزاخر شيئا يماثل أو يشابه القرآن الكريم أو يصل ولو بدرجة قريبة إلى بلاغته وأحيل القارئ ها هنا إلى ما كتبه العلماء في هذا الموضوع وعلى رأسهم الجاحظ في الكثير من كتبه وخاصة البيان والتبيين فإنّه انتهج أسلوب التمثيل والمقارنة والموازنة بين التراث الأدبي العربي بل والعالمي كذلك في مقابل الأسلوب القرآني المعجز البليغ ... ومثله وبطريقة أعنف صنع الباقلاني في إعجاز القرآن لما راح يبحث في تراث أبلغ الشعراء ليبرز شطحاتهم ويظهر نقائصهم وترهاتهم في مقابل أسلوب القرآن الذي لا يعتريه نقص أبدا وسأكتفي في هذا المبحث بنقل كلام لأبي حيان الأندلسي (654هـ) يردّ به على القائلين بالصرفة افتتانا ببلاغة العرب وبيانها يقول عليه رحمة الله الواسعة : (اختلفوا فيما به إعجاز القرآن ، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها ، وتوغل في معارف الآداب وقوانينها ، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها ، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها ، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر ، ولا داخلة تحت القدر ، ومن لم يدرك هذا المدرك ، ولا سلك هذا المسلك ، رأى أنه من نمط كلام العرب ، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب ، فإعجازه عنده إنما هو بصرف الله تعالى إياهم عن معارضته ، ومناضلته ، وإن كانوا قادرين على مماثلته . والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف ، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء ، حين رأت زوجها يطأ جارية ، فعاتبته ، فأخبر أنه ما وطئها ، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن ، فأنشدها بيت شعر ذكر الله فيه ورسوله وكتابه فصدقته ، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق)
2) ثانيا النظر بتمعن وتفحص وعمق في بلاغة القرآن الكريم لنقف على نكته وأعاجيبه البيانية التي لا ولن يستطيعها الإنس والجنّ ولو اجتمعوا عليه ظهيرا ... وسأكتفي ها هنا بنقل نماذج من بلاغة القرآن ـ مع تسجيل ملاحظة مهمة هي كون القرآن كلّه بجميع آياته وأجزائه معجز وليس بعضه دون بعض ـ فهذه بعض الآيات نقف فيها على بعض نكتها
[ الكهف 18] إثبات الهيئة لا غير لأنّ الكلب ميّت والفعل يقتضي التجدد فلا يصلح مكانَ الاسم
• [مريم 4] فالإعجاز هنا ليس للاستعارة كما يقولون ولكن للترتيب فلو قلت (شيب الرأس) لما اشتمل جميع الرأس , أما هنا فمعنى الشمول والشيب أتيا كالقول : اشتعلت الدارُ نارًا
[يوسف 23] ولم يسمّها ويقل امرأة العزيز لتنزيه يوسف عن الفحشاء
للتفخيم والتهويل
العدول إلى الاسم الموصول للتهويل
هنا استعمل اسم الإشارة للتحقير
• [العصر2]
• •• [البقرة 96] الحياة هنا نكرة لتفاهتها
[البقرة179] تنكير الحياة هنا معناه حياة عظيمة لأنها يرتدع فيها القاتل فتخلو الحياة من القتل
• [طه 18]
[يوسف 18] أي فأمري وأمركم صبر جميل اعتمادا على الحال وتعويلا على دلالة الموقف بينه وبين أولاده
فهذه بعض النماذج ولمن أراد المزيد أن يعود إلى مظان المسألة ....
3. ثالثا تتبع معارضات القرآن الكريم :
وهذا هو الذي يهمنا في هذا البحث وهو الذي سنركز عليه أكثر باعتباره يردّ ردّا مباشرا على القائلين بالصرفة , فإذا كان النظّام وأصحابه يزعمون أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم فإنّنا في هذا المبحث نثبت خلاف ذلك وهو أنّ العرب والعجم كذلك قد عارضوا القرآن وحاولوا إجابة التحدي ولكنهم لم يستطيعوا أن يبلغوا مبلغه ويصلوا إلى بيانه وفصاحته ....
ما المقصود بالمعارضة ؟
قال السبحاني في الإلهيات : (معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً، يجي الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين،فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق...)
ولعل في المعارضات والموازنات التي تقع بين شعراء العرب وخطبائهم وبلغائهم بعيدا عن الحديث عن القرآن الكريم وإعجازه ما يبيّن ويوضح ذلك أتمّ توضيح
كالموازنة بين شعر النابغة وامرؤ القيس في وصف الليل وما يحمله من الحزن والهموم أو كنقائض الشعر الأموي أو الموازنة بين شعر البحتري وأبي تمام فإنّ الموازنة والمعارضة في جميع ذلك تقع على مستوى الألفاظ والتركيب والمعاني وغيرها ... أما أن يعارض بتكرار ألفاظ القرآن بمعان وأفكار مستقبحة أومعان القرآن الجليلة بألفاظ غريبة أو رديئة .فهذا لا يسمى معارضة بل تقليد على مستوى استعمال الألفاظ أو اقتباس على مستوى استعمال المعاني
وأذكر ها هنا نموذجين للمعارضات والموازنات بين بعض الشعراء حتى نعتمد نفس الطريقة في الحكم على من عارض القرآن وزعم أنّه أتى بما يماثله ــ زعمًا ــ
المثال الأوّل : بين النابغة وامرئ القيس :
يقول الأوّل :
كِليني لهمّّ يا أمَيمةُ ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
تطاولَ حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجومَ بآيبِ
وصدرٍ أراح الليلُ عازبَ همّه تضاعفَ فيه الحزنُ من كلّ جانبِ
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف معلقا على هذه الأبيات : (... فهو محزون في أوّل القصيدة يخاطب ابنته أمامة ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع في قبضة الغساسنة من أسرى قومه , ونراه يصور الليل وهمّه فيه تصويرا بديعا , فالكواكب بطيئة لا تجري , حتى ليظنّ أنّ الصبح الذي يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدا لن يؤوب , والليل يثقل على صدره بما يردّ عليه من موجات الهمّ والحزن , وهي براعة استهلال رائعة تدلّ دلالة بيّنة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسّم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرا واضحا مستقيما بالصور ....)
ويقول امرؤ القيس في نفس الموضوع :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بصلبه وأردفَ أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فيالك من ليلٍ كأنّ نجومه بكلّ مُغارِ الفتلِ شُدّت بيذبُل
كأنّ الثُريا عُلّقت في مصامها بأمراس كَتّانٍ إلى صمِّ جندل
يقول الأستاذ شوقي ضيف :( فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي , ويحس كأنه طال وأسرف في الطول حتى ليظنّ كأنّ نجومه شدّت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهي لا تتحرك ولا تزول و كأنّما سمّرت في مكانها , فهي لا تجري ولا تسير , وقد ردّد الشعراء بعده هذا المعنى طويلا ...)
وفي الموازنة بين الشاعرين وشعرهما يقول السحباني ما نصّه : (فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصاً قوله: «وصدر أراح الليلُ عازب همّه». وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة.إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة، وحسن التشبيه، وإبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحب الوثيقة، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل [المفاضلة] بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما ....)
المثال الثاني : بين جرير وأبي نواس
يقول الأوّل : إذا غضِبتْ عليك بنو تميم حسبتَ الناسَ كلّهم غضابا
ويقول الثاني : ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالَم في واحد
انظر كيف جعل جرير من بني تميم الناس كلّهم حين يغضبون لشدّة هول هذا الغضب ووقع أثره على المغضوب عليه ثمّ انظر كيف زاد أبي نواس عليه زيادة رشيقة بديعة فهو لم يجمع الناس في قبيلة كما صنع جرير بل رجلٌ واحد يجمع عنده العالَم كلّه "فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام "
وننتقل الآن لسرد نماذج من المعارضات التي زعم أصحابها أنّهم تحدوا بها القرآن وأتوْا بمثله
أ- مسيلمة الكذاب : مسيلمة بن حبيب الكذّاب ادّعى النبوة باليمامة وزعم أنّ الله أشركه في الأمر مع محمد صلى الله عليه وسلم فجعل لكلّ منهما نصف الأمر ... ممّا عارض به القرآن وحاول محاكاته قوله :
( لقد أنعم الله على الحبلى , أخرج منها نسمة تسعى , بين صِفاق وحَشَى ) وفي رواية (ألم تر كيف فعل ربّك بالحبلى...) والصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن وهو الذي إذا انشقّ كان منه الفتق
(الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ...)
ياضفدع يا بنت ضفدعين , نقي ما تنقين , نصفك في الماء ونصفك في الطين , لا الماء تكدّرين , ولا الشارب تمنعين...)
( والمُبذرات زرعا , والحاصدات حصدا, والذاريات قمحا, والطاحنات طحنا , والعاجنات عجنا , والخابزات خبزا, والثاردات ثردا, واللاقمات لقما , إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر , وما سبقكم أهل المدر , ريفكم فامنعوه , والمعتر فآووه والباغي فناوئوه...)
( والشاء وألوانها , وأعجبها السود وألبانها , والشاة السوداء , واللبن الأبيض , إنّه لعجب محض , وقد حرم المَذق فما لكم لا تمجعون...) المذق : مزج اللبن بالماء والمجمع: اللبن يشرب بالتمر أو يعجن به قال الأستاذ محمد سعيد العريان معلقا على هذا الكلام : (...ولعمر الله ما ندري أكان هذا القرآن ينزل على قلب مسيلمة أو على معدته ... أو كان بين قومٍ جياع فتأثيره أن يسيل لعابهم ...!)
وكلامه هذا في غاية الحماقة والسقط يُعرب عن كذب الرجل وجهله بل وعن مكابرته للحقّ الفاضحة ... يروى عن الأحنف بن قيس أنّه دخل مع عمّه على مسيلمة الكذّاب بعد أنِ ادّعى النبوة فلمّا خرجا سأل الأحنف عمّه : كيف وجدته أو رأيته فأجابه : ( ليس بمتنبئ صادق ولا بكذّاب حاذق )
قال السحباني معلقا على كلام مسيلمة ومقارنا بينه وبين كلام الله عزّوجلّ: (...فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى : "الحاقّة ما الحاقّة وما أدراك ما الحاقّة..." وقوله: "القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة.." ثم ما أتبع قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله: "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش..." فإين هو من قول القائل "الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل" فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مقدمة لأمر عظيم الشأن متناه الغاية , فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذنب والمشفر , ويتصور أنه تحققت المعارضة ...)
ب- طلحة بن خويلد الأسدي : كان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي فمن كلماته التي عارض بها القرآن :
( إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم , وقبح أدباركم شيئا . فاذكروا الله قياما , فإنّ الرغوة فوق الصريح) فنسخ ـ زعما ـ بكلامه هذا الركوع والسجود في الصلاة ولم يبق فيها سوى القيام
( والحمام واليمام , والصرد الصوام , ليبلغ ملكنا العراق والشام)
ت- سجاح بنت الحارث : من بني تغلب القبيلة النصرانية المعروفة ادّعت النبوة وعارضت القرآن بما زعمته يوحى به إليها , فمن نماذج ذلك :
(...إنّه الوحي , أعدّوا الركاب , واستعدوا للنهاب , ثمّ أغيروا على الرباب , فليس دونهم حجاب ...)
وممّا قالته وهي متوجهة لقتال مسيلمة الكذاب (عليكم باليمامة , ودقوا دفيف الحمامة و فإنها غزوة صرامة , لا يلحقكم بعدها ندامة ...)
(يا أيها المؤمنون المتقون , لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون ...)
ث ـ الأسود العنسي : من أهل اليمن كان معروفا بالفصاحة والكهانة والسجع ممّا يؤثر عنه قوله :
( سبح اسم ربّك الأعلى , الذي يسر على الحبلى , فأخرج منها نسمة تسعى , من بين أضلاع وحشى , فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى , ومنهم مي يعيش ويبقى ...)
ج- ابن المقفّع (145هـ) : كان مجوسيا وأسلم أو ادّعى الإسلام كما يقول البعض قيل أنّه عارض القرآن بكتابه (الدرة اليتيمة) وهو مطبوع متداول وليس فيه شيء ينص ويدلّ على ذلك بل جلّ ما فيه حكم الفرس والهند وكثير من حكم علي رضي الله عنه مدوّنة فيه وغير منسوبة إليه ... وقيل أنه عارض القرآن وكتب فيه الشيء الكثير ولكنه مزّق ذلك كلّه لما بلغ قوله تعالى : [هود 44] وقال : هذا الكلام لا يستطيعه البشر...
ح- ابن الراوندي : أبو الحسن أحمد بن يحيى (293هـ وقيل غير ذلك) قيل أنّه عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) وممّا قاله المعري في انتقاد هذا الكتاب والردّ عليه قوله في رسالة الغفران : (.. وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا ... وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : أفٍّ وتُفّ وجوربٌ وخفّ . قيل: وما جورب وخف؟ قالت: واديان بجهنّم )
خ- المتنبي (354هـ) : تنبأ وفي عمره سبعة عشر عاما ببادية السمَّاوة بين الكوفة والشام وقد تبعه قوم كُثر ثم ما لبث أن عاد إلى رشده وممّا يؤثر عنه قوله : (والنجم السيّار , والفلك الدوّار , والليل والنهار , إنّ الكافر لفي أخطار , امض على سُنّتِك , واقْفُ أثر من قبلك من المرسلين , فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من ألحد في دينه وضلّ عن سبيله ...)
د- أبو العلاء المعري (449هـ) : زعموا أنّه ألف كتابا في معارضة القرآن سمّاه (الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات) ممّا جاء فيه قوله : ( أقسم بخالق الخيل , والريح الهابّة بليل , بين الشرط مطلع سهيل , إنّ الكافر لطويل الويل , وإنّ العمر لمكفوف الذيل , تَعَّدَ مدارج السيل , زطالع التوبة من قبيل , تنج وما إخالك بناج .) قال الأستاذ الرافعي معلقا على هذا الكلام المسجوع لا غير: ( فلفظة "ناج" هي الغاية , وما قبلها فصل مسجوع , فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية , وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم , لأنّها تأتي خواتم لآياته , فكأن المعارضة نقضٌ للوضع ومجاراة للموضوع , وكأنها صنعة وطبع .)
شبهة 1: زعموا أنّ العرب في زمن النبوة عارضوا القرآن بسور وربما بكتب ولكن صولة الإسلام وقوة دولته أخفت ذلك كلّه ومحته عن الوجود حتى لا يصلنا شيء منه
والجواب أنّه رجم بالغيب وتخيّل مناف للمنهج العلمي يحتاج إلى أدلة ونقول تثبته
يقول السحباني في الردّ على هذه الشبهة : (إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا على غيرهم. كيف، وإن الإتيان بمثل معجزته،يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم.)
ويقول الخوئي : (إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها،وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيدا ًيوقعونه في كل مجلس، وذكراً يرددونه في كل مناسبة، وعَلَّمَه السلف للخلف، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعي على حجّته، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف.كيف، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة..)
وممّا قاله الإمام الخطابي مفندا هذا الزعم الباطل قوله : (إنّ هذا السؤال ساقط , والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأمور التي لها شأن وللنفوس بها تعلق , وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب , وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظم خطره , وجلالة قدره , لجاز أن يقال إنه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد , وتنزّلت عليهم كتب من السماء وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة , وكتم الخبر فيها فلم يظهر , وهذا ممّا لا يحتمله عاقل ...)
شبهة 2 أنّ الذين أقدموا على معارضة القرآن هم سفلة القوم وجهلتهم لهذا جاءت هذه المعارضات بهذا الشكل الهزيل ولو تقدم لهذا الأمر فصحاء العرب وحكمائهم لأتوا بمثل القرآن أو بما هو أفضل منه
شبهة 3 حول الشعور بشيء من الاستهزاء والتفكّه والتحقير في هذه المعارضات
قد يقول القائل حين نستعرض لمثل هذه المعارضات التافهة "يحتمل أن تكون هذه المعارضات من اختلاق وصنع المسلمين حتى يتفكهون على المعارضين ويثبتون الإعجاز والتقدم للقرآن الكريم" والجواب على هذا من وجوه : أوّلها أنّ القرآن الكريم لا يحتاج إلى الكذب والافتراء لإثبات إعجازه لأنّ الواقع يثبته سواء عن طريق أسلوب المماثلة والموازنة بينه وبين كلام البشر أو عن طريق استقصاء الأساليب القرآنية المعجزة في بلاغتها أو غيرها من الطرق والأساليب العلمية المنهجية المثبتة لبلاغة القرآن المعجزة ... ثانيا هذا الذي زعموه إدّعاء يحتاج إلى دليل فلا يكفي في مجال البحث العلمي مجرد الرمي والقذف بالغيب خاصة وأنّ المسلمين قد ذكروا من الشبه التي رُمي بها الإسلام الشيء الكثير فلما يعدلون عن منهجهم الذي أثبته استقراءُ كتبهم ومؤلفاتهم التي لا تعدّ ولا تحصى إلى هذا الذي يدّعونه من اختلاق هذا الكلام لأجل التفكّه .ثمّ إنّ الكذب على الغير ــ ولو كافرــ محرم في شريعة الإسلام ... ثالثا ــ وهي النقظة المهمة في الردّ على هذه الشبهة ــ إذا كان سبب هذا الذي زعموه ركاكة وتفاهة هذه المعارضات فكأنّهم استغربوا أن تصدر من عاقل حكيم ندب نفسه لشيء عظيم كمعارضة رسالة الإسلام وكتابه القرآن... والسبب الحقيقي وراء هذا الاستغراب ليس ركاكة ألفاظها وبداءة معانيها ــ وإن كان فيها شيء من ذلك ــ ولكن السبب الحقيقي هو المقارنة والموازنة الواقعة بين هذه المعارضات البشرية الناقصة وبين كلام الله عزّ وجلّ البديع الكامل المعجز , فهذه المعارضات ــ مهما قيل ــ شبيهة تمام المشابهة بسجع الكهان الذي كان منتشرا في جاهلية العرب كقول سَلِمة بن أبي حَيّة المعروف بعزّى سَلِمة وهو كما قال الجاحظ أكهن العرب وأسجعهم : (والأرض والسماء , والعقاب والصقعاء , واقعة ببقعاء , لقد نفّر المجدُ بني العُشَراء للمجد والسناء...) ومنه قول زبراء كاهنة بني رِئام تنذرهم غارة (واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنّجم الطارق والمزن الوادق إنّ شجر الوادي ليأدو خَتلا ويحرِق أنيابا عُصْلا , وإنّ صخر الطّود ليُنذِر ثُكلا , لا تجدون عنه مَعْلا ...) ولا فرق بين هذا الكلام ومعارضات مسيلمة وغيره من العرب القدماء من حيث بناؤه وتركيبه ومن حيث سجعُه وغريبُ لفظه ... إلاّ فيما يشعر به القارئ وهو يردّد كلاّ منهما فإذا كان الأثر الذي يتركه سجع الكهان هو الاستغراب وربّما الاستطراف أحيانا والاستعذاب فإنّ كلام مسيلمة وهو بنفس الطريقة والأسلوب يترك هذا الشعور بالاستهزاء والتفكه والتحقير ... لا لشيء إلاّ لأنّ القارئ والسامع يضعه ــ وضع مقارنة ــ في مقابل كلام الله الكامل والمعجز ...
وللتّأكد من هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن ينكرها أحد للننظر في بعض كلام العرب القديم قبل نزول القرآن أي قبل وقوع التحدي والصرفة ؛ الكلام الذي جاء فيه شيء من مواضيع القرآن الكريم كالحديث عن اليوم الآخر ونبذ الشرك وعبادة الأصنام وغيرها من المواضيع دون أن يقترن هذا الكلام بمعارضة القرآن ومجابهته
فمن ذلك شعر أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
لك الحمد والنّعماء والملك ربّنا فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدا
ومنه قوله يصف الملائكة بين يدي الله سبحانه وتعالى :
ملائكة أقدامهم تحت عرشه بكفَّيه لولا الله كلُّوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانين تحته فرائصهم من شدّة الخوف تُرْعَدُ
وسِبْطُ صفوف ينظرون قضاءه يُصيخون بالأسماع للوحي رُكّد
أمينٌ لوحي القدس جبريل فيهمُ وميكالُ ذو الروح القويّ المسدّدُ
وحُرّاس أبواب السماوات دونهم قيام عليها بالمقاليد رُصّدُ
ومنه قول زيد بن عمرو مخاطبا قومه: (يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيرالله ؟) ومن رائق شعره قوله :
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له الأرض تحملُ صخرا ثِقالا
دحاها فلمّا رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمتُ وجهيَ لمن أسلمتْ له المُزنُ تحمل عذبا زُلالا
إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصُبّت عليها سجالا
ويقول قس بن ساعدة خطيب الجاهلية : (أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكلّ ما هو آت آت ...) ومن شعره
في الذاهبين الأوّلــــ ينَ من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
أيقنت أني لا محـــا لة حيث صار القوم صائر
ولورقة بن نوفل قوله :
لقد نصحتُ لأقوام وقلتُ لهم أنا النذير فلا يغرركم أحدُ
فهذا الكلام وهذه الأشعار جميعها في غاية الجمال ومنتهى الحسن ولكن هل تبلغ مبلغ القرآن الكريم ؟ وهل تصل إلى فصاحته وبلاغته ؟ أبدا لن تدرك ذلك !!! ولم يقل أحد بذلك !!! لا قائلوها ممّن أدرك الإسلام كورقة بن نوفل الذي أسلم أو أمية بن أبي الصلت الذي كفر... ولا العرب وهم أحوج ما يكونون يومها لتقديم مثل هذا الكلام لمعارضة كلام الله ... فالقرآن لم يطلب منهم الإنشاء بل مطلق الإتيان والإنشاء يقتضي الجِدّة بينما الإتيان يجزئ فيه القديم كذلك ...
ثم لننظر في وقع هذا الكلام على النفوس هل يستوجب الاستهزاء والتفكّه والتحقير كما هو الشأن في جميع معارضات القرآن ؟ لا وإنّما يجد الواحد منّا في نفسه وهو يقرأ مثل هذا الكلام شيئا من التعظيم والتقديس والاتعاظ كذلك , ولكنه لا يبلغ مبلغ كلام الله عزّ وجلّ ولا سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقد يجعله المتساهل منّا في منزلة كلام الوعاظ من علماء الإسلام كالحسن البصري وابن الجوزي ... وأخيرا لنسأل السؤال المتعلق بمبحثنا لما لم يستوجب هذا الكلام الاستهزاء والتفكّه والتحقير ؟ السبب هو ببساطة عدم مقابلته مع كلام الله عزّ وجلّ واعتقاد أنّ صاحبه يدّعي أنّ كلامه هذا يوازي القرآن الكريم
نقطة أخرى تؤكّد أنّ معارضة كلام البشر الناقص لكلام الباري الكامل والمعجز هي التي استوجبت هذا الشعور الذي لا يفارق معارضات القرآن عبر مختلف الأزمان ... إنّنا إذا نظرنا في النصوص العربية الإسلامية الشعرية منها والنثرية نجدها معبّأة بالاقتباس من كتاب الله عزّ وجلّ ونلاحظ أنّ هذا الاقتباس ــ وهو شبيه إلى حدٍّ بعيد بما يفعله المعارضون ــ يزيد النصّ جمالاً من جهة الألفاظ المستعملة والتي تترك في النفس أثراً بليغًا ووقعا جميلاً كما تزيده قوّة وتوثيقا من جهة الأفكار والمعاني المقتبسة
سأنقل ها هنا نماذج لشاعر معاصر يكثر من الاقتباس القرآني إلى درجة أنّه يستعمل في كثير من الأحيان آيات كاملة وأجزاء كبيرة منها في أشعاره وهو الأستاذ أحمد مطر :
يقول في قصيدة قلّة أدب :
قرأتُ في القرآنِ
"تبّت يدا أبي لهب "
فأعلنت وسائل الإذعانِ
"إنّ السكوت من ذهب"
أحببتُ فقري ...لم أزل أتلو :
"وتبّ
ما أغنى عنه ماله وما كسب"
فصودرت حنجرتي
بجرم قلّة الأدب
وصودر القرآن
لأنّه حرضني على الشغب
وفي قصيدة له بعنوان : فبأيّ آلاء الشعوب تكذبان
غفتْ الحرائق...
أسبلت أجفانها سحب الدخان
الكلّ فان
لم يبق إلاّ وجه ربّك ذي الجلال واللجان
ولقد تفجرَ شاجبا ومنددا ولقد أدان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان !
وله الجواري الثائرات بكلّ حان
وله القيان
وله الإذاعة
دجن المذياع لقّنه البيان
الحقّ يرجع بالربابة والكمان
فبأيّ آلاء الولاة تكذبان
وله أيضا :
والعصر...
إنّ الإنسان لفي خسر
في هذا العصر
فإذا الصبح تنفس
أذّنَ في الطرقات نباحُ كلاب القصر
قبل أذان الفجر
وانغلقت أبواب اليتامى ...
وانفتحت أبواب القبر
والأمثلة والشواهد كثيرة وما يهمنا منها هو رغم هذا الاقتباس الكثير من القرآن ورغم هذا التشابه الكبير مع المعارضات التي سبق ذكرها فإننا لا نجد هذا الشعور بالفكاهة والاستهزاء والتحقير الذي نجده في المعارضات السبب هو عدم مقابلتها بالقرآن الكريم ...