د. محي الدين غازي
New member
الحذف والاختصار هو نهج التنزيل في غرابة نظمه على حدّ تعبير الزمخشري[1] ،ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمّى بالتضمين كما قال ابن عاشور [2] .وهو في اللغة كثير لا يكاد يحاط به ، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما .كما يدّعي ابن جنّي[3]رحمهم الله جميعا.
ما هو التضمين ؟
التضمين الذي نحن بصدده قد لانجد له ذكرا في كتب التعريفات ومعظم كتب المعاجم ، وقد ذكرت كتب التعريفات واللغة وإعجاز القرآن التضمين بمعان أخرى لاعلاقة لها بهذا المبحث . وسوف أذكر فيما يلي بعض ما وقفت عليه في تعريف التضمين .
· تعريف ابن جنّي :إنّ العرب قد تتّسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه ، إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ،فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه .[4]
تعريف العز بن عبد السلام : هو أن يضمن اسم معنى آخر لإفادة معنى الاسمين فيعديه تعديته في بعض المواضع ...ويضمن معنى فعل فيعديه تعديته في بعض المواضع .[5]
تعريف ابن هشام : قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه .ويسمّى ذلك تضمينا . وفائدته أن تؤدّي كلمة مؤدّى كلمتين .[6]
تعريف الزركشي : هو إعطاء الشئ معنى الشئ وتارة يكون في الأسماء ، وفي الأفعال وفي الحروف ، فأمّا في الأسماء فهو أن تضمّن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا ، كقوله تعالى : حقيق على ألاّ أقول على الله إلاّ الحق .ضمّن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق بقول الحقّ وحريص عليه . وأمّا الأفعال فأن تضمّن فعلا معنى فعل آخر ، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا وذلك بأن يكون الفعل يتعدّى بحرف فيأتي متعدّيا بحرف آخر ليس من عادته التعدّي به ، فيحتاج إمّا إلى تأويله أو تأويل الفعل ، ليصحّ تعديه به [7].
تعريف ابن عاشور : التضمين أن يضمّن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمّن بذكر ماهو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان .[8]
تعريف الفراهي ( وقد اختار مكان التضمين ، اختلاف الصلة والفعل ) : هو أن تأتي بصلة للفعل على خلاف معناه ، وذلك بأن تضمر مع الفعل فعلا آخر وتدل بالصلة حسب هذا الفعل المضمر .كما تقول : قمت إليه ، أي قمت ومشيت إليه.[9]
المقارنة والتحليل : نلاحظ في تعريف الجميع غير الفراهي أن التصرف حاصل في نفس الكلمة اسما كان أو فعلا فهي بنفسها تؤدّي معنى كلمتين بينما الملاحظ في تعريف الفراهي أنّ التصرف حصل في الجملة والتركيب وليس في دلالة الكلمة فليس هناك إشراب اللفظ معنى لفظ آخر وإنّما إضمار لفظ مع اللفظ المذكور فالجملة هي التي تؤدّي معنى اللفظين ، المذكور والمضمر ، وليست الكلمة . وابن عاشور وإن اختار لفظ التضمين إلاّ أنّه أيضا يرى أنّ حصول التعدّد في المعنى إنّما هو في الجملة وليس في اللفظ .
ويترتّب على ذلك خلاف آخر وهو أنّ هذا الأسلوب هل يعدّ من مجاز اللفظ أو هو من حذف في التركيب . فعلى التعريف الشائع هو من المجاز اللفظي . يقول الزركشي : والتضمين أيضا مجاز ، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه التضمين ، تفرقة بينه وبين المجاز المطلق .ويقول آخر : إن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز ، لدلالة المذكورة على معناه بنفسه وعلى المحذوف بقرينة .[10]
بينما على مذهب الفراهي هو من باب الحذف ولذا يذكره في باب الحذف يقول : ومن مواقع الحذف : حذف ما يتعلّق به الجار فيقدّر مايدلّ عليه الجار .[11] وهو ما نراه عند ابن عاشور حيث يقول : وهو يرجع إلى إيجاز الحذف [12].
وأرى أنّ موقف الفراهي يدعو إلى إعادة النظر في قضية التضمين وتحديد حقيقته. وسوف يكون له دور في حلّ قضيّة أثارها الزركشي حيث قال : وأمّا الأفعال فأن تضمن فعلا معنى فعل آخر ، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا ، وذلك بأن يكون الفعل يتعدّى بحرف ، فيأتي متعدّيا بحرف آخر ليس من عادته التعدّي به ، فيحتاج إمّا إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصحّ تعدّيه به . واختلفوا أيّهما أولى ؟ فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف وأنّه واقع موقع غيره من الحروف أولى . وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدّى لتضمنه معنى ما يتعدّى بذلك الحرف أولى ، لأنّ التوسع في الأفعال أكثر .[13]
فإذا أخذنا بتعريف الفراهي فسوف نخرج من هذه الحيرة بسلامة وقناعة .فلا حاجة إلى تأويل الحرف والتوسع فيه كما أنه لا حاجة إلى تأويل الفعل والتوسع فيه .
موقف بعض المفسرين والمعربين من التضمين :
هنا أودّ أن أعرض مواقف بعض المفسرين والمعربين من حيث تعاملهم على صعيد التطبيق ، وقد اخترت منهم ثلاثة لما يوجد عندهم من تصريحات تجاه القضية وعناية خاصة بالأمر ، ولا سيما في إطار إعراب القرآن الكريم .
الزمخشري : يعدّ الزمخشري من الموسّعين في القول بالتضمين والمعجبين بهذا الأسلوب فقد قال في قوله تعالى (ولا تعد عيناك عنهم)- الكهف 28- : فإن قلت : أيّ غرض في هذا التضمين ، وهلاّ قيل : ولاتعدهم عيناك أو لا تعل عيناك عنهم ؟ قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذّ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولاتقتحم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم ، ونحوه قوله تعالى : (ولاتأكلوا أموالهم إلى أموالكم )- النساء 2- أي ولا تضمّوها إليها آكلين لها .[14]
ونلاحظ أنّ الزمخشري يكثر من تقدير التضمين ، ولم أجد موضعا في تفسيره ردّ فيه القول بالتضمين كما فعل غيره من أمثال أبي حيّان كما سيأتي .
أبوحيان : موقف أبي حيان من التضمين لا يخلو من تناقض فإنّه في جهة لايجيز التضمين إلا عند الضرورة فيقول معلّقا على تقرير الزمخشري المذكور آنفا:وما ذكره من التضمين لاينقاس عند البصريين وإنّما يذهب إليه عند الضرورة ، أمّا إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنّه يكون أولى [15].وردّ على أبي البقاء في إجازته تضمين مكّنّا معنى أعطينا في قوله تعالى ( مكّنّاهم في الأرض مالم نمكّن لهم )-الأنعام 6- بأنّ التضمين لا ينقاس [16]. وقال في موضع : لكن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلاّ عند الضرورة ، ولا ضرورة هنا تدعو إليه .[17]
فهذه التعليقات من أبي حيّان وهي كثيرة في تفسيره جديرة بأن تجعله في عداد المقلّين بالقول بالتضمين ولكن الأمر ليس كذلك فهو نفسه في جانب آخر يقول : والتضمين أبلغ ، لدلالته على معنى الفعلين .[18] وهو في الواقع من المكثرين بالقول به ، ونراه في مواضع عديدة يختار القول بالتضمين مع أنّ الزمخشري وغيره ذهبوا مذهبا آخر في تلك المواضع .فعلى سبيل المثال :
ذهب الزمخشري في قوله تعالى ( ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة )-البقرة 195- إلى زيادة الباء[19] بينما اختار أبوحيان القول بالتضمين .[20]واختار الزمخشري في قوله تعالى ( واتبعوا ماتتلو الشّياطين على ملك سليمان )-البقرة 102- أن على ظرفية بمعنى في [21] بينما اختار أبوحيّان أن تتلو مضمّن معنى تتقوّل . [22] وقدّر أبوالبقاء في قوله تعالى ( وأصلح لي في ذرّيّتي )-الأحقاف 15- أنّ في هنا ظرف ، أي اجعل الصلاح فيهم[23] . بينما قدّر أبوحّيان تضمين الطف بي في ذرّيّتي .[24]
فموقف أبي حيان تجاه التضمين أحيانا يكون شديدا وأحيانا يكون رحبا وتفسير هذا الأمر يقتضي دراسة شاملة .
ابن هشام الأنصاري : يرى ابن هشام أنّ التضمين من الأساليب الشائعة في العربية ، ولعله بذلك يستدرك على أبي حيّان القائل بأنّه ليس بقياس ولا يصار إليه إلاّ عند الضرورة . وقد ذكر ابن هشام له أمثلة كثيرة من القرآن الكريم وقد انتقد على من لم يقدّر التضمين في قوله تعالى ( للّذين يؤلون من نسائهم )-البقرة226- بقوله : أي يمتنعون من وطء نسائهم بالحلف ، ولمّا خفي التضمين على بعضهم في الآية ورأى أنّه لايقال حلف من كذا بل حلف عليه ، قال : من متعلّقة بمعنى للّذين كما تقول لي منك مبرّة .[25]
إلاّ أنّ لي هنا استدراكا على ابن هشام ، فإن القائل بأنّ من هنا يجوز أن تكون متعلّقة بمعنى للّذين هو الزمخشري وقد أجاز التضمين المذكور أيضا في الآية ،[26] فلا شكّ أنّه لايقال أنّ التضمين قد خفي عليه .
وابن هشام ربّما يردّ القول بالتضمين ولكن ليس مستندا إلى الاستدلال بكونه لاينقاس كما يفعله أبوحيّان ولكن على أساس مايلاحظ فيه من تكلّف لايليق بأفصح الكلام . يقول في قوله تعالى : ( مكّنّاهم في الأرض مالم نمكّن لكم )- الأنعام 6- : فما محتملة للموصوفة أي شيئا لم نمكّنه لكم ، فحذف العائد ، وللمصدريّة الظرفيّة ، أي أنّ مدّة تمكّنهم أطول ، وانتصابها في الأوّل على المصدر وقيل على المفعول به على تضمين مكّنّا معنى أعطينا، وفيه تكلّف .[27]
وهنا نلاحظ أنّ موقف ابن هشام يمتاز بالقوّة والقناعة فما دام أسلوب التضمين شائعا جاريا في العربية وفي التنزيل وما دام أنّه من أساليب الإيجاز الّذي يمثّل منهج القرآن فلا مانع من التوسّع في تقديره مادامت الفصاحة لاتأباه [28] وأحبّ أن يكون ختام هذا العرض الموجز وصية من علم النحو العربي ابي الفتح ابن جنّي حيث قال بصدد التضمين: فإذا مرّ بك شيء منه فتقبّله وأنس به فإنه فصل من العربية لطيف ، حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها .[29]
الهوامش
[1] تفسير الكشاف للزمخشري 4/187 . مكتبة مصطفى بابي الحلبي
[2] تفسير التحرير والتنوير 1/123 لمحمد الطاهر بن عاشور . الدار التونسية للنشر .
[3] الخصائص 2/310 لأبي الفتح عثمان بن جني .دار الكتاب العربي .
[4] الخصائص 2/308
[5] كتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز ص 74 لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام
[6] مغني اللبيب ً897 لجما ل الدين ابن هشام الأنصاري . دار الفكر .
[7]البرهان في علوم القرآن لمحمد بن عبد الله الزركشي 3/338 دار إحياء الكتب العربية
[8] التحرير وللتنوير 1/123
[9] أساليب القرآن 53
[10] إعراب القرآن وبيانه 2/518 لمحي الدين الدرويش . دار ابن كثير
[11] أساليب القرآن ص 53
[12] التحرير والتنوير ص 1/123
[13] البرهان 3/339 وأرى أن استدرك هنا على الزركشي فإنه يبدو من كلامه أن الناس انقسموا إلى فئتين تجاه القضية . بينما نشاهد جليا في صنيع أمثال الزمخشري وابن هشام وأبي حيان أنهم أحيانا يتوسعون في الحروف وأحيانا يذهبون إلى التضمين في الأفعال .
[14] الكشاف 2/ 481
[15] تفسير البحر المحيط 6/119 لأبي حيان الأندلسي . دار الفكر .
[16] المرجع نفسه 1/ 349
[17] المرجع نفسه 4 / 129 نقلا عن دراسات لأسلوب القرآن الكريم لعبد الخالق العضيمة 3/2/246
[18] المرجع نفسه 5/ 280 نقلا عن الدراسات 3/2/246
[19] الكشاف 1/ 343
[20] البحر المحيط 2/71
[21] الكشاف 1/301
[22] البحر المحيط 1/ 326
[23] التبيان في إعراب القرآن 2/1156 لأبي البقاء العكبري . مكتبة ابن تيمية .
[24] البحر المحيط 8/61
[25] المغني ص 898
[26] الكشاف 1/363
[27] المغني 416
[28] قد جمع الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة أمثلة كثيرة للتضمين في القرآن الكريم ، في كتابه الموسوعي دراسات لأسلوب القرآن الكريم 3/2/246 وما بعدها .
[29] الخصا ئص 2/310
ما هو التضمين ؟
التضمين الذي نحن بصدده قد لانجد له ذكرا في كتب التعريفات ومعظم كتب المعاجم ، وقد ذكرت كتب التعريفات واللغة وإعجاز القرآن التضمين بمعان أخرى لاعلاقة لها بهذا المبحث . وسوف أذكر فيما يلي بعض ما وقفت عليه في تعريف التضمين .
· تعريف ابن جنّي :إنّ العرب قد تتّسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه ، إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ،فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه .[4]
تعريف العز بن عبد السلام : هو أن يضمن اسم معنى آخر لإفادة معنى الاسمين فيعديه تعديته في بعض المواضع ...ويضمن معنى فعل فيعديه تعديته في بعض المواضع .[5]
تعريف ابن هشام : قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه .ويسمّى ذلك تضمينا . وفائدته أن تؤدّي كلمة مؤدّى كلمتين .[6]
تعريف الزركشي : هو إعطاء الشئ معنى الشئ وتارة يكون في الأسماء ، وفي الأفعال وفي الحروف ، فأمّا في الأسماء فهو أن تضمّن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا ، كقوله تعالى : حقيق على ألاّ أقول على الله إلاّ الحق .ضمّن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق بقول الحقّ وحريص عليه . وأمّا الأفعال فأن تضمّن فعلا معنى فعل آخر ، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا وذلك بأن يكون الفعل يتعدّى بحرف فيأتي متعدّيا بحرف آخر ليس من عادته التعدّي به ، فيحتاج إمّا إلى تأويله أو تأويل الفعل ، ليصحّ تعديه به [7].
تعريف ابن عاشور : التضمين أن يضمّن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمّن بذكر ماهو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان .[8]
تعريف الفراهي ( وقد اختار مكان التضمين ، اختلاف الصلة والفعل ) : هو أن تأتي بصلة للفعل على خلاف معناه ، وذلك بأن تضمر مع الفعل فعلا آخر وتدل بالصلة حسب هذا الفعل المضمر .كما تقول : قمت إليه ، أي قمت ومشيت إليه.[9]
المقارنة والتحليل : نلاحظ في تعريف الجميع غير الفراهي أن التصرف حاصل في نفس الكلمة اسما كان أو فعلا فهي بنفسها تؤدّي معنى كلمتين بينما الملاحظ في تعريف الفراهي أنّ التصرف حصل في الجملة والتركيب وليس في دلالة الكلمة فليس هناك إشراب اللفظ معنى لفظ آخر وإنّما إضمار لفظ مع اللفظ المذكور فالجملة هي التي تؤدّي معنى اللفظين ، المذكور والمضمر ، وليست الكلمة . وابن عاشور وإن اختار لفظ التضمين إلاّ أنّه أيضا يرى أنّ حصول التعدّد في المعنى إنّما هو في الجملة وليس في اللفظ .
ويترتّب على ذلك خلاف آخر وهو أنّ هذا الأسلوب هل يعدّ من مجاز اللفظ أو هو من حذف في التركيب . فعلى التعريف الشائع هو من المجاز اللفظي . يقول الزركشي : والتضمين أيضا مجاز ، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا والجمع بينهما مجاز خاص يسمونه التضمين ، تفرقة بينه وبين المجاز المطلق .ويقول آخر : إن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز ، لدلالة المذكورة على معناه بنفسه وعلى المحذوف بقرينة .[10]
بينما على مذهب الفراهي هو من باب الحذف ولذا يذكره في باب الحذف يقول : ومن مواقع الحذف : حذف ما يتعلّق به الجار فيقدّر مايدلّ عليه الجار .[11] وهو ما نراه عند ابن عاشور حيث يقول : وهو يرجع إلى إيجاز الحذف [12].
وأرى أنّ موقف الفراهي يدعو إلى إعادة النظر في قضية التضمين وتحديد حقيقته. وسوف يكون له دور في حلّ قضيّة أثارها الزركشي حيث قال : وأمّا الأفعال فأن تضمن فعلا معنى فعل آخر ، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا ، وذلك بأن يكون الفعل يتعدّى بحرف ، فيأتي متعدّيا بحرف آخر ليس من عادته التعدّي به ، فيحتاج إمّا إلى تأويله أو تأويل الفعل ليصحّ تعدّيه به . واختلفوا أيّهما أولى ؟ فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف وأنّه واقع موقع غيره من الحروف أولى . وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدّى لتضمنه معنى ما يتعدّى بذلك الحرف أولى ، لأنّ التوسع في الأفعال أكثر .[13]
فإذا أخذنا بتعريف الفراهي فسوف نخرج من هذه الحيرة بسلامة وقناعة .فلا حاجة إلى تأويل الحرف والتوسع فيه كما أنه لا حاجة إلى تأويل الفعل والتوسع فيه .
موقف بعض المفسرين والمعربين من التضمين :
هنا أودّ أن أعرض مواقف بعض المفسرين والمعربين من حيث تعاملهم على صعيد التطبيق ، وقد اخترت منهم ثلاثة لما يوجد عندهم من تصريحات تجاه القضية وعناية خاصة بالأمر ، ولا سيما في إطار إعراب القرآن الكريم .
الزمخشري : يعدّ الزمخشري من الموسّعين في القول بالتضمين والمعجبين بهذا الأسلوب فقد قال في قوله تعالى (ولا تعد عيناك عنهم)- الكهف 28- : فإن قلت : أيّ غرض في هذا التضمين ، وهلاّ قيل : ولاتعدهم عيناك أو لا تعل عيناك عنهم ؟ قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذّ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولاتقتحم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم ، ونحوه قوله تعالى : (ولاتأكلوا أموالهم إلى أموالكم )- النساء 2- أي ولا تضمّوها إليها آكلين لها .[14]
ونلاحظ أنّ الزمخشري يكثر من تقدير التضمين ، ولم أجد موضعا في تفسيره ردّ فيه القول بالتضمين كما فعل غيره من أمثال أبي حيّان كما سيأتي .
أبوحيان : موقف أبي حيان من التضمين لا يخلو من تناقض فإنّه في جهة لايجيز التضمين إلا عند الضرورة فيقول معلّقا على تقرير الزمخشري المذكور آنفا:وما ذكره من التضمين لاينقاس عند البصريين وإنّما يذهب إليه عند الضرورة ، أمّا إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنّه يكون أولى [15].وردّ على أبي البقاء في إجازته تضمين مكّنّا معنى أعطينا في قوله تعالى ( مكّنّاهم في الأرض مالم نمكّن لهم )-الأنعام 6- بأنّ التضمين لا ينقاس [16]. وقال في موضع : لكن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلاّ عند الضرورة ، ولا ضرورة هنا تدعو إليه .[17]
فهذه التعليقات من أبي حيّان وهي كثيرة في تفسيره جديرة بأن تجعله في عداد المقلّين بالقول بالتضمين ولكن الأمر ليس كذلك فهو نفسه في جانب آخر يقول : والتضمين أبلغ ، لدلالته على معنى الفعلين .[18] وهو في الواقع من المكثرين بالقول به ، ونراه في مواضع عديدة يختار القول بالتضمين مع أنّ الزمخشري وغيره ذهبوا مذهبا آخر في تلك المواضع .فعلى سبيل المثال :
ذهب الزمخشري في قوله تعالى ( ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة )-البقرة 195- إلى زيادة الباء[19] بينما اختار أبوحيان القول بالتضمين .[20]واختار الزمخشري في قوله تعالى ( واتبعوا ماتتلو الشّياطين على ملك سليمان )-البقرة 102- أن على ظرفية بمعنى في [21] بينما اختار أبوحيّان أن تتلو مضمّن معنى تتقوّل . [22] وقدّر أبوالبقاء في قوله تعالى ( وأصلح لي في ذرّيّتي )-الأحقاف 15- أنّ في هنا ظرف ، أي اجعل الصلاح فيهم[23] . بينما قدّر أبوحّيان تضمين الطف بي في ذرّيّتي .[24]
فموقف أبي حيان تجاه التضمين أحيانا يكون شديدا وأحيانا يكون رحبا وتفسير هذا الأمر يقتضي دراسة شاملة .
ابن هشام الأنصاري : يرى ابن هشام أنّ التضمين من الأساليب الشائعة في العربية ، ولعله بذلك يستدرك على أبي حيّان القائل بأنّه ليس بقياس ولا يصار إليه إلاّ عند الضرورة . وقد ذكر ابن هشام له أمثلة كثيرة من القرآن الكريم وقد انتقد على من لم يقدّر التضمين في قوله تعالى ( للّذين يؤلون من نسائهم )-البقرة226- بقوله : أي يمتنعون من وطء نسائهم بالحلف ، ولمّا خفي التضمين على بعضهم في الآية ورأى أنّه لايقال حلف من كذا بل حلف عليه ، قال : من متعلّقة بمعنى للّذين كما تقول لي منك مبرّة .[25]
إلاّ أنّ لي هنا استدراكا على ابن هشام ، فإن القائل بأنّ من هنا يجوز أن تكون متعلّقة بمعنى للّذين هو الزمخشري وقد أجاز التضمين المذكور أيضا في الآية ،[26] فلا شكّ أنّه لايقال أنّ التضمين قد خفي عليه .
وابن هشام ربّما يردّ القول بالتضمين ولكن ليس مستندا إلى الاستدلال بكونه لاينقاس كما يفعله أبوحيّان ولكن على أساس مايلاحظ فيه من تكلّف لايليق بأفصح الكلام . يقول في قوله تعالى : ( مكّنّاهم في الأرض مالم نمكّن لكم )- الأنعام 6- : فما محتملة للموصوفة أي شيئا لم نمكّنه لكم ، فحذف العائد ، وللمصدريّة الظرفيّة ، أي أنّ مدّة تمكّنهم أطول ، وانتصابها في الأوّل على المصدر وقيل على المفعول به على تضمين مكّنّا معنى أعطينا، وفيه تكلّف .[27]
وهنا نلاحظ أنّ موقف ابن هشام يمتاز بالقوّة والقناعة فما دام أسلوب التضمين شائعا جاريا في العربية وفي التنزيل وما دام أنّه من أساليب الإيجاز الّذي يمثّل منهج القرآن فلا مانع من التوسّع في تقديره مادامت الفصاحة لاتأباه [28] وأحبّ أن يكون ختام هذا العرض الموجز وصية من علم النحو العربي ابي الفتح ابن جنّي حيث قال بصدد التضمين: فإذا مرّ بك شيء منه فتقبّله وأنس به فإنه فصل من العربية لطيف ، حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها .[29]
الهوامش
[1] تفسير الكشاف للزمخشري 4/187 . مكتبة مصطفى بابي الحلبي
[2] تفسير التحرير والتنوير 1/123 لمحمد الطاهر بن عاشور . الدار التونسية للنشر .
[3] الخصائص 2/310 لأبي الفتح عثمان بن جني .دار الكتاب العربي .
[4] الخصائص 2/308
[5] كتاب الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز ص 74 لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام
[6] مغني اللبيب ً897 لجما ل الدين ابن هشام الأنصاري . دار الفكر .
[7]البرهان في علوم القرآن لمحمد بن عبد الله الزركشي 3/338 دار إحياء الكتب العربية
[8] التحرير وللتنوير 1/123
[9] أساليب القرآن 53
[10] إعراب القرآن وبيانه 2/518 لمحي الدين الدرويش . دار ابن كثير
[11] أساليب القرآن ص 53
[12] التحرير والتنوير ص 1/123
[13] البرهان 3/339 وأرى أن استدرك هنا على الزركشي فإنه يبدو من كلامه أن الناس انقسموا إلى فئتين تجاه القضية . بينما نشاهد جليا في صنيع أمثال الزمخشري وابن هشام وأبي حيان أنهم أحيانا يتوسعون في الحروف وأحيانا يذهبون إلى التضمين في الأفعال .
[14] الكشاف 2/ 481
[15] تفسير البحر المحيط 6/119 لأبي حيان الأندلسي . دار الفكر .
[16] المرجع نفسه 1/ 349
[17] المرجع نفسه 4 / 129 نقلا عن دراسات لأسلوب القرآن الكريم لعبد الخالق العضيمة 3/2/246
[18] المرجع نفسه 5/ 280 نقلا عن الدراسات 3/2/246
[19] الكشاف 1/ 343
[20] البحر المحيط 2/71
[21] الكشاف 1/301
[22] البحر المحيط 1/ 326
[23] التبيان في إعراب القرآن 2/1156 لأبي البقاء العكبري . مكتبة ابن تيمية .
[24] البحر المحيط 8/61
[25] المغني ص 898
[26] الكشاف 1/363
[27] المغني 416
[28] قد جمع الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة أمثلة كثيرة للتضمين في القرآن الكريم ، في كتابه الموسوعي دراسات لأسلوب القرآن الكريم 3/2/246 وما بعدها .
[29] الخصا ئص 2/310