د.حسن خطاف
New member
- إنضم
- 03/04/2006
- المشاركات
- 46
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
نظرة في مفهوم " العلم"في القرآن الكريم وعند علماء المسلمين
صفة العلم هي من الصفات الإلهية ، وبهذه الصفة ينكشف المعلوم لله تعالى انكشافا تامة ، وقد شغل مفهوم العلم في القرآن الكريم حيزا هاما من الآيات ، والناظر في القرآن يجد أن الله تعالى أضاف العلم لنفسه ، من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة« والله يعلم وأنتم لا تعلمون» [ الآية :216] وإضافة العلم لله جاءت في القرآن الكريم بصيغة مختلفة منها صيغة " أعْلم" قال تعالى: « والله أعلم بما يكتمون» [ 167 آل عمران] وصيغة " عليم" « والله عليم بالظالمين» [ 95 سورة البقرة] وصيغة " علَّام " « إنك أنتم علَّام الغيوب" [ 109 المائدة] ... واختلاف هذه الصِّيغ لبيان أن صفة العلم من أعظم الصفات الإلهية شأنها كشأن القدرة والإرادة ...
وكما أضاف الله تعالى العلم لنفسه أضافه للإنسان ، قال تعالى " فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " [ 26 سورة البقرة] .
وفي واقع الأمر يعسر علينا أن نضع تعريفا دقيقا قبل بيان العلاقة بين العلم وبعض المصطلحات المرادفة له أو المتناقضة معه .
العلم والظن:
هناك فرق بين العلم والظن والذي ينظر إلى نظرية المعرفة عند المسلمين يجد أنهم فرقوا بينهما تفريقا دقيقا وذلك في إطار نظرة كلية قسمت موقف الإنسان اتجاه الموجودات إلى خمس مراحل:
العلم: هو معرفة الشيء على ما هو عليه‹1 ›، والفرق بين العلم واليقين أن اليقين هو العلم بالشيء « بعد النظر والاستدلال، ولذلك لا يوصف الله باليقين» ‹2 ›
الجهل: « اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه» ‹ 3›، والجهل يعد مرحلة إذا نظرنا إلى حكم الجاهل على الشيء الذي يجهله
الشك:هو الوقوف على حد الطرفين ، بلا ترجيح‹4 › فإن رجح أحد الأمرين على الآخر ، فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم ، بناء على هذا يكون تعريف الظن والوهم على هذا النحو:
الظن: هو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر،‹ 5› أي الأخذ بالطرف الراجح مقابل المرجوح.
الوهم: هو الطرف المرجوح ، مقابل الراجح‹6 ›.
إذا الشك يفصل بين الظن والوهم من جهة وبين العلم والجهل من جهة أخرى ، وهناك تقابل بين الظن والوهم من جهة ، وبين العلم والجهل من جهة أخرى .
ويمكن تطبيق هذه المراحل على المثال التالي ، وليكن هذا الشيء قدوم زيد مثلا ، فموقف الإنسان[ أي إنسان] يتمثل : بالجهل بقدومه ،أو الوهم بقدومه، أو الشك بقدومه ، أو الظن بقدومه، أو العلم بقدومه.
وما قلناه عن قدوم زيد ، يصلح أن يكون مثالا لكل ما هو موجود من عالم الشهادة/ عالم الحس، أو الغيب.
بعد هذا التوضيح كيف نعرف العلم ؟
من خلال ما تقدم يكمن القول إن العلم يمثل أعلى مستويات المعرفة، بحيث يكون المرء على علم بالشيء الذي يريد معرفته ، وبذلك يكون العلم « صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما»‹ 7‹ ، بحيث يحصل ذلك المطلوب « في النفس حصولا لا يطرق إليه احتمال كذبه » ‹8 › .
ولابد من البيان أن نظرية المعرفة وقع الاهتمام بها من قبل المسلمين اهتماما كبيرا ، وذلك لأن تصور الإنسان عن الكون والإنسان والحياة لابد أن يكون صحيحا وهذا هو السر في اهتمام المسلمين بالمعرفة لذا استفتحت كثير من كتب المسلمين مباحثها بالتحدث عن المعرفة ، انظر على سبيل المثال :الباقلاني[ت:403]، في كتابه" تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل"، الماوردي[ت429]" أعلام النبوة "، الجويني[ت:478]، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ، القاضي عبد الجبار[ت:415] في كتابه"شرح الأصول الخمسة" بل خصص القاضي عبد الجبار ،الجزء الثاني عشر من موسوعته الكلامية[ المغني في أبواب التوحيد والعدل] للمعرفة ، مطلقا عليه اسم"النظر والمعارف" الآمدي [ ت:631] في كتابه" أبكار الأفكار" .
هذا الاهتمام الذي أولاه المسلمون لقضية المعرفة،نابع من خطورة هذه القضية ، إذ يندرج تحتها كل مواقف الإنسان مما هو موجود ، بما في ذلك وجود الله ، وبعثة الرسل...وهذا ما يفسر وضع مبحث المعرفة في صدارة مؤلفاتهم ، فكأنها المؤسسة لما يأتي من بعدها ، من مباحث .
بل ردود المسلمين ، على الملل الأخرى ، نابعة من نظرية المعرفة، ولهذا تجدهم يردون على كل من شوه المعرفة كالمذهب الشكي السفسطائي الذي كان يعد « الأشياء جميعا غير قابلة للمعرفة اليقينية» ‹9 ›.
وهذا هو السر أيضا في عدم الاتفاق بين علماء المسلمين على إيجاد تعريف دقيق للعلم ، فكل واحد منهم يحاول جاهدا إيجاد تعريف لا خلل فيه ، ولقد أفاض الآمدي في ذكر هذه التعاريف وقام بنقدها ، ليصل إلى هذا التعريف " العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف تمييز حقيقة ما، غير محسوسة في النفس ، حصل عليها حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل عليه " ‹10 ›
والناظر في تعريف العلم عند علماء المسلم يجد أنه ما ذكر تعريف إلا ويمكن الاعتراض عليه ، ومن أكثر الذين اهتموا بنظرية المعرفة القاضي عبد الجبار المعتزلي ، وقد عرف العلم بقوله هو« المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم ، إلى ما تناوله» ‹ 11›،ويقول في موطن آخر» إن المعرفة والدراية والعلم نظائر، ومعناها ما يقتضي سكون النفس ، وثلج الصدر، وطمأنينة القلب« ‹12›
يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات على تعريف القاضي للعلم.
الأولى: نجد في تعريف القاضي عدم التفرقة بين العلم والمعرفة،وهذا التعريف منه متأثر بالمعنى اللغوي لكل من العلم والمعرفة، إذ لا فرق بينهما من الناحية اللغوية‹ 13›.
الثانية: لابد من البيان أن القرآن الكريم من حيث الاستخدام فرَّق بين العلم والمعرفة ، حيث نجد أن الله أضاف العلم لنفسه ، وأضافه للإنسان كما سبق ، وأضاف المعرفة إلى الإنسان ،ولكنه لم يضف المعرفة بجميع صيغها إلى نفسه. من ذلك قوله تعالى" الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم " [ 20 من سورة الأنعام]
وهذا الاختيار من الله ليس أمرا عشوائيا ، فلا بد أن يكون هناك ملحظ لعدم إسناد المعرفة إلى نفسه، مما يعني أن عدم الإسناد دليل على التفرقة بينهما.
ومن خلال البحث في مظان نظرية المعرفة نجد من فرق بينهما في أمرين:
الأول: أن المعرفة « إدراك الشيء بتفكر وتدبر»‹ 14› ولا شك أن هذا المعنى لا يطلق على الله تعالى .
الثاني: المعرفة « مسبوقة بجهل، بخلاف العلم ، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم ، دون العارف« ‹ 15›.
والذي أراه أن الفرق بين العلم والمعرفة من خلال هذين الوجهين ، جاء انطلاقا من خلال القرآن الكريم، وهذا ما يفسر قصر إسناد المعرفة ومشتقاتها على الإنسان دون الله.
كما أنا نلاحظ أن القاضي يسوي بين معنى العلم ومعنى الدراية، وللإشارة فإن الله أسند الدراية في القرآن الكريم إلى الإنسان ، ولم يسندها إلى نفسه‹16 › ، ولعل السر في ذلك أن الدراية هي « المعرفة المدركة بضرب من الحيل» ‹ 17›،وهذا المعنى يتنزه الله عنه، كما أن الإشكال في أصل الدراية ، فأصلها مأخوذ من« المخاتلة من دريْت الصيد، وأدريته ختلته» ‹18 ›.
الثالث: مما يؤخذ على تعريف القاضي أنه جعل سكون النفس وطمأنينتها ،أمر جوهريا في التعريف ، و ذلك أن الإنسان في نظر القاضي لا يجد » اضطراب النفس وانزعاجها ، في هذا الأمر الذي اعتقدَه »‹ 19› .
أي أن القاضي يريد من وراء ذلك أن يصل العالِمَ بالشيء الذي يريد معرفته إلى أعلى درجات اليقين ، بحيث لا يبقى أي اضطراب في النفس اتجاه الشيء المعلوم .
ولكن السؤال الذي يطرح على القاضي عبد الجبار ، هل التركيز على طمأنينة النفس تجعل من ذلك معيارا للوصول إلى الحقيقة؟
الذي أراه أن تعريف العلم عند القاضي عبد الجبار على النحو الذي عرفه به ، يجعل العلم أمرا ذاتيا ، وليس معياريا، وتزداد هذه الذاتية أكثر بجعله « سكون النفس راجعا إلى العالم ، لا إلى العلم» ‹20 ›، أي أن المعيار في ذلك هو الذات العالمة لا الموضوع الذي يراد معرفته،ومؤدى هذا اختلاف المعايير في ضبط الموضوع ، ذلك لأن سكون النفس وطمأنينتها أمر راجع إلى الوجدان/الذات لا إلى الموضوع‹ 21›.
ومن خلال التعريف السابق للعلم - معرفة الشيء على ما هو عليه- يكتسي العلم أهمية قصوى عند المسلمين ، باعتبار المواضيع التي يشملها ، سواء كان ذلك مما يقع تحت التجربة ، أو الحس أو متصلا بما غاب عن الإنسان كالأخبار الماضية أو الأخبار القادمة المتصلة باليوم الآخر وعوالمه ، ومن ذلك أيضا معرفة الأديان ، والحكم عليها ، كل ذلك داخل في مفهوم العلم عند المسلمين.
والقصد من وراء هذا المبحث التنبيه إلى الخطورة التي جاءت بها الفلسفة الوضعية التي جاء بها " أوجيست كونت[ت:1798م]" والتي تحصر المعرفة في نطاق التجربة والإدراك الحسي الوضعي ، وكل ما وراء ذلك من الأديان ، والغيبيات مرفوض باعتباره غير علمي ، ولذا يرى كونت أن الغيبيات « افتقدت مبرر وجودها ، لأنها كانت تؤثر في الناس بأحلامها الباطلة ، قبل أن تتكاثر العلوم الوضعية » ‹22 ›.
وافتقاد الأديان لمبررات وجودها يعني اختفاؤها وإزالتها من الأذهان،لأنها في نظره « فارغة لا معنى لها» ‹23 ›.
===========
‹1 › الباقلاني، تمهيد الأوائل:25 .
‹2 › الجرجاني ، التعريفات:59
‹3 › م.س.108.
‹4 › الكندي، الحدود والرسوم:222 ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب، لعبد الأمير الأعسم، الجرجاني، التعريفات:168،الجويني ، الورقات في أصول الفقه:9
‹5 › الآمدي،إحكام الأحكام:1/30، الجرجاني، التعريفات:187، الجويني ، الورقات في أصول الفقه:9.
‹6 › محمد بن عمر ، التقرير والتحبير:1/55.
‹7 › الشوكاني، إرشاد الفحول:20
‹8 › الآمدي، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين:423 ، ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب ، لعبد الأمير الأعسم.
‹ 9› محمد تقي المصباح، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة:16.
10 أبكار الأفكار:1/ 20.
‹11 › المغني في أبواب التوحيد والعدل:12/13.
‹12 › شرح الأصول الخمسة:46.
‹13 › انظر في عدم التفريق بين معنى العلم والمعرفة في اللغة:ابن منظور، لسان العرب:9/236، الزُّنيْدي‹عبد الرحمن بن زيد› ، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي:35-36، الغزالي، المستصفى:21، ،وذكر الدكتور عبد الحميد الكردي أن هناك تقاربا بين المعنيين من حيث اللغة، انظر له: نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة:33-34، صلاح إسماعيل عبد الحق ، مفهوم المعرفة:184-185،ضمن "سلسلة المفاهيم والمصطلحات" مجلة ، من إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة:1418/1998.
‹ 14› محمد عبد الرؤوف المناوي، التعاريف:511.
‹ 15› الجرجاني، التعريفات:283.
‹16 › ذكرت الدراية مع مشتقاتها في القرآن تسعة وعشرين مرة ، أسنِدت كلها للإنسان ، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)[لقمان]
‹ 17› الجرجاني، التعريفات:335.
18› م.س.645.
‹ 19› المغني:12/20.
‹20 › المغني:12/20.
‹ 21› وانظر في هذا: زينة‹ حسني› العقل عند المعتزلة" تصور العقل عند القاضي عبد الجبار":74-79
‹ 22› عبد الرحمن بن زيد الزُّنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي:479.
‹ 23› محمد تقي المصباح، المنهج الجديد في تعلم الفلسفة:41.
صفة العلم هي من الصفات الإلهية ، وبهذه الصفة ينكشف المعلوم لله تعالى انكشافا تامة ، وقد شغل مفهوم العلم في القرآن الكريم حيزا هاما من الآيات ، والناظر في القرآن يجد أن الله تعالى أضاف العلم لنفسه ، من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة« والله يعلم وأنتم لا تعلمون» [ الآية :216] وإضافة العلم لله جاءت في القرآن الكريم بصيغة مختلفة منها صيغة " أعْلم" قال تعالى: « والله أعلم بما يكتمون» [ 167 آل عمران] وصيغة " عليم" « والله عليم بالظالمين» [ 95 سورة البقرة] وصيغة " علَّام " « إنك أنتم علَّام الغيوب" [ 109 المائدة] ... واختلاف هذه الصِّيغ لبيان أن صفة العلم من أعظم الصفات الإلهية شأنها كشأن القدرة والإرادة ...
وكما أضاف الله تعالى العلم لنفسه أضافه للإنسان ، قال تعالى " فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " [ 26 سورة البقرة] .
وفي واقع الأمر يعسر علينا أن نضع تعريفا دقيقا قبل بيان العلاقة بين العلم وبعض المصطلحات المرادفة له أو المتناقضة معه .
العلم والظن:
هناك فرق بين العلم والظن والذي ينظر إلى نظرية المعرفة عند المسلمين يجد أنهم فرقوا بينهما تفريقا دقيقا وذلك في إطار نظرة كلية قسمت موقف الإنسان اتجاه الموجودات إلى خمس مراحل:
العلم: هو معرفة الشيء على ما هو عليه‹1 ›، والفرق بين العلم واليقين أن اليقين هو العلم بالشيء « بعد النظر والاستدلال، ولذلك لا يوصف الله باليقين» ‹2 ›
الجهل: « اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه» ‹ 3›، والجهل يعد مرحلة إذا نظرنا إلى حكم الجاهل على الشيء الذي يجهله
الشك:هو الوقوف على حد الطرفين ، بلا ترجيح‹4 › فإن رجح أحد الأمرين على الآخر ، فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم ، بناء على هذا يكون تعريف الظن والوهم على هذا النحو:
الظن: هو ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر،‹ 5› أي الأخذ بالطرف الراجح مقابل المرجوح.
الوهم: هو الطرف المرجوح ، مقابل الراجح‹6 ›.
إذا الشك يفصل بين الظن والوهم من جهة وبين العلم والجهل من جهة أخرى ، وهناك تقابل بين الظن والوهم من جهة ، وبين العلم والجهل من جهة أخرى .
ويمكن تطبيق هذه المراحل على المثال التالي ، وليكن هذا الشيء قدوم زيد مثلا ، فموقف الإنسان[ أي إنسان] يتمثل : بالجهل بقدومه ،أو الوهم بقدومه، أو الشك بقدومه ، أو الظن بقدومه، أو العلم بقدومه.
وما قلناه عن قدوم زيد ، يصلح أن يكون مثالا لكل ما هو موجود من عالم الشهادة/ عالم الحس، أو الغيب.
بعد هذا التوضيح كيف نعرف العلم ؟
من خلال ما تقدم يكمن القول إن العلم يمثل أعلى مستويات المعرفة، بحيث يكون المرء على علم بالشيء الذي يريد معرفته ، وبذلك يكون العلم « صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما»‹ 7‹ ، بحيث يحصل ذلك المطلوب « في النفس حصولا لا يطرق إليه احتمال كذبه » ‹8 › .
ولابد من البيان أن نظرية المعرفة وقع الاهتمام بها من قبل المسلمين اهتماما كبيرا ، وذلك لأن تصور الإنسان عن الكون والإنسان والحياة لابد أن يكون صحيحا وهذا هو السر في اهتمام المسلمين بالمعرفة لذا استفتحت كثير من كتب المسلمين مباحثها بالتحدث عن المعرفة ، انظر على سبيل المثال :الباقلاني[ت:403]، في كتابه" تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل"، الماوردي[ت429]" أعلام النبوة "، الجويني[ت:478]، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ، القاضي عبد الجبار[ت:415] في كتابه"شرح الأصول الخمسة" بل خصص القاضي عبد الجبار ،الجزء الثاني عشر من موسوعته الكلامية[ المغني في أبواب التوحيد والعدل] للمعرفة ، مطلقا عليه اسم"النظر والمعارف" الآمدي [ ت:631] في كتابه" أبكار الأفكار" .
هذا الاهتمام الذي أولاه المسلمون لقضية المعرفة،نابع من خطورة هذه القضية ، إذ يندرج تحتها كل مواقف الإنسان مما هو موجود ، بما في ذلك وجود الله ، وبعثة الرسل...وهذا ما يفسر وضع مبحث المعرفة في صدارة مؤلفاتهم ، فكأنها المؤسسة لما يأتي من بعدها ، من مباحث .
بل ردود المسلمين ، على الملل الأخرى ، نابعة من نظرية المعرفة، ولهذا تجدهم يردون على كل من شوه المعرفة كالمذهب الشكي السفسطائي الذي كان يعد « الأشياء جميعا غير قابلة للمعرفة اليقينية» ‹9 ›.
وهذا هو السر أيضا في عدم الاتفاق بين علماء المسلمين على إيجاد تعريف دقيق للعلم ، فكل واحد منهم يحاول جاهدا إيجاد تعريف لا خلل فيه ، ولقد أفاض الآمدي في ذكر هذه التعاريف وقام بنقدها ، ليصل إلى هذا التعريف " العلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف تمييز حقيقة ما، غير محسوسة في النفس ، حصل عليها حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل عليه " ‹10 ›
والناظر في تعريف العلم عند علماء المسلم يجد أنه ما ذكر تعريف إلا ويمكن الاعتراض عليه ، ومن أكثر الذين اهتموا بنظرية المعرفة القاضي عبد الجبار المعتزلي ، وقد عرف العلم بقوله هو« المعنى الذي يقتضي سكون نفس العالم ، إلى ما تناوله» ‹ 11›،ويقول في موطن آخر» إن المعرفة والدراية والعلم نظائر، ومعناها ما يقتضي سكون النفس ، وثلج الصدر، وطمأنينة القلب« ‹12›
يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات على تعريف القاضي للعلم.
الأولى: نجد في تعريف القاضي عدم التفرقة بين العلم والمعرفة،وهذا التعريف منه متأثر بالمعنى اللغوي لكل من العلم والمعرفة، إذ لا فرق بينهما من الناحية اللغوية‹ 13›.
الثانية: لابد من البيان أن القرآن الكريم من حيث الاستخدام فرَّق بين العلم والمعرفة ، حيث نجد أن الله أضاف العلم لنفسه ، وأضافه للإنسان كما سبق ، وأضاف المعرفة إلى الإنسان ،ولكنه لم يضف المعرفة بجميع صيغها إلى نفسه. من ذلك قوله تعالى" الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم " [ 20 من سورة الأنعام]
وهذا الاختيار من الله ليس أمرا عشوائيا ، فلا بد أن يكون هناك ملحظ لعدم إسناد المعرفة إلى نفسه، مما يعني أن عدم الإسناد دليل على التفرقة بينهما.
ومن خلال البحث في مظان نظرية المعرفة نجد من فرق بينهما في أمرين:
الأول: أن المعرفة « إدراك الشيء بتفكر وتدبر»‹ 14› ولا شك أن هذا المعنى لا يطلق على الله تعالى .
الثاني: المعرفة « مسبوقة بجهل، بخلاف العلم ، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم ، دون العارف« ‹ 15›.
والذي أراه أن الفرق بين العلم والمعرفة من خلال هذين الوجهين ، جاء انطلاقا من خلال القرآن الكريم، وهذا ما يفسر قصر إسناد المعرفة ومشتقاتها على الإنسان دون الله.
كما أنا نلاحظ أن القاضي يسوي بين معنى العلم ومعنى الدراية، وللإشارة فإن الله أسند الدراية في القرآن الكريم إلى الإنسان ، ولم يسندها إلى نفسه‹16 › ، ولعل السر في ذلك أن الدراية هي « المعرفة المدركة بضرب من الحيل» ‹ 17›،وهذا المعنى يتنزه الله عنه، كما أن الإشكال في أصل الدراية ، فأصلها مأخوذ من« المخاتلة من دريْت الصيد، وأدريته ختلته» ‹18 ›.
الثالث: مما يؤخذ على تعريف القاضي أنه جعل سكون النفس وطمأنينتها ،أمر جوهريا في التعريف ، و ذلك أن الإنسان في نظر القاضي لا يجد » اضطراب النفس وانزعاجها ، في هذا الأمر الذي اعتقدَه »‹ 19› .
أي أن القاضي يريد من وراء ذلك أن يصل العالِمَ بالشيء الذي يريد معرفته إلى أعلى درجات اليقين ، بحيث لا يبقى أي اضطراب في النفس اتجاه الشيء المعلوم .
ولكن السؤال الذي يطرح على القاضي عبد الجبار ، هل التركيز على طمأنينة النفس تجعل من ذلك معيارا للوصول إلى الحقيقة؟
الذي أراه أن تعريف العلم عند القاضي عبد الجبار على النحو الذي عرفه به ، يجعل العلم أمرا ذاتيا ، وليس معياريا، وتزداد هذه الذاتية أكثر بجعله « سكون النفس راجعا إلى العالم ، لا إلى العلم» ‹20 ›، أي أن المعيار في ذلك هو الذات العالمة لا الموضوع الذي يراد معرفته،ومؤدى هذا اختلاف المعايير في ضبط الموضوع ، ذلك لأن سكون النفس وطمأنينتها أمر راجع إلى الوجدان/الذات لا إلى الموضوع‹ 21›.
ومن خلال التعريف السابق للعلم - معرفة الشيء على ما هو عليه- يكتسي العلم أهمية قصوى عند المسلمين ، باعتبار المواضيع التي يشملها ، سواء كان ذلك مما يقع تحت التجربة ، أو الحس أو متصلا بما غاب عن الإنسان كالأخبار الماضية أو الأخبار القادمة المتصلة باليوم الآخر وعوالمه ، ومن ذلك أيضا معرفة الأديان ، والحكم عليها ، كل ذلك داخل في مفهوم العلم عند المسلمين.
والقصد من وراء هذا المبحث التنبيه إلى الخطورة التي جاءت بها الفلسفة الوضعية التي جاء بها " أوجيست كونت[ت:1798م]" والتي تحصر المعرفة في نطاق التجربة والإدراك الحسي الوضعي ، وكل ما وراء ذلك من الأديان ، والغيبيات مرفوض باعتباره غير علمي ، ولذا يرى كونت أن الغيبيات « افتقدت مبرر وجودها ، لأنها كانت تؤثر في الناس بأحلامها الباطلة ، قبل أن تتكاثر العلوم الوضعية » ‹22 ›.
وافتقاد الأديان لمبررات وجودها يعني اختفاؤها وإزالتها من الأذهان،لأنها في نظره « فارغة لا معنى لها» ‹23 ›.
===========
‹1 › الباقلاني، تمهيد الأوائل:25 .
‹2 › الجرجاني ، التعريفات:59
‹3 › م.س.108.
‹4 › الكندي، الحدود والرسوم:222 ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب، لعبد الأمير الأعسم، الجرجاني، التعريفات:168،الجويني ، الورقات في أصول الفقه:9
‹5 › الآمدي،إحكام الأحكام:1/30، الجرجاني، التعريفات:187، الجويني ، الورقات في أصول الفقه:9.
‹6 › محمد بن عمر ، التقرير والتحبير:1/55.
‹7 › الشوكاني، إرشاد الفحول:20
‹8 › الآمدي، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين:423 ، ضمن كتاب المصطلح الفلسفي عند العرب ، لعبد الأمير الأعسم.
‹ 9› محمد تقي المصباح، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة:16.
10 أبكار الأفكار:1/ 20.
‹11 › المغني في أبواب التوحيد والعدل:12/13.
‹12 › شرح الأصول الخمسة:46.
‹13 › انظر في عدم التفريق بين معنى العلم والمعرفة في اللغة:ابن منظور، لسان العرب:9/236، الزُّنيْدي‹عبد الرحمن بن زيد› ، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي:35-36، الغزالي، المستصفى:21، ،وذكر الدكتور عبد الحميد الكردي أن هناك تقاربا بين المعنيين من حيث اللغة، انظر له: نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة:33-34، صلاح إسماعيل عبد الحق ، مفهوم المعرفة:184-185،ضمن "سلسلة المفاهيم والمصطلحات" مجلة ، من إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة:1418/1998.
‹ 14› محمد عبد الرؤوف المناوي، التعاريف:511.
‹ 15› الجرجاني، التعريفات:283.
‹16 › ذكرت الدراية مع مشتقاتها في القرآن تسعة وعشرين مرة ، أسنِدت كلها للإنسان ، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)[لقمان]
‹ 17› الجرجاني، التعريفات:335.
18› م.س.645.
‹ 19› المغني:12/20.
‹20 › المغني:12/20.
‹ 21› وانظر في هذا: زينة‹ حسني› العقل عند المعتزلة" تصور العقل عند القاضي عبد الجبار":74-79
‹ 22› عبد الرحمن بن زيد الزُّنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي:479.
‹ 23› محمد تقي المصباح، المنهج الجديد في تعلم الفلسفة:41.