نظرة جديدة إلى قمصان يوسف عليه السلام

إنضم
30/10/2011
المشاركات
3
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
مكة المكرمة
1


بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين .. والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أحمده مستزيدًا إياه من نعمه ومستعيذًا به من نقمه ومؤمنًا بإحاطة علمه وواسع حلمه وأنه لا حول ولا قوة إلا به .. وبعد ... .

فإن الله تعالى ما بعث رسوله - عليه الصلاة و السلام - مرشدًا ولا أنزل كتابه له مؤيدًا ولا هيأ له صحابته جندًا إلا ليكشف به الحق عن الباطل ويميز به الخبيث من الطيّب وليكون دينه الذي أتى به هو خاتم الأديان لا يؤمن به إلا فائزٌ ولا يكفر به إلا هالك

وجعل سبحانه من حراسة دينه حسن التأمل في آياته وفي أسمائه وصفاته وعجائب مخلوقاته لأن بها توثيق عقيدة اليقين في قلوب المؤمنين وزيادة إيمانهم بأن الله هو الحق المبين فكأن هذا العمل الصالح من التأمل والتفكر في عامة ملكوت الله ليس إلا تجديدًا لحقيقة التوحيد في القلب وتأكيدًا على أهمية حضوره فكرةً في العقل وخاطرًا في الضمير وهذا عملٌ لا غاية له لأن ملكوت الله لا نهاية له وإنما تنتهي فيه العقول إلى استطاعتها من التفهم والتذوق والاعتبار .. فليس هذا الباب من العلم حكرًا على أحدٍ بل هو حظٌ مشاعٌ لكل قلبٍ سليمٍ وفكر مستقيم

وقد كتبت هذه الرسالة أو المقالة - وسأنزلها هنا أجزاء - على ضوء ذلك المطلب مما أنتجه تدبر الذهن الكليل في كتاب العزيز الجليل .. وهي رسالة جديدةٌ في فكرتها الأساسية - كما أظن - وإن كنت أوقن أن فروعها ولواحقها قد طرأت على من قبلي .. ولما كان من أعظم الخذلان والحرمان ألا يحس الإنسان بحاجته إلى تدبر القرآن وهو كلام الرحمن - فقد آذنت قلبي أن يقف عند سورة يوسف - عليه السلام - ليتدبرها ذلك التدبر العامّ الذي لا يطأ متثاقلاً كما لا يزحف متكاسلاً فاستوقفتني حوادث السورة بما فيها من عبرٍ وصورٍ ثم اقتربت أكثر فاستوقفتني حوادث القمصان خصوصًا بعبرها وصورها الخاصة بها .. وصمدت لها أكثر فاستوقفتني هذه المرة القمصان نفسها ! حتى آمنت إيمانًا لا تخالطه الشكوك أن ثمة سرًا فيها يوجب الوقوف عليها والنظر إليها نظرًا مختلفًا عن النظر إلى المتاع الملبوس المحسوس .. فإن صدق حدسي ولم تكذبني نفسي فإنه سرٌ جليل في أداء المعاني ترجع روافد القصة كلها إلى أصوله وهي هنا ( ثلاثة الأصول) !!

وأي شىءٍ هذا السرّ ؟!
إن من تأمل السياقات التي ورد فيها ذكر قمصان يوسف عليه السلام وجد أنها سياقاتٌ تذكر القميص على أنه لباسٌ محسوسٌ تصحب ضرورة ذكره أفكارٌ وأحاسيس لا تتعلق بلباسٍ محسوسٍ بل تتعلق بوجدانات النفوس ليكون القميص الملبوس رمزًا دالاً عليها وفعّالاً في توصيل حقائقها ودقائقها إلينا ليس إلاّ ... .
وهكذا كان !

وقد وردت فكرة هذا السر أول ما وردت على قلبي حين وجدت سورة يوسف عليه السلام تخلو من ذكر أنواع الألبسة إلا هذه القمصان على كثرة ذكر الألبسة في باقي سور القرآن وعلى كثرة ورود الحوادث التي تحتمل طبيعة سياقها ذكر الألبسة والأمتعة في سورة يوسف عليه السلام .. فهذا تمييزٌ أول .. .

ثم إني وجدت أن مفردة ( القميص ) لم ترد في الكتاب العزيز في غير سورة يوسف عليه السلام وإن ورد ما يضارعها كالثياب والسرابيل والزينة ولكني أتحدث هنا عن المفردة في ذاتها بما تحمله خصوصية التأكيد عليها من معانٍ .. فهذا تمييزٌ ثانٍ .. .

ثم إني وجدت أن ليس من تصريف مفردة ( القميص ) كلمةٌ واحدةٌ جاءت في الكتاب العزيز بينما نجد مثلاً من تصريف مفردة ( الثوب ) كلماتٍ كثيرةً كــــ " ثواب - مثوبة - مثابة - ثيّبات ... إلخ " ومن مفردة ( اللباس ) كلماتٍ كثيرةً أيضًا كـــــ " تلبسوا - يلبسون ... إلخ " .. فهذا تمييزٌ ثالث .. .

ثم إني وجدت أن الكلمة الدالة على الملبوس كــــ " سرابيل " ترد في القرآن مرةً بمعنى النعمة ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم ) ومرةً أخرى بمعنى النقمة ( سرابيلهم من قطران ) وكذلك كلمة "زينة" فهي ترد مرةً بمعنى النعمة ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ومرةً أخرى بمعنى النقمة ( فخرج على قومه في زينته ) مما يدل على أن المقصود باستخدامها كان محصورًا في دلالتها البسيطة على اللباس والمتاع بينما لم يرد ذكر القميص - في جميع قصصه - محصورًا في هذه الدلالة البسيطة ولا مقرونًا بما تدل عليه من مظاهر النعمة أو النقمة فقط .. وإنما كان هذا وزيادة .. وهذه الزيادة تظهر لعين المتأمل دون أن يتكلف لها تعليلاً بعيدًا .. فهذا تمييزٌ رابع .. .

ثم إن مفردة ( القميص ) ورد ذكرها ست مراتٍ في سورةٍ واحدةٍ هي سورة يوسف - عليه السلام - دون غيرها كما ذكرت سابقًا وهذا ما لم يكن لأي مفردةٍ أخرى إذ لا نجد مفردةً في الكتاب العزيز مما يدل على اللباس يرد ذكرها في سورةٍ واحدةٍ بهذا العدد غير مفردة ( القميص ) .. فهذا تمييزٌ خامس .. .

وكل هذه ( التمييزات ) لا يمكن تجاهلها بسهولةٍ لأنها ترتبط ارتباطًا مباشرًا بأسلوب القرآن في أداء المعاني والأفكار ولا تخرج نتائجها - إن صحت - من دائرة إعجازه .. فهذا الذي جعلني أقول بعد تفكيرٍ طويل : إن قُمصان يوسف عليه السلام ليست قمصانًا متشابهةً موضوعةً في دولابٍ واحدٍ يُستغنى بأحدها عن سائرها بحجة أنها جميعًا لباسٌ يُلبس ! .. بل إن كل قميصٍ منها متميزٌ بنفسه تميزًا واضحًا ؛ لأن كل قميصٍ منها يحت من وجدانات النفوس ما لا يحتمله غيره كما أنها تشترك أحيانًا في الدلالة على وجدانٍ واحدٍ يطرقه كل قميصٍ من جهته بطريقته

وهذا ما لا نجده أبدًا في باقي آيات القرآن التي اهتمت بذكر الألبسة والأمتعة لأنها كانت تذكرها خالية الوفاض من هذا المعنى .. وهذا المعنى من الكناية بالثوب عن حال صاحبه ومن تحميل الثياب أحمال النفوس والقلوب والألباب موجودٌ في كلام العرب كأفصح ما يقولون .. فهم يكنون عن العفة والطهارة وصلاح حال الرجل بوصفه أنه ( نقيُّ الثوب ) * .. ولم يقل في هذا المعنى خيرٌ من النابغة حين قال مادحًا :

رقاق النعال طيّبٌ حُجزاتهم يُحيّون بالريحان يوم السباسبِ
تحيّيهم بيض الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجبِ
يصونون أجسادًا قديمًا نعيمها بخالصة الأردان خُضر المناكبِ

فهاهنا ثلاثة أنواعٍ من المديح كلها انصرف إلى الممدوح من طريق لباسه .. فأما قوله ( طيّبٌ حُجزاتهم ) فهو وصفٌ لهم بالعفة والطهارة كقولنا إن فلانًا ( نقيُّ الثوب ) ويشبهه قول أحدهم : النازلون بكلِّ معتركٍ والطيبّون معاقد الأزُرِ
فطيب الحُجزات وطيب معاقد الأزُر ونقاء الثوب كلها كنايةٌ عن عفة لابس الثوب وطهارته وصلاح حاله .. .

وهو نفس المعنى المقصود من قوله تعالى : ( وإن كان قميصه قُدّ من دبُرٍ فكذبت وهو من الصادقين ) كما سنذكر لا حقًا إن شاء الله .. فهذا هو النوع الأول .. .

وأما النوع الثاني من المديح بذكر الملابس كنايةً عن صاحبها فهو قوله ( وأكسية الإضريج فوق المشاجبِ ) فإن في هذا دلالةً على النعمة السابغة والثروة الحاضرة .. فهذا هو النوع الثاني .. .

كما أن في البيت الثالث نوعًا ثالثًا من المديح بهذا اللون المليح وهو وصف الشاعر لممدوحيه بأنهم أهل ترفٍ قديمٍ وغنىً عهيدٍ وجمالٍ لا يخلقه مرّ الأحوال .. فهذا هو النوع الثالث .. .

والمقصود أن هذا المعنى من الكناية موجودٌ عند العرب والقرآن الكريم نزل بلغتهم فلا غضاضة إن بدت فيه لطائف تدركها أذهانهم وتقبلها أذواقهم أن يستحسنوها ويعجبوا بها وهذا هو المأمول من قارئ هذه الرسالة إن شاء الله .. .

وبعد فقد كنت احتفلت بأن أجعل لكل قميصٍ من أقمصة يوسف - عليه السلام - فصلاً خاصًا به أبيّن فيه كيف كان القميص بنفسه رمزًا دالّاً على المعاني والأحاسيس التي احتقبها فوجدت أن هذا قد يطول ويلحقه ما لا يحسن بالكاتب من الوقوع في الفضول فصممت على أن أكتب كلامًا عامًّا يستخرج القارئ اللبيب من قليله شيئًا كثيرًا .. وبالله التوفيق .. .

*وأذكر أني استخدمت هذه الكناية على سبيل الذم في شعري فقلت في جبانٍ : نقيُّ الثوب من شطط العوالي ... له من كل لا معةٍ نحيبُ !



يتبع >>
 
المعذرة على الإطالة : تابع

المعذرة على الإطالة : تابع

2


ولعل أقوى ما يؤكد زعمي فيما قلت - ويحسن بي أن ابتدأ به - هو أنا نجد أن ثلاثة الأقمصة وردت كعنصرٍ أساسيٍ لا غنى عن الاستعانة به في جميع حوادثها الثلاثة .. فهي في جميع حوادثها الثلاثة مناط أحكامها ومنبع مشاعرها لأنها وردت فيها لا على أنها ألبسةٌ وكفى بل هي ألبسةٌ وأدلةٌ على أفعالٍ وأقوالٍ ونوايا صدرت من لابسها أو المتعرض لها .. وهذه الأفعال والأقوال والنوايا فيها دروسٌ من الإيمان والصبر والعفاف والبر والرحمة والشكر والرعاية والنصر لا ينبغي إغفالها .. .

ففي القميص الأول نجد يعقوب عليه السلام يقول لإخوة يوسف عليه السلام وقد أتوه بقميصه وعليه دمٌ كذبٌ زاعمين أن الذئب قد أكله - قال لهم : ( إن كان هذا الذئب لرحيمًا ! كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه ؟! ) فالقميص هنا ليس لباسًا لشخصٍ معيّنٍ بقدر ما هو بيّنة زعمٍ وقرينة شكٍ تتعلق بهما من وجدانات النفوس عوالق كثيرة .. فهذا في القميص الأول .. .

وأما في القميص الثاني فالأمر غايةٌ في الوضوح لأن الله تعالى قال : ( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قدّ من قُبُلٍ فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قدّ من دُبُرٍ فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قدّ من دُبُرٍ قال إنه من كيدكنّ إن كيدكنّ عظيم ) فهل شارك القميص هنا في إظهار براءة يو سف عليه السلام أم لا ؟! .. الجواب : نعم .. وإذا كان الجواب نعم فهل من سلامة النظر ألا نرفع القميص عن مرتبة اللباس إلى مرتبة الرمز الدالّ على إحساس ؟! ..

إنك تقرأ الآيات السالفة فلا ترى مدار الحكم يدور إلاّ على حال القميص الذي صار مشعرًا بنفسه على براءة طرفٍ واتهام طرفٍ آخر .. ولو أن القميص لم يكن رمزًا دالاً هنا على كثيرٍ من المعاني والأفكار لما كان له أن يحضر في القضية كل هذا الحضور .. فهذا في القميص الثاني .. .

وأما في القميص الثالث - وهو أرقّ الأقمصة شجونًا - فإن مركزية دور القميص تتضح فيه بقوله تعالى : ( ولمّا فصلت العير قال لهم أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون ) فالقميص هنا بريد شوقٍ وفقدٍ عظيمين بين متحابين وهو يحمل ريح الحبيب إلى مُحبّه كأنه بشارة وصالٍ قريبٍ وليس هو بالثوب الداخل ضمن متاع إخوة يوسف عليه السلام لا رمز فيه ولا دلالة ولا إلهام .. فهذا في القميص الثالث .. .

ويزيد في تأكيد هذه الفكرة أنك ترى القرآن يذكر القميصين الأول والثالث وهما غير ملبوسين .. فكأن في هذا تنبيهًا للمتدبّر أن ينظر لهما بعينٍ سوى العين التي ينظر بها لكل قميصٍ ملبوسٍ .. هذا وقد ورد القميص الثاني وهو ملبوسٌ من صاحبه فكان هذا أبلغ في تسخيره رمزًا دالاً وفعّالاً ؛ لأنه - في حادثته - لم يكن ليصلح رمزًا حتى يكون ملبوسًا لصيقًا بجسد لابسه في حادثةٍ تلازم فيها شعور النفس بوهج الحسّ

والعجيب المدهش أن كل قميصٍ من هذه الأقمصة لم يجئ رمزًا على معنىً واحدٍ كما يرمز العرب مثلاً بنقاء الثوب إلى عفاف لابس الثوب وإنما كان كل قميصٍ مكتنزًا بعدة معانٍ وهذا في البلاغة كما ذكرت عجيبٌ مدهش .. وهذا في المعاني المفردة التي يتكفل كل قميصٍ بعبء دلالتها دون غيره وإلاّ فإن هناك معاني مركبةً اشترك في حمل عبء دلالتها أكثر من قميص ! وهذا في البلاغة أكثر من عجيبٍ مدهش !

وسيتسع مجال القول لو أني أردت أن أذكر جميع المعاني التي رمز لها كل قميصٍ على حدةٍ ثم أذكر بعد ذلك جميع المعاني التي اشترك فيها أكثر من قميص .. وإنما أنا هنا أشير إلى حاضرٍ يدل على غائبٍ وقريبٍ يلهم بعيدًا وعلى ذكاء القارئ مسؤولية إحضار الغائب الذي لم أحضره وتقريب البعيد الذي لم أقربّه .. لأن المعاني أخوات بعضها والشىء بالشىء يُذكر .. .

وسأبدأ بإحدى المعاني المشتركة بين الأقمصة لأن دلالتها على رمزية القميص أكبر وأظهر من دلالة المعاني المفردة ولأن هذا المعنى المشترك الذي سأبدأ به هو كالفرا في جوفه كل الصيد !

وتكون المعاني مشتركةً بين الأقمصة على وجه المقابلة والتضادّ أو على وجه الموافقة والتكميل وسأضرب لكل وجهٍ مثلاً .. فأما المعنى المشترك الذي هو كالفرا في جوفه كل الصيد فهو من المعاني الحاصلة على وجه المقابلة والتضادّ بين القميصين الأول والثالث فنقول : إن القميص الأول رمز أول ما رمز إلى قضية مهمةٍ هي قضية " عقوق الأبناء للآباء " واشترك معه في هذا المعنى على وجه المقابلة والتضادّ القميص الثالث الذي رمز أول ما رمز إلى قضية " برّ الأبناء بالآباء " وهي كذلك قضيةٌ مهمةٌ تصل حبل القضية الأولى .. فكما يذكر الطبري في تفسيره أن يعقوب - عليه السلام - قال لإخوة يوسف لمّا علم بكذبهم عليه وعقوقهم إياه في أخيهم يوسف عليه السلام : ( إن كان هذا الذئب لرحيمًا ! كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه ؟! يا بُنيَّ يا يوسف .. ما فعل بك بنو الإماء ؟! ) فهو قد استدل على كذبهم عليه وعقوقهم إياه بحال قميص يوسف عليه السلام ولا تخفى في عباراته نبرة الأسى والألم والغضب والحزن التي ما كان ليبديها لولا ما رأى من حال القميص الذي دعاه لذلك وحين يكون القميص - وهو المتاع الرخيص- دليلاً قاطعًا في مسألةٍ خطيرةٍ كهذه على شأنٍ من الشؤون فحسبه هذا ليكون رمزًا دالاً على قضيةٍ بأسرها تدخل في حشوه وتُدعى إذا دُعيت بأنها قضيةٌ من قضايا القميص الأول .. ولكل قميصٍ قضايا ! .. وقد ذكر القرآن الكريم شيئًا من أسى يعقوب عليه السلام في قوله تعالى : ( وجآءو على قميصه بدمٍ كذبٍ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على تصفون ) فكأن القميص الذي أتى به إخوة يوسف عليه السلام ليكون دليل براءتهم عند أبيهم من إلحاقهم الضرر بأخيهم عمل بنفسه عمل الشاهد على الحق وناصر المظلوم على الظالم وهو قميصٌ ومتاعٌ رخيص ! .. فأصبح عند أبيهم دليل جرمهم وعقوقهم وبريد أحزان الفقد والشوق إلى قلبه الخليّ .. وسبحان من لو شاء جعل في الجماد من أعمال الآدميين شيئًا مذكورا ! .. فهذا معنى العقوق الذي رمز إليه القميص الأول .. .

وأما معنى البرّ الذي رمز إليه القميص الثالث فعالج به جرح يعقوب عليه السلام من القميص الأول فإنه معنىً واضحٌ لا غبار عليه .. ذكر ابن كثير في تفسيره عن السدّي أنه قال عن يهوذا ابن يعقوب عليه السلام وهو من جاء إلى أبيه بالقميص الثالث : ( إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملّطخٌ بدمٍ كذبٍ فأراد أن يغسل ذاك بهذا ) ومداولة القميصين بهذا الاعتبار ترفعهما عن مقام المتاع المجّرد إلى مقام الرمز الدالّ على قضية وهنا تبرز المقابلة والتضادّ فإن يهوذا ما كان ليكلّف نفسه أن يكون بشير يعقوب عليه السلام بالقميص الثالث ( فلما أن جاء البشير ... ) لولا أنه أحس من نفسه أنه قد عقّ أباه لمّا جآءه بالقميص الأول وهو ملّطخٌ بدمٍ كذب ! .. فغسل ذاك بهذا كما قال السدّي .. وكذلك قد أحسّ إخوته لمّا قالوا لأبيهم : ( يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) فشعورهم بعقوقهم لأبيهم كان عامًا كشعورهم بوجوب التوبة منه وفي جلبهم القميص الثالث صورةٌ من التوبة من ذنب القميص جلبهم القميص الأول .. فماذا كان رد يعقوب عليه السلام وقد غمرته ريح ابنه وفقيده يوسف عليه السلام والقميص لم يصل إليه بعد ولمّا وصل إليه ففرح به وتنبأ بقرب ملاقاة حبيبه الغائب ؟! ( قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم )

وبهذا أذهبت الحسنات السيئات ومحا البرّ ما جنا العقوق .. وهي قصتان كان بطلاهما - أو من أبطالهما - قميصان رخيصان ! وإن كان قميص يوسف عليه السلام وهو على خزائن الأرض أغلى ولا شك من قميصه وهو في سن من يرتع ويلعب !

وإن في هذه المقابلة والتضادّ ما يكفي .. ولكن تأثير القميص الخطير في نسيج القصتين لا يكتمل حتى تخالط بشاشته وجه يعقوب عليه السلام وهو من توجه إليه رأسًا أمر العقوق والبرّ مخالطةً حسيةً تراها العين فتملي للقلب مما رأته شجونًا شتى .. فلننظر كيف استقبل القميصين بصورةٍ واحدةٍ وشعورٍ مختلفٍ لتتأصل في نفس المتدبّر قيمة الصبر على البلاء وليفهم أن القميصين كانا يشاركان في هذا القضاء مشاركةً مؤثرة .. ذكر الطبري أن يعقوب عليه السلام لمّا أتاه القميص الأول ( أخذ القميص فطرحه على وجهه ثم بكى حتى تخضب وجهه من دم القميص ) وهذه صورةٌ في قمة الحزن لا تزيل تداعياته الأليمة من نفس صاحبها إلا صورةٌ تضادّها في قمة الفرح ! وقد جآءت هذه الصورة في القميص الثالث ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فأرتد بصيرًا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) ! .. ونحن نعلم أن الحزن الذي سببه ورود القميص الأول على يعقوب عليه السلام كان سببًا مباشرًا في عماه ( وقال يآسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) فحسن أن يقابله القميص الثالث بزوال هذا العمى ( فلما أن جآءه البشير ألقاه على وجهه فأرتد بصيرًا ) !

ولا يفوتني هنا أن أنبه إلى أن القميص الثالث تفرد بنوعٍ خاصٍ من البر لا يقابله عقوقٌ في القميص الأول وهو برّ يوسف عليه السلام لأبيه حين قال لإخوته ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا وأتوني بأهلكم أجمعين) أي برٍّ هذا ؟! إن يوسف عليه السلام علم أن دواء أبيه من دائه قريبٌ من قريب .. فهو قد تلقى بوجهه قميص العقوق والفقد والشوق والدم فهل يزيل عنه عماه من جراء هذا القميص إلاّ قميص برٍّ ووصالٍ وحبٍ وريحٍ زكيٍّ لا يبخل به على أبيه وزير ماليةٍ صالح ؟! إن قوله ( فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا ) درسٌ في البرّ لا يغيض ماؤه ولا يبلى رواؤه .. .

هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى فإن هناك معنىً ثانيًا يحسن الالتفات إليه وهو ملموحٌ من قوله تعالى : ( اذهبوا بقميصي هذا ) فإن هذا السطر كذلك درسٌ في التأنيب والعتاب لم أجد في حياتي أبلغ منه ولا أنفذ ولا أدقّ ولا أرقّ! .. كأن لسان حال يوسف عليه السلام يقول لإخوته : هذا هو قميصيّ الحقيقيّ يا إخوتي هذا هو قميصي الذي أفرح وأبتهج بأن يرد على أبي وليس ذلك القميص الذي جردتموني منه عنوةً ولطختموه بدمٍ كذبٍ لتحزنوا به أبي عليّ ( اذهبوا بقميصي هذا ) فهذا هو قميصي الذي أريدكم وأحب لكم أن تذهبوا به إلى أبي وإني لآمركم بهذا الآن وأنا صاحب سلطانٍ كما لم أرض عن نزعكم قميصي عني وأنا لا سلطان لي عليكم لعل هذا يكفّر ذنب هذا ! .. .

أليس هذا التأنيب والعتاب هو خير تأنيبٍ وعتابٍ يمكن أن يطرق سمع إخوة يوسف- عليه السلام - من طرفٍ خفيّ ؟! .. أليس في هذا ما يزيد إيماننا برمزية القميص ؟!

هذا ومن المعاني المشتركة كذلك - وإن توهم بعضهم أنها خاصةٌ بالقميص الثاني دون غيره - معنى العفة والطهارة .. فإن هذا المعنى كان حيًا وقويًا في نفس يوسف عليه السلام منذ طفولته .. ويدل على ذلك ما رواه الطبري أن إخوته لمّا أرادوا أن يلقوه في الجبّ ( ربطوا يديه ونزعوا قميصه ) فماذا قال لهم يوسف عليه السلام حينها وهو لا يزال غلامًا حدثًا ؟! ( يا إخوتاه ! ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ ) ! فقارن واعجب بين من يطلب الستر وهو في غيابات جبٍ عميقٍ وبين من يكشف عورته للناس وهو على مدرجة الطريق ! والمقصود أن تاريخ العفة في قلب يوسف عليه السلام تاريخٌ قديمٌ كان للقميص الأول حظٌ من الشهادة عليه والحضور فيه مثل ما كان للقميص الثاني

وأثر القميص الثاني في الرمز للعفة والطهارة ظاهرٌ وجليٌ في قوله تعالى : ( واستبقا الباب وقدّت قميصه من دُبُرٍ وألفيا سيّدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن أو عذابٌ أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قدّ من قُبُلٍ فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قدّ من دُبُرٍ فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قدّ من دُبُرٍ قال إنه من كيدكنّ إن كيدكنّ عظيم )
فنحن هنا نرى مراودةً وصدقًا وكذبًا وكيدًا كان حال القميص هو الحكم فيها والحاكم بها لطرفٍ دون آخر .. وفي هذا من بيان وظيفته الرمزية ما يقنع أولي الألباب .. فلمّا كان القميص مقدودًا من دُبُرٍ كان هذا دليلاً على عفة يوسف عليه السلام من إثمٍ كادته به امرأة العزيز .. وإن في القميص المقدود من دُبُرٍ لصورةً جليلةً تصح أن تكون مثالاً أسمى لكل هاربٍ من فتنةٍ تنوشه بأظفارها ولكنه ينجو منها ويبقى أثرها اليسير فيه دليل سلامته من شرورها العظيمة ! .. وأين من ينجو من كل فتنةٍ نجاةً تامة ؟! .. وكم في الناس من مغامرين على غير هدى أقمصتهم مقدودةٌ من قُبُل؟! والله المستعان .. .

والمقصود أن القميص في هذه القصة ورد كعنصرٍ فعّالٍ ورمزٍ دالٍّ وهذا يظهر من تكرار ذكره دون الرجوع إليه بالضمير وكأن في هذا تنبيًها لحسّ القارئ أن ما كان من المساس لم يتجاوز حدود اللباس وهذا من لطائف المعاني

هذا ومن تأمل حال قُمصان يوسف عليه السلام فإنه يجدها تتدرج حسب ما يلحقها من أثر الحوادث في التعريف اللطيف بحال لابسها وتعطينا صورًا نستطيع الاعتماد عليها لنصف تاريخًا اجتماعيًا لحياة يوسف عليه السلام في أمثلةٍ سنذكرها كما أنها أعطتنا صورًا استطعنا الاعتماد عليها لنصف التاريخ النفسي والوجداني لحياة يوسف عليه السلام في الأمثلة التي ذكرناها سابقًا .. .

فإذا نظرنا لظروف كل قميصٍ وما لحقه عرفنا كيف أن الأقمصة كانت في السورة ترمز إلى أحوالٍ اجتماعيةٍ متباينةٍ يدل كل قميصٍ على صورةٍ منها دلالةً واضحةً جدًا .. فالقميص الأول من قمصان يوسف عليه السلام نزعه إخوته منه ولطخوه بدمٍ كذبٍ .. وهذا من وصفه يصوّر في الأخلاق الاجتماعية حال المغلوب على أمره والمقهور من غيره الذي لا قدرة له على اختيار مصيره ولا مصير قميصه .. وأما القميص الثاني فإنه لم يلحقه نزعٌ ولا تلطيخٌ بدمٍ كذبٍ وإنما قُدّ فقط فهو أهون ضررًا من القميص الثاني .. وهذا من وصفه يصوّر في الأخلاق الاجتماعية حال من يصارع نفسه وغيره فيغلب حينًا ويُغلب حينًا فهو ذو أمرٍ وسلطانٍ ولكنهما محدودان بمكانته الاجتماعية بين الناس وهو يعرف مصيره غالبًا ولكنه لا يملك القدرة التامة على الوصول إليه بدون معوّقاتٍ كثيرة .. وأما القميص الثالث فأمره مختلفٌ لأنه لم يكن ملبوسًا على صاحبه أصلاً لارتفاع حال صاحبه إلى مكانةٍ اجتماعيةٍ عاليةٍ له منها سلطان وأعوانٌ ومال .. فكان بديهيًا ألا يلحقه شىءٌ مما لحق القميصين الآخرين من الأضرار كالنزع أو التلطيخ بالدم أو القدّ .. فالقميص الأول كان على لابسه ثم نُزع منه وهو أحوج ما يكون إليه ولُطّخ بدمٍ والقميص الثاني كان على لابسه وهو أحوج ما يكون إليه كذلك ولكنه لم يُنزع منه وإنما قُدّ فقط مع أن امرأة العزيز أرادت نزعه ولكن الله كان قد وهب يوسف عليه السلام وهو معها من قدرة الإيمان وإرادة العفاف ما منعها مما أرادت ولو أنه اُختبر نفس هذا الاختبار مع إخوته لنجح نفس نجاحه مع امرأة العزيز ولكنه مع إخوته لم يُراود على رغبته ولم يُستثر في إرادته وإنما أُجبر إجبارًا فانتفى عنه بهذا الإجبار استحقاق اللوم والتعنيف لأنه كان فاقد القدرة معصيّ الإرادة .. فأما في القميص الثالث فإنه لم يكن لابسًا له فنُزع منه ولا كان لابسًا له فأوذي فيه وإنما كان القميص من هباته الزائدة عن حاجاته فهو هنا لا يحافظ على شأن نفسه فقط بل يحافظ على شأنها ويقدر أن يحافظ على شؤون غيرها لكونه أصبح "عزيزًا" قويّ القدرة نافذ الإرادة .. .

وإلى هنا أحبس سير القلم وفي النفس أشياءٌ وأشياءٌ .. فإن الكلام في هذا الباب لا ينتهي إلى مدىً معلومٍ تقف عنده نوازع الهمم والهموم .. وإني لأرجو من الله أن يكون فيما بيّنت مقنعًا للمقتصد وحافزًا للمجتهد ودليلاً على ما لم أبيّنه من أفكارٍ لا تفتأ تقول : أختي أختي .. ولو أطعتها لحرج صدري بها ولكل بياني عن جلاءها كلها .. والحمد لله رب العالمين .. وصلّى الله وسلّم على يوسف ويعقوب وعلى نبيّنا أزكي صلاةٍ وتسليم .. .
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي المرواني
و أنا أهم بكتابة بعض الخواطر تتعلق بالقمصان الثلاث في سورة يوسف، فكرت أن أبحث في الموقع لعلي أجد من سبقني إلى شيء في الموضوع، فهداني الله إلى موضوعك القيم الذي أصاب من نفسي ومما كان يتلجلج في خاطري موقعا، و سعدت و وجدت ارتياحا كبيرا أن عثرت على من تتساوق خواطره التدبرية مع بعض مما أجده وأتهيب ألا أجد من يشاركني تذوقه، فجزاك الله بكل خيرا و زادك فتحا وتوفيقا في تدبر كتاب الله.
سأكتب قريبا بعضا من خواطري حول القمصان رجاء أن أجد من أمثالكم تصويبا أو تعقيبا، وأرجو أن يتيسر التواصل بيننا في هذا المجال عبر البريد الإلكتروني، كما آمل أن أقرأ تعقيباتك على ماكتبته سابقا مما تجده في أرشيف الموقع
محمد سهلي
[email protected]
 
عودة
أعلى