محمد المرواني
New member
1
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين .. والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أحمده مستزيدًا إياه من نعمه ومستعيذًا به من نقمه ومؤمنًا بإحاطة علمه وواسع حلمه وأنه لا حول ولا قوة إلا به .. وبعد ... .
فإن الله تعالى ما بعث رسوله - عليه الصلاة و السلام - مرشدًا ولا أنزل كتابه له مؤيدًا ولا هيأ له صحابته جندًا إلا ليكشف به الحق عن الباطل ويميز به الخبيث من الطيّب وليكون دينه الذي أتى به هو خاتم الأديان لا يؤمن به إلا فائزٌ ولا يكفر به إلا هالك
وجعل سبحانه من حراسة دينه حسن التأمل في آياته وفي أسمائه وصفاته وعجائب مخلوقاته لأن بها توثيق عقيدة اليقين في قلوب المؤمنين وزيادة إيمانهم بأن الله هو الحق المبين فكأن هذا العمل الصالح من التأمل والتفكر في عامة ملكوت الله ليس إلا تجديدًا لحقيقة التوحيد في القلب وتأكيدًا على أهمية حضوره فكرةً في العقل وخاطرًا في الضمير وهذا عملٌ لا غاية له لأن ملكوت الله لا نهاية له وإنما تنتهي فيه العقول إلى استطاعتها من التفهم والتذوق والاعتبار .. فليس هذا الباب من العلم حكرًا على أحدٍ بل هو حظٌ مشاعٌ لكل قلبٍ سليمٍ وفكر مستقيم
وقد كتبت هذه الرسالة أو المقالة - وسأنزلها هنا أجزاء - على ضوء ذلك المطلب مما أنتجه تدبر الذهن الكليل في كتاب العزيز الجليل .. وهي رسالة جديدةٌ في فكرتها الأساسية - كما أظن - وإن كنت أوقن أن فروعها ولواحقها قد طرأت على من قبلي .. ولما كان من أعظم الخذلان والحرمان ألا يحس الإنسان بحاجته إلى تدبر القرآن وهو كلام الرحمن - فقد آذنت قلبي أن يقف عند سورة يوسف - عليه السلام - ليتدبرها ذلك التدبر العامّ الذي لا يطأ متثاقلاً كما لا يزحف متكاسلاً فاستوقفتني حوادث السورة بما فيها من عبرٍ وصورٍ ثم اقتربت أكثر فاستوقفتني حوادث القمصان خصوصًا بعبرها وصورها الخاصة بها .. وصمدت لها أكثر فاستوقفتني هذه المرة القمصان نفسها ! حتى آمنت إيمانًا لا تخالطه الشكوك أن ثمة سرًا فيها يوجب الوقوف عليها والنظر إليها نظرًا مختلفًا عن النظر إلى المتاع الملبوس المحسوس .. فإن صدق حدسي ولم تكذبني نفسي فإنه سرٌ جليل في أداء المعاني ترجع روافد القصة كلها إلى أصوله وهي هنا ( ثلاثة الأصول) !!
وأي شىءٍ هذا السرّ ؟!
إن من تأمل السياقات التي ورد فيها ذكر قمصان يوسف عليه السلام وجد أنها سياقاتٌ تذكر القميص على أنه لباسٌ محسوسٌ تصحب ضرورة ذكره أفكارٌ وأحاسيس لا تتعلق بلباسٍ محسوسٍ بل تتعلق بوجدانات النفوس ليكون القميص الملبوس رمزًا دالاً عليها وفعّالاً في توصيل حقائقها ودقائقها إلينا ليس إلاّ ... .
وهكذا كان !
إن من تأمل السياقات التي ورد فيها ذكر قمصان يوسف عليه السلام وجد أنها سياقاتٌ تذكر القميص على أنه لباسٌ محسوسٌ تصحب ضرورة ذكره أفكارٌ وأحاسيس لا تتعلق بلباسٍ محسوسٍ بل تتعلق بوجدانات النفوس ليكون القميص الملبوس رمزًا دالاً عليها وفعّالاً في توصيل حقائقها ودقائقها إلينا ليس إلاّ ... .
وهكذا كان !
وقد وردت فكرة هذا السر أول ما وردت على قلبي حين وجدت سورة يوسف عليه السلام تخلو من ذكر أنواع الألبسة إلا هذه القمصان على كثرة ذكر الألبسة في باقي سور القرآن وعلى كثرة ورود الحوادث التي تحتمل طبيعة سياقها ذكر الألبسة والأمتعة في سورة يوسف عليه السلام .. فهذا تمييزٌ أول .. .
ثم إني وجدت أن مفردة ( القميص ) لم ترد في الكتاب العزيز في غير سورة يوسف عليه السلام وإن ورد ما يضارعها كالثياب والسرابيل والزينة ولكني أتحدث هنا عن المفردة في ذاتها بما تحمله خصوصية التأكيد عليها من معانٍ .. فهذا تمييزٌ ثانٍ .. .
ثم إني وجدت أن ليس من تصريف مفردة ( القميص ) كلمةٌ واحدةٌ جاءت في الكتاب العزيز بينما نجد مثلاً من تصريف مفردة ( الثوب ) كلماتٍ كثيرةً كــــ " ثواب - مثوبة - مثابة - ثيّبات ... إلخ " ومن مفردة ( اللباس ) كلماتٍ كثيرةً أيضًا كـــــ " تلبسوا - يلبسون ... إلخ " .. فهذا تمييزٌ ثالث .. .
ثم إني وجدت أن الكلمة الدالة على الملبوس كــــ " سرابيل " ترد في القرآن مرةً بمعنى النعمة ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم ) ومرةً أخرى بمعنى النقمة ( سرابيلهم من قطران ) وكذلك كلمة "زينة" فهي ترد مرةً بمعنى النعمة ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ومرةً أخرى بمعنى النقمة ( فخرج على قومه في زينته ) مما يدل على أن المقصود باستخدامها كان محصورًا في دلالتها البسيطة على اللباس والمتاع بينما لم يرد ذكر القميص - في جميع قصصه - محصورًا في هذه الدلالة البسيطة ولا مقرونًا بما تدل عليه من مظاهر النعمة أو النقمة فقط .. وإنما كان هذا وزيادة .. وهذه الزيادة تظهر لعين المتأمل دون أن يتكلف لها تعليلاً بعيدًا .. فهذا تمييزٌ رابع .. .
ثم إن مفردة ( القميص ) ورد ذكرها ست مراتٍ في سورةٍ واحدةٍ هي سورة يوسف - عليه السلام - دون غيرها كما ذكرت سابقًا وهذا ما لم يكن لأي مفردةٍ أخرى إذ لا نجد مفردةً في الكتاب العزيز مما يدل على اللباس يرد ذكرها في سورةٍ واحدةٍ بهذا العدد غير مفردة ( القميص ) .. فهذا تمييزٌ خامس .. .
وكل هذه ( التمييزات ) لا يمكن تجاهلها بسهولةٍ لأنها ترتبط ارتباطًا مباشرًا بأسلوب القرآن في أداء المعاني والأفكار ولا تخرج نتائجها - إن صحت - من دائرة إعجازه .. فهذا الذي جعلني أقول بعد تفكيرٍ طويل : إن قُمصان يوسف عليه السلام ليست قمصانًا متشابهةً موضوعةً في دولابٍ واحدٍ يُستغنى بأحدها عن سائرها بحجة أنها جميعًا لباسٌ يُلبس ! .. بل إن كل قميصٍ منها متميزٌ بنفسه تميزًا واضحًا ؛ لأن كل قميصٍ منها يحت من وجدانات النفوس ما لا يحتمله غيره كما أنها تشترك أحيانًا في الدلالة على وجدانٍ واحدٍ يطرقه كل قميصٍ من جهته بطريقته
وهذا ما لا نجده أبدًا في باقي آيات القرآن التي اهتمت بذكر الألبسة والأمتعة لأنها كانت تذكرها خالية الوفاض من هذا المعنى .. وهذا المعنى من الكناية بالثوب عن حال صاحبه ومن تحميل الثياب أحمال النفوس والقلوب والألباب موجودٌ في كلام العرب كأفصح ما يقولون .. فهم يكنون عن العفة والطهارة وصلاح حال الرجل بوصفه أنه ( نقيُّ الثوب ) * .. ولم يقل في هذا المعنى خيرٌ من النابغة حين قال مادحًا :
رقاق النعال طيّبٌ حُجزاتهم يُحيّون بالريحان يوم السباسبِ
تحيّيهم بيض الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجبِ
يصونون أجسادًا قديمًا نعيمها بخالصة الأردان خُضر المناكبِ
تحيّيهم بيض الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجبِ
يصونون أجسادًا قديمًا نعيمها بخالصة الأردان خُضر المناكبِ
فهاهنا ثلاثة أنواعٍ من المديح كلها انصرف إلى الممدوح من طريق لباسه .. فأما قوله ( طيّبٌ حُجزاتهم ) فهو وصفٌ لهم بالعفة والطهارة كقولنا إن فلانًا ( نقيُّ الثوب ) ويشبهه قول أحدهم : النازلون بكلِّ معتركٍ والطيبّون معاقد الأزُرِ
فطيب الحُجزات وطيب معاقد الأزُر ونقاء الثوب كلها كنايةٌ عن عفة لابس الثوب وطهارته وصلاح حاله .. .
فطيب الحُجزات وطيب معاقد الأزُر ونقاء الثوب كلها كنايةٌ عن عفة لابس الثوب وطهارته وصلاح حاله .. .
وهو نفس المعنى المقصود من قوله تعالى : ( وإن كان قميصه قُدّ من دبُرٍ فكذبت وهو من الصادقين ) كما سنذكر لا حقًا إن شاء الله .. فهذا هو النوع الأول .. .
وأما النوع الثاني من المديح بذكر الملابس كنايةً عن صاحبها فهو قوله ( وأكسية الإضريج فوق المشاجبِ ) فإن في هذا دلالةً على النعمة السابغة والثروة الحاضرة .. فهذا هو النوع الثاني .. .
كما أن في البيت الثالث نوعًا ثالثًا من المديح بهذا اللون المليح وهو وصف الشاعر لممدوحيه بأنهم أهل ترفٍ قديمٍ وغنىً عهيدٍ وجمالٍ لا يخلقه مرّ الأحوال .. فهذا هو النوع الثالث .. .
والمقصود أن هذا المعنى من الكناية موجودٌ عند العرب والقرآن الكريم نزل بلغتهم فلا غضاضة إن بدت فيه لطائف تدركها أذهانهم وتقبلها أذواقهم أن يستحسنوها ويعجبوا بها وهذا هو المأمول من قارئ هذه الرسالة إن شاء الله .. .
وبعد فقد كنت احتفلت بأن أجعل لكل قميصٍ من أقمصة يوسف - عليه السلام - فصلاً خاصًا به أبيّن فيه كيف كان القميص بنفسه رمزًا دالّاً على المعاني والأحاسيس التي احتقبها فوجدت أن هذا قد يطول ويلحقه ما لا يحسن بالكاتب من الوقوع في الفضول فصممت على أن أكتب كلامًا عامًّا يستخرج القارئ اللبيب من قليله شيئًا كثيرًا .. وبالله التوفيق .. .
*وأذكر أني استخدمت هذه الكناية على سبيل الذم في شعري فقلت في جبانٍ : نقيُّ الثوب من شطط العوالي ... له من كل لا معةٍ نحيبُ !
يتبع >>