نظرة أخرى في سورة الحديد

إنضم
07/05/2004
المشاركات
2,562
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الخبر - المملكة ا
الموقع الالكتروني
www.islamiyyat.com
من موقع قصة الإسلام قرأت هذا المقال في سورة الحديد وأضعه بين أيديكم للفائدة

بقلم: م. محمد إلهامي[1]
6866_image002.jpg
تبدو سورة الحديد، وكأنما تدور حول موضوع رئيسي واحد: الإنفاق في سبيل الله، فكأن هذا هو موضوعها الكبير الذي تصب في معناه أجزاء السورة[2].
ففي أول السورة حديث عن الله، الإله الواحد الذي تسبح له السموات والأرض وما فيهن، والذي له ملك السموات والأرض، الأول والآخر، الذي يعلم شأن الأرض وأرزاقها ومواردها وثرواتها، ما يدخل فيها من مطر وغيره، وما يخرج منها من زرع ونبات وثمار وغيره، وما يتكون فيها من ثروات ومعادن. كما يعلم شأن السماء ما ينزل منها من رزق ومطر، وما يصعد إليها من الأعمال والملائكة، وهو الذي يعلم شئون خلقه أين ما كانوا {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].

فهو -وحده- مالك السموات والأرض، وكل من يتصور أنه يملك شيئًا فعلى سبيل المجاز، وفي زمن مؤقت محدود، بينما الملك على الحقيقة لله تبارك وتعالى، والدليل أنه هو وحده الذي إليه تُرجع الأمور، وأنه وحده الذي يُسَيِّر الشئون الكبرى لهذا الكون.

6866_image003.jpg
فليس غيره من يستطيع أن يولج الليل في النهار، وأن يولج النهار في الليل، وأي شأن في حياة الإنسان أكبر من أن يتغير حوله الكون من ليلٍ إلى نهار؟! ومن نهار إلى ليل؟! شمس تشرق ثم تغيب، فلا يملك أحد في الكون أن يحركها أو يوقفها أو حتى يبطِّئ من حركتها. بل مجرد التفكير في هذا بَهَت النمرود لما قال له إبراهيم u: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
ثم إنه –تبارك وتعالى- مع هذه القدرة التي تحرك الأجرام الكبار، وتسيطر على الشئون العظام في حياة البشر، لا تخفى عليه أدق الدقائق وأخفى الخفايا، ولا حتى خاطرات الصدور، ولا حتى وسوسات النفوس، ولا حديث السر للسر في السر {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 6].
اقرءوا الآيات: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 1- 6].
***​

وبعد هذا البيان الذي يوضح للأذهان حقيقة أن البشر على هذه الأرض لا يملكون شيئًا في ميزان الحق والحقيقة، يقول الله تعالى: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. والمعنى واضح: أنفقوا، فهذا مقتضى إيمانكم بالله الذي تسبح له السموات والأرض.. العزيز.. الحكيم.. الأول.. الآخر.. الظاهر.. الباطن.. الذي هو بكل شيء عليم.. الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام.. الذي أحاط بما في الأرض وما في السماء.. الذي له ملك السموات والأرض.. الذي إليه ترجع الأمور.. الذي يقلب الليل والنهار.. العليم بما في الصدور.

يا من آمنوا بهذا.. أنفقوا {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}. أي: أنفقوا من هذا الذي لا تملكونه بل أنتم متصرفين فيه، مثلما يتصرف الوكيل في مال المالك الأصلي، والوصي في مال الذي هو وصي عليه.
أنفقوا من أموال لا تملكونها على وجه الحقيقة، بل أنتم مستخلفين فيها، وعمَّا قريب تتركونها أو تترككم.
أنفقوا في سبيل الله، فلن يبقى لكم شيء {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 7]. ولن يستوي من أنفق في وقت الضعف والقلة، مع من أنفق في وقت العزة والنصرة، ولكن كلاهما له الجنة.
وإنها لدعوة فياضة بالمعاني، إذ تسمع قول الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].. فإنها دعوة تفيض برحمة الله.
رحمة الله إذ يسمِّي الذي أنفق في سبيله كأنما أقرضه.. أَقْرَضَ الله!!.. الله الذي يملك السموات والأرض! وتسبح له السموات والأرض وما فيهن ومن فيهن! الله الذي له ميراث السموات والأرض! الله الذي يملك على الحقيقة يحثُّ بصيغة الطلب والاستفهام عبيدَه أن ينفقوا في سبيله، فيقول لهم: أقرضوني قرضًا حسنًا، وأنا أضاعفه لكم!!
رحمة الله إذ يعلم من نفوس عِباده بخلاً وشحًّا، فيطلب منهم قرضًا، ويعدهم بأنه سيعطيه لهم أضعافًا مضاعفة، لا يطلب منهم عطاء أو منحة لا تُرَدُّ، أو يطلبها حتى على سبيل الشكر وتوفية شيء من نِعمه السابغة، بل لا يطلبها حقًّا، وهو صاحبها وواهبها ومالكها على الحقيقة.
رحمة الله إذ يعطي القرض المضاعف، ثم يعطي بعده أجرًا كريمًا!!
قال المفسرون: إن الأجر الكريم هو الجنة، أي أن سداد القرض بالمضاعفة هو سداد في الدنيا قبل الآخرة. وهذا وعد من يملك ويقدر.
ألا ما أحنّها من دعوة؟!
دعوة تثير الخجل وتقف بالنفس أمام حقيقتها المخزية.. حقيقة بخلها حتى بما لا تملك، وبخلها بما سيذهب من يدها، ثم بخلها بكل هذا على واهب النعم وصاحب الفضل، على الذي يملك السموات والأرض، على الذي إليه ترجع الأمور.
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 7- 11].
***​

ثم ينتقل سياق السورة إلى المصير.. إلى اليوم الآخر، حيث لم يبق شيء، ولم يعد أحد يملك شيئًا.
وإن اللافت للنظر في هذا السياق، أنه تصوير لحال المؤمنين والمنافقين، ولا يأتي على ذكر الكافرين، فهي حكاية ومقارنة بين مؤمن صادق وبين منافق ادَّعى الإيمان دعوى ظاهرية، ولم يكن الإيمان حقيقة نفسه. والتتابع في السياق يفيد بأن هذا هو حال المؤمنين المتصدقين مقارنة بحال المنافقين، الذين فتنوا أنفسهم فأسرتهم اللذات والشهوات الشخصية، وأجَّلوا التوبة وارتابوا في الله وفي وعده وغرتهم الحياة الدنيا.
والسياق مليء بألفاظ وإيحاءات ودلالات العطاء والإنفاق.
فالمؤمنون {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، والمنافقون يطلبون العطاء من المؤمنين {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13].
والإيحاء في لفظ {نَقْتَبِسْ} يذهب بالخيال إلى مشهد الفقير الذي يطلب الصدقة، فهو يطلب شيئًا بسيطًا صغيرًا، لن يضر بصاحب المال إذا أنفقه.. لن يؤثر في حجم المال، أو صاحب المال الذي يرفض أن "يقتبس" أحدٌ من ماله، ويمنع هو أن يخرج الشيء اليسير من عنده.
إنه يمنع ما ينفع المحتاج ولا يضره هو.
أليس مشهدًا مشابهًا، وجزاء من جنس العمل؟! يُمنعون يوم القيامة أن يقتبسوا نورًا يمشون به، ولن يضر نور اقتبسوه أصحاب الإيمان.
بل يقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]، فيكون ذلك منعًا كما سبق لهم أن منعوا، وطردًا كما سبق لهم أن طردوا، ثم يحال بينهم وبين النور.
ويومئذٍ لا ينفعهم المال، فلا تؤخذ منهم فدية. وهنا يُذكر لأول مرة {الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 13]، يأتي ذكرهم ليقال لهم: لن تؤخذ منكم فدية، تمامًا مثلما لم تؤخذ من الذين كفروا، ومأواكم النار التي هي مأوى الذين كفروا.. بئس المصير.
وحينما لا يُقال في هذا الموقف ولا يُذَكَّرون بشيء من وسائل النجاة إلا الفدية، فإنه يعطي إشارة إلى أن المُخاطبين بهذا الكلام تصوروا أو فكروا أو تمنوا أن الفدية ودفع الأموال يمكن أن ينجيهم وينقذهم من هذا العذاب، وهذه طريقة تفكير البخلاء والممسكين إذا أحاطت بهم المصائب، فالبعض يحسب أن كل مشكلة يمكن أن تحلها الأموال، وكل مصيبة يمكن النجاة منها بدفع الأموال.
إن ذكر الفدية هنا فقط دليل على أنهم قوم بخلاء، سُئلوا المال من قبل فمنعوه، فاليوم لا يُسأَلونه ولا ينفعهم.
ثم يتوجه الخطاب القرآني للمؤمنين، يعاتبهم: ألم يأت أوان أن تخشع قلوبهم لذكر الله وللحق، وعاتب الله المؤمنين بهذه الآية بعد أربع سنوات فقط من إسلامهم، كما في صحيح مسلم، ثم يحذرهم من أن تقسو قلوبهم، مثلما قست قلوب أهل الكتاب من قبل حين طال إهمالهم لذكر الله، ففسقوا.
ثم يطمئن الله الذين آمنوا فيذكرهم بأن الله القادر على إحياء الأرض بعد موتها، وتحويلها إلى المروج والزروع والثمار من بعد ما كانت أرضًا قاحلة وميتة، قادر على أن يحيي القلوب التي قست، فيجعلها حية خاشعة.
ثم يعود السياق القرآني ليُذَكِّر المؤمنين بأن التصدق والإنفاق في سبيل الله هو بمنزلة إقراض لله U، وهو القرض الذي يَعِدُ الله أن يرده أضعافًا مضاعفة، ثم يعطي فوق الأضعاف المضاعفة أجر كريم.
إنه نفس المعنى، بل تكاد تكون نفس الألفاظ الموجودة في الآية الحادية عشرة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]، وهي الآية التي سبقت وصف الله تعالى لحال المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة.. إنها تتكرر الآن، ولكن في سياق آخر: بعدما حذر الله المؤمنين من إهمال كتابهم ومن قسوة قلوبهم.
وكأن طريق الخشوع، وتجنب قسوة القلب، يكون بالإنفاق في سبيل الله.. كأن بداية حياة القلب التي هي مثل حياة الأرض تكون بالتصدق، بإقراض الله تبارك وتعالى.
ومثلما أنت تنفق في الأرض البذور، فتعطي الأرض أضعافًا مضاعفة، كذلك إذا أقرضت الله يعيده إليك الله أضعافًا مضاعفة. ومثلما كان عليك أن تنفق أولاً في الأرض ثم تنتظر العائد الكثير، يكون عليك أن تنفق في سبيل الله تعالى ثم تنتظر أن يحيي الله قلبك كما يحيي الأرض بعد موتها، وأن يضاعف لك أموالك أضعافًا كثيرة.
وإنها دعوة لمن قسى قلبه أن ينفق، فإن الله هو من ذكر الإنفاق بعدما حذر من قسوة القلب الذي طال عليه الأمد.
ويُخْتَتَم هذا المقطع بآية تفرق بين المؤمنين وغيرهم، فكأنها تصف حال الناس إزاء كلام الله؛ فمنهم من صدّق وعد الله وكلام الله، ومنهم من كفر بالله وكذب بآياته فلم يصدقها، ولم يعمل بها، يَذْكُر الله تعالى أن المؤمنين هم الذين يصدقون الله ورسوله، هم الصِّدِّيقون، وهم الشهداء، وأولئك لهم أجرهم ونورهم، وأما المكذِّبون فأولئك أصحاب الجحيم.
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 12- 19].
***​

أما المقطع القادم فلا نكاد نحتاج فيه إلى بيان، ولو شئنا أن نضع له عنوانًا، فما أظننا سنختلف على من يقول إن عنوانه (أنفقوا في سبيل الله).
فالآيات الخمس تحمل هذه الرسائل بالترتيب:
1- الحياة الدنيا لعب ولهو ومظاهر وزخارف مثل النبات المروج والحدائق التي تعجب قصار النظر فلا يفكرون في نهايتها، فما هو إلا قليل حتى يصفرَّ هذا النبات الجميل، ثم يتيبس فيفقد نضارته وزهرته، ثم يكون هشيمًا محطمًا.. فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، ليست بمتاعٍ حقيقي مستقر ولا خالد.
2- ولهذا.. لا تتعلقوا بهذا المتاع الزائف والزائل والذي سيتحطم قريبًا، وانطلقوا إلى متاع جنة عرضها السموات والأرض.
3- واعلموا أن كل شيء في هذه الدنيا من الأرزاق والأموال والأحداث مقدَّر عند الله من قبل أن يقع؛ حتى لا تحزنوا على ما فقدتم ولا تطيروا فرحًا بما حصلتم عليه؛ فالله لا يحب المختال المتباهي المتفاخر المتكبر.

ثم تأتي الآية التي تفسر من هو المختال الفخور، فهم الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل..
بل هي تفسر كل ما سبق من آيات، وفيها توجيه وإرشاد، فإذا كانت الدنيا متاع غرورٍ، وكان المتاع الحقيقي في الآخرة في جنة عرضها السموات والأرض، وكانت الأرزاق والأموال مقدرة مكتوبة من قبل أن يوجد البشر، وتوجد الأحداث، فما معنى أن يتفاخر المرء ويتباهى ويتكبر؟!
ما معنى أن يبخل؟.. لا.. بل ويأمر غيره بالبخل! بالبخل على الله!! ما هذا الجحود؟ بل ما هذا الجنون؟! فإن الله هو الغني الحميد.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 20- 24].


***​

وتختم السورة بخمس آيات أخرى تُقِرُّ حقائق الحياة بلهجة حازمة:
1- الله أرسل الرسل بالمعجزات وبالكتب لتعتدل حياة الناس.
2- وأنزل الحديد، فيه البأس والشدة، وفيه منافع للناس.
3- إن هذه أمور ليتبين بها مَن الذي آمن بالله ونصره وهو لم يره.
4- إن الناس رغم توالي الرسل بالمعجزات، منهم مؤمنون سيأخذون أجرهم، وأكثرهم فاسقون.
5- من آمن فله رحمة واسعة، وله من الله نور ومغفرة؛ فالله غفور رحيم.
6- لا حرج على فضل الله، ولا يملك أحد أن يمنع فضل الله؛ فالفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وفي هذه الآيات الخمس لا نجد قيمة الإنفاق على وجه الخصوص حاضرة بوضوح كما فيما مضى من السورة، ولكن إعادة التذكير بحقائق الإيمان، وحقائق التاريخ، وحقائق الأمم تدعم الحقيقة الكبرى.. حقيقة فناء الدنيا وفناء الناس، وحقيقة أن الله هو من يمنح ويعطي ويتفضل، بلا حرج على فضله، وبلا شرط على عطائه؛ فهو ذو الفضل العظيم يُرسِل الرسل ويشرع الشرائع؛ لتعتدل حياة الناس، ويخلق لهم ما فيه منافعهم، ومن فضله أن يجعل الفضل في ذرية المؤمنين، وأن يلقي الرحمة والرأفة في قلوب المُتَبِّعِين، وأنه يعطي الأجرين والأكثر، ثم يعطي معها النور والغفران.

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 25- 29].

قال الشاعر الطغرائي:

يقولون أبق المال واجمعه ممسكا *** فعـز الفتى في أن يجـم ثـراؤه
فقلت كلانا لا محـالة هالك *** فأهـون عندي من فنائي فنـاؤه
ثراء الفتى من دون إنفـاقه له *** فسـاد وإنفـاق الثـراء نمـاؤه
فأنفق فإن العين يركد ماؤهـا *** فيـأسن، والمنزوح يعذب مـاؤه​

[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، صاحب مدونة المؤرخ (http://melhamy.tadwen.com).
[2] هذا ما بدا لي في قراءة للسورة، وقد راجعت ما تيسر من كتب التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، فلم أر من سبقني لهذا المعنى ممن تناولوا السورة، وقد كنت أتمنى أن يكون قد سبقني أحد فأستفيد منه واستأنس لرؤيتي به، أما والحال هكذا فهذه خاطرة أخيكم الذي لا يبلغ أن يكون طالب علم، فما كان من خير فمن عند الله وبتوفيقه، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
 
اجتهاد يذكر لهذا الطالب النجيب فيشكر .
وهو اجتهاد محمود موجود إجمالا في كتب التفسير وهو مأجور مثاب ـ إن شاء الله تعالى ـ على ما سطر.
 
هذا رابط مفيد يتعلق بتفسير سورة الحديد لأخينا الشيخ الفاضل ـ الدكتور قريباً بإذن الله ـ فهد الشتوي، بعنوان:
وقفات مع سورة الحديد (1 - 6) وإليكم رابط الجزء الأول:
http://www.alukah.net/Sharia/0/4816/1/الشتوي/
 
عودة
أعلى