نظرات مصطلحية في مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني

إنضم
29/05/2007
المشاركات
92
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
يسرني أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى كل الإخوة في هذا المتلقى المبارك مشرفين ومشاركين وقراء، وأضع بين أيديهم هذا المقالة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
كتاب "مفردات ألفاظ القرآن" لأبي القاسم الحسين بن محمد بــن المفضــل المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ)، من أهم وأحسن ما ألف في مجــال الدراســات القرآنية واللغوية.
وهذه الأهمية نابعة من كون الكتاب محتويــا على ثروة لغوية نفسية، محررة، ومرتبة ترتيبــا معجميــا، يفيد عمـوم البــاحثين في العلوم الإسلامية والعربية.
وقد وظف الراغب هذه الثروة اللغوية في تحقيــق ألفــاظ القرآن وتحصيل معانيها. وانتهى به منهجه في الكتاب إلى نمــوذج متفــرد في تحديد الدلالة القرآنية تحديدا دقيقــا. ذلك بأنه اجتهد في تلمس أصول الألفاظ ومدراتها، والإشارة إلى كثير من جزئيات المعاني المندرجة تحتها، معتبرا سـياق الكلام، جاعلا قصده الأسمى ضبط مدار المعنى الذي يدور عليه اللفظ في القرآن جملة.
يقول الدكتور الشاهد البوشيخي: "إن الراغب الأصفــهاني في المفـردات يكاد يتفرد بشيء لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، وهو التفطــن إلى خصوصيــة الدلالة القرآنية، مما أكسبه تدقيقــا في الشرح ميزه عن سواه تمييزا"(1).
وقدسبق الإمام الزركشي إلى التنبيه على تفرد الراغب في هذا المقام ، مشيرا إلى السر فيه . فقد قسم الزركشي القرآن قسمين : أحدهما أحدهما ورد تفسيره بالنقل .. و "الآخر ما لم يرد فيه نقل من المفسرين ، وهو قليل . وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق . وهذا يُعنى به الراغب كثيرا في كتاب المفردات ، فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ ، لأنه اقتنصه من السياق "(2)
وفي موضع آخر يقول: "وهو يتصيد المعاني من السياق لأن مدلولات الألفاظ خاصة"(3).

هل المفردات كتاب في الغريب؟
إن ما سبق من الكلام يحملنا على التوقف في اعتبار هذا الكتاب من كتب الغريب. وأعتقد أن هذه المسألة في حاجة إلى تحرير ومراجعة، فقد دأب كثيــر من العلماء الباحثين على عد المفردات في كتب غريب القرآن. ومــن هــؤلاء الإمام الزركشي نفسه(4)، والإمام السيوطي(5)، ومن المحدثين الدكتور محمود نحلة(6) والدكتور فتحي الدابولي(7) وغيرهم.
وأغرب مــن ذلــك أن أحــد المحققــين للمفردات قال في المقدمة: "إن كتاب المفردات يعتبر موسـوعة علمية صغـيرة، فقد حوى اللغة والنحو والصرف والتفسير والقراءات والفقه والمنطق والحكمــة والأدب والنوادر و أصول الفقه والتوحيد، فأجدر به أن يحتل الصدراة بين الكتب المؤلفة في غريب القرآن ومعانيه"(8).

مفهوم الغريب:
يلخص الدكتور محمود نحلة مفهوم الغريب فيقول: "الغريب في اللغة مــا خالف الشائع المألوف وتباعد عنه. وفي اصطلاح البلاغين هو الوحشــي أو الحوشي الذي لا يظهر معناه إلا بالتنقير عنه في كتب اللغة المبسوطة. ثم ينقل عن ابن الأثير أن الوحشي قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح، ثم يقسم الألفــاظ إلى ثلاثة أقسام: قسمان حسنان، وقسم قبيح، "فالقسـمان الحسنان أحدهما مــا تداول استعماله الأول والآخر من الزمن القديم إلى زماننا هذا ولا يطلق عليــه وحشي، والآخر ما تداول استعماله الأول دون الآخر ويختلــف في اســتعماله بالنسبة إلى الزمن وأهله. وهذا هو الذي يعاب استعماله عند العرب، لأنــه لم يكن عندهم وحشيــا وهو عندنا وحشي، وقد تضمن القـرآن الكريــم منــه كلمات معدودة، وهي التي يطلق عليها غريب القرآن... وأمــا القبيــح مــن الألفاظ الذي يعاب استعماله فلا يسمى وحشيــا فقط، بل يسمى الوحشــي الغليظ"(9).
وينقل عن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله تعالى – قوله: "وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد أنها منكرة أو نافرة أو شاذة كما رأيت في باب اللغةـ فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنمــا اللفظة الغريبة ها هنا هي التي تكون حسنة مســتغربة في التــأويل بحيـث لا يتساوى في العلم بها سائر الناس"(10).
وقد لا نكون في حاجة إلى بسط القول – بأكثر مما ذكــر – في تعريـف الغريب وبيان مفهومه حتى نزن به كتاب المفردات، ومهما يكن من اختــلاف في ذلك فإن أحدا – فيما نعلم، والله أعلم – لم يقل إن ألفاظ القــرآن كلــها غريبة، علمــا بأن الراغب قد عنى بها جميعــا، ولم يستثن منها شيئــا.
والحق أن كتاب "المفردات" أشمل وأوسع وأعمق من مجال الغريب بمعنـاه الشائع، وهذا بحسب واقع الكتاب الناطق، وبحسب قصد كاتبه الذي نص عليه نصــا.
- فمن ذلك أن الراغب لم يشر في مقدمة "المفردات" إلى اسم لـه محــدد وواضح، وإنما قال – بعد أن نبه على مركزية الألفــاظ المفــردة في الخطاب القرآني، ومركزيتها في بنية العلوم عمومــا -: " وقد استخرت الله تعــالى في إملاء كتاب مستوفى منه مفردات ألفاظ القرآن علــى حــروف التــهجي... والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب"(11).
ففي هذا النص تحديد لموضوع الكتاب ومادته، وبيان للمنهج المتبع في جمعها وتصنيفها وترتيبها وعرضها. كما أن تعبير الراغب بلفظ "الاســتيفاء" يؤكد قصده إلى استيعاب جميع ألفاظ القرآن بحيث لم يقصر اهتمامه علـى ألفاظ دون أخرى، ولم يشر إلى غريب ولا إلى غيره.
ولا يقدح في أصل المســألة أن يكون قد فات الراغب بعض الألفاظ مما نبــه عليــه الســمين الحلـبي (ت، 756هــ) في "عمدة الحفاظ"(12)، ومحقق المفردات الدكتور صفــوان داوودي، فهي ألفاظ معدودة على رؤوس الأصابع كمــا يقال!!.
- ومن ذلك أن كتاب المفردات يختلف كثيرا عن كتب الغريب كتفســير غريب القرآن لابن قتية (ت، 276هــ) ، وتفسير غريب القــرآن المســمى بترهة القلوب لابن عزيز السجستاني (ت، 330هــ) وغيرهما. بل إنـه يختلف عن كتب معاني القرآن كما هي عند الفراء (ت، 207هــ) والزجــاج (ت، 311 هــ) والمجاز لأبي عبيدة (ت، 210 هـ) وغيرهم، حيث تلحق عـادة بكتب الغريـب، أو تلحق هي بها.
وهذه الكتب تهتم بالجانب اللغوي وتعـنى بالغريب غايــة العناية أكثر من أي شيء آخر. في حين يجتمع عند الراغب اللغة عامـة ولغـة القرآن خصوصـا والمصطلح أيضـا. وهنا ينبغي التفريق بين كون المفـردات متضمنـا للغريب – وهو ما لا يمكن إنكاره – وبين كونه كتابـا في الغريـب، وهما صنفان بينهما بون شاسع.
- ومن ذلك أيضـا أننا عندما نتأمل – بعناية – في مقدمة المفردات فإنـا نجد الراغب متطلعـا إلى بناء "نظرية" في علم بيان القرآن. وقد نص علـى أن كتابه هذا جاء في سياق تأليفي مقصود... فقبله كانت "الرسالة المنبهة علــى فوائد القرآن". ثم كتاب "الذريعة إلى مكارم الشريعة". قال: "وذكـرت – أي فـي تلك الرسالة – أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظيـة، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، .. وليس ذلك نافعـا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع". ثم قال: "وأتبع هذا الكتـاب إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة علـى المعنى الواحد وما بينها من الفروق الغامضة"(13).
ويضاف إلى هذا أنه توسع في العلوم اللفظية بمباحثها المختلفة في مقدمـة تفسيره(14).
ويفهم من قول الراغب السابق: "والإشارة فيه إلى المناسبات الــتي بـين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب"، أن كتاب "المفردات" – في مداه الحقيقي الذي يتصوره المؤلف – أعمق وأوسع ممـا هو عليه الآن. وذلك لأن استخلاص دلالة اللفظ القرآني يستلزم النظـر إليـه اعتمادا على:
- ملاحظة الفرق بين اللفظ ومرادفه بحسـب دلالـة اللغـة ثم بحسـب الاستعمال القرآني.
- رصد اختلاف دلالة اللفظ الواحد تبعـا لاختلاف السياق.
-رصد اختلاف المعاني وتنوعها بسبب اختلاف الاشتقاق والتصريف.
-ولا شك في أن مراعاة كل ذلك يستلزم أعمارا متعددة وأعمالا ضخمة جدا نظرا لخصوصية النص القرآني المعجز.
لقد كان الراغب على وعي تام بذلك المدى الواسع، ولكنه ربما نظر في ما يستقبل من عمره فرآه غير كاف لإنجاز هذا المشروع الضخم فاكتفى بالتنبيـه والإشارة... وفي ذلك علامة ومنارة!!.
إن اهتمام الراغب إذن بتحقيق الألفاظ المفردة وارد ضمن نسـق معرفـي محكم. ولعل من مظاهر هذا النسق امتداد العناية به من تحقيق ألفـاظ القــرآن الكريم إلى التنبيه والاهتمام – ضربـا من الاهتمام – بتحديـد اصطلاحــات العلوم. يقول: " وليس ذلك نافعـا في علـم القرآن فقط، بل هو نافع في كــل علم من علوم الشرع، فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته، وواسـطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حــذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم. وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنـها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمـرة، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة"(15).
ففي هذا النص تتجلى محورية اللفظ القرآني في بنيـة العلـوم الإسـلامية والعربية، وقد بنى عليها الراغب تصوره لتصنيف العلوم التي يأتي على رأسـها "علم القرآن" (هكذا بالمفرد! وفيه دلالة خاصة) ثم تليه علوم الشرع التي نشأت حوله.
ويتجلى في النص أيضـا خطر اللفظ في علم القرآن وخطر المصطلـح في علوم الشرع، بل في سائر العلوم. ولعل هذا هو ما يدفع بعض العلماء والباحثين إلى القول باصطلاحية ألفاظ القرآن لما يلاحظ من تميز وخصوصية في دلالاتهـا الاستعمالية في الخطاب القرآني.
ومن هذه النافذة يمكن أن نطل على مظهر عظيم من مظاهر التداخل بـين علم القرآن وهو الوحي، وبين العلوم التي أسسها العقل المســلم اسـتنادا إلى الوحي بيانـا وتبينـا. ونطل بعد ذلك على مظهر مـن مظـاهر التداخـل والتكامل بين تلك العلوم ذاتها نظرا لوحدة مصدرها.

المصطلح في "المفردات":
لقد أورد الراغب رحمه الله تعالى في هذا الكتاب عدة مصطلحات في علـوم مختلفة تزيد على خمسين ومائتي مصطلح معرف، فضلا عن المصطلحات الــتي ذكرها من غير تعريف. وفي هذا دلالة على إحساس قوي بقيمـة المصطلـح وضرورة تعريفه وتحقيقه. وفيه دلالة أيضـا على أن استحضار الدلالة القرآنيـة للألفاظ مفيد جدا في تحقيق مصطلحات العلوم.
فمن مظاهر ذلك تصحيحه لما ذهب إليه أصحاب الشافعي رضي الله عنـه من أن الطََّهور بمعنى المُطهِّر، قال: "ذلك لا يصح من حيث اللفظ لأن فعولا لا يبنى من أَفْعَل وفعَّل، وإنما يبنى ذلك من فَعُلَ. وقيل: إن ذلك اقتضى التطهير من الثوب، فإنه طاهر غير مطهر به، وضرب يتعداه فيجعل غيره طاهرا به، فوصف الله تعالى الماء بأنه طهور تنبيهـا على هذا المعنى". ذكر الراغب هذا عند حديثه عن قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} (الفرقان: 48)(16).
ومن هذا القبيل تلك الوقفة الدقيقة التي وقفها مع مصطلح "المجمل" حـين قال: "وقول الفقهاء: "المجمل ما يحتاج إلى بيان" فليس بحد له ولا تفسير، وإنمـا هو ذكر أحد أحوال بعض الناس معه، والشيء يجب أن تبين صفته في نفســه التي بها يتميز، وحقيقة المجمل هو المشتمل على جملة أشياء غـير ملخصة"(17).
فانظر إلى تنبيه الذكي على ذلك الشرط الضروري في التحديد والتعريف!
ويلاحظ أن المصطلحات التي أوردها الراغب تنتمي إلى عدة علوم، وتتنوع بين:
- مصطلحات في الفقه كالطهارة والصلاة والزكاة وبيع الغرر وبيع العرايـا والرهن والمضاربة والتعزير والمناسخة في الميراث.
- ومصطلحات في الأصول كالمشكل والبيان والمبهم والمحكـم والمتشـابه والضروري والفرض الواجب المحظور والحكم والتخصيص والإجماع والاجتهاد والنسخ وغيرها.
- ومصطلحات في العقيدة والكلام والمنطق: كالإسلام والإيمان والفسـق، والذات والرجعة والعصمة والإرادة والمشيئة والعرض، والنظر والقياس والمناظرة والبرهان والحال والوجود.
- ومصطلحات أخرى في اللغة والطب وغيرهما.
ويلاحظ من جهة أخرى أن تلك المصطلحات تتنوع – بحسب صورهـا في علاقتها بالقرآن الكريم إلى أنواع:
- فنوع ورد في القرآن بصيغته وصورته ثم اسـتعمل في أحـد العلـوم، كمصطلح البيع مثلا فإنه ورد في القرآن الكريم ثم خصص له بـاب في الفقـه مشهور، وباعتبار ما ضم إليه فقد يذكر مجموعـا لاندراج أنواع وأصناف مـن البيع تحته كبيع المقايضة والبيع بالمراسلة وبيع المضطر وبيع الغرر... وغيرها. (18)
- ونوع لم يرد بصورته لكن يرجع في أصله إلى القــرآن، فمـن ذلـك مصطلح الملاعنة(19)، وهو باب معروف في الفقه أيضـا، ولم يرد بهذه الصـورة
في القرآن، لكنه استفيد من قوله تعالى في أن الرجل يقول في الخامسة: {أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} (النور: 7). ومثله مصطلح التذكية(20).
- ثم هناك نوع آخر لم يرد في القرآن الكريم ولا هو مستفاد منـه لكنـه مشتق من مادة اللفظ الذي هو بصدد تعريفه، فيورده على سبيل الفائدة. فمـن ذلك مصطلح المخاضرة وهي "المبايعة على الخضر والثمار قبل بلوغها"(21). وهذا المصطلح لم يرد في القرآن ولا يظهر أنه مستفاد من نص قرآني في باب البيـوع من الفقه، ولكنه ورد في الحديث الذي رواه انس بن مالك رضي الله عنه قـال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة"(22).
وقد أورد الراغب هذا المصطلح في شرحه لما تفرع عــن مـادة "خضر" في القرآن: كـ (مخضرة) و(خضرا).
ومن هذا القبيل مصطلح الخـوارج لكونهم "خارجين عن الإمام"، وهو مصطلح لم يرد في القــرآن ومـع ذلـك أورده(23).
ومما يعنى به الراغب في عدد من المصطلحات رصده للمفـاهيم المختلفـة للمصطلح الواحد بحسب اختلاف الاستعمال في العلوم. فمن ذلك مثلا:
- مصطلح "الحال" الذي يستعمل في اللغة للصفة التي عليها الموصــوف، وفي تعارف أهل المنطق لكيفية سريعة الزوال نحو: حرارة وبــرودة ويبوسـة ورطوبة عارضة"(24).
- مصطلح "الواجب" يقال على أوجه: الأول في مقابلة الممكـن، وهـو الحاصل الذي إذا قدر كونه مرتفعـا حصل منه محال نحو وجود الواحد مـع وجود الاثنين فإنه محال أن يرتفع الواحد مع حصول الاثنين. الثاني يقــال في الذي إذا لم يفعل يستحق به اللوم، وذلك ضربان: واجب من جهـة العقـل كوجوب معرفة الوحدانية ومعرفة النبوة، وواجب من جهة الشرع كوجـوب العبادات الموظفة ... وقال بعضهم : الواجب يقال على وجهين : أحدهمـا : إن يراد به اللازم الوجود، فإنه لا يصح أن لا يكون موجودا"، كقولنا في الله جل جلاله: واجب وجوده. والثاني: الواجب بمعنى أن حقـه أن يوجـد. وقـول الفقهاء: "الواجب ما إذا لم يفعله يستحق العقاب"، وذلك وصف له بشــيء عارض له لا بصفة لازمة له، ويجري مجرى من يقول: الإنسان الذي إذا مشـى مشى برجلين منتصب القامة"(25).
- مصطلح "الكلام" يقع على الألفاظ المنظومة، وعلى المعاني التي تحتــها مجموعة، وعند النحويين يقع على الجزء منه اسمـا كان أو فعلا أو أداة، وعنـد المتكلمين لا يقع إلا على الجملة المركبة المفيدة، وهو أخص من القــول فـإن القول يقع عندهم على المفردات، والكلمة تقع عندهم على كل واحــد مـن الأنواع الثلاثة، وقد قيل بخلاف ذلك. (26).
إن صنيع الراغب في ما أورده من مصطلحات العلوم في كتاب خصصـه أصلا لألفاظ القرآن ينبهنا على التاريخ السليم لمصطلحات التراث الإســلامي عامة، ولا سيما في أول مرحلة من مراحل هذا التاريخ، وهي التي تتعلق بـالنص القرآني وبيانه من السنة الشريفة. فهذه المرحلة لمّا تعط حقها التي هي أهل له. وما زالــت ألفاظ القرآن تنتظر من يحققها ويدقق النظر فيها ويحصل دلالاتها بمنهج علمي متكامل جامع بين الاستيعاب والتحليل والتعليل والتركيب.. وهذا كفيل – بإذن الله تعالى – بأن يكشف عن أسرار وبأن يحــرر كثيرا من القضايا وخصوصا ما يتعلق بـ:
- استخلاص الدلالة القرآنية وتمييزها مما سواها من المعــاني والمفـاهيم الطارئة عليها بعد فترة التنزل.
- تبيُّن مدى التحول والتطور الذي طرأ على اللغة نتيجة تفــاعل العقـل المسلم مع النص القرآني على مدى قرون متتابعة وضمن مذاهب وفرق متنوعة. وهذا سيؤدي إلى الكشف عن طبيعة التداخل هل هي في اتجاه التكامل والتسـاند أم في اتجاه التنافر والاصطدام، وذلك بحسب القرب أو البعد من الأصل.
وقد تنبه الإمام محمد بن عبده إلى هذه المسألة حين قال: "وأما المرتبة العليا في التفسير فلا تتم إلا بأمور: أحدها فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أوردهـا القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة غير مكتف بقــول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد. من ذلك لفظ التأويل: اشـتهر بمعنى التفسير مطلقـا أو على وجه مخصوص، ولكنه جاء في القــرآن بمعـان أخرى، كقوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقــول الذيـن نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} (الأعراف: 53)!! فما هذا التأويل(25)! فيجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات الـتي حدثـت في الملة، ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب. فكثيرا ما يفسر المفسـرون كلمـات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثـة الأولى. فعلـى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصـر نزولـه. والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منـه، وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره. ويحقق كيف يتفـق معناه مع جملة معنى الآية ليعرف المعنى المطلوب من بين معانيه. وقد قـالوا: إن القرآن يفسر بعضه ببعض، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معــنى اللفـظ: موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الــذي جاء له الكتاب بجملته" ا.هـ (26).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الهوامش:
1- نحو منهجية لدراسة مفاهيم الألفاظ القرآنية/ الدكتور الشاهد البوشيخي، بحث ألقي في الدورة التدريبية التي عقدت في موضوع "القرآن المجيد وخطابه العالمي" بتعاون بين المعهد العالمي للفكر الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، بكلية الآداب بآكادير، المغرب، 14- 19 محرم 1418هـ/ 21- 26 ماي 1997م.
2- البرهان في علوم القرآن/ بدر الدين الزركشي (ت 794هـ)، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، 1400هـ/ 1980م. 2/ 173. وفي الإتقان للسيوطي (ت 910هـ) المكتبة الثقافية بيروت 2/ 183، نقلا عن الزركشي: "اقتضاه السياق".
3- البرهان 1/ 291.
4- المصدر السابق.
5- الإتقان 1/ 113.
6- دراسات قرآنية في جزء عم/ د. أحمد محمود نحلة، دار العلوم العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ/ 1989م، ص 76.
7- غريب القرآن: دراسة وصفية/ فتحي أنور الدابولي، مجلة المنهل، العدد 491، ص 113- 119.
8- انظر تقديم د. صفوان داوودي للمفردات، وقد بذل هذا المحقق جهدا مشكورا في إخراج المفردات في صورة حسنة، وذيله بعدة فهارس نافعة جدا، لكن فاته فهرس المصطلحات مرتبة بحسب العلوم، وهو من أهم ما ينبغي العناية به في الفهارس والكشافات.
9- دراسات قرآنية/ د. نحلة ص 72.
10- السابق ص 74.
11- مقدمة المفردات.
12- عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ/ السمين الحلبي، تحقيق د. محمد التونجي، عالم الكتب، بيروت الطبعة الأولى 1414هـ- 1995م، 1/ 38- 39.
13- مقدمة المفردات.
14- نشرت تحت عنوان "مقدمة جامع التفاسير، مع تفسير الفاتحة ومطالع البقرة" تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات، دار الدعوة، الكويت، الطبعة الأولى 1405هـ- 1984م.
15- مقدمة المفردات.
16- المفردات/ طهر.
17- المفردات/ جمل.
18- انظر معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص 95- 104، الدار العالمية للكتاب والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1415ه- 1995م.
19- المفردات/ لعن.
20- المفردات/ ذكا.
21- المفردات/ خضر.
22- أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بيع المخاضرة.
23- المفردات/ خرج.
24- المفردات/ حول.
25- انظر الدراسة المتميزة لهذا المفهوم في كتاب: "مفهوم التأويل في القرآن الكريم والحديث الشريف" لأختنا الدكتورة فريدة زمرد، منشورات معهد الدراسات المصطلحية، سلسلة الرسائل الجامعية رقم 2، مطبعة أنفو-برانت، فاس، المغرب، الطبعة الثانية 2005.
26 ــــ تفسير المنار ، الشيخ رشيد رضا، 1/22
 
إن صنيع الراغب الأصفهاني في المفردات أكسبه تميزا خاصا ، فهو يعتبر من الرواد الأوائل الذين اشتغلوا بالمعجم القرآني .
والاشتغال بالمعجم القرآني يُفضي إلى نتائج غاية في الأهمية ، خصوصا في تحديد الدلالة القرآنية ، وتمييزها مما سواها من المعاني والمفاهيم ، إن على مستوى المفردة القرآنية والمفردة اللغوية بصفة عامة ، أو على مستوى المفاهيم الطارئة على المعاني بعد فترة النزول بصفة خاصة .
 
عودة
أعلى