أسامة بن صبري
New member
- إنضم
- 27/04/2007
- المشاركات
- 5
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
سبق أن فتحت الموضوع في منتدى الألوكة، لكن لعل كتابته هنا أفضل كي أرى ملحوظات المشايخ المتخصصين بعلم التفسير
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا موضوع أرجو أن يشارك فيه الإخوة، وهو النظر في ما تضمنته سور القرآن إجماليا، فنذكر موضع السورة أو مقصدها الأعظم ثم نذكر ما تضمنته من معاني .
ولم أر أحدا من العلماء أكثر من الكلام في هذا، غير أني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يتكلم أحيانا في ذلك. وربما كان للشيخ ابن عثيمين كلام في ذلك أيضا، لكن أظنه قليلا، إذ رأيته في شرح الواسطية يقول أن سورة الصف هي في الحقيقة سورة الجهاد.
وأحيانا لم يتبين لي موضوع السورة، فأرجو أن يذكر الإخوة ما اتضح لهم في تلك السورة.
سورة الفاحة
هذه السورة مكية، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب. وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أنها سميت كذلك لأنها تفتح القراءة في الصلوات.
ففي هذه السورة سؤال العباد الله أن يهديهم الصراط المستقيم، وهو عبادة الله على الوجه اللائق به، قال تعالى {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}. فتوسلوا أولا بأسماء الله وصفاته ثم بالأعمال الصالحة، ففيه تقديم التوسل بأسماء الله على التوسل بالأعمال الصالحة والله أعلم.
ثم فسر ما هو الصراط المستقيم وهو كما سبق عبادة الله على الوجه اللائق به، إذ النصارى يعبدون الله على جهل، واليهود عندهم علم ولكن لا يعبدون الله كما أمروا.
انتهى الكلام في سورة الفاتحة، ولو شاء الإخوة زادوا في الكلام عنها.
سورة البقرة
هذه السورة مدنية، ولعلها أو ما نزل في المدينة. لعل مقصدها الأعظم -كما ذكره الشيخ عمر المقبل في إحدى محاضراته- الاستجابة لأمر الله. ولذلك دلائل :
-أول أمر جاء في هذه السورة هو الأمر بالعبادة، قال تعالى {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}
ـذكر الله تعالى في هذه السورة طغيان اليهود لكونهم لم يستجيبوا لأمر الله، ولعل لهذا سميت هذه السورة سورة البقرة، لأنهم لو فعلوا كما أمرهم الله أول مرة لكان خيرا لهم.
-في هذه السورة أمور ونواهي كثيرة.
بالنسبة لما تضمنته هذه السورة من معاني، فقد وقفت على كلام مفيد لشيخ الإسلام ابن تيمية. قال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى
(وقد ذكرت فى مواضع ما اشتملت عليه سورة (البقرة) من تقرير أصول العلم وقواعد الدين: أن الله ـ تعالى ـ افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين. فهذه (جمل خبرية) ثم ذكر (الجمل الطلبية) فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر (الرسالة) وذكر (الوعد، والوعيد) ثم ذكر مبدأ (النبوة والهدى) وما بثه فى العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعلم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء.
ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد، فذكر آدم الذى هو أول،وموسى الذى هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفساً فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب عليه، وكان فى قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء، وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير نبوته، وذكر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذكر النسخ الذى ينكره بعضهم، وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم .كل هذا فى تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة .
ثم أخذ ـ سبحانه ـ فى بيان شرائع الإسلام التى على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم، الذى هو إمام، وبناء البيت الذى بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال: أهل القبلة، كما يقال: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم).
وذكر من (المناسك) ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، و(العمرة) لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يتقيد به، ولا بمكان، ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر ـ سبحانه ـ هذه الأنواع الخمسة: من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج، والطواف يختص بالمكان، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابا لما كان عليه الأنصار فى الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة، وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما.
وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت ـ بل وبالقلوب والأبدان والأموال ـ بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه، وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما فى سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج فى الأصح، كما قال: الحج من سبيل الله.
وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل ديناً غير ذلك. ففى أولها: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22]، وفى أثنائها: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا} [البقرة: 165]، فالأول نهي عام، والثانى نهي خاص، وذكرها بعد البيت لينتهى عن قصد الأنداد المضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك، وأنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات.
ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر فى المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت، وذكر سماحتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص، ومن أخذ الدية، ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحباباً أو وجوبا بوقت الصيام، ووسطه أولاً بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع فى جميع الأرض، والعكوف بينهما .
ثم أتبع ذلك بالنهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المحرم نوعان: نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب. فاتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر فى أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} الآية [البقرة: 189]، وهى أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس فى أمر دينهم ودنياهم وللحج؛ لأن البيت تحجه الملائكة والجن، فكان هذا أيضا فى أن الحج موقت بالزمان كأنه موقت بالبيت المكانى؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان، مع أن المكان من تمام الحج والعمرة .
وذكر المُحْصَر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدى عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق، وإن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء [فى المطبوعة: الوطئ ـ والصواب ما أثبتناه]، فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه .
وذكر (التمتع بالعمرة إلى الحج) لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون متمتعاً حتى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضرى المسجد الحرام ـ وهو الأفقى ـ فإنه الذى يظهر التمتع فى حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإنه هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197]، ولم يقل: (والعمرة) لأنها تفرض فى كل وقت، ولا ريب أن السنة فرض الحج فى أشهره، ومن فرض قبله خالف السنة، فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر ـ إذ ليس فيه نقد للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت ـ وإما أن يلزم الإحرام ويسقط الحج ويكون معتمراً، وهذان قولان مشهوران .
ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره، وقضائها ـ والله أعلم ـ قضاء التَّفَث [التَّفَث: قيل: الشَّعَث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك. انظر: القاموس المحيط، مادة: تفث]، والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، وهذا أيضاً من العبادات الزمانية المكانية . وهو ذكر الله تعالى مع رمى الجمار ومع الصلوات، ودل على أنه مكانى قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الآية [البقرة:203]، وإنما يكون التعجيل والتأخير فى الخروج من المكان؛ ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال: أيام مِنى، وإلى عملها فيقال: أيام التشريق، كما يقال: ليلة جَمْع [أى مِنى]، وليلة مزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة تابعة للمكان .
فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها فى موضعين، مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضاً القتال فى المسجد الحرام والمقاصة فى الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن ـ سبحانه ـ ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج .
وذكر أن (البر) ليس أن يشقى الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة فيه، من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذى جعل ميقاتاً للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين فى كتابه المبين ) ا.هـ.
يتبع -بعون الله-...
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا موضوع أرجو أن يشارك فيه الإخوة، وهو النظر في ما تضمنته سور القرآن إجماليا، فنذكر موضع السورة أو مقصدها الأعظم ثم نذكر ما تضمنته من معاني .
ولم أر أحدا من العلماء أكثر من الكلام في هذا، غير أني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يتكلم أحيانا في ذلك. وربما كان للشيخ ابن عثيمين كلام في ذلك أيضا، لكن أظنه قليلا، إذ رأيته في شرح الواسطية يقول أن سورة الصف هي في الحقيقة سورة الجهاد.
وأحيانا لم يتبين لي موضوع السورة، فأرجو أن يذكر الإخوة ما اتضح لهم في تلك السورة.
سورة الفاحة
هذه السورة مكية، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب. وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أنها سميت كذلك لأنها تفتح القراءة في الصلوات.
ففي هذه السورة سؤال العباد الله أن يهديهم الصراط المستقيم، وهو عبادة الله على الوجه اللائق به، قال تعالى {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}. فتوسلوا أولا بأسماء الله وصفاته ثم بالأعمال الصالحة، ففيه تقديم التوسل بأسماء الله على التوسل بالأعمال الصالحة والله أعلم.
ثم فسر ما هو الصراط المستقيم وهو كما سبق عبادة الله على الوجه اللائق به، إذ النصارى يعبدون الله على جهل، واليهود عندهم علم ولكن لا يعبدون الله كما أمروا.
انتهى الكلام في سورة الفاتحة، ولو شاء الإخوة زادوا في الكلام عنها.
سورة البقرة
هذه السورة مدنية، ولعلها أو ما نزل في المدينة. لعل مقصدها الأعظم -كما ذكره الشيخ عمر المقبل في إحدى محاضراته- الاستجابة لأمر الله. ولذلك دلائل :
-أول أمر جاء في هذه السورة هو الأمر بالعبادة، قال تعالى {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}
ـذكر الله تعالى في هذه السورة طغيان اليهود لكونهم لم يستجيبوا لأمر الله، ولعل لهذا سميت هذه السورة سورة البقرة، لأنهم لو فعلوا كما أمرهم الله أول مرة لكان خيرا لهم.
-في هذه السورة أمور ونواهي كثيرة.
بالنسبة لما تضمنته هذه السورة من معاني، فقد وقفت على كلام مفيد لشيخ الإسلام ابن تيمية. قال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى
(وقد ذكرت فى مواضع ما اشتملت عليه سورة (البقرة) من تقرير أصول العلم وقواعد الدين: أن الله ـ تعالى ـ افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين. فهذه (جمل خبرية) ثم ذكر (الجمل الطلبية) فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر (الرسالة) وذكر (الوعد، والوعيد) ثم ذكر مبدأ (النبوة والهدى) وما بثه فى العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعلم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء.
ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد، فذكر آدم الذى هو أول،وموسى الذى هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفساً فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب عليه، وكان فى قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء، وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير نبوته، وذكر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذكر النسخ الذى ينكره بعضهم، وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم .كل هذا فى تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة .
ثم أخذ ـ سبحانه ـ فى بيان شرائع الإسلام التى على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم، الذى هو إمام، وبناء البيت الذى بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال: أهل القبلة، كما يقال: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم).
وذكر من (المناسك) ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، و(العمرة) لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يتقيد به، ولا بمكان، ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر ـ سبحانه ـ هذه الأنواع الخمسة: من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج، والطواف يختص بالمكان، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابا لما كان عليه الأنصار فى الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة، وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما.
وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت ـ بل وبالقلوب والأبدان والأموال ـ بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه، وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما فى سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج فى الأصح، كما قال: الحج من سبيل الله.
وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل ديناً غير ذلك. ففى أولها: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22]، وفى أثنائها: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا} [البقرة: 165]، فالأول نهي عام، والثانى نهي خاص، وذكرها بعد البيت لينتهى عن قصد الأنداد المضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك، وأنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات.
ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر فى المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت، وذكر سماحتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص، ومن أخذ الدية، ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحباباً أو وجوبا بوقت الصيام، ووسطه أولاً بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع فى جميع الأرض، والعكوف بينهما .
ثم أتبع ذلك بالنهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المحرم نوعان: نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب. فاتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر فى أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} الآية [البقرة: 189]، وهى أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس فى أمر دينهم ودنياهم وللحج؛ لأن البيت تحجه الملائكة والجن، فكان هذا أيضا فى أن الحج موقت بالزمان كأنه موقت بالبيت المكانى؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان، مع أن المكان من تمام الحج والعمرة .
وذكر المُحْصَر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدى عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق، وإن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء [فى المطبوعة: الوطئ ـ والصواب ما أثبتناه]، فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه .
وذكر (التمتع بالعمرة إلى الحج) لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون متمتعاً حتى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضرى المسجد الحرام ـ وهو الأفقى ـ فإنه الذى يظهر التمتع فى حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإنه هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197]، ولم يقل: (والعمرة) لأنها تفرض فى كل وقت، ولا ريب أن السنة فرض الحج فى أشهره، ومن فرض قبله خالف السنة، فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر ـ إذ ليس فيه نقد للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت ـ وإما أن يلزم الإحرام ويسقط الحج ويكون معتمراً، وهذان قولان مشهوران .
ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره، وقضائها ـ والله أعلم ـ قضاء التَّفَث [التَّفَث: قيل: الشَّعَث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك. انظر: القاموس المحيط، مادة: تفث]، والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، وهذا أيضاً من العبادات الزمانية المكانية . وهو ذكر الله تعالى مع رمى الجمار ومع الصلوات، ودل على أنه مكانى قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الآية [البقرة:203]، وإنما يكون التعجيل والتأخير فى الخروج من المكان؛ ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال: أيام مِنى، وإلى عملها فيقال: أيام التشريق، كما يقال: ليلة جَمْع [أى مِنى]، وليلة مزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة تابعة للمكان .
فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها فى موضعين، مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضاً القتال فى المسجد الحرام والمقاصة فى الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن ـ سبحانه ـ ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج .
وذكر أن (البر) ليس أن يشقى الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة فيه، من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذى جعل ميقاتاً للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين فى كتابه المبين ) ا.هـ.
يتبع -بعون الله-...