سبق فيما أذكر الإشارة إلى اللقاء الذي أجرته مجلة بصائر مع فضيلة الشيخ الدكتور مساعد بن سليمان الطيار حفظه الله ، ولكن لم يتم إرفاق اللقاء بنصه ، ولم يقرأه إلا من حصل على نسخة من عدد المجلة .
وقد أرفقت لكم اللقاء كاملاً للاطلاع عليه ، والتلعيق على ما ورد فيه من آراء قيمة طرحها الدكتور جزاه الله خيراً .
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا ، وبارك الله في شيخنا الدكتور مساعد ، ونفع بعلمه ، ووفقه للحق وسدده . وهذا نص الحوار نسخته :
من هو الشيخ الدكتور مساعد الطيار ؟ وما هي علاقته بعلم التفسير باختصار ؟
مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار ، درست في الرياض من الابتدائي إلى الجامعة ، وواصلت الدراسات العليا في قسم القرآن وعلومه من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود .
وقد بدأت عنايتي بعلم التفسير من أيام الثانوية ، وكنت أجمع ما أقف عليه من كتب التفسير قدر استطاعتي المالية . وكنت أعنى بالنكت والمسائل المشكلة - حسب ثقافتي آنذاك - واللطائف الغريبة . وقد استمعت إلى بعض دروس التفسير المسجلة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، وكذا للشيخ محمد متولي الشعراوي ، ثم تنامت العناية بالتفسير شيئا فشيئا ، وأسأل الله المزيد من فضله . حدِّثنا عن كتبك باختصار ؟ وما الجديد منها ؟ وهل تبشر القراء بكتب تحت الإنشاء أو تحت الطبع ؟
أول تأليف لي كان بدأته في نهاية عام 1412 ، وهو كتاب ( فصول في أصول التفسير ) ، وقد طُبع عام 1413 ، وقد لقي قبولا من المعتنين بالتفسير ، وصار يُدرَّس في عدد من الكليات وفي بعض الدورات العلمية . وقد كتبته أثناء كتابتي لرسالة الماجستير ( وقوف القرآن وأثرها في التفسير ) ، ولم يكن لي خبرة كافية بتحبير الكلام ، ولا بتوضيح ما يحتاج إلى توضيح ، فجاء الكتاب على نمط وقع فيه قصور في التعبير ، وتكرار في بعض المواطن ، وعدم تحرير لبعض المسائل ، ولو قُدّر لي أن أعيده لاختلف عن شكله الموجود عليه اليوم ، وقد طُلب مني ذلك كثيرا ، لكني أحجمت عن ذلك واخترت أن يبقى الكتاب كما هو ، ولعلي أخرج طبعة أخرى يكون فيها تعليقات وتنبيهات على بعض المسائل التي تحرّرت عندي ورجعت عما هو في هذا الكتاب ، وإن يسر الله لي التأليف في ( أصول التفسير ) فسأكتب فيه كتابين ؛ متنٌ في أصول التفسير ، وكتاب آخر أشرح فيه مسائل هذا العلم .
ثم ألفت بعد ذلك كتاب ( تفسير جزء عم ) ، وكنت قد زورت أن يكون اسمه ( التفسير المحرر ) ، لكني عدلت عن هذه التسمية لأني خشيت ألا أكمل التفسير على هذا المنوال .
وجعلت هذا الكتاب على قسمين ؛ متن في أعلى الصفحة ، وفي أسفلها الحاشية ، وقد حرصت على تحرير التفسير وبيان كيفية التعامل مع تفسير السلف في عباراتهم واختلافاتهم ، وكيفية الترجيح بين أقوالهم ؛ اعتماداً على قواعد الترجيح التي استفدت معظمها من تفسير ابن جرير الطبري ( ت 310 ) ؛ لذا صار في الكتاب أمثلة تطبيقية على كثير من المسائل التي ذكرتها في كتابي ( فصول في أصول التفسير ) .
ثم طبعت رسالتي في الدكتوراه ( التفسير اللغوي للقرآن الكريم ) ، وكانت مرحلة الدكتوراه - بحمد الله - مرحلة تأسيسية استفدت منها بقراءة كتب ما كنت أتوقع أن أقرأها - يوما ما - كاملة ؛ كجمهرة اللغة لابن دريد ، وتهذيب اللغة للأزهري ، وغيرهما كثير .
ثم ألفت كتابي ( أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن الكريم ) ، وقصدت فيه أنواع العلوم التي لها علاقة بعلم التفسير دون غيره من علوم القرآن ، وذكرت فيه بعض كتب كل نوع منها ، وبعض ملاحظاتي عليها ، ومع تنبيهات وفوائد متنوعة في هذا الموضوع .
ثم ألفت بعده كتاب ( مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر ) ، وقد حرصت فيه على بيان هذه المصطلحات ، وقد أفاد منه بعض الدارسين في الدراسات العليا ، كالشيخ فهد الوهبي الذي درس موضوع الاستنباط من القرآن الكريم وفتّق مسائله . ولو أعدت كتابته مرة أخرى لاستدركت ما وقع من قصور في تحديد بعض المصطلحات ؛ كالملاحظة التي ذكرها الشيخ فهد الوهبي في تعريف الاستنباط الذي ذكرت ، وكذا تلك الحدة التي وجدها في نقد الشيخين - رحمهما الله - محمد عبد العظيم الزرقاني ، ومحمد حسين الذهبي ، وكان سبب ذلك ما وقع منهما في نقد التفسير المأثور إلى حدٍّ - في نظري - جعل قيمته أقل وأضعف من تفسيرات المتأخرين ، وإني لأسأل الله أن يغفر لي ولهم ، وأن يرزقنا سلامة القلب ومحبة الصالحين .
وظهر بعده كتاب ( مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير ) ، وكان أخي الشيخ سامي جاد الله المشرف العلمي بدار المحدث قد أشرف عليه منذ جمعه إلى طبعه ، وقد أفادني هذا الجمع ، واستفاد منه الباحثون ، ولله الحمد .
ثم كتبت كتاب ( المحرر في علوم القرآن ) ، وقد كتبته لمعهد الإمام الشاطبي بجدة ، وكان على حسب المفردات المقترحة لهذه المادة ، وقد حرصت على إثارة عقل القارئ لبعض المسائل ، والتنبيه على ما يحتاج إلى بحث وتحرير ، وإن كان هذا الأسلوب قد واجه انتقادا من بعض الباحثين وأعضاء هيئة التدريس ، غير أني لا أزال مقتنعا بهذه الفكرة ، وأراها تستثير قارئ الكتاب للبحث والتنقيب .
ومما يتميز به هذا الكتاب تقريب ( التعريف بالمصحف ) الذي يكون في آخره - للقارئ ، والتنبيه على جهود علماء المسلمين في هذا المجال ، وقد كان من آخرها ما قام به مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية .
ثم خرج كتاب ( شرح مقدمة في أصول التفسير ) لابن تيمية ( ت 728 ) ، وهو أول شرح متكامل لهذه المقدمة النفيسة ، وقد حرصت فيها على بيان المسائل المتعلقة بالتفسير وأصوله ، وحرصت على التمثيل للأفكار التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
وفي الطريق ثلاثة كتب :
- ( وقوف القرآن وأثرها في التفسير ) ، وستصدر قريبا - إن شاء الله - من مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .
- ومقالتي في الإعجاز العلمي ، وستصدر تحت عنوان ( الإعجاز العلمي إلى أين ؟ ) .
- وكتاب في شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي ( ت 741 ) .
وأسأل الله من فضله المزيد . ما نصيحتك لمن يريد دراسة علوم القرآن ؟ وكيف يبدأ ؟
مشكلة علوم القرآن أنها لم تأخذ صورتها التي نراها عليها اليوم إلا متأخرا ، وأرى أن بداية الاجتهاد في الجمع الكلي لأنواع علوم القرآن كانت على يد الزركشي ( ت 794 ) ، وكانت الفكرة التي انطلق منها أنه لم يجد لأنواع علوم القرآن مؤلفا كما هو الحال في أنواع علوم الحديث ، فابتدأ بتصنيف كتابه هذا من خلال هذه الفكرة .
ولهذا ، لا يوجد - إلى اليوم - متن يمكن أن يُعتمد في علوم القرآن ، فضلا عما يعتور هذا الفن ( علوم القرآن ) من مشكلات في الأنواع المندرجة تحته يطول المقام بذكرها ، لكن على سبيل الإشارة أذكر ما وقع من انتقاد لكتب علوم القرآن من أنها ذكرت مباحث من علم ( أصول الفقه ) وجعلتها من علوم القرآن ، وهذا الانتقاد له وجه وحظ من النظر ، لكن لمن أدخلها في ( علوم القرآن ) حظ من النظر أيضا ، وقد أبنت عن شيء من ذلك خلال بعض دروسي ، خصوصا درس عشاء السبت الذي ألقيه في جامع الراجحي بمدينة الرياض ، حيث ابتدأت التعليق على كتاب ( الإتقان في علوم القرآن ) للسيوطي ( ت 911 ) ، وذكرت مثل هذه الانتقادات وبينت ما أراه صوابا في هذه المسألة .
وبعد ، فإني أنصح من يريد الاطلاع على أنواع علوم القرآن بأن يقرأ كتاب الشيخ الدكتور حازم حيدر ( علوم القرآن بين البرهان والإتقان ) ، فإنه سيستفيد من هذا الكتاب معرفة أنواع علوم القرآن عند هذين العَلَمَين ؛ ما اتفقوا في ذكره ، وما زاد أحدهما على الآخر ، مع ما في ملاحظات الدكتور حازم وتنبيهاته العلمية من فوائد جمة .
وبهذا الاطلاع يكون عنده رصد لمادة كتب علوم القرآن ، وتكون عنده أصول هذا العلم ، وإن لم يوجد متن يجمعها ، فإذا قرأ هذا الكتاب يمكنه أن يترقى في القراءة في كتب علوم القرآن المتقدمة والمعاصرة .
ومن أهم ما أنصح به طالب العلم - عموما - الحرص على التطبيقات ، فإذا قرأ - مثلا - نوعا من أنواع علوم القرآن ( كأمثال القرآن ) ، فإنه يجتهد في تطبيق مسائله على الآيات ، فيأخذها من خلال سورة ، أو من خلال جزء ، فإذا عمل في كل نوع يمكن التطبيق عليه مثلَ ذلك صار عنده رسوخ في المادة النظرية وفي المادة التطبيقية . هل في علوم القرآن تخصصات ؟ أم أنه تخصص واحد ؟ هذا إذا استثنينا علم القراءات . وما هي هذه التخصصات ؟
هناك علم التفسير ، وهو ميدان واسع ، وإن كنت أرى أنه لا يلزم أن نقول : إنها تخصصات ، وإنما هي أنواع ؛ قد تجتمع تحت نوع عام ، وقد ينفرد بعضها فلا يمكن إدراجه ضمن نوع عام من هذه الأنواع . وعندي أن فقه هذا السؤال يفيد دارس علوم القرآن ومدرّسَه ، وأنت أشرت في سؤالك إلى هذا ، فأقول :
إنه يمكن أن تُدرس الأنواع المتعلقة بأحوال نزول القرآن تحت مسمى عام ، وهو ( نزول القرآن ) ، ويدخل تحت ذلك عدد من الأنواع التي فصّلها العلماء ككيفية نزوله ، ونزوله بلغات العرب ، ونزوله بالأحرف السبعة ، وأسباب نزوله ، ومكية ومدنية ، وغير ذلك مما له علاقة بالنزول .
كما يمكن أن تدرس الأنواع المتعلقة بأدائه تحت مسمى ( علم الأداء ) ، ويدخل في ذلك ما يتعلق بقراءاته واختلاف أدائها ، وكذا تجويده .
ويمكن أن تُدرج أنواع العلوم المتعلقة بالتفسير تحت مسمى ( علوم التفسير ) ، وهكذا يمكن أن تجتمع هذه الأنواع المتكاثرة تحت مسميات عامة ذات دلالة على ارتباطها بنوع من أنواع علوم القرآن ، وأفضل من طبَّق هذه الفكرة البلقيني ( ت 824 ) في كتابه ( مواقع العلوم من مواقع النجوم ) .
ويمكن أن تدرج مجموعة من أنواع علوم القرآن تحت ما يسميه بعض الأصوليين بعوارض الألفاظ ، ويدخل فيها أنواع ؛ كالناسخ والمنسوخ ، والمتشابه ، وكذا ما يسمونه بدلالات الألفاظ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين . ولو عُمل بأنواع علوم القرآن مثل هذا لأفادت الطالب ، ولأعانته على سبر هذه الأنواع ، وعلى ضبط دراستها . هل يشترط لطالب علم التفسير حفظ القرآن كاملا ؟
لا يشترط ، لكن لا شك في أن حافظ القرآن يكون أكثر إبداعا في التفسير من غير الحافظ ، كما أن المتقن للحفظ الذي يستطيع أن يستظهر محفوظه بسرعة سيكون إبداعه في الدرس والتأليف أكثر ، واستمع إلى مثل الشيخ الإمام محمد الأمين الشنقيطي ( ت 1393 ) لتنظر حقيقة ما ذكرت لك .
أما إذا كان مقام الطالب مقام البحث ، فإنه سيمكنه الاستعانة بالبرامج وغيرها ويستفيد منها في تحضيره وكتابته . هل لا بد من قراءة جميع كتب الأمهات في التفسير لمن يريد أن يتخصص في هذا الفن ؟
من خلال تجربتي في هذا العلم ، وتنوع ممارساتي فيه ، استقر الأمر عندي على أن طالب هذا العلم يلزمه أن يقرأ أصول التفسير ، ثم يجتهد في تطبيق ما درسه في هذا العلم ، فإذا استطاع أن يصل إلى معرفة طريق تحرير التفسير ، والخلوص من الاختلافات الواردة في التفسير إلى الرأي الصواب ؛ سواء أكان بجمع الأقوال أم كان بترجيح أحدها ، فإنه يمكنه بعد ذلك أن يقرأ في الأمهات .
ولا يلزم من أراد أن يفسر القرآن القراءة في جميع الأمهات ، لكني أرى أن يلتزم كتابا أو كتابين يكونان مصدرا رئيسا يصدر عنهما وينهل منهما ، ويضيف لهما مما يجد هنا وهناك .
أما إن كان متخصصا - كما في سؤالكم - فإنه يحسن به أن يكثر من القراءة والبحث والتنقيب في عدد من الأمهات ليكون فهمه للآية أوسع ، وبيانه أوضح ، وهذا ظاهر بالممارسة .
وبمناسبة سؤالك ، فإني أذكر أهم كتب التفسير التي يحسن بطالب العلم غير المتخصص أن يقتنيها ، وتكون في مكتبته :
1- جامع البيان في تأويل آي القرآن ، لإمام المفسرين محمد بن جرير الطبري ( ت 310 ) .
2- المحرر الوجيز ، لعبد الحق بن عطية الأندلسي ( ت 542 ) .
3- الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ( ت 671 ) .
4- البحر المحيظ ، لأبي حيان الأندلسي ( ت 745 ) ، فإن لم يكن فكتاب تلميذه السمين الحلبي ( ت 756 ) المسمى ( الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ) ، وهو كتاب منظم ، ومن أنفس الكتب التي اعتنت بإعراب القرآن ، وإن لم يوجد فكتاب الألوسي ( ت 1270 ) المسمى ( روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني ) ، ويتميز باستفادته من أبي حيان ، ومن بعض حواشي كشاف الزمخشري ( ت 538 ) ، وحواشي تفسير البيضاوي ( ت 685 ) ، إلا أن فيه شائبة ، وهي التفسير الصوفي الباطني الذي يختم به مقاطع تفسيره ، أسأل الله أن يغفر لنا وله .
5- تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير الدمشقي ( ت 774 ) .
6- نظم الدرر في تناسب الآي والسور ، للبقاعي ( ت 885 ) .
7- حاشية شيخ زاده ( ت 951 ) على البيضاوي ( ت 685 ) ، وهي من أنفس الحواشي على هذا التفسير ، وإن لم يجدها فيمكنه الاعتماد على تفسير أبي السعود ( ت 982 ) ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) ، وهو كتاب نفيس جدا ، فإن لم يكن فحاشية الشهاب الخفاجي ( ت 1069 ) المسماة ( عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي ) .
8- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، لابن سعدي ( ت 1376 ) .
9- التحرير والتنوير ، للطاهر بن عاشور ( ت 1393 ) . أيُّ الاسمين تفضل : ( علوم القرآن ) أم ( علم التفسير ؟ ولماذا ؟
أشرت في جواب سابق عن الفرق بين العلمين ، فعلم التفسير جزء من علوم القرآن ، إذ ليس كل أنواع علوم القرآن مما يحتاج إليه المفسر لبيان كلام الله ، كعلم عد الآي ، فهو من علوم القرآن وليس من علوم التفسير ؛ لأنه لا يتوقف معرفة معنى الآية على معرفته أو جهله ، فخرج بذلك عن أن يكون من علوم التفسير ، وإذا كان الحال كذلك ، فلا وجه للمفاضلة . ( القرآن حمّال أوجه ) .. تعليقك ؟
هذه العبارة صحيحة بلا ريب ، لكنها قد تستخدم في غرض باطل ، فتكون كما يقال ( كلمة حق أريد بها باطل ) ، وقد وردت هذه العبارة عن بعض السلف ، كما في الأثر الوارد عن الصحابي أبي الدرداء ، قال : ( وإنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها ) ، ومراده - والله أعلم - الوجوه المتغايرة الصحيحة التي تحتملها الآية . وإذا كانت الوجوه كذلك ، فإنها صحيحة ، وعلى هذا جرى تفسير السلف تنظيرا وتطبيقا ، ولولا ضيق المقام لذكرت بعض الأمثلة في هذا الموضوع ، لكن يمكن الرجوع إلى أول كتاب ( السنة ) للإمام محمد بن نصر المروزي ، فقد ذكر نصا فيه عدد من أقوال السلف في هذا المقام .
أما الوجوه الضعيفة جدا ، أو الوجوه الباطلة التي يذكرها غلاة الرافضة والباطنية ، وكذا ما نراه اليوم من تفسيرات شاذة مخالفة لدين الإسلام أو لاتفاق الأئمة والعلماء المعتبرين - فإنه لا يصح الاستدلال بهذه المقالة كما ذكرت لك أنها قد يستخدمها أصحاب التأويل الباطل .
ومعرفة الوجوه الصحيحة من الضعيف ، والوجوه المنكرة الشاذة إنما يكون بدراسة أصول التفسير وضبطها ، والله الموفق . ذم العلماءُ التفسيرَ بالرأي ، ومع ذلك نرى أن أحد أقسام التفسير التي يذكرها العلماء : التفسير بالرأي ، والتفسير بالأثر . كيف يكون ذلك ؟
لم يقع خلاف بين العلماء في ذم الرأي ، لكن مرادهم به ( الرأي المذموم ) ، وهو الذي يكون عن جهل أو هوى ، وهذا النوع من الرأي حرام باتفاق العلماء ، ومما يدل على تحريمه قوله تعالى ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ الأعراف : 33 ] .
أما إذا قال العالم برأيه إما بعلم يقيني وإما بعلم من باب غلبة ظن فإنه جائز ، وهو الرأي المحمود .
وبهذا ، فإذا رأيت عالما يذم الرأي ، فإنه يريد الرأي المذموم ، وإذا رأيته يجيز الرأي فاعلم أنه الرأي المحمود . يتهم البعضُ المتخصصين في علم التفسير بأنهم بعيدون عن حياة الناس العامة ، ولم يقربوا القرآن للناس ولحياتهم العامة ! كما أنهم بعيدون عن الحياة الفكرية وخصوصا الدراسات الفكرية المتعلقة بالقرآن الكريم ؟
نعم ، هذا الاتهام له حظ من واقع المتخصصين ، أود أن أقول : إن المراد بالمتخصصين ( أعضاء هيئة التدريس ) والدارسون في مراحل الدراسات العليا .
وهؤلاء تقع على عواتقهم أمانة كبيرة في السبيلين اللذين ذكرتهما ، وفيهما - كما قلت في سؤالك - ضعف ملحوظ جدا .
وإذا نظرت إلى بعض المتخصصين في مجالس الأقسام تراه يطالب الدارسين بالجديد وهو من أبعد الناس عن ذلك ، بل إذا جاءت دراسات جادة وجديدة تناقش شيئا من الخلل الموجود في الدراسات والأطروحات المعارضة - رأيته أول المنتقدين .
بل إني سمعت عن بعضهم يقول في خطة أكاديمية قُدمت : لا نريد أن نفتح الباب لأعدائنا في هذا الموضوع ! ، وقد تعجبت كثيرا من ذلك ، إذ الباب مكسور ، والأعداء قد ولغوا فيه ، وقدموا فيه الدراسات المشككة . وأرى أن هذا القائل قال بذلك لنقص علمه بما يُطرح في ساحة الدراسات القرآنية ، وبما يطرحه المخالفون في هذا المجال ، بل أكاد أجزم أنه لم يقرأ كتابا من كتب هؤلاء المخالفين ليرى هل بقي في الباب شي يمكن تقويمه ليوصده من جديد !
إن هذا واقعنا ، وأرجو أن لا ننزعج من نقده وتقويمه وتسديده ، والسير به إلى الطريق الأمثل ، والسبيل الأقوم . ودليل ذلك أنك لو عملت كشافا لرسائلنا وبحوثنا العلمية ، لظهر لك مدى عنايتنا بهذين البابين اللذين ذكرتهما .
وأما ما يتعلق بتقريب كتاب الله للعامة ، فإن هذا فيه تقصير كبير ، مع أن عضو هيئة التدريس يقوم بتدريس مواد الكلية ، فلماذا لا يقوم بتدريس كتاب الله للعامة ؟!
وأحب أن أنبه على أمر متعلق بلفظ ( المتخصصين ) ، فأقول : إننا نربط تعليم القرآن وتفسيره بالمتخصصين فقط ، لكن لما كان أولئك قد سلكوا هذا السبيل ، فإن العتب عليهم أخص ، وإلا فكل من كان له عناية بالقرآن من المسلمين ، فإنه مطالب بما يطالب به المتخصص . ذكر زميلكم الدكتور عبد الرحمن الشهري في لقائنا معه في ( بصائر ) : أن سبب بُعد أهل التفسير عن الحياة الفكرية المتعلقة بالقرآن وعدم تصديهم للشبهات المثارة - هو ازدراؤهم وعدم معرفتهم للعلوم والمناهج الجديدة كالبنيوية والألسنية وغيها . فما رأيكم ؟
الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وإذا كان المتخصصون لا يعرفون هذه الدراسات فأنّى لهم أن يصدوا شبهات هؤلاء القوم ؟! لذا فإنني أتمنى أن ينبري بعض المتخصصين لمعرفة أصول هؤلاء القوم وأقوالهم ، ثم يمكنهم التصدي لهذه الدراسات التي تخلط الحق بالباطل فتلبسه به ، بل تحرف كلام الله عن مواضعه . هل أنت راض عن مستوى المتخصصين في الدراسات القرآنية ؟ وهل باستطاعة المتخصصين والأقسام القرآنية تقديم المفيد الجديد في هذا الجانب ؟
حسب ما قدمت من إجابات فإن الجواب البديهي : لست راضيا !
ولا يزال ميدان الدراسات القرآنية ثريا ، ويمكن تقديم الجديد والمفيد ، فكتاب الله تعالى حر لا يدرك مداه ، فأنى للدراسات أن تأتي على كل ما يتعلق به ؟!
ولكن من أراد أن يثوِّر القرآن فعليه بالقراءة والتأمل وبابتكار الموضوعات ، وبالاجتهاد في البعد عن الموضوعات الرتيبة التي كثُر طرقها .
وأحب أن أعلق على كلمة ( الجديد ) ، فإنها كلمة فيها ضبابية ، وقد يستخدمها بعض أعضاء هيئة التدريس في رد بعض الموضوعات ، وإن كان واقع البحث المقدم فيه جديد ؛ ذلك أن معيار الجديد يختلف من شخص لآخر . والمهم في البحث الإبداع وجودة التحرير ، وهما بمثابة الجديد لا محالة .
لو قال باحث : سأبحث المعرّب في القرآن ، لقال بعضهم : هذا بحث لا جديد فيه ، وواقع البحث العلمي المعاصر يدل أنه فيه جديد .
وقد ظهرت نظريات معاصرة مبنية على أقوال أسلافنا ، وفيها من الإبداع الغريب ما فيها ، فلو درسها الباحث من خلال هذه النظريات الجديدة لظهر جديد هذا الموضوع ، لكن الحكم المُسبق على الموضوعات - الذي سببه قلة الاطلاع في بعض الأحيان - سبب في رد مثل هذا الموضوع .
ولو استُبدل الجديد بالتحرير والإبداع الذي يظهره الباحث في بحثه لكان أولى من اشتراط الجديد الذي لا يثبت لكثير من البحوث التي تُقبل لاعتبارات مختلفة ، لكن إذا أضيف إلى ما ذكرته أن يكون الموضوع فيه جِدة ، فهذا فضل فوق الفضل ، والله يرزق من يشاء بغير حساب .
وعلى شوق ننتظر ( الحلقة الثانية ) من هذا الحوار العلمي الماتع . [/align]
اللقاء ممتع بحق ، أسأل أن يجزي الجميع الجزاء كله ، فكم نحتاج لمثل هذا النظر الثاقب ؛ الذي لو وجد في كل أقسام الدراسات القرآنية لكانت محصلته خير عميم للتخصص والمتخصص .