نص المحاورة اعداد : محمد بنعمر المغرب

محمد بنعمر

New member
إنضم
07/06/2011
المشاركات
440
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
ص1 الفهرس المحور
في قضايا الفكر والدين...
محمد عابد الجابري
حوار مع مجلة مقدمات المغربية. أجرى الحوار: محمد الصغير جنجار
مقدمات: بنيتم مشروعكم الفكري من خلال نقد الخطابات العربية التي انتظمت حول الحدث القرآني في مرحلة التدوين. وفي الوقت الذي صارت فيه قراءة النص التأسيسي أو تأويله تشكل إحدى أهم بؤر الصراع من دائرة عملكم النقدي. هل مرد ذلك إلى تقييم خاص للتجارب القاسية التي عاشها عدد من المفكرين المسلمين في هذا الباب، أم لأنكم تعتبرون أن الوقت لم يحن بعد ليتناول المسلمون النص القرآني تناولا نقديا تاريخيا كما حدث في الحقلين المسيحي واليهودي؟ وهل لديكم تحليل خاص للسبيل التي يمكن أن ينهجها المسلم المعاصر ليتعامل مع النص القرآني على ضوء العلوم والمناهج والمعارف الحديثة التي لم ينفك يكتسبها منذ قرابة قرن؟
م.ع.ج: إن المسألة الأساسية التي يطرحها هذا السؤال هي ما عبرتم عنه بتناول المسلمين "النص القرآني تناولا نقديا تاريخيا كما حدث في الحقلين المسيحي واليهودي". والخطوة الأولى في الجواب عن هذا السؤال تتطلب استحضار نوع "النقد التاريخي"ّ الذي مورس في أوربا على الكتب المقدسة، التوراة والأناجيل، والنتائج التي أسفر عنها هذا النقد. وتأتي بعد ذلك الخطوة الثانية وهي التساؤل عما إذا كنا نحن في حاجة إلى مثل ذلك النقد، كما كان الحال في أوربا، وما هي النتائج التي يمكن الحصول عليها في حال القيام به؟
معروف أن النقد التاريخي للنصوص الدينية اليهودية بدأ مع سبينوزا في رسالته الشهيرة "رسالة في اللاهوت والسياسة" (وكان بعض علماء المسلمين قد مارسوا على التوراة والأناجيل نقدا مشابها قبل سبينوزا بقرون). وقد استمر هذا النوع من النقد الذي دشنه في الثقافة الأوربية هذا الفيلسوف اليهودي الهولندي منذ القرن السابع عشر إلى القرن العشرين. وليس هاهنا مكان استعراض تاريخ هذا النقد ولا أنواعه ومراحله ولا ردود الفعل التي قامت ضده، حسبنا أن نشير هنا إلى أن النقد الحديث للنصوص المقدسة في أوربا قد انكب على مناقشة صحة نسبة تلك النصوص إلى من تنسب إليهم عادة، النبي موسى وأصحاب الأناجيل، من جهة، وعلى بيان العلاقة بين تلك النصوص وبين التجارب الحية للجماعات الدينية الأولى التي ظهرت تلك النصوص بين ظهرانـها من جهة ثانية، ثم ما يتبع ذلك من قضايا تخص مسألة التفسير، تفسير النص المقدس.
لقد أسفر هذا النقد بأنواعه ومستوياته عن نتائج هامة إذ تبين أن النصوص الدينية اليهودية والمسيحية لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لأناس عاشوا في ظروف مختلفة وأحقاب متباعدة وأن تدوين هذه النصوص يمتد على مدى قرون… وبالتالي فهي تعكس أو تعبر عن تجارب في الحياة مختلفة. ومن هنا ضرورة اختلاف التفسير وتنوعه وعدم التقيد بوجهة نظر واحدة أو الرضوخ لأية سلطة أخرى غير سلطة العقل والمنهجية العلمية.
والسؤال الآن هو: هل النصوص الدينية الإسلامية، أعني القرآن والحديث، هي في حاجة إلى مثل هذا النقد التاريخي؟
إن الرأي الذي أراه بخصوص هذه المسألة يتلخص فيما يلي:
فيما يخص القرآن لا نستطيع الشك في صحة النص الذي بين أيدينا اليوم. إنه نفس النص (المصحف) الذي جمع ورتب وأقر كنص رسمي زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وكما هو معروف فلقد كان للنبي كتاب يكتبون الوحي، أي القرآن، وكان هناك حرص شديد على أن لا يكتب غيره من كلام النبي حتى لا يقع اختلاط. وكان لكل من كتاب الوحي "مصحف" يتكون من مجموع ما كتبه من الآيات، وكان نزول القرآن قد استمر مدة 23 سنة إذ كان ينزل منجما مقسطا حسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. ويتحدث المؤرخون عن عمليات تمهيدية لجمع القرآن تمت زمن أبي بكر وعمر.
ومهما يكن فإن الثابت تاريخيا هو أنه في زمن عثمان شكلت "لجنة" من كتاب الوحي لجمع ما عندهم من القرآن ومقارنة مصاحفهم بعضها مع بعض والخروج بنسخة واحدة رسمية هي المصحف المتداول منذ ذلك الوقت إلى اليوم. أما النسخ الأخرى، أعني ما كان قد جمعه كتاب الوحي أو غيرهم، كلا على حدة، فقد صدر الأمر بإحراقها لتجنب الخلط.
هذه الوقائع تجمع عليها كتب التاريخ من مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية. ولا شئ يشجع أو يبرر الشك فيها ولا حتى اصطناع الشك المنهجي بصددها. نعم تتحدث بعض الروايات عن "مصحف ابن مسعود" أو غيره وعن بعض الاختلافات بينه وبين المصحف العثماني، كما تشير روايات أخرى إلى أن سورة من سور القرآن كانت أطول مما هي عليه اليوم. ولكن جميع هذه الاختلافات -على الأقل كما تذكرها الروايات التي بين أيدينا- لا تمس من قريب ولا من بعيد صحة النص القرآني ككل، مثلما أن اختلاف "القراءات"، وهو شئ معترف به لا ينال هو الآخر من صحة النص القرآني، كما تداوله المسلمون عبر العصور(1).
ولا يستقيم القول مثلا بأنه من الممكن افتراض أن تكون هناك اختلافات جوهرية بين النص كما جمع ورسم زمن عثمان وبين القرآن كما تلقاه الناس زمن النبي. ذلك لأن المسلمين والصحابة أنفسهم قد اختلفوا وتنازعوا وقامت بينهم حروب الخ… ومع ذلك لم يتهم أي منهم طرفا ما بالمس بالقرآن كنص. وكان هناك من بين كبار الصحابة خصوم لمعاوية (الذي كان من كتاب الوحي)، قاتلوه يوم صفين وهم يخاطبونه وقومه الأمويين قائلين: "قاتلناكم على تنزيله واليوم نقاتلكم على تأويله". بمعنى أن هؤلاء الصحابة قاتلوا قريشا بزعامة بني أمية وعلى رأسهم أبو سفيان -قبل أن يدخلوا الإسلام ويؤمنوا بالقرآن وحيا منزلا- و "اليوم"، يوم صفين، يقاتلونهم على "تأويله": تأويل القرآن. وإذن فالخلاف والنزاع زمن عثمان ومعاوية كان حول "التأويل" ولم يكن يمس في شئ "التنزيل" (=النص). أما ما يروى عن بعض الشيعة من أنهم شككوا في آية أو آيتين، سواء على مستوى الصيغة أو على مستوى البتر، فإن أيمة الشيعة في الماضي والحاضر يتبرأون من ذلك ويجمعون على أن القرآن كما هو متداول اليوم هو نفسه القرآن كما كان زمن النبي(2).
وإذن فليس هناك مجال لممارسة "النقد التاريخي" حول صحة النص القرآني، ولا أعتقد أنه قد يكشف عن شئ آخر غير ما هو معروف أي ما ذكرناه أعلاه ملخصا.
هذا بالنسبة لصحة نص القرآن. أما بالنسبة للحديث فالأمر يختلف. والمسلمون يميزون فيه بين المتواتر وبين حديث الآحاد. أما المتواتر، وهوالذي روته جماعة لا يصح اتفاقها على الكذب لكثرة أفرادها وتفرقهم، فقليل جدا وليس فيه ما يحمل على الشك فيه إذ يتسق اتساقا تاما مع ما يقرره القرآن من عبادات وأخلاق. وأما حديث الآحاد ، أي الذي رواه شخص عن آخر إلى النبي فقد كان موضع نقد واسع. إن نقد الرواية في هذا النوع من الحديث قد مورس منذ عصر التدوين، وهناك من علماء المسلمين وأئمتهم من يتشدد في صحة ما يروى عن النبي من حديث الآحاد فلم يقبل إلا بضعة أحاديث تتعلق بالعبادات. وهناك بالعكس من هؤلاء من يتساهل ويقبل الصحيح والضعيف. والوضع في الحديث معروف مدروس. وكتب الحديث الصحيحة، كصحيح البخاري وصحيح مسلم إنما هي صحيحة بالنسبة للشروط التي وضعها أصحابها لقبول الحديث. الحديث الصحيح ليس صحيحا في نفسه -بالضرورة- وإنما هو صحيح بمعنى أنه يستوفي الشروط التي اشترطها جامع الحديث كالبخاري ومسلم. ونقد الحديث يتناول نقد السند، كما قد يتناول مضمونه. أما نقد السند أو الرواية فلهم في ذلك قواعد وأساليب تقوم على "التعديل والتجريح". أما نقد المضمون -ولو أن الاهتمام به أقل- فيقوم على اعتبار السنة النبوية (قولا وعملا وإقرارا) مبينة للدين شارحة للقرآن وبالتالي يجب ألا يتناقض الحديث مع القرآن. وإذن "فالنقد التاريخي" بالنسبة للحديث قد مورس على نطاق واسع منذ عصر التدوين وهو يشكل جزءا من التراث وهو قابل للنقد كغيره من أجزاء التراث الأخرى.
أما ما يتعلق بفهم القرآن، أعني تفسيره وتأويله، فالباب مفتوح على مصراعيه أمام كل من يأنس من نفسه القدرة على ذلك من حيث الكفاءة اللغوية والاطلاع على تاريخ نزول القرآن، أعني الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول الخ… مما هو مفصل فيما يعرف بـ"علوم القرآن". والقرآن مفتوح بأسلوبه البياني لأنواع من التفسير والتأويل. وهناك فعلا أنواع كثيرة من هذا وذاك.
أما علاقته بالجماعة الإسلامية الأولى وحياتها اليومية فموضوع للدراسة والبحث منذ زمن الوحي: فالتمييز في القرآن بين المكي منه والمدني، بين الناسخ والمنسوخ، وربطه بأسباب النزول وبسيرة الرسول وبأساليب العرب في التعبير الخ… كل ذلك كان وما يزال مجالا للاجتهاد ولا شئ يمنع من تطبيق الأساليب الحديثة في هذا المجال. وفي نظري أنه يصعب الخروج بثيء جديد يكون في مستوى أهمية النتائج التي أسفر عنها النقد الذي مورس على التوراة والأناجيل قديما وحديثا. ولذلك أرى أن نقد التراث، أعني أنواع الفهم التي كونها المسلمون لأنفسهم عن دينهم وتاريخهم وثقافتهم هو ما يجب أن نشتغل به. أما بناء فهم جديد للنصوص الدينية فهذا ليس من مهمتي فلست مصلحا دينيا ولا صاحب دعوة ولا لدي رغبة في إنشاء "علم كلام" جديد. إن اتجاهي ومجال تحركي هو "نقد العقل" نقدا إيبيستيمولوجيا. وبطبيعة الحال فهذا لا يقوم مقام أنواع النقد الأخرى ولا يلغيها، وإنما لكل مجاله واتجاه اهتمامه.
مقدمات: في سياق تحليلكم لبنية العقل العربي حصرتم نكوناتها في ثلاثة هي: المعقول الدين (العقل البياني ذو الأصل العربي) والمعقول العقلي (العقل البرهاني وجذوره يونانية) ثم اللامعقول العقلي أو العقل المستقيل (العقل العرفاني المرتبط بفارس، والهند) أي ذلك الذي تردون أصوله إلى الديانات والمنظومات الفكرية الشرقية القديمة (الغنوص اليوناني، الإشراق الفارسي والتصوف الإيراني والتصوف الهندي). وكذلك الشأن في الجزء الأخير من مؤلفكم –ذلك الذي أنتم بصدد إعداده- والمتعلق بالعقل الأخلاقي العربي، حيث تؤكدون، كما ورد في إحدى آخر محاضراتكم، بأن القيم الإيجابية مثل المروءة وأخلاق العمل الصالح تضرب بجذورها في أرضية أخلاقية عربية إسلامية. أما القيم السلبية من نوع الاستبداد والاتكالية والانعزالية فترجعونها إلى أصول ومرجعيات غير عربية. ألا ترون أن الإلحاح على معالجة مسألة الحدود بين المعقول واللامعقول، أو الكشف عن بنية القيم في المنظومة الثقافية العربية باستخدام مفهوم الهوية القومية، سيعزز رأي بعض نقادكم الذين يأخذون عليكم توجها مركزيا اصطفائيا حيث يبدو التحليل الإبيستيمولوجي الذي تضطلعون به وكأنه موضوع في خدمة الهم السياي القومي؟ وهل ترون أنه بالإمكان القيام على المستوى النظري المحض بتأسيس وتسويغ أطروحة تفرد وتمايز العقل من مجال ثقافي وحضاري إلى آخر؟
م.ع.ج: بالنسبة للنقطة الأولى في هذا السؤال أؤكد أن عملي كناقد لنظم المعرفة ونظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية لا يصدر عن هاجس قومي. كلا، إن تصنيف نظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية إلى بيان وعرفان وبرهان تصنيف أملاه علي التشريح البنيوي -إذا صح التعبير- للعلوم العربية الإسلامية: لقد كانت هذه العلوم تصنف من قبل إلى علوم عقلية (فلسفة، كلام، أصول الفقه، العلوم الطبيعية الخ) وإلى علوم نقلية (الحديث، الفقه، اللغة، النحو الخ). وهذا التصنيف هو، من الناحية الإيبيستيمولوجية، تصنيف خارجي شبيه بتصنيف الحيوانات إلى برية ومائية الخ، ولا يساعد قط على الكشف على الأرضية الإيبيستيمولوجية للعقل العربي. لذلك فضلت القيام بتصنيف آخر من نوع تصنيف الحيوانات إلى فقريات ولا فقريات. وهكذا فضلت التمييز في العلوم العربية الإسلامية بين علوم البيان وعلوم العرفان وعلوم البرهان، باعتبار أن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة يشكل نظاما معرفيا متميزا بمنهجه وجهازه المفاهيمي ونوع الرؤية التي يحملها عن الإنسان والعالم.
وعندما بدأت أبحث في موضوع القيم تبين لي أن هذا التصنيف لا يستوعب جميع الاختلافات والنزعات التي يزخر بها التراث العربي الإسلامي في مجال القيم. وقد رأيت أنه قد يكون من الأفضل تصنيف القيم في هذا التراث حسب الموروث الثقافي الذي ينحدر منه. وبما أن عصر التدوين كان العصر الذي تلاقت فيه ثقافات مختلفة، تدون وتتنافس الخ، وبما أن لكل ثقافة نظام قيم خاص بها،فقد رأيت أنه من المناسب التمييز في الثقافة العربية -كخطوة منهجية- بين نظام القيم في الموروث العربي قبل الإسلام ونظام القيم في التراث الإسلامي ونظام القيم في الموروث الفارسي ونظام القيم في الموروث اليوناني ثم نظام القيم في الموروث الصوفي الغنوصي....
 
النقد التاريخي وهو النقد العلمي الذي بمعنى مناقشة صحة نسبة القول والنص إلى من تنسب إليه عادة، هو نقد تم وحدث في التاريخ الإسلامي، أثناء مراحل تكوين (المصحف)، ما يسمى مراحل جمع القرآن، وكذلك في موضوعات علم القراءات. عليه لا أرى معنى لقوله "بالنسبة للحديث فالأمر يختلف"؛ أما النقد الذي يتطلع إليه المغرضون، الذين يؤرقهم أن للقرآن نسخة واحدة - على حد تعبير الدكتور بن هرماس -، وتلاميذهم الذين لا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعى وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء مناهج هائلة تنسب للعلم - كما عبر عن أمثالم الإمام الغزالي -، فهو نقد مغرض، إيديولوجي، مذهبي، تبشيري لا علاقه له بالعلم ولا بالأمانة العلمية يمارسه حطاب ليل لا يهمهم الفرق بين الصحيح والشاذ، وبين القطعي والظني، وبين المصحف المعتبر والمصاحف الشخصية، ولا حتى الفرق بين النص المجرد والنص المفسر، ولا يكترثون لواقع المعرفة، وطبيعة البشر المعرض للخطأ والسهو، ولا لأخطأ النساخ .. ولاشيء: المهم لديهم أنها معلومة مذكورة!! وإن كانت من نوع "مصحف البحر الميت"!!!!

ويبقى السؤال: كيف نوفق بين ما ذكره الراحل عابدالجابري في هذا الحوار، وما سطره في كتابه "دخل إلى القرآن الكريم" ؟
 
عودة
أعلى