د. أحمد بن مولدي بن بلقاس
New member
- إنضم
- 15/07/2025
- المشاركات
- 4
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
- العمر
- 34
- الإقامة
- تونس
- الموقع الالكتروني
- www.facebook.com
نسخ القران للشرائع السابقة
صحيح أنّ القرآن لم ينزل إلا منذ أربعة عشر قرنا بيد أن معانيه قديمة جديدة ففيها خلاصة كاملة للرسالات الأولى، وللنصائح التي بُذلت للإنسانية من فجر وجودها، فالقرآن ملتقى رائع للحكم البالغة التي قرعت آذان الأمم في شتى العصور، واستعراض مجمل الشرائع الإلهية التي احتاجت إليها الأرض جيلا بعد جيل. إنه لذلك مجمع الحقائق الثابتة، ومجلى عناية الله بعباده مذ خلقوا، وإلى اليوم، وإلى أن تنقضي الدنيا. وإظهارا لهذا المعنى يقول الله تعالى في سورة الأعلى بعد أن ذكر بعض آياته في الخلق ثم أمر رسوله ﷺ بالتذكير ثم بين فلاح من تزكى وخسارة من لم يتذكر، وأن طبيعة الناس إيثار الحياة الدنيا مع أن الآخرة خير وأبقى، وعقب ذلك بقوله ﷻ: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾[1] فالدين قد اكتمل بنزول القرآن، وليس بالناس حاجة لغيره، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[2].إنّ علاقة الإسلام بالأديان السماوية السابقة، هي التصديق والتوكيد، إلاّ أنّه ينبغي ألا يغيب عن الأذهان أنّ الإسلام ليس مجرد دين مؤكدٍ لما سبق، بل هو أوفى وأكمل وفيه إضافات كثيرة جدًّا، وفيه نسخ للكثير من التشريعات السابقة، وتصحيح الأوهام وزلات عظيمة وقع فيها أتباع الرسل، ولذا فإنّ أدق عبارة تبين حقيقة علاقة الإسلام بما سبقه من الديانات هي الآية القرآنية في قوله ﷻ: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾.[3] فالتصديق والهيمنة وليس النسخ هما حقيقة علاقة الإسلام بالشرائع السماوية السابقة، وإنّما يطلق النسخ عند الكلام على الشرائع، فيقال: إن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة وهذه هي العبارة المستعملة عند أكثر العلماء. وإذا كانت العلاقة هي التصديق والهيمنة كان الإيمان والعمل بهذه الكتب لا يتنافى مع الإيمان والعمل بالقرآن والسنة، حيث لا يتعارض، فإن وجد ثم تعارض كان السابق منسوخًاً. والنسخ هو رفع الحكم اللاحق للحكم السابق، إمّا لفظاَ ومعنى، أو لفظاً دون الحكم، أو رفع الحكم دون اللفظ. وعلى هذا فلا يكون النسخ بالعقل والاجتهاد، وإنّما بنص شرعي آخر. ومجال النسخ هو الأوامر والنواهي الشرعية فحسب، أمّا الاعتقادات والأخلاق وأصول العبادات والأخبار الصريحة التي ليس فيها معنى الأمر والنهي، فلا يدخلها النسخ بحال.
نسخ شريعة القرآن لغيرها من الشرائع السابقة
النسخ في الشرائع الإلهية واقع قطعا، بل هو واقع في الشريعة الواحدة، ويكون عادة في الفروع لا في الأصول. قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[4] وقد جاءت شريعة عيسى ناسخة لبعض ما في شريعة موسى عليهما السلام قال تعالى على لسان عيسى مخاطبا بني إسرائيل: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾[5] أما شريعة الإسلام فهي ناسخة لما قبلها من الشرائع، والمقصود: ما يدخله النسخ من الشرائع، أما ما يجب لله من التوحيد والتنزيه عن الشرك وأصول العبادات مما هو أصل دعوة جميع الرسل فلا يدخله النسخ، فالذي يدخله هو فروع الشرائع وجزئياتها وتفاصيلها. لذا كانت شريعة الإسلام باقية خالدة صالحة لكل زمان ومكان جامعة لمحاسن الشرائع السابقة. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾[6]
الحِكمة من نسخ القرآن للتشريعات السماوية السابقة:
أنّ الله تعالى يشرع لكلِّ أمَّة ما يناسبها وأحوالها وزمانها. وما زالت البشرية في نمو ونضجٍ وتطور إلى أن صارت إلى ما هي عليه في آخر عصورها، ممَّا يجعلها تحتاج لشريعة هي أعظم الشرائع، وأكمل الشرائع - تفي بحاجياتها الدينية والدنيوية، وتلبي مطالبها العاجلة والآجلة، وتحل مشاكلها المختلفة، وتواجه مستجداتها، وهذه لا شك هي شريعة الإسلام الخاتمة لكل الشرائع. وشريعة الإسلام هي خاتمة الشرائع كلِّها, لأنّها صالحة لكل زمان ومكان، وهذا ما يجعلها مهيمنة على كلِّ ما سبقها من الشرائع. يقول الزرقاني: "حتّى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف ختامًا، ومتممًا للشرائع، وجامعًا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد جمعًا وفَّق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كلِّه؛ من أفراد وأسر، وجماعات وأمم وشعوب، وحيوان ونبات وجماد، ممَّا جعله بحق دينًا عامًّا خالدًا إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.[7]
ومن حكم النسخ هو أنّ الإنسان بطبعه يحب الأشياء الجديدة, وأنّه قد يصيب بالملل من الأشياء المألوفة والمتكررة والثابتة, لذا لكي ينشط الإنسان فكرياً وذهنياً, ويبتعد عن الملل ويرتاح, يأتي الله بتشريع جديد. يقول الإمام الزركشي فبعد أن نقل شيئًا من كلام الفخر الرازي في المطالب العلية قال: "وذكر غيره في ذلك وجوهًا، منها: أنَّ الخَلْق طُبعوا على الملالة من الشيء، فوضع في كل عصر شريعة جديدة؛ لينشطوا في أدائها، ومنها: بيان شرف نبينا عليه السلام؛ فإنّه نسخ بشريعته شرائعهم، وشريعته لا ناسخ لها، ومنها: ما فيه من حفظ مصالح العباد؛ كطبيب يأمر بدواء في كل يوم، وفي اليوم الثاني بخلافه للمصلحة، ومنها: ما فيه من البشارة للمؤمنين برفع الخدمة ومؤنتها عنهم في الجنة؛ فجريان النَّسخ عليها في الدنيا يؤذِن برفعها في الجنّة، يمحو الله ما يشاء ويثبت، وذكر الشافعي في الرسالة أنّ فائدة النَّسخ رحمةُ الله بعباده، والتخفيف عنهم، وأُورِد عليه أنّه قد يكون بأثقل، وجوابه أنّه رحمة في الحقيقة بالوجوه التي ذكرنا" [8]
ومن حكم النسخ أيضًا مراعاة مصالح العباد، وابتلاء المكلفين واختبارهم بالامتثال وعدمه، ومنها كذلك إرادة الخير للبشرية والتيسير عليها، لأن النسخ إن كان إلى أشق ففيه زيادة ثواب، وإن كان إلى أخف ففيه سهولة ويسر.