نرجو الرد على الشبهة الاستشراقية التي تزعم عدم وجود رابط بين مواضيع القرآن وآياته وسورة

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
لإنشغالي التام ارجو الإجابة على سؤال او زعم افتقاد القرآن للترتيب والتناسق بين موضوعاته وعدم مراعاة السياق وأن لامناسبة بين موضوعاته وآياته.
وهي شبهة تجدها في اغلب الكتابات الاستشراقية ومنها تاريخ القرآن لنولدكه
ارجو الرد بدون الإيعاز إلى مصادر التفسير الموضوعي مثلا فهناك كتب في هذا الشأن وضعها الاخوة في ملتقانا هذا ومنه الرابط المعروف للدكتور عبد الرحمن الشهري
نريد من سيادتكم ردا مختصرا مركزا بارك الله فيكم
 
هذا القرآن أعجز أفصح كفارالعرب عن الإتيان بآية من مثله فاجتهدوا للطعن فيه إلا أنهم لم يرموه بالتفكك وعدم سياق آياته في موضوعات مترابطة ، وذلك لإدراكهم أن سياق القرآن للموضوعات والقصص هو في حقيقة الأمر صورة من صور إعجازه ، حيث أن قارئه من أي موضع شرع في القراءة منه تصله رسالة هداية و بلاغ واضحة ومؤثرة ، فلا يلزم القاريء - كي يؤمن به - قراءته كاملا ، كحال غيره من الكتب التي لا تبلغ القاريء رسالة كتابها إلا بقراءة كتبهم من البداية إلى النهاية .
هذا والله أعلم .
 
لاضرر من التسليم بما يقال عن انعدام الوحدة الموضوعية في السورة بل نراها من إعجاز القرآن..
أولا:
هل أقيم الدليل في علم الجمال أو في علم النفس على أن الوحدة أفضل من التعدد..الأمر موكول إلى النظريات الفلسفية في تطورها التاريخي وإلى تغير الأذواق..فعندنا كانت القصيدة المثالية هي المتعددة في الأغراض -على نحو ما قعد ابن قتيبة وغيره- ولم تظهر بدعة الوحدة إلا عند المحدثين من الشعراء والنقاد الذين تأثروا بالإستطيقا الرومانتيكية وغيرها ونادوا بالوحدة الموضوعية والوحدة العضوية والوحدة النفسية..وزعموا أن غياب الربط قادح قي بناء القصيدة ومن ثم راحوا يتوهمون في الشعر الجاهلي أنواعا من الربط الزور...فكأن الشاعر الجاهلي لا بد أن يؤمن بعلم الجمال الكانتي أو الهيجلي..ثم طم الوادي عندما حملوا النص القرآني على جماليات الشعر فكان منهجان:
-من دافع عن القرأن مسلما بقاعدة "التناسق " فصالحوا بين القرآن والقاعدة فجاؤوا بكلام حسن حينا وبكلام متعسف أحيانا.وهذا مذهب المفسرين..
-من طعن في القرآن لأنه لم يأخذ بقاعدة التناسق وهذا مذهب الملاحدة والمستشرقين.
ثانيا:
طريقة القرآن أفضل مما طرحه علم الجمال الحديث ..فالمعتبر في القرآن هو الجوهر الإنساني أما المعتبر في الاستطيقا فهو الشكل فقط..
فالإنسان في سمره لا يبغي بدلا عن "تجاذب أطراف الحديث" ولا يحلو السهر إلا في الهيام في كل واد..ولن تجد قوما من الشرق أو الغرب سامرين على موضوع واحد بل لابد من الانتقال من موضوع إلى آخر سواء بمناسبة منطقية أم بمجرد آلية التداعي..وهذا النهج أخذ به كل كتاب العربية قي العصور الزاهية وما استطرادات الجاحظ العتيدة عنكم ببعيد...ولم تظهر هندسة الكتب إلا عند المنطقيين مثل قدامة بن جعفر وغيره..
ثالثا:
القرآن يخاطب جميع المكلفين...
ويخاطب جميع مكونات النفس...ولا يمكن أن يتحقق المقصدان بالتقيد بموضوع واحد متناسق...
القرآن سياحة هكذا يرد على هؤلاء...فهل يشترط في السائح أن لا يحيد عن خطة متناسقة في الرؤية فيلتزم مثلا أن لا تقع عينه إلا على المآثر التاريخية ويغمضها عما عداها قياما بحق وحدة المشاهدة..!! أم عليه أن يترك عينه حرة فتأتيه الانفعالات تترى..دهشة وتعجب واستغراب وفضول..هذا السائح التلقائي أسعد حظا من زميله المنهجي بلا ريب..وهذا ما يعد به القرآن..هو مأدبة إلهية..ولا أحد يقبل في مأدبة بشرية أن لا يكون على الخوان إلا لون واحد أو صنف واحد أو طعم واحد..
رابعا:
لعمري إن هذا التنوع في مواضيع السورة ....والانتقال بدون رابط ظاهر لهو من صميم الإعجاز...فالمتلقي يتلو بسلاسة آيات السورة ويتملى ذهنه المعاني فيدخل في موضوع بعد موضوع فلا يشعر بفجوة أو هوة ثم إذا راجع ذهنه وجد فيه ذكريات سياحة جميلة بدأت بوصف الآخرة ثم قصة نبي ثم ذكر لخلق الجبال ثم نهي في التشريع ثم دعاء بليغ ثم تقريع لمنافقين...
كل هذه المواضيع مختلفة ولا حاجة للبحث فيها عن رابط موضوعي أو نفسي قد يكون صحيحا أو مفتعلا...وأعظم من هذه الروابط إحساس المتلقي أنه يقرأ كلاما واحدا في تعدد أو تعددا في كلام واحد..
فنقول:
زعمتم أن مواضيع القرآن غير متسقة...والكلام في مواضيع غير متسقة هو الهذيان بعينه..سكزفرينيا...فهل قرأ عربي مؤمن أو كافر القرآن فنفر من هذيانه ...أم أن القرآن يشده شدا..
صحيح إن تعدد المواضيع بدون رابط في كلام البشر قد لا يستساغ ..لكن القرآن سائغ جدا بشهادة قرائه...فلكم أن تختاروا بين أمرين:
-القرآن سائغ إذن فيه وحدة لم تروها..فسقطت الدعوى
-القرآن سائغ وليس فيه وحدة فهذا إعجاز..لأن هذا الأمر بعينه لو تحقق في خطاب الناس لكان خطابا سكيزوفرينيا..فاعجب من أسلوب واحد إذا اصطنعه الناس كان مرضا عقليا واذا استعمله الرب كان سماء !!
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
كتاب النبأ العظيم لدراز كله للإجابة عن هذا السؤال أخي الأستاذ طارق منينة
والكتاب يستحق القراءة
وحواشيه فيها فوائد علمية كبرى
لذا يفضل الاطلاع على نسخة pdf إن لم تتمكن من شراء الكتاب الأصلي
 
كتاب النبأ العظيم لدراز كله للإجابة عن هذا السؤال أخي الأستاذ طارق منينة
والكتاب يستحق القراءة
وحواشيه فيها فوائد علمية كبرى
لذا يفضل الاطلاع على نسخة pdf إن لم تتمكن من شراء الكتاب الأصلي

النبأ العظيم:
 
أعجبني النقاش العقلي للأستاذ الكريم أبي عبدالمعز _ بغض النظر عن القطع بالنتيجة المذكورة _ فهذا النقاش هو أدعى لإبطال حجج المخالف وكشف زيفه من التعامل مع هذه الشبه كأنها مجرد أسئلة ممن تتفق معه في المنهج والاستدلال .

وبخصوص كتاب دراز فقد قام أخونا هشام البوزيدي بكتابة موضوعين في أحدهما تعريف والآخر تقريب:

- (2) تعريف بكتاب: النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم للشيخ محمد دراز
- تقريب كتاب النبإ العظيم للشيخ دراز ، كتبه الأستاذ هشام البوزيدي
 
بارك الله فيكم لقد سُئلت هذا السؤال ولم يكن عندي وقت للاجابة عليه(فوضعت له هذا الرابط) الا بالاشارة الى كتب ومنها كتاب العلامة دراز فكان الجواب:ولكني بحاجة إلى رد مختصر وافٍ لهذه الشبهة بوقت أسرع مما تستغرقه القراءة في المصادر
فبارك الله فيكم
 
إشارات ومعالم..
- بلاغة القرآن الكريم جاءت على نحو أعجز ما ألفته العرب واعتادته، ولكن القرآن ميسر للذكر
قال جعفر الصادق: " القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق "
وقال الفضل بن سهل:" القرآن لا يبلغه عقلٌ، ولا يقصر عنه فهم "
- العرب الأقحاح لم يعترضوا على الأسلوب البلاغي للقرآن الكريم، رغم حاجتهم الشديدة لإيجاد مطعن _ ولو يسير _ في القرآن الكريم.
- أسلم عدد من كبار فحول العرب بعد سماعهم الإعجاز البياني القرآني وتأملهم لنظمه البديع.
- قول السكاكي في آخر كتابه مفاتيح العلوم: " أضلُّ الخلق عن الاستقامة في الكلام، إذا اتفق أن يعاود كلامه مرة بعد أخرى، لا يعدم أن ينتبه لاختلاله فيتداركه.. قدِّروا أنْ لم يكن نبياً، وقدِّروا أنْ كان نازل الدرجة في الفصاحة والبلاغة، وقدِّروا أنْ كان لا يتكلم إلا خطأً.. أوَ قد بلغتم من العمى إلى حيث لم تقدروا أنْ يتبين لكم أنه عاش مدة مديدة بين أولياء وأعداء؟.. ألم يكن له وليٌّ فينبهه ـ فعلَ الأولياء ـ؛ إبقاءً عليه أن يُنسَب إلى نقيصة ؟ ولا عدو فينقص عليه ؟.. سبحان الحكيم الذي يسع حكمته أن يخلق في صوَر الأناسي بهائم، أمثال الطامعين أن يطعنوا في القرآن. ثم الذي يقضي منه العجب، أنك إذا تأملت هؤلاء، وجدت أكثرهم لا في العِير ولا في النفير، ولا يعرفون قُبيلاً من دُبير، أين هم عن تصحيح نقل اللغة؟ أين هم عن علم المعاني؟ أين هم عن علم البيان؟ أين هم عن باب النثر؟ أين هم عن باب النظم؟.. أبعَدُ شيء عن نقد الكلام جماعتهم، لا يدرون ما خطأ الكلام وما صوابه، ما فصيحه وما أفصحه، وما بليغه وما أبلغه.. ".
- إِذا مَحاسِنِيَ اللاتي أُدِلُّ بِها *** كانَت ذُنوبي فَقُل لي كَيفَ أَعتَذِرُ
 
هل الشبهة العارضة أن القرآن غير معجز في بيانه وبلاغته ؟
أم أن الشبهة العارضة أن القرآن ليس كباقي الكتب في ترابط موضوعاتها ؟
ذلك لكي لا يتشتت النقاش وللخلوص إلى نتيجة بينة .
 
كم من الناس آمنت بالقرآن لتلاوة آية واحدة أو بضع آيات عليه دون أن يقرأه كاملا ، بل لما يتنزل بعد كله ! أليس هذا من صور إعجازه ؟ !
 
من بلاغته.. ترابط موضوعاته على نوع ملفت للانتباه
مثل: وجود آية الدعاء بين آيات الصيام في سورة البقرة
 
الأشياء التي مقرها ومستودعها المخ هي الأشياء الذهنية، بعبارة أخرى: أشياء ذاتية، والإنسان بسبب ضعفه دائما ما يعمل طبقا لصورة، رسم أو نموذج موضوع، وعندما يريد أن يصنع أو ينحت شيء مادي أو أدبي فإنما يفعل ذلك بما يتماشى مع الصورة وإلا كان فقيرا إلى جهاد مستمر متواصل. فكما لا تنطبق هذه الذهنيات على كلمة الله (الخلق) لا تنطبق أيضا على كلام الله (الوحي). وفهم كلمة الله تستلزم جهدا وجهادا: جهد النظر والتفكر، وكذلك كلام الله يستلزم جهاد التدبر والعمل به.
ومن لا يجاهد يريد أن يكون ماهو خارج الذهن كما في الذهن - كما يتمنى كثير من اللادينيين أن يكون الله كما تشتهي مخيخاتهم أي إله يترك الإنسان الحر المختار سدى ويخلق عبثا لا رسالة ولا مسؤولية ولا حساب ولا عقاب - وإن كان فسيعيش حياة ضنكا مليئة بالمثاليات وإن طبق هذا على خلق الله فسوف لن ينظر في الخلق لأن الخلق ليس كصنع الإنسان: الجبال ليست كالبيوت. ولكن خلق الله الإنسان ليكون مخلوقا دنيويا غيبيا لا غيبيا ملائكيا ولا دابة دنيوية. هذه الميزة في الإنسان هي التي أدت إلى تطور العلوم والتقانة وتوسيع العقل والمعرفة أي هذا كله نتيجة جدل بين طبيعتين (وهذا لب الحرية): طبيعة مباشرة دنيوية وطبيعة غير مباشرة غيبية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. وفي المجال العلمي الدنيوي نرى أن الإبتكارات والإكتشافات ليست إلا إنعكاسا لهذه الطبيعة الجدلية التي يتميز بها الإنسان، أو بتعبير برتراند راسل، هو إنعكاس السؤال ما علاقة الظاهر appearance بالحقيقة (الواقع) reality؟ مادام السؤال قائما يبقى العلم ومتى يتوقف هذا السؤال يتوقف العلم تباعا لأن الظاهر (دون جهاد نظر ولا جهاد تدبر) غير مفهوم بل غير مترابط وسحري بل متناقض (هكذا الأشكال الذهنية)، إذن: لا جهاد مع إطلاق أحكام جاهلية يكون الظن {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ومن يجاهد جهاد النظر دون جهاد التدبر يكون ناقصا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. وفي موقف سيدنا موسى عليه السلام من أعمال الخضر عليه السلام التي لا معنى لها وفوضوية إن صح التعبير أي غير عادلة تتجلى طبيعة الجدل مع فارق لأن المطلوب في تلك الرحلة كان جهاد الصبر لا جهاد التدبر أو جهاد النظر لأن ذلك كله كان سيحصل بعد التأويل ليستخرج موسى عليه السلام درسا يتعلق بموضوع ذو علاقة بالتدبر.


و الحقيقة أن هذه الخاصة في القرآن الكريم ، إنما هي مظهر من مظاهر تفرده ، و استقلاله عن كل ما هو مألوف و معروف من طرائق البحث و التأليف ، هذا شئ ، و هناك شئ آخر هو أن من الخطأ في أصل النقد و البحث أن نحاكم القرآن في منهجه و أسلوبه إلى ما تواضع عليه الناس اليوم أو قبل هذا اليوم أو إلى ما سيتواضعون عليه مع تطور الزمن - من طرائق البحث و التأليف و تنسيق المعاني .
كيف نجمع بين هذا الكلام وما كتبه د/ محي الدين غازي في مقدمة إلى كتاب حجج القرآن للإمام عبد الحميد الفراهي رحمه الله:
والسابع : إنه غلب على أكثر الناس الظن بأن القرآن كثير الاقتضاب والانتقال من معنى إلى معني من غير مناسبة بينهما. وقد وقع في هذه المغلطـة بعض الأذكياء مثل ابن حزم الظــاهري وصاحب "الفوز الكبير". دع عنك ما تفوه به بعض الظانين بأنفسهم أنهم يصلحون فقالوا إن الاقتضاب في القرآن هو أكبر دليل على أنه كلام الله تعالى، فإنه لو كان كلام الإنسان لكان فيه نظم وترتيب، والفطرة لا يرى فيها ترتيب. ألا ترى نجوم السماء وأشجار البرية وأنهار الأرض وسواحل البحر كل ذلك خلوا عن ترتيب ونظام، وهؤلاء أجهل الناس بمفهوم النظام الحقيقي. فهذا الظن الباطل صار سدا شديدا دون التدبر في نظم القرآن عموما فخفي عليهم طرف عظيم من مطالبه المهمة وبلاغته العجيبة فضلا عن دلائله اللطيفة ولذلك تراهم كثيراً قد أخطأوا موارد الاستدلال، فأولوه إلى غير الدعوى فلم يتبين لهم ما فيه من القوة والتقريب بل ربما خفي عليهم نفس الاستدلال كما بيناه في مواضعه. فرأينا الحاجة شديدة إلى الكشف عن نظمها ليتضح التقريب بين الدليل والدعوى وصحة الاستدلال وقوته، فهذه جملة الكلام في بيان الحاجة والداعية لموضوع هذا الكتاب.

Read more: مقدمة كتاب حجج القرآن للإمام عبد الحميد الفراهي رحمه الله

؟؟

أظن أن هناك فرق ما بين ظاهر الأسلوب القرآني وحقيقة أسلوبه.
الظاهر: نستقبله بالقراءة والسمع.
الحقيقة: نكتسبها بالتدبر والإستماع.

في الظاهر: القرآن فيه إقتضاب وينتقل من موضوع إلى آخر من غير مناسبة بينهما.
بينما في الحقيقة: القرآن يصدق بعضه بعضا.

ومن هنا أفترض علاقة أسلوب القرآن بالآية المقدسة {أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وهذا الخطاب موجه للمسلم وللخصم. والخطاب عندما يكون موجها للخصم فإن الظاهر "يستفزه" (إذا صح هذا التعبير) وهذا من بعض خصائص الجدل.

خلاصة: القرآن كلام الله بيان للناس وموعظة إذن كلام موجه للإنسان كما هو دون تجزئة، ومن يريد أن يتعامل معه لا كإنسان كما هو لكن كإنسان ناقص يعبد الهوى، أو يتعامل معه ذهنيا بلا جهد ولا جهاد، فطبعا لن يستفيد شيء لأنه ميت { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وإن فعل نفس الشيء مع واقعه ومحيطه فليس أمامه خيار إلا الإنتحار.


 
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:
وَقَدْ ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْهَادِي لِلْمُتَّقِينَ فَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْهُدَى ثُمَّ الْكَافِرِينَ ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ. فَهَذِهِ " جُمَلٌ خَبَرِيَّةٌ " ثُمَّ ذَكَرَ " الْجُمَلَ الطَّلَبِيَّةَ " فَدَعَا النَّاسُ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَرْشِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ثُمَّ قَرَّرَ " الرِّسَالَةَ " وَذَكَرَ " الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبْدَأَ " النُّبُوَّةِ وَالْهُدَى " وَمَا بَثَّهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ لِمَا شَرَّفَهُ مِنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ لِجِنْسِ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَقَصَّ جِنْسَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى خِطَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ وَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ نُبُوَّتِهِ إذْ هُوَ قَرِينُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ، وَمُوسَى الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ وَهُمَا اللَّذَانِ احْتَجَّا وَمُوسَى قَتَلَ نَفْسًا فَغَفَرَ لَهُ وَآدَمُ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى رَدٌّ عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِجِنْسِ النُّبُوَّاتِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَا جَاءُوا بِهِ وَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّتِهِ وَذَكَرَ حَالَ مَنْ عَدَلَ عَنْ النُّبُوَّةِ إلَى السِّحْرِ وَذَكَرَ النَّسْخَ الَّذِي يُنْكِرُهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ النَّصَارَى وَأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كُلُّ هَذَا فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ أَخَذَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ إمَامٌ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ الَّذِي بِتَعْظِيمِهِ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَمَّا سِوَاهُمْ وَذَكَرَ اسْتِقْبَالَهُ وَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمِلَّةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَمَا يُقَالُ: {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ} . وَذَكَرَ مِنْ " الْمَنَاسِكِ " مَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مَكَانٌ وَزَمَانٌ و " الْعُمْرَةَ " لَهَا مَكَانٌ فَقَطْ وَالْعُكُوفُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ شُرِعَ فِيهِ؛ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِزَمَانِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَتَقَيَّدُ بِاسْتِقْبَالِهِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ: مِنْ الْعُكُوفِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْجَبَلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ جَوَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بِهِمَا لِأَجْلِ إهْلَالِهِمْ لِمَنَاةَ وَجَوَابًا لِقَوْمِ تَوَقَّفُوا عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا. وَجَاءَ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ - بَلْ وَبِالْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ - بَعْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ مِفْتَاحَ الْجِهَادِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ لَا يُخَالِفُونَ فِيهِ فَلَا يَقُومُ أَمْرُ الْبَيْتِ إلَّا بِالْجِهَادِ عَنْهُ وَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَقْدُورِ وَبَيَّنَّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ فَإِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَا لَمْ تُعْطَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَشَعَائِرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَيْتِ؛ وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْجِهَادُ فَهُوَ أَعْظَمُ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَمِّهِ لِكَاتِمِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَ ذَلِكَ. فَفِي أَوَّلِهَا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَفِي أَثْنَائِهَا. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} فـ " الْأَوَّلُ " نَهْيٌ عَامٌّ و " الثَّانِي " نَهْيٌ خَاصٌّ وَذَكَرَهَا بَعْدَ الْبَيْتِ لَيُنْتَهَى عَنْ قَصْدِ الْأَنْدَادِ الْمُضَاهِيَةِ لَهُ وَلِبَيْتِهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْمَقَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَحَّدَ نَفْسَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِهِ مِنْ الْآيَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَطْلَقَ الْأَمْرَ فِي الْمَطَاعِمِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَشِعَارُهَا وَهُوَ الْبَيْتُ وَذَكَرَ سَمَاحَتَهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُبَاحَةِ وَفِي الدِّمَاءِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْقِصَاصِ وَمِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالزَّمَانِ فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الصِّيَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَمَضَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ فِي عِبَادَاتِ الْمَكَانِ وَعِبَادَاتِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَبِالزَّمَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا بِوَقْتِ الصِّيَامِ وَوَسَّطَهُ أَوَّلًا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ تُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْعُكُوفُ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ لِعَيْنِهِ كَالْمَيِّتَةِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ كَالرِّبَا وَالْمَغْصُوبِ فَأَتْبَعَ الْمَعْنَى الثَّابِتَ بِالْمُحَرَّمِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهُ لِعَيْنِهِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَاتِ الزَّمَانِ الْمُنْتَقِلِ الْحَرَامَ الْمُنْتَقِلَ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ وَهِيَ أَعْلَامُ الْعِبَادَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِلْحَجِّ لِأَنَّ الْبَيْتَ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَكَانَ هَذَا أَيْضًا فِي أَنَّ الْحَجَّ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ كَأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْبَيْتِ الْمَكَانِيِّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَذَكَرَ " الْمُحْصَرَ " وَذَكَرَ تَقْدِيمَ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْهَدْيُ عَنْ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَأَنَّ الْمُتَحَلِّلَ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَحِلُّ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ مَا يَحِلُّ عَيْنَ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِمَحْظُورِ سِوَاهُ. وَذَكَرَ " التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لِتَعَلُّقِهِ بِالزَّمَانِ مَعَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَهُوَ الْأُفُقِيُّ - فَإِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ التَّمَتُّعُ فِي حَقِّهِ لِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ عَنْهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَاضِرٌ فسيان عِنْدَهُ تَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ وَقْتَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَذَكَرَ الْإِحْرَامَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ وَمَكَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَلَمْ يَقُلْ: وَالْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَمَنْ فَرَضَ قَبْلَهُ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ كَالنَّذْرِ - إذْ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِلْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ - وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْإِحْرَامَ وَيَسْقُطُ الْحَجُّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ. ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِهِ وَقَضَاؤُهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَضَاءُ التَّفَثِ وَالْإِحْلَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْعِبَادَاتِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ. وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَعَ الصَّلَوَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكَانِيٌّ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الْآيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا تُضَافُ هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَى مَكَانِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ مِنًى وَإِلَى عَمَلِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةَ جَمْعٍ وَلَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيَوْمَ الْعِيدِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتُضَافُ إلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَاكِنِ الْأَعْمَالِ؛ إذْ الزَّمَانُ تَابِعٌ لِلْحَرَكَةِ وَالْحَرَكَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَكَانِ. فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَكَيْفَ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَجِّ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: مَعَ ذَكَرِ بَيْتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهِ وَمَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ الْأَهِلَّةَ فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُقَاصَّةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. وَذَكَرَ أَنَّ " الْبِرَّ " لَيْسَ أَنْ يُشْقِيَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ يَبْرُزُ لِلسَّمَاءِ فَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفِ بَيْتِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتِهِ لَا يَأْتِيهِ إلَّا مِنْ ظَهْرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهِلَالَ الَّذِي جُعِلَ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ شَرْعٌ مِثْلُ هَذَا وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ شَرْعَ التَّقْوَى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ وَالْوَالِدَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرِّبَا وَالدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ وَضْعَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَطَلَبَ النَّصْرِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مجموع الفتاوى (14/ 41-47)[FONT=&quot][/FONT]​
 
شيخنا الأخ محمد مسعود
لم يتبين لي وجه الإستشهاد من سردكم كلام شيخ الإسلام ( رحمه الله ) .
 
شيخنا الأخ محمد مسعود
لم يتبين لي وجه الإستشهاد من سردكم كلام شيخ الإسلام ( رحمه الله ) .
وجه الاستشهاد بين، وهو أن القرآن العظيم آخذ بعضه بعض، كأنه خرزات يتحدرن من سلك. وهذه سورة البقرة وهي من فواتحه مترابطة متناسبة الآيات كما قال شيخ الإسلام، وقد نبه إلى ذلك بقوله: "فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ".
 
مُنَاسَبَةُ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ من كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي

مُنَاسَبَةُ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ من كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي

النَّوْعُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فِي مُنَاسَبَةُ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ
أَفْرَدَهُ بِالتَّأْلِيفِ الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ شَيْخُ أَبِي حَيَّانَ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "الْبُرْهَانَ فِي مُنَاسَبَةِ تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ" وَمِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "نَظْمُ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ الْآيِ وَالسُّوَرِ". وكتابي الذي صنعته فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ كَافِلٌ بِذَلِكَ جَامِعٌ لِمُنَاسَبَاتِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ وَأَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ وَقَدْ لَخَّصْتُ مِنْهُ مناسبات السُّوَرِ خَاصَّةً فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ سَمَّيْتُهُ "تَنَاسُقَ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ السُّوَرِ"
وَعِلْمُ الْمُنَاسَبَةِ عِلْمٌ شَرِيفٌ قَلَّ اعْتِنَاءُ الْمُفَسِّرِينَ بِهِ لِدِقَّتِهِ، وَمِمَّنْ أكثر فيه الإمام فخر الدين. وقال فِي تَفْسِيرِهِ: "أَكْثَرُ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ".
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ": "ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تكون كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَّسِقَةَ الْمَعَانِي مُنْتَظِمَةَ الْمَبَانِي عِلْمٌ عَظِيمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا عَالِمٌ وَاحِدٌ عَمِلَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ حَمَلَةً، وَرَأَيْنَا الْخَلْقَ بِأَوْصَافِ الْبَطَلَةِ، خَتَمْنَا عَلَيْهِ، وَجَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ، وَرَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ".
وَقَالَ غَيْرُهُ: "أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ عَلِمَ الْمُنَاسَبَةِ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ يَقُولُ عَلَى الْكُرْسِيِّ - إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ-: لِمَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ السُّورَةِ؟ وَكَانَ يُزْرِي عَلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمُنَاسَبَةِ".
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: "الْمُنَاسِبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ ارْتِبَاطٌ، وَمَنْ رَبَطَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِرَبْطٍ رَكِيكٍ، يُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ حَسَنُ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ أَحْسَنِهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ شُرِّعَتْ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى رَبْطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ".
وَقَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْمَلَّوِيُّ: "قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ: لَا يُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ الْمُفَرَّقَةِ، وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ تَنْزِيلًا، وَعَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ تَرْتِيبًا وَتَأْصِيلًا، فَالْمُصْحَفُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مرتبة سوره كلها وآياته بِالتَّوْقِيفِ كَمَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ. وَمِنَ الْمُعْجِزِ الْبَيِّنِ أُسْلُوبُهُ وَنَظْمُهُ الْبَاهِرُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا، فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ. وَهَكَذَا فِي السُّوَرِ يُطْلَبُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَمَا سِيقَتْ لَهُ" انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: "وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي لَطَائِفِ نَظْمِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي بَدَائِعِ تَرْتِيبِهَا؛ عَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِحَسْبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَشَرَفِ مَعَانِيهِ، فَهُوَ أَيْضًا بِسَبَبِ تَرْتِيبِهِ وَنَظْمِ آيَاتِهِ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ أُسْلُوبِهِ، أَرَادُوا ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ معرضين عن هَذِهِ اللَّطَائِفِ، غَيْرَ مُنْتَبِهِينَ لِهَذِهِ الْأَسْرَارِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا كَمَا قِيلَ:
وَالنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الْأَبْصَارُ صُورَتَهُ *** وَالذَّنْبُ لِلطَّرْفِ لَا لِلنَّجْمِ فِي الصِّغَرِ

فصل
الْمُنَاسِبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُشَاكَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ، وَمَرْجِعُهَا فِي الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا إِلَى مَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهَا عَامٍّ أَوْ خَاصٍّ، عَقْلِيٍّ أَوْ حِسِّيٍّ أَوْ خَيَالِيٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ، أَوِ التَّلَازُمِ الذِّهْنِيِّ، كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالنَّظِيرَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ، وَنَحْوِهِ.
وَفَائِدَتُهُ: جَعْلُ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ بَعْضِهَا آخِذًا بِأَعْنَاقِ بَعْضٍ، فَيَقْوَى بِذَلِكَ الِارْتِبَاطُ، وَيَصِيرُ التَّأْلِيفُ حَالُهُ حَالُ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتَلَائِمِ الْأَجْزَاءِ. فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْآيَةِ بَعْدَ الْأُخْرَى: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الِارْتِبَاطِ، لِتَعَلُّقِ الْكَلِمِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَعَدَمِ تَمَامِهِ بِالْأَوْلَى فَوَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الثَّانِيَةُ لِلْأُولَى عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ أَوِ التَّفْسِيرِ أَوِ الِاعْتِرَاضِ أَوِ الْبَدَلِ وَهَذَا الْقِسْمُ لَا كلام فيهذ. وإما ألا يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهَا خِلَافُ النَّوْعِ الْمَبْدُوءِ بِهِ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْسِيمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}، وَقَوْلِهِ: { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لِلتَّضَادِّ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَالْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ، وَالنُّزُولِ وَالْعُرُوجِ، وَشِبْهِ التَّضَادِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمِمَّا الْعلَاقة فِيهِ التَّضَادُّ: ذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ، وَالرَّغْبَةِ بَعْدَ الرَّهْبَةِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ إِذَا ذَكَرَ أَحْكَامًا ذَكَرَ بَعْدَهَا وَعْدًا وَوَعِيدًا؛ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا سَبَقَ، ثُمَّ يَذْكُرُ آيَاتِ تَوْحِيدٍ وَتَنْزِيهٍ؛ لِيُعْلَمَ عِظَمُ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَتَأَمَّلْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْطُوفَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دِعَامَةٍ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ، وَهِيَ قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ تُؤْذِنُ بِالرَّبْطِ، وَلَهُ أَسْبَابٌ:
أَحَدُهَا: التَّنْظِيرُ، فَإِنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ، كَقَوْلِهِ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} عَقِبَ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَمْضِيَ لِأَمْرِهِ فِي الْغَنَائِمِ عَلَى كُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَمَا مَضَى لِأَمْرِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ لِطَلَبِ الْعِيرِ أَوْ لِلْقِتَالِ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ. وَالْقَصْدُ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ لِمَا فَعَلَهُ مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ كَكَرَاهَتِهِمْ لِلْخُرُوجِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْخُرُوجِ الْخَيْرُ مِنَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَزِّ الْإِسْلَامِ، فَكَذَا يَكُونُ فِيمَا فَعَلَهُ فِي الْقِسْمَةِ، فَلْيُطِيعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَيَتْرُكُوا هَوَى أَنْفُسِهِمْ.
الثَّانِي: الْمُضَادَّةُ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الْآيَةَ، فَإِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ حَدِيثًا عَنِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقَوْمِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ، فَلَمَّا أَكْمَلَ وَصْفَ الْمُؤْمِنِينَ عَقَّبَ بِحَدِيثِ الْكَافِرِينَ فَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَهْمِيٌّ بِالتَّضَادِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحِكْمَتُهُ التَّشْوِيقُ وَالثُّبُوتُ عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا قِيلَ: "وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ".
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا جَامِعٌ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَدِيثًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَرَضِ لا بالذات، والمقصود بالذات هُوَ مَسَاقُ الْكَلَامِ، إِنَّمَا هُوَ الْحَدِيثُ عَنِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الْقَوْلِ.
قِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَامِعِ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي التَّعَلُّقُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَيَكْفِي وجه الربط ما ذكرنا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ.
الثَّالِثُ: الِاسْتِطْرَادُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ عَقِبَ ذِكْرِ بُدُوِّ السَّوْءَاتِ، وَخَصْفِ الْوَرَقِ عَلَيْهِمَا، إظهارا للمنة فيما خَلَقَ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلِمَا فِي الْعُرْيِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالْفَضِيحَةِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ السَّتْرَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّقْوَى. وَقَدْ خَرَّجْتُ عَلَى الِاسْتِطْرَادِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فَإِنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ ذُكِرَ لِلرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الزاعمين نبوة الْمَسِيحِ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ لِلرَّدِّ عَلَى الْعَرَبِ الزَّاعِمِينَ بُنُوَّةَ الْمَلَائِكَةِ. وَيَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِطْرَادِ حَتَّى لَا يَكَادَانِ يَفْتَرِقَانِ حُسْنُ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِمَّا ابْتُدِئَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى الْمَقْصُودِ عَلَى وَجْهٍ سَهْلٍ يَخْتَلِسُهُ اخْتِلَاسًا دَقِيقَ الْمَعْنَى، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ السَّامِعُ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِلَّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الثَّانِي لِشِدَّةِ الِالْتِئَامِ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ غَلِطَ أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ فِي قَوْلِهِ: "لَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ". وَقَالَ: "إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى الِاقْتِضَابِ الَّذِي هُوَ طَرِيقَةُ الْعَرَبِ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِ مُلَائِمٍ". وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَفِيهِ مِنَ التَّخَلُّصَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. وَانْظُرْ إِلَى سُورَةِ الْأَعْرَافِ كَيْفَ ذُكِرَ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ وَالْأُمَمُ السَّالِفَةُ، ثُمَّ ذُكِرَ مُوسَى إِلَى أَنْ قَصَّ حِكَايَةَ السَّبْعِينَ رَجُلًا، وَدُعَائِهِ لَهُمْ وَلِسَائِرِ أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ}، وَجَوَابُهُ تَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ تَخَلَّصَ بِمَنَاقِبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَ تَخَلُّصِهِ لِأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ} مِنْ صِفَاتِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ وَهُمُ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} وَأَخَذَ فِي صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وَفَضَائِلِهِ.
وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حَكَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} فَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى وَصْفِ الْمَعَادِ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} إلى آخره.
وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ حَكَى قَوْلَ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي السَّدِّ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}فتخلص إلى وصف حالهم بعد بَعْدَ دَكِّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، ثُمَّ النَّفْخُ فِي الصُّور،ِ وَذَكَرَ الحشر، ووصف مآل الكفار وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: "الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَادِ: أَنَّكَ فِي التَّخَلُّصِ تَرَكْتَ مَا كُنْتَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَقْبَلْتَ عَلَى مَا تَخَلَّصْتَ إِلَيْهِ، وَفِي الِاسْتِطْرَادِ تَمُرُّ بِذِكْرِ الْأَمْرِ الَّذِي اسْتَطْرَدْتَ إِلَيْهِ مُرُورًا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، ثُمَّ تَتْرُكُهُ وَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ فِيهِ، كَأَنَّكَ لَمْ تَقْصِدْهُ، وَإِنَّمَا عَرَضَ عُرُوضًا".
قِيلَ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لَا التَّخَلُّصِ؛ لِعَوْدِهِ فِي الْأَعْرَافِ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى بِقَوْلِهِ:
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} إلى آخره وَفِي الشُّعَرَاءِ إِلَى ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ.
وَيَقْرُبُ مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى آخَرَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ مَفْصُولًا بِهَذَا، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ ص بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ:
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}، فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ لِمَا انْتَهَى ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَوْعًا آخَرَ، وَهُوَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا، ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} فَذَكَرَ النَّارَ وَأَهْلَهَا.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: "هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْفَصْلِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ، وَهِيَ عَلَاقَةٌ وكِيدَةٌ بَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ". وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَيْضًا حُسْنُ الْمَطْلَبِ، قَالَ الزَّنْجَانِيُّ وَالطِّيبِيُّ: "وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْوَسِيلَةِ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}".
قَالَ الطِّيبِيُّ: "وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ حُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالْمَطْلَبِ مَعًا قَوْلُهُ تعالى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إِلَى قَوْلِهِ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
قَاعِدَةٌ
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: "الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُفِيدُ لِعِرْفَانِ مُنَاسَبَاتِ الْآيَاتِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ:
1-
أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ السُّورَةُ،
2- وَتَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْغَرَضُ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ،
3- وَتَنْظُرُ إِلَى مَرَاتِبِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنَ الْمَطْلُوبِ،
4- وَتَنْظُرُ عِنْدَ انْجِرَارِ الْكَلَامِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إِلَى مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ اسْتِشْرَافِ نَفْسِ السَّامِعِ إِلَى الْأَحْكَامِ أو اللوازم التَّابِعَةِ لَهُ، الَّتِي تَقْتَضِي الْبَلَاغَةُ شِفَاءَ الْغَلِيلِ بِدَفْعِ عَنَاءِ الِاسْتِشْرَافِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا،

فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْكُلِّيُّ الْمُهَيْمِنُ عَلَى حُكْمِ الرَّبْطِ بَيْنَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، فإذا فعلته تَبَيَّنَ لَكَ وَجْهُ النَّظْمِ مُفَصَّلًا بَيْنَ كُلِّ آية وآية في كل سُورَةٌ" انْتَهَى.

الإتقان في علوم القرآن (1836- 1846، ط مجمع الملك فهد)
 
الأخ الفاضل محمد مسعود
ومن باب سرد كلام بعض علماء الأمة في المسألة أسوق لكم كلام الشوكاني في معرض تفسيره لقوله تعالى : { يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } * { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ } * { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
قال رحمه الله :
اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلف بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية، المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره، ومن تقدّمه، حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله - عزّ وجل - إليه .
وكل عاقل فضلاً، عن عالم، لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة، كتحريم أمرٍ كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب، والنون، والماء والنار، والملاح، والحادي
وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل، والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات، فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفاً محضاً، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية، وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف، وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا، وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوّة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل:
{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }
[العلق: 1] وبعده
{ يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ }
[المدثر: 1]
{ يأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ }
[المزمل: 1] وينظر أين موضع هذه الآيات، والسور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا، فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه، ممن تصدّى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا، وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه، ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً، وأخرى هجاء، وحيناً نسيباً، وحيناً رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع، فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلَّف تكلفاً آخر، فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد، والخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله.
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان، وقحطان؟ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين،
وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف:
فَدعْ عَنْكَ نَهباً صِيح في حُجَراته وَهات حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرواحِل
 
الأخ الفاضل محمد مسعود
ومن باب سرد كلام بعض علماء الأمة في المسألة أسوق لكم كلام الشوكاني في معرض تفسيره لقوله تعالى : { يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ } * { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ } * { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
قال رحمه الله :
اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلف بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية، المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره، ومن تقدّمه، حسبما ذكر في خطبته، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله - عزّ وجل - إليه .
وكل عاقل فضلاً، عن عالم، لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة، كتحريم أمرٍ كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين، وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى، وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة، وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب، ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة، وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا، وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية، ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب، والنون، والماء والنار، والملاح، والحادي
وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل، والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، ويفردون ذلك بالتصنيف، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات، فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفاً محضاً، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية، وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف، وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا، وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوّة، فإنه ينثلج صدره، ويزول عنه الريب، بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل:
{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ }
[العلق: 1] وبعده
{ يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ }
[المدثر: 1]
{ يأَيُّهَا ٱلْمُزَّمّلُ }
[المزمل: 1] وينظر أين موضع هذه الآيات، والسور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا، فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه، ممن تصدّى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا، وأنزر ثمرته، وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه، ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً، وأخرى هجاء، وحيناً نسيباً، وحيناً رثاءً، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع، فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلَّف تكلفاً آخر، فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد، والخطبة التي خطبها في الحج، والخطبة التي خطبها في النكاح، ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله.
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان، وقحطان؟ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين، فضلاً عن المقامات، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً، وكذلك شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين،
وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف: كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا: لا كيف:
فَدعْ عَنْكَ نَهباً صِيح في حُجَراته وَهات حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرواحِل
تجد الردود على قول الشوكاني في هذا الملتقى مثلا هنا وهنا ، وخاصة بحث الدكتور أحمد الشرقاوي: " موقف الإمام الشوكاني من المناسبات".
ويكفي في الرد عليه أن الراجح من أقوال أهل العلم على خلاف ما بنى عليه كلامه، وهو أن ترتيب سور القرآن وآياته اجتهادي لا توقيفي، والراجح العكس.
بل الإمام الشوكاني نفسه قال في ترجمته للبقاعي من كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" (1/ 20): "وَمن أمعن النظر فِي كتاب المترجم لَهُ فِي التَّفْسِير الَّذِي جعله فِي الْمُنَاسبَة بَين الآي والسور؛ علم أَنه من أوعية الْعلم المفرطين فِي الذكاء، الجامعين بَين علمي الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول. وَكَثِيرًا مَا يشكل علي شيء فِي الْكتاب الْعَزِيز، فأرجع إلى مطولات التفاسير، ومختصراتها، فَلَا أجد مَا يشفي، وأرجع إلى هَذَا الْكتاب فأجد مَا يُفِيد فِي الْغَالِب" .
 
نعم أستاذي الفاضل ، فهل خلصتم من كل قراءاتكم ومطالعاتكم كلام أهل العلم إلى أن جميع موضوعات القرآن الكريم وقصصه جاءت مترابطة ومنتظمة من أول القرآن إلى آخره وقد نزل منجما ؟
ثم هل القول بكثرة انتقال السياق - في القرآن الكريم - من موضوع إلى آخر دون رابط محدد ، قول باطل وشبهة عمياء يجب علينا دحضها والتصدي لها ؟
أرأيت لو كانت موضوعات القرآن وقصصه ليس فيها ذلك الترابط الذي تكلفه البعض ، أيطعن ذلك في إعجاز القرآن ؟!
إن أهل اللغة العربية بحق هم من كانوا في زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولم يطعنوا فيه من هذا الباب ، ليس لأنهم أدركوا كل صور الترابط المذكورة ! ولو أنهم أدركوا صورة لغمضت عليهم صور كثيرة بعضها واضحة التكلف والتعسف ممن زعمها !
والخلاصة أن هذا القرآن عظيم الإعجاز في نصه من كل الوجوه ، ولو أن كفار قريش وهم من امتلك مفاتيح اللغة العربية بحق ساطع ظاهر عند جميع أهل العربية ، لو أنهم رأو مطعنا وإن في موضع واحد من القرآن
، لكانوا أجدر الناس وأسبقهم في إعلانه وبيانه ! كيف وأنت تعلم أن هناك أكثر من موضع في القرآن كان الربط فيه واهيا متكلفا !
جزاك الله خيرا على ما أفدتنا به وعلى سعة صدرك وحلمك .
 
اعتقد أن النقاش بهذه طريقة في تفنيد تلك الشبهة المذكرة أعلاه غير سديد - رغم فائدته العلمية - حيث مسألة المناسبات في القرآن هي مختلف في أساسها وفي قبولها أو ردها وهو خلاف سائغ؛ فإذا سلمنا بذلك فإن طرحها لدحض شبهة المخالف لا يستقيم؛ مهما طالت المنقول عن أهل العلم .
فإن المحاجة بما هو مختلف فيه يضعف الحجة؛ ويوسع مدخل الشبهة من المخالف .
 
المنهزم معنويا وماديا عندما يريد أن يصطنع إستعادة الروح القتالية تراه يضع آماله في أي شيء دون عناء التفكر في قيمة وفعالية هذا الشيء. وهذا كان حال العرب المكذبين عندما وقفوا حيارى ومندهشين أمام آيات القرآن تتلى. كانوا يعرفون أن قوة القرآن ليست كامنة في بيانه وحسن مخاطبته للنفس فقط بل في أسلوبه من جميع الوجوه وأخص بالذكر هنا وجهين: وجه يتعلق بطلب الإتيان بقرآن غير القرآن (قرآن مختلف أو قرآن في جملة واحدة) ووجه آخر يتعلق بما ذكر في تفسير الآلوسي (؟) والطبري لآيات التحدي:
الآثار الواردة عن السلف في اليهود في تفسير الطبري
جمعاً ودراسة عقدية -رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة في العقيدة والمذاهب المعاصرة
إعداد: يوسف بن حمود الحوشان / قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بالرياض 1424هـ


الصفحة 297 - الرسالة مرفوعة هنا في الملتقى.

وكان منهم من يصف القرآن بعدم التناسق, ويفاخر أنه لا يشبه تناسق التوراة، فعن ابن عباس قال: ((أتى النبي ابن مشكم في عامة من يهود سماهم، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وإن هذا الذي جئت به لا نراه متناسقاً كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتاباً نعرفه وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [سورة الإسراء 17/88] الآية ([1])

___
([1]) تفسير الطبري ( 15 / 158 ) - تفسير ابن أبي حاتم ( 1 / 172 ) لباب النقول - السيوطي ج1/ص140


إنها شبهة قديمة مع علمهم بقوة القرآن في تثبيت الفؤاد إذ يتلو عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن تفصيلا وكل تلاوة مناسبة ومتناسقة مع الأحوال والظروف في نفس الجماعة المؤمنة وفي طبيعة الصراع التي تتغير بإستمرار من حال إلى حال. وهذا كان يغيظهم لأن شبهة {إنّـمَا يُعَلّـمُهُ بَشَرٌ} ليس لها أي معنى وهم يعرفون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ويعرفون أن لغة القرآن مبينة إضافة إلى نزول القرآن منجما لذلك قالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة!
لم يكن هذا إعتراض أو شبهة فقط بل كانت أيضا أمنية. وليس من الغريب أن تجتمع كل هذه الألوان والتناقضات في نفس واحدة لأن هذا هو حال المعاند المكابر وهذا هو حال من ينشر الشبهة لمجرد الشبهة لا للجدال بالحق بحثا عن الحقيقة.
 
نرحب بالناقد الكبير و المثقف العميق صديقنا الأستاذ عبد الجواد خفاجي في ملتقى أهل التفسير
أتمنى له التألق و النجاح والتوفيق، الحاجة ماسة لجهوده لأن الخطب عظيم، و بدأت الجهود تتضح...
أعتقد أنه خير من يجيب على هذا صديقنا الأستاذ عبد الجواد خفاجي لأن في جعبته الكثير من المثير و المدهش ...
مما فتح الله به عليه لكثرة مطالعاته و تعمقه، أحسبه كذلك و لا أزكي على الله أحدا
 
عودة
أعلى