الأشياء التي مقرها ومستودعها المخ هي الأشياء الذهنية، بعبارة أخرى: أشياء ذاتية، والإنسان بسبب ضعفه دائما ما يعمل طبقا لصورة، رسم أو نموذج
موضوع، وعندما يريد أن يصنع أو ينحت شيء مادي أو أدبي فإنما يفعل ذلك بما يتماشى مع الصورة وإلا كان فقيرا إلى جهاد مستمر متواصل. فكما لا تنطبق هذه الذهنيات على كلمة الله (الخلق) لا تنطبق أيضا على كلام الله (الوحي). وفهم كلمة الله تستلزم جهدا وجهادا: جهد النظر والتفكر، وكذلك كلام الله يستلزم جهاد التدبر والعمل به.
ومن لا يجاهد يريد أن يكون ماهو خارج الذهن كما في الذهن - كما يتمنى كثير من اللادينيين أن يكون الله كما تشتهي مخيخاتهم أي إله يترك الإنسان الحر المختار سدى ويخلق عبثا لا رسالة ولا مسؤولية ولا حساب ولا عقاب - وإن كان فسيعيش حياة ضنكا مليئة بالمثاليات وإن طبق هذا على خلق الله فسوف لن ينظر في الخلق لأن الخلق ليس كصنع الإنسان: الجبال ليست كالبيوت. ولكن خلق الله الإنسان ليكون مخلوقا دنيويا غيبيا لا غيبيا ملائكيا ولا دابة دنيوية. هذه الميزة في الإنسان هي التي أدت إلى تطور العلوم والتقانة وتوسيع العقل والمعرفة أي هذا كله نتيجة جدل بين طبيعتين (
وهذا لب الحرية): طبيعة مباشرة دنيوية وطبيعة غير مباشرة غيبية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. وفي المجال العلمي الدنيوي نرى أن الإبتكارات والإكتشافات ليست إلا إنعكاسا لهذه الطبيعة الجدلية التي يتميز بها الإنسان، أو بتعبير برتراند راسل، هو إنعكاس السؤال ما علاقة الظاهر appearance بالحقيقة (الواقع) reality؟ مادام السؤال قائما يبقى العلم ومتى يتوقف هذا السؤال يتوقف العلم تباعا لأن الظاهر (دون جهاد نظر ولا جهاد تدبر) غير مفهوم بل غير مترابط وسحري بل متناقض (هكذا الأشكال الذهنية)، إذن: لا جهاد مع إطلاق أحكام جاهلية يكون الظن {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ومن يجاهد جهاد النظر دون جهاد التدبر يكون ناقصا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}. وفي موقف سيدنا موسى عليه السلام من أعمال الخضر عليه السلام التي لا معنى لها وفوضوية إن صح التعبير أي غير عادلة تتجلى طبيعة الجدل مع فارق لأن المطلوب في تلك الرحلة كان جهاد الصبر لا جهاد التدبر أو جهاد النظر لأن ذلك كله كان سيحصل بعد التأويل ليستخرج موسى عليه السلام درسا يتعلق بموضوع ذو علاقة بالتدبر.
و الحقيقة أن هذه الخاصة في القرآن الكريم ، إنما هي مظهر من مظاهر تفرده ، و استقلاله عن كل ما هو مألوف و معروف من طرائق البحث و التأليف ، هذا شئ ، و هناك شئ آخر هو أن من الخطأ في أصل النقد و البحث أن نحاكم القرآن في منهجه و أسلوبه إلى ما تواضع عليه الناس اليوم أو قبل هذا اليوم أو إلى ما سيتواضعون عليه مع تطور الزمن - من طرائق البحث و التأليف و تنسيق المعاني .
كيف نجمع بين هذا الكلام وما كتبه د/ محي الدين غازي في مقدمة إلى كتاب
حجج القرآن للإمام عبد الحميد الفراهي رحمه الله:
والسابع : إنه غلب على أكثر الناس الظن بأن القرآن كثير الاقتضاب والانتقال من معنى إلى معني من غير مناسبة بينهما. وقد وقع في هذه المغلطـة بعض الأذكياء مثل ابن حزم الظــاهري وصاحب "الفوز الكبير". دع عنك ما تفوه به بعض الظانين بأنفسهم أنهم يصلحون فقالوا إن الاقتضاب في القرآن هو أكبر دليل على أنه كلام الله تعالى، فإنه لو كان كلام الإنسان لكان فيه نظم وترتيب، والفطرة لا يرى فيها ترتيب. ألا ترى نجوم السماء وأشجار البرية وأنهار الأرض وسواحل البحر كل ذلك خلوا عن ترتيب ونظام، وهؤلاء أجهل الناس بمفهوم النظام الحقيقي. فهذا الظن الباطل صار سدا شديدا دون التدبر في نظم القرآن عموما فخفي عليهم طرف عظيم من مطالبه المهمة وبلاغته العجيبة فضلا عن دلائله اللطيفة ولذلك تراهم كثيراً قد أخطأوا موارد الاستدلال، فأولوه إلى غير الدعوى فلم يتبين لهم ما فيه من القوة والتقريب بل ربما خفي عليهم نفس الاستدلال كما بيناه في مواضعه. فرأينا الحاجة شديدة إلى الكشف عن نظمها ليتضح التقريب بين الدليل والدعوى وصحة الاستدلال وقوته، فهذه جملة الكلام في بيان الحاجة والداعية لموضوع هذا الكتاب.
Read more: مقدمة كتاب حجج القرآن للإمام عبد الحميد الفراهي رحمه الله
؟؟
أظن أن هناك فرق ما بين ظاهر الأسلوب القرآني وحقيقة أسلوبه.
الظاهر: نستقبله بالقراءة والسمع.
الحقيقة: نكتسبها بالتدبر والإستماع.
في الظاهر: القرآن فيه إقتضاب وينتقل من موضوع إلى آخر من غير مناسبة بينهما.
بينما في الحقيقة: القرآن يصدق بعضه بعضا.
ومن هنا أفترض علاقة أسلوب القرآن بالآية المقدسة {أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وهذا الخطاب موجه للمسلم وللخصم. والخطاب عندما يكون موجها للخصم فإن الظاهر "يستفزه" (إذا صح هذا التعبير) وهذا من بعض خصائص الجدل.
خلاصة: القرآن كلام الله بيان للناس وموعظة إذن كلام موجه للإنسان كما هو دون تجزئة، ومن يريد أن يتعامل معه لا كإنسان كما هو لكن كإنسان ناقص يعبد الهوى، أو يتعامل معه ذهنيا بلا جهد ولا جهاد، فطبعا لن يستفيد شيء لأنه ميت { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وإن فعل نفس الشيء مع واقعه ومحيطه فليس أمامه خيار إلا الإنتحار.