نحو منهج للتعامل مع الإسرائيليات

إنضم
08/02/2009
المشاركات
174
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
جذورالمشكلة :
ذكر تعالى في كتابه العزيز أن التوراة والإنجيل قد تحرّفت عن مواضعها وتغيّرت في معانيها وتبدّلت في أحكامها ؛ فالتوراة قد تعرضت للضياع عند غزو البابليين (نوبخذ نصر) لبني إسرائيل سنة 586ق.م ، ونتج عن ذلك تدمير الهيكل وسبي بني إسرائيل ؛ فكتب عزرا الوراق بعد ذلك بديلاً للتوراة دون أصل يرجع إليه ؛ فلفقها من مواضع مختلفة ، ومعلوم أن التوراة الموجودة ليست نسخة واحدة متفق عليها من قبل اليهود ، وإنما هي ثلاث نسخ مختلفة ويناقض بعضها بعضا ؛ وهي : "التوراة العبرية" و"التوراة السامرية" و"التوراة اليونانية" ، ولكل توراة فرقة من اليهود تؤمن بها دون الفرق الأخرى.
ومن المفارقات العجيبة أن أقدم مخطوط لدى اليهود من أسفار التوراة يعود إلى القرن الرابع الميلادي، علما بأن موسى عليه السلام قد عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأرجح .
وقد ذهب محققو اليهود إلى الاعتراف بأن أسفار العهد القديم مشكوك في أمر مؤلفيها،وقد أثبت الفيلسوف اليهودي اسبينوزا أن التوراة قد كتبت بعد موسى بزمن طويل جداً .
وليس ذلك فحسب بل أثبتت الدراسات العلمية أن التوراة قد استمدت من نشيد أخناتون وحكم أمينوبي وقانون حمورابي ، ولأجل ذلك التحريف ملئت التوراة بالأساطير الوهمية والخرافات العجيبة والأباطيل الغريبة والقصص الجنسية والحقائق المناقضة لأحكام العقل ومعطيات العلم .

أما ما يتعلق بالنصارى فيتفق معظم الباحثين على غموض تعريف الوحي في فكر النصارى عموماً وتعقّد عقيدة اللاهوت المسيحي ، فالوحي عند الكاثوليك مثلا يمنحه الرب باستمرار للكنيسة تحت قيادة القديسين ، وهؤلاء القديسون تقبل معتقداتهم على أنها جزء من الوحي الإلهي .
والإنجيل الذي بأيدي النصارى هو سيرة المسيح التي جمعها أربعة أشخاص ليسوا هم من الحواريين أصحاب عيسى عليه السلام الذين مدحهم القرآن ، فمتّى لم ير المسيح إلا خلال العام الذي رفع فيه ، وقد كتب الإنجيل في الإسكندرية بعد الرفع . أما لوقا فلم ير المسيح قط ؛ وإنما تنصر على يد بولس ، وبولس - الذي يقال أنه كان يهودياً في أول أمره - لم يدرك المسيح وإنما تنصر على يد أنانيا ، أما مارقوس فهو أيضاً لم ير المسيح وإنما تنصر على يد بترة الحواري ، ولهذا اختلفت الأناجيل فيما بينها اختلافاً كبيراً . والحق أن نسخ الإنجيل لم تظهر إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح، وهذه الأناجيل الأربعة الموجودة وهي متى ومرقص ولوقا ويوحنا فقد اختيرت من بين سبعين إنجيلاً، وقد اعترف النصارى أنفسهم أن الإنجيل قد تعرض للتبديل والتحريف خلال تاريخه الطويل .

أما القرآن فهو بخلاف هذين الكتابين السابقين لم يتغير ولم يتبدل ولا يمكن أن يقع فيه مثل ذلك ؛ قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقال أيضاً في الحديث القدسي : (وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ) ومعنى ذلك : أنه لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المكان ؛ لأنه محفوظ في الصدور، ولأجل ذلك قال تعالى : (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ولما كان القرآن إلهي المصدر معجزاً لفظاً ومعنى فإنه لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، ولأجل ذلك كان هو المصدّق والمهيمن ؛ قال تعالى عنه : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) فهو الأمين والحاكم والمعيار والمقياس الذي تقاس به تلك الكتب وهو المصحح لما وقع فيها من تحريفات.
ولما كان القرآن على هذه الصفة فهو غني عن تلك الكتب غير محتاج إلى ما فيها من حقائق وأحكام، ولهذا فإن الإسرائيليات التي تم بها تفسير القرآن إنما شوشت التفاسير وشوهت صورتها، يقول ابن كثير: (وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كلّ ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وُضِعَ فيها أشياء كثيرة. وليس لبني إسرائيل من الحفّاظ المُتْقِنين الذين يَنْفُون عنها تحريفَ الغَالِين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة)
وإذا ذكر الله تعالى أن التوراة والإنجيل (فيهما نور) في قوله تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) وقوله (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) فإنه ذكر أن القرآن هو النور نفسه ؛ فقال : (وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ) وقال : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) وقال :(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) وقال : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) ولهذا فإن الكتب السابقة في حاجة للقرآن ليؤكد ما فيها من صدق ويصحّح ما وقع فيها من باطل محرّف ، أما هو فمكتفٍ بنفسه غير محتاجٍ إليها.
الله أكــبر ، إن ديـن محمـد وكتابه أقــوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا

التعامل مع الإسرائيليات في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة :
وردت أحاديث تنهى المسلمين عن الأخذ بالإسرائيليات ، وقد وجد النبي ((صلى الله عليه وسلم)) بيد عمر بن الخطاب كتابا أصابه من بني إسرائيل- كما روى أحمد- ؛ فغضب ؛ وقال :( أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) وقال أيضا - كما روى أحمد- : (لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا) وقال ابن عباس- كما روى البخاري -: (كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ ((صلى الله عليه وسلم))أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ورغم هذا النهي عن الأخذ بالإسرائيليات فقد جاء حديث يبيح ذلك ؛ قال ((صلى الله عليه وسلم))- كما روى البخاري ومسلم -: (وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ) وقد ذهب العلماء في شرح هذا الحديث مذاهب شتى ؛ فقيل : إن النهي كان قبل استقرار أحكام الإسلام ثم لما استقرت جاء التوسع والإذن بالأخذ ، وقيل : لا تضيق صدوركم بما تسمعون من الأعاجيب فإنه وقع فيهم كثيراً رغم استحالة وقوع مثل ذلك على هذه الأمة ؛ وذلك كنزول النار من السماء لأكل القربان ، وقيل المعنى : لا حرج عليكم في روايتها رغم ما فيها من الألفاظ الشنيعة ، وقيل : لا حرج في التحديث عن بني إسرائيل نفسه (يعقوب) أي إخوة يوسف ، وقيل غير ذلك
ورغم كل ما قيل في شرح الحديث من أقوال العلماء فإن هذه الأقوال غير مقنعة البتة، ويعتقد الباحث أنه لا يمكن فهم هذه الأحاديث الناهية عن الأخذ بالإسرائيليات والمجيزة لذلك إلا باستحضار المقامات التي قيلت فيها ومعرفة أسباب ورودها ، ولما كانت هذه الأمور خافية وغير مذكورة في الكتب فإننا يمكن أن نفهم هذه الأحاديث من خلال فعل الصحابة رضوان الله عليهم وهم الذين أدركوا مقاصد هذه الأحاديث بمعرفتهم بأسباب ورودها وشهود مقاماتها ، وقد شكّلت مواقفهم إزاء هذه الإسرائيليات مناهج للتعامل معها ؛ وتفصيل ذلك كالآتي :

(أ‌) منهج التثبّت والرفض:
وقد استخدم هذا المنهج بعض الصحابة رضوان الله عليهم ؛ لعلمهم بأن كتاب الله تعالى غني عما سواه من الكتب السابقة التي حرفت وبدلت ، كما علموا أن أحكام تلك الكتب السابقة - ولو لم تحرف فرضا - لم تعد صالحة لأمة أخرى ولزمان آخر ؛ إذ أن موسى عليه السلام نفسه لو شهد زمان النبي ((صلى الله عليه وسلم)) لترك رسالته واتبع دين محمد((صلى الله عليه وسلم)) دون سواه، ولهذا لم يقبلوا أي أمر من تلك الكتب إلا من خلال القرآن والسنة، وتثبّتوا في رواية ذلك كل التثبّت ، وقد طالب عمر بن الخطاب أبي بن كعب ببينة على ما روى حتى شهد له بعض الأنصار أنهم قد سمعوا ذلك من رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) ؛ فقال عمر- كما روى أحمد-: (إني لم أتهمك ولكن أردت أن أتثبّت) وليس ذلك فحسب بل لما أكثر كعب الأحبار الرواية عن بني إسرائيل هدّده عمر بن الخطاب ؛ فقال: (لتتركن الحديث عن الأُوَل أو لألحقنّك بأرض القردة) وقد حاول تميم الداري رضي الله عنه - وقد كان قبل إسلامه من علماء النصارى – أن يقص في زمان عمر بن الخطاب فرفض عمر بن الخطاب ذلك سنين طويلة ، فلما أكثر عليه سأله عمر – خشية من إيراد الإسرائيليات - فقال: ما تقول؟ قال:أقرأ عليهم القرآن وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ، فقال: عمر ذلك الربح

(ب‌) المنهج النقدي:
وهو منهج ابن عباس وأبي هريرة ومعاوية ، وقد ورد أنهم كانوا مهتمين بالأخبار الإسرائيلية ؛ إذ كانوا يسمعون من كعب الأحبار وعبد الله بن سلام رضي الله عنه ، ولكن لم يكن سماعهم تلق مجرداً ؛ بل كان لهم منهج نقدي متميّز يصحّح هذه الأخبار، وقد قال ((صلى الله عليه وسلم)) عن يوم الجمعة : (فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ((صلى الله عليه وسلم)) بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا) - كما روى مالك والبخاري والنسائي وابن ماجة وأحمد- فقال كعب : هي جمعة واحدة في السنة ؛ فردّ عليه أبو هريرة وذكر له أن السياق يدل على العموم وليس المقصود جمعة خاصة ؛ فتراجع كعب ، وقال عبد الله بن سلام - كما روى مالك- بأنها : آخر ساعة في الجمعة ؛ فرد أبو هريرة بأن : آخر ساعة لا صلاة فيها وقد قال ((صلى الله عليه وسلم)) (قائم يصلي) . وذهب ابن كثير إلى كعب الأحبار قد زعم أن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؛ فأنكر عليه معاوية ذلك ، وقال : ( أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك فإن الله قال : "وآتيناه من كل شيء سببا) فقال معاوية عن كعب : (إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ) وكلام كعب بعيد كل البعد ؛ ووجه الإشكال عنده أنه ربط بين معنى عام في الآية وقصة خرافية في كتب اليهود ؛ يقول ابن كثبر : (وتأويل كعب قول الله "وآتيناه من كل شيء سببا" واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ولا إلى الترقي في أسباب السموات ، وقد قال الله في حق بلقيس "وأوتيت من كل شيء" أي : مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب ؛ أي : الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والبلاد والأراضي وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك أي أوتي سببا من كل شيء مما يحتاج إليه مثله )
(ج‌) منهج المناظرة:
وهو المنهج الذي اتخذه عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وقد كان عالماً كبيراً بالتوراة ، ومعلوم أنه كان من الصحابة المبشّرين بالجنة ، وكان يلزم اليهود الحجة بما في كتبهم ولذلك شواهد كثيرة ، ولم يكن يرّوج الإسرائيليات بين المسلمين إطلاقاً كما كان يفعل كعب الأحبار
ولهذا فقد اتضح أن جواز رواية الإسرائيليات إنما كان بشروط وهي : أن تأتي من خلال القرآن أو السنة أو أن تورد في إطار النقد والدراسات المقارنة أو في إطار الدعوة والمناظرة لبيان صدق الحقائق الإسلامية ، أما أن تورد للاعتضاد والاعتماد في تفسير القرآن فهذا أمر فيه نظر، إلا أن كثيراً من العلماء فهموا من جواز الرواية عن بني إسرائيل أن هذا الجواز يختلف من معنى لآخر ؛ فهو لا يتعلق بالأحكام لأن تلك الأحكام الواردة في كتب بني إسرائيل منسوخة بأحكام الإسلام ، ولا يتعلق هذا الجواز بالعقيدة أيضا لأنها الأساس الذي يبنى عليه الدين فلا يمكن أخذه من دين آخر، أما ما سوى ذلك من القصص والأعاجيب والأساطير والغرائب التي وقعت في كتب بني إسرائيل فإنه يمكن أخذه، ولهذا امتلأت بعض تفاسير القرآن بالأساطير والأباطيل والغرائب والعجائب التي أسبغتها عليها رواية هذه الإسرائيليات.

ثانيا : أسباب دخول الإسرائيليات في التفسير:
لم يكن تفسير القرآن في بداية أمره ينفصل عن الحديث النبوي ؛ إذ كله مروي منقول، وقد خشي كثير من العلماء من تفسير القرآن وتهيبوه ولم يقولوا فيه برأيهم رغم معرفتهم به، وقد كان سعيد بن المسيب يتكلم في الحلال والحرام فإذا سُئل عن شيء من القرآن سكت كأنه لم يسمع ، وليس هذا موقف ابن المسيب فحسب ، بل هو موقف كثير من العلماء، ولهذا اكتفى كثير من العلماء في التفسير بالرواية
والحق أن الروايات الصحيحة في التفسير قليلة ؛ إذ أن كثير من الروايات ضعيف ومنكر ،كما أنها روايات متضاربة متناقضة ، وليست هذه الروايات عن الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) بل منها ما هو عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهي آراؤهم الخاصة، وهم ليسوا بمعصومين. ولما كان التعويل على الرواية أكثر من التعويل على عقول العلماء - فقد دخلت إلى التفسير من هذا الباب مشكلات كبيرة ؛ إذ أنه في مقابل الذين أحجموا عن إعمال عقولهم في القرآن ظهر كثير من أصحاب الجرأة والأهواء فدسّوا عن طريق الروايات كثيراً من الأكاذيب والأباطيل، وروى أن أحمد بن حنبل ويحي بن معين دخلا مسجد الرصافة ؛ فقام رجل فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحي بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)): ( من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيراً منقاره من ذهب وريشه من مرجان....) وذكر قصة شديدة الغرابة ؛ فتعجب أحمد بن حنبل ويحي بن معين ، وأنكرا عليه ذلك ، وعندما عرّفاه بنفسيهما قال: إنني كنت أسمع أن أحمد بن حنبل ويحى بن معين أحمقين ولم أتحقق من ذلك إلا الساعة ، ثم توجّه إليهما وقال: كأن الله لم يخلق أحمد بن حنبل ويحي بن معين غيركما وقام كالمستهزئ بهما.
وإذا كان الإمام الجويني والإمام ابن العربي يقولان بكفر الذي يكذب على النبي ((صلى الله عليه وسلم)) فإن الكرامية وبعض المتزهّدة قد أجازوا الكذب عن النبي معللين قوله ((صلى الله عليه وسلم))- الذي رواه البخاري أبو داود والترمذي و ابن ماجة والإمام أحمد- : (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) بأن كذبهم له وليس عليه . والحق أن الوعيد شامل من كذب له أو عليه ؛ إذ أن هذا الدين العظيم غير محتاج إلى تقويته بالكذب .
وليس ذلك فحسب بل إن الروايات المسندة نفسها لم تسلم من التخليط والتلبيس من الرواة الذين لا علم لهم ، وذكر الإمام مسلم أن بعض الناس يجعلون أقوال الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) من أقوال كعب الأحبار وإسرائيليات كعب من أقوال الرسول ((صلى الله عليه وسلم)) ؛ يقول الإمام مسلم: (قال بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) وعن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث كعب عن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) وحديث رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) عن كعب)
ولما عوّل الناس على الروايات دون النظر فقد كثرت هذه الروايات العجيبة ونقلها أكابر العلماء رغم رأيهم فيها ؛ يقول الإمام الطبري في مقدمة كتابه تاريخ الأمم والملوك : ( ما يكون في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستبشعه سامعه من أجل إنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى له في الحقيقة - فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ؛ وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا ؛ وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ) ولما كثرت الروايات الواهية والأباطيل والمناكير في تفسير القرآن والتاريخ وأسس عليها بعض العلماء فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: (ثلاثة لا أصول لها المغازي والملاحم والتفسير)
ورغم قناعة الإمام وقناعة كل المسلمين أن التفسير أجلّ العلوم وأشرفها لتعلّقه بكلام الله عزّ وجل إلا إن اعتماد المفسرين على الروايات الواهية الضعيفة وعلى الإسرائيليات والمناكير والغرائب قد جعلت هذا العلم بلا أساس، ولهذا وقع المفسرون والمؤرخون في مزالق هذه الروايات رغم أن العلماء – كما قيل قديماً – همتهم الدراية والنقلة همتهم الرواية، وسبب وقوع بعض المؤرخين والمفسرين عند ابن خلدون – في ذلك هو اعتمادهم على مجرد النقل دون النظر والوقوف على طبائع الكائنات .

خصائص الإسرائيليات وكيف تعرف :
الإسرائيليات الواردة في كتب التفسير لها خصائص مفارقة لخصائص الحقائق القرآنية ، فإذا كانت الحقائق القرآنية موافقة للحسّ والعلم وأحكام العقل وفيها تنزيه الله تعالى وسمو الأنبياء ورفعة أخلاقهم - فإن الإسرائيليات تكون مخالفة للعلم مناقضة للحسّ ولأحكام العقل، إذ فيها من المبالغات ما يجعلها من الخرافات والأساطير ، هذا فضلاً عن مخالفتها للغة القرآن وسياقاته، ومن ذلك الآتي:-
(أ) مخالفة معاني اللغة:
قال كعب الأحبار في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) إن "طوبى" : شجرة في الجنة يسير فيها الراكب مائة عام ، زهرها رياط ، وورقها برود ، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، وقيل : إنها شجرة تظلّل الجنة كلها، وقال مقاتل :كل ورقة منها تظلّل أمة كاملة ، وقيل إنها الشجرة التي تثمر ثياب أهل الجنة، ومدلول كلمة طوبى في اللغة غير ذلك ؛ إذ أن "طُوبَى" على وزن "فُعْلَى" من الطيّب ؛ فقلبوا الياء واواً لضم ما قبلها ؛ وهي كالحسنى من الحسن. و يقال : طُوبى لكَ وطُوباك أيضاً ، وفيه معنى الدعاء ؛ ولذلك ذكر ابن كثير أن من معانيها : حسنى لهم وذكر الإمام الطبري أن من معانيها : نعم ما لهم أو غبطة لهم .
وقال كعب الأحبار إن ( ق ) في قوله تعالى :(ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ) اسم جبل من زبرجدة خضراء يحيط بالأرض كلها ،وهذا فيه نظر من حيث اللغة ؛ قال الفراء : (إن كان "ق" اسم وليس حرف هجاء كان يجب أن فيه يظهر الإعراب) أي : لكان "قافٌ" بضمتين لا (قْ) بالسكون ؛ لأنه مبتدأ ، والحق أن "ق" حرف كبقية الحروف في أوائل السور نحو " ص ، ن ، الم ، ألمر "وغيرها. ؛ يقول ابن كثير عن قول كعب هذا : (هذا من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب ، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم )
(ج) مخالفة العادات والسنن:
ذهب بعض نقلة الإسرائيليات إلى أنه كان لعصا موسى مآرب أخرى عجيبة غير أنه يتوكأ عليها ويهشّ بها على غنمه ، وهذه المآرب هي أنها كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والحق أنها لم تكن كذلك ؛ إذ لو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعبانًا ففر منها هاربًا
وذهب وهب بن منبه إلى داود عندما كان يذكر ذنبه فيبكي تجري دموعه أنهاراً
(د‌) الخرافات والأساطير:
زعم وهب بن منبه أن الشجرة التي نُهي عنها آدم عليه السلام إنما كانت شجرة خاصة تأكل منها الملائكة ؛ فقيل له : إن الملائكة لا تأكل ! قال: إن الله يفعل ما يشاء
ومن الإسرائيليات أن أرواث الدواب لما كثرت في سفينة نوح عليه السلام أوحى الله إليه أن يغمز ذنب الفيل ؛ فوقع من الفيل خنزير وخنزيرة ؛ فأقبلا على الروث ، ولما وقع الفأر بجوف السفينة يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فخرج من منخره سنور (قط) وسنورة فأقبلا على الفار وليت شعري لماذا لم يقذف نوح ومن معه هذه الأرواث في المياه التي تسير فوقها السفينة وينتهي الأمر تماماً؟!
ومن الإسرائيليات أيضاً في تفسير قوله تعالى : (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) أن هولاء القوم الجبارين قوم ضخام جداً وليسوا بأحجام البشر ، وإنما البشر أمامهم كالنمل ؛ يقول ابن كثير : ( قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثاراً فيها مجازفات كثيرة باطلة يدلّ العقل والنقل على خلافها من أنهم كانوا أشكالاً هائلة ضخاماً جداً ؛ حتى ذكروا أن رسل بني إسرائيل لما قدموا عليهم _ تلقاهم رجل من رسل الجبارين ؛ فجعل يأخذهم واحداً واحداً ويضعهم في أكمامه وحجزة سراويله وهم اثنا عشر رجلاً؛ ؛ فجاء بهم فنثرهم بين يديّ ملك الجبارين ؛ فقال : من هؤلاء؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرّفوه ، وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقة لها) وليس ذلك فحسب بل زعم السدي الصغير أنه كان لا يحمل عنقودا من عنب الجبارين إلا خمسة أنفس من بني إسرائيل ، ويدخل خمسة أفراد منهم في نصف رمانتهم إذا نزع منها حبها ، وقد أورد الطبري والبغوي والسيوطي في الدر المنثور أن من هولاء القوم الجبارين رجل يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاث وثلاثين ذراعا وثلث ذراع، وكان - لطوله - يشرب من السحاب ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس ثم يأكله، ويُروى أن الماء في زمان نوح غطى كل ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج ، وعاش عوج هذا ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يديّ موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام، وكان فرسخا في فرسخ، وحملها ليرميها عليهم فبعث الله الهدهد فنخر الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله، وكانت أم عوج إحدى بنات آدم ، ومثل ذلك كثير .
(د) مخالفة العلم وطبائع الأشياء:
من خصائص الإسرائيليات مخالفتها للعلم ومناقضتها للحسّ ؛ يقول كعب الأحبار : إن السحاب هو غربال المطر ، ولولاه لأفسد المطر ما ينبع من الأرض.
ومن الإسرائيليات في تفسير قوله تعالى على لسان لقمان : (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) أن هذه الصخرة التي ذكرها لقمان ليست هي مجرد صخرة ؛ إذ أن الأرضين السبع على ظهر النون (حوت) ، والنون في بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش ، والبحر على صخرة خضراء – وهي الصخرة التي ذكرها لقمان – وهذه الصخرة على قرن ثور .ويتسآل الباحث إذا كان حجم الصخرة كذلك فما حجم حبة الخردل التي عليها ؟! فإذا كانت كبيرة - ولا بد أن تكون كذلك لتناسب حجم تلك الصخرة المزعومة- فسد المعنى الذي قصده لقمان ؛ لأنه أراد أن يعبّر عن قدرة الله وعلمه بالأمر الشديد الخفاء
ويذكرون أيضاً أن ذا القرنين بعد أن أتى مغرب الشمس تجاوز الشمس نفسها ؛ فسار في الظلام، يقول ابن كثير: (من زعم من القصّاصين أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس وصار يمشي بجيوشه في الظلمات مدداً طويلة فقد أخطأ بعد النجعة وقال ما يخالف العقل والنقل)
(هـ) الغرائب والمبالغات:
من خصائص الإسرائيليات اشتمالها على الغرائب والمبالغات ، وهذه الغرائب غالباً ما تكون مستنكرة في العقل ومثيرة للتعجب سواء كان ذلك بتعظيم الأمور البسيطة أو تبسيط الأمور العظيمة أو إثبات سلوك لشخص من المستغرب أن يصدر عنه أو قد يكون بتركيب عناصر الطبيعة تركيباً مستغرباً، أو قد يكون بتأويل الكلام تأويلاً مستغرباً ؛ ومن ذلك ما ذكر من أن مدينة "إرم" كانت مبنية من الذهب وحصاها اللآليء ، ونحوه ذلك
ومن ذلك ما ذكر في تفسير قوله تعالى عن إدريس : (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) من أنه جاءه ملك الموت ليصحبه فلما عرفه إدريس طلب منه أن يأخذ روحه ليذوق كرب الموت ؛ فقبضها وردها بعد ساعة ، ثم طلب منه أن يرفعه لينظر إلى الجنة والنار ، فرفعه وفتحت له أبواب النار حتى رآها ، ولما دخل الجنة تمسك بشجرة من أشجارها وأبى أن يخرج منها وطالت مطالبة الملك له ؛ فبعث الله ملكاً حكيماً فسأله فقال: مالك لا تخرج؟! فقال: أما الموت الذي ذكر الله أن كل نفس ذائقة له فقد ذقته ، وأما الخروج فقد قال تعالى : (وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) فذلك هو المكان العلي الذي رفع الله فيه إدريس، ومن ذلك أيضاً ما ذهب إليه كعب الأحبار من أن الله قد خلق ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع على ذلك عرشه
(و) سوء الأدب مع الله والطعن في أنبيائه:
من سمات الإسرائيليات أنها تشتمل على سوء الأدب مع الله والطعن في الأنبياء والرسل ، وهذا كما يبدو دأب في بني إسرائيل قديم ، وقد حكى الله عنهم مثل ذلك ؛ إذ قالوا لموسى - كما حكى عنهم القرآن- : (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) وكذلك قالوا : (يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ) وقالوا : (إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء) وذكر القرآن أنهم آذوا موسى بأقوالهم الشنيعة عنه ، ولأجل ذلك فلا غرو أن تتسرب مثل هذه الأقوال إلى كتبهم المحرفة ؛ ومن ذلك قولهم في سفر التكوين إن الله لما خلق الخلق في ستة أيام استراح من عمله في اليوم السابع وقد رد عليهم القرآن بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) أي :لم يتعب ومثله قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) واللغوب : التعب أيضاً .
وجاء في التوراة أيضا أن آدم لما أكل من الشجرة اختبأ في الجنة لما سمع صوت الرب ماشيا عند هبوب ريح النهار ؛ فناداه الرب أين أنت ؟
وكما أساءت الإسرائيليات الأدب مع الله فهي كذلك قد طعنت في الأنبياء ، وحاولت تشويه صورهم ، ومن ذلك ما ذُكر عن داود عليه السلام في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) من أن داود قد أخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون الطير ؛ فهمّ أن يأخذه لابنه الصغير ؛ فوقع في كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار ، فأبصر داود امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها ؛ قال السدي الصغير : فوقعت في قلبه وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يُقتلوا، فقدّمه فيهم فقُتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود
ومن ذلك أيضاً ما روي عن موسى أنه لما خرّ صعقاً أخذت الملائكة تركله بأرجلها وتلعنه وتقول: (يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة؟)
ومن ذلك أيضاً ما ذكر عن يوسف عليه السلام بأنه عندما دخل عليه أبوه لم يقف احتراماً له ؛ فقال له الله تعالى : (وعزتي لا أخرج من صلبك نبياً) فلم يكن نبي من عقبه
(ز‌) الاهتمام بالتفاصيل التي لا فائدة فيها:
اهتمت الإسرائيليات بالتفاصيل الدقيقة التي لا فائدة من ذكرها ؛ نحو أسماء الحيوانات والعفاريت والأشخاص ، ومعلوم أن القرآن كثيراً ما يُبهم ويُجمل ؛ إذ أن أسماء الحيوانات والأشخاص تكون غير ضرورية ؛ إذ تؤدي القصة أغراضها دون الحاجة إلى ذلك ، إلا أن بعض القصّاص والمفسرين يعمدون إلى هذه الإسرائيليات يستخرجون منها أسماء الحيوانات والأشخاص ، ومن ذلك أنهم ذهبوا إلى اسم أم موسى هو يوحانذ بنت بصير بن لاوي. وقيل: ياوخا. وقيل: بارخت.وأن اسم امرأة نوح هو (والغة) وان اسم امرأة لوط هو (والهة)
وأن نملة سليمان كانت تسمى خرميا وقيل طاخية وقيل عيجلوف ونحوه . وأن اسم هدهد سليمان هو عنبر وأن اسم عصا موسى هو (نفعة) ونحو ذلك .
وما علم الباحث أن لهدهد من الهداهيد اسماً ولا لنملة من النمل ولا لذئب من الذئاب ولا لعصا من العصي، وما فائدة تتبع أسماء الأشخاص الذين أبهمهم الله في القرآن دون أن يُحدِث ذلك الإبهام خللاً في أغراض الكلام ، ومعلوم أن الله لو أراد ذكرهم لفعل ؛ فما فائدة استمداد أسمائهم من مصادر غير موثوقة ابتداء.
ولولع القصّاص الشديد بذكر هذه الأسماء فقد بالغ أبا علقمة القاص – كما ذكر الجاحظ - فذكر في قصصه‏ أن الذئب الذي أكل يوسف عليه السلام كان يسمى حجوناً‏ ؛ وذلك حتى يظهر للناس معرفته بدقائق العلم كما يرى ، فقيل له : سبحان الله! ، ولكن الذئب لم يأكل يوسف عليه السلام ، فأحرج وأخذ يفكر في طريقة تخرجه من المأزق ؛ فقال : نعم نعم ؛ هذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف عليه السلام

رابعا : الذين اشتهروا برواية الإسرائيليات:
من التابعين الذين اشتهروا برواية الإسرائيليات كعب الأحبار ، وأصله من يهود اليمن، أسلم في خلافة أبى بكر، وقيل: في خلافة عمر، وقيل: إنه أسلم في عهد النبي ((صلى الله عليه وسلم)) وتأخرت هجرته ، وقد مات كعب بحمص سنة 32 هـ وقد بلغ مائة وأربعين سنة ولو افترضنا أنه أسلم في تلك السنة التي توفي فيها رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) على الأكثر - وهي سنة إحدى عشرة للهجرة - فإن عمره حين أسلم كان ما يقارب المائة وعشرين سنة أي كان شيخاً عجوزاً جدا وكانت تعاليمه شفهية ، ورجل بهذه السن - وإن كان عالماً كبيراً ككعب هذا - لا يمكن أن يقارن بين ما عنده من علم وبين القرآن حتى يميز الحق من بين الباطل ، وإنما كان يحكي للناس ما عرفه في شبابه فحسب ، ولكن لم يرد عنه أنه حاول تفسير القرآن بالإسرائيليات – وإن ورد إنه كان يبرر هذه الإسرائيليات بالقرآن أحيانا كما سبق - إلا أن من جاءوا بعده قد حاولوا ذلك بأقواله بل وزادوا عليها مما نسجوه من قصص خرافية.
وكعب وإن لم يقارن بين ما عنده وبين القرآن ؛ إلا أنه كما يبدو كان ناقدا متميزا للإسرائيليات في أنفسها قبل شيخوخته وكان له ذوق في معرفة صحيحها من سقيمها فلما أسلم أظهر للناس هذا النقد ؛ ولذلك مدحه أبو الدرداء بأن له علماً كثيراً وشبه معاوية رضي الله عنه علمه بالثمار ولهذا روى عنه أبو هريرة ومعاوية ، ومعلوم أن رواية الصحابي للتابعي عزيزة ونادرة جداً ، وقد كان كعب أيضاً يناظر اليهود ويلزمهم الحجة ، وقد أورد الذهبي قصة تدل على ذلك ؛ إذ ناظر أربعين عالماً يهودياً في مرة واحدة فأفحمهم ، وليس ذلك فحسب بل بكى بعضهم وسجد بعضهم
أما تابعي التابعين الذين رووا هذه الإسرائيليات واشتهروا بذلك فليس فيهم من يُوثق به ؛ إذ فيهم من الصفات الكثيرة التي توجب ردّ رواياتهم ؛ وهم:
(أ‌) محمد بن السائب الكلبي ت 146 هـ:
كان الكلبي يهودي النزعة ، وهو من أتباع عبد الله بن سبأ ، والسبيئة اشتهروا بالكذب ، وكان الإمام الثوري يحذر منه فهو كذاب ساقط ، والعلماء مجتمعون على ترك حديثه قلا يشتغلون به ، وكانوا يرون أنه يزرف يعنى : يكذب ؛ قال مروان بن محمد تفسير الكلبي باطل، وقال عنه يحيى بن معين : ليس بشيء ، وكان سفيان الثوري يقول عجبا لمن يروى عن الكلبي، وقد اعترف الكلبي للثوري بأنه يكذب إذا حدث عن أبى صالح عن ابن عباس وكان الكلبي يروي عن ابن عباس وهو لم يسمع منه ؛ ولهذا قيل (إن أوهى طريق عن ابن عباس في رواية تفسير القرآن عن طريق الكلبي عن ابن صالح فإذا انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب) ، وقال ليث بن أبي سليم كان بالكوفة كذابان أحدهما الكلبي والآخر السدي الصغير
(ب‌) وهب بن منبه:
أصله من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمن ، وهو مؤرخ كثير الإخبار عن الكتب القديمة، وكان يحدث بأخبار الأوائل وقيام الدنيا وأحوال الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وسير الملوك وأساطير الأولين ولا سيما الإسرائيليات وكان يقول: سمعت اثنين وتسعين كتابا كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وعشرون في أيدي الناس لا يعلمها إلا قليل ، ومن كتبه " ذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم "و " قصص الأنبياء " و " قصص الأخيار " وذكر الدار قطني أن وهب بن منبه متروك، وقال البخاري ومسلم وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال أبو عروبة الحراني: كان يضع الحديث، وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابعه الثقات عليه
(ج) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج:
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج مشهور بالعلم وكثرة الحديث وصفه النسائي وغيره بالتدليس وكان ابن جريج يأخذ الرواية من الضعفاء والمجروحين ويدلس فيها بعد ذلك كله ؛ ولهذا قال الدارقطني : شر التدليس تدليس بن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح
(د‌) مقاتل بن سليمان:
مقاتل بن سليمان - كما قال النسائي وابن حبان - كذاب ، وقال عنه وكيع: سمعنا منه والله المستعان وليس ذلك فحسب بل ذكر النقاد أن الكلبي خير منه، وقال الجوزجانى: كان دجالا جسورا، وقال العباس بن مصعب: كان مقاتل لا يضبط الإسناد، وقال البخاري: سكتوا عنه ، ويقول عنه ابن حبان : ( وكان مقاتل يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم) ، وقد كان مقاتل يروى عن الضحاك بن مزاحم وهو قد ولد بعد وفاة الضحاك بأربع سنوات
وأخيرا:
تبين من خلال هذه الدراسة أن الإباحة في الإسرائيليات لم تكن لنوع دون نوع ، وإنما كانت لمنهج دون منهج ، والأصل في ذلك هو رفض هذه الإسرائيليات سواء في العقيدة أو الأحكام أو القصص والأخبار أو غيرها ، أما الإباحة فهي خاصة بالعلماء دون العامة ، وهي عند العلماء أيضا خارج القرآن وتفسيره وتتعلق بأمرين ، وهذا الأمران متعلقان بدعوة أهل الكتاب:
- إيراد ما يوفق القرآن في إطار الدعوة وإثبات أن الدينين من الله تعالى ، وهذه النوع من الدعوة يكون تحت إطار قوله تعالى "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ "
- إيراد ما يخالف القرآن في إطار الدعوة والمناظرة وإثبات التحريف وإلزامهم الحجة ، وهذه النوع من الدعوة يكون تحت إطار قوله تعالى " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ" وقوله "وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ" وقوله "يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ"
وإذا كان هذا المنهج الذي بيناه يتعلق بالعلماء العاملين في مجال الدعوة فحسب لا بسواهم فلبقية الناس من المسلمين نقول – كما قال أستاذنا أحمد نوفل الذي اتخذ منهجيا عمريا – في حلقة تلفزيونية في قناة الرسالة وقال:
- ما وافق حقائق القرآن والسنة من هذه الإسرائيليات مرفوض مرفوض مرفوض
- ما خالف حقائق القرآن والسنة من هذه الإسرائيليات مرفوض مرفوض مرفوض
- ما سُكت عنه في القرآن والسنة من هذه الإسرائيليات مرفوض مرفوض مرفوض
وأقول :إن القرآن غير محتاج إلى ما يكمله أو يتممه قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فكل ما يحتاجه الإنسان مبيّن في القرآن ؛ فهو مكتف بنفسه ولا يحتاج إلى كتاب آخر ؛ خاصة وأن هذه الكتب التي يراد أن يُوضَح بها محرّفة مبدّلة، وليس ذلك فحسب بل من الإسرائيليات ما لا وجود له في التوراة والإنجيل على تحريفهما ، وإنما هي أخبار شائعة عند أهل الكتاب فحسب ، ولأجل ذلك فلا حاجة لنا في مجال التفسير إلى ما ذُكر منها سواء وافقت أو خالفت أو سكت عنها ، أما ما لم يذكر مما اشتهر عند أهل الكتاب فهو أولى بالرفض وضرب الصفح.
ولهذا فالمسلمون غير محتاجين لهذه الإسرائيليات لا في التفسير ولا غيره وإنما الحاجة لها عند مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم ودعوتهم وفي عمل الدراسات المقارنة فحسب
وبهذا يمكن الجمع بين حديثي النبي صلى الله عليه وسلم :
- " أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ " الذي رواه أحمد ، وهذا هو الأصل ، وهو المنع القاطع
- "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار" الذي رواه البخاري ومسلم ، فالحديث كما يبدو من سياقه جاء في إطار البلاغ والدعوة لقوله صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني" والتحديث عن بني إسرائيل رغم أن أخبارهم منها المكذوبة والصحيحة إنما يكون داخل هذا السياق ، ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه ؛ إذ يجب أن لا يروى عنه غير الحق ، وإن الملاحظ هنا في الحديث مقابلة كذب بني إسرائيل بصدق الإسلام في إطار هذه الدعوة أو المناظرة ، وهذا واضح في سياق الحديث .

مراجع :
- البغوي: معالم التنزيل تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرون، ط/4 دار طيبة للنشر والتوزيع، سنة 1997 م
- الذهبي :
(أ) سير أعلام النبلاء ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، ط/مؤسسة الرسالة
(ب) ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، تحقيق علي محمد البجاوي ، ط/ دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت ، لبنان.
- الذهبي : محمد حسين: الإسرائيليات في التفسير والحديث : ط5، مكتبة القاهرة 2004م .
- الطبري
(أ) تاريخ الأمم والملوك ، ط/ دار إحياء التراث العربي بيروت.
(ب) جامع البيان في تأويل القرآن تحقيق : أحمد محمد شاكر ط /4 مؤسسة الرسالة سنة 2000 م
- العسقلاني: ابن حجر :
(أ) تهذيب التهذيب ط/1 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1984 م .
(ب) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس تحقيق عاصم بن عبد الله القريوني ، ط/ جمعية عمال المطابع التعاونية الأردن عمان .
- العقيلي : الصعفاء الكبير ، تحقيق عبد المعطي قلعجي ط/ دار الكتب العلمية بيروت
- القرطبي : الجامع لأحكام القرآن : تحقيق أحمد عبد العليم البردوني ط/3 دار الكتب المصرية .
بن كثير :
(أ) البداية والنهاية ، تحقيق علي شيري ، ط/1 دار إحياء التراث العربي 1988 م .
(ب) تفسير القرآن العظيم ، تحقيق سامي بن محمد سلامة ، ط/2 دار طيبة للنشر والتوزيع سنة 1999 م .
 
بارك الله فيكم يا دكتور جمال على هذا البحث المفيد الموفق .
س : ماذا تقول في المفسرين الذين أودعوا بعض الروايات الإسرائيلية في كتبهم ؟ ولا سيما أمثال الطبري رحمه الله . هل يرد هذا المنهج تماماً وكيف يوجه هذا المنهج الذي سلكوه ؟
 
جذورالمشكلة :

وإذا كان هذا المنهج الذي بيناه يتعلق بالعلماء العاملين في مجال الدعوة فحسب لا بسواهم فلبقية الناس من المسلمين نقول – كما قال أستاذنا أحمد نوفل الذي اتخذ منهجيا عمريا – في حلقة تلفزيونية في قناة الرسالة وقال:
- ما وافق حقائق القرآن والسنة من هذه الإسرائيليات مرفوض مرفوض مرفوض
- ما خالف حقائق القرآن والسنة من هذه الإسرائيليات مرفوض مرفوض مرفوض
- ما سُكت عنه في القرآن والسنة من هذه الإسرائيليات مرفوض مرفوض مرفوض
مراجع :
- .

الأخ الفاضل الدكتور جمال الدين عبد العزيز

جزاك الله خيرا على ما سطرت أناملك وجعله في موازين حسناتك.

وأرجو أن تقبل مني هذه الملاحظة حول ما أقتبسته من كلامك.
لماذا نرفض ما وافق حقائق القرآن ؟ فهذا رفض للحق من قال بالحق قلنا له صدقت ، والقرآن يقول : " وإذا قلتم فاعدلوا" . ثم إن هذا من باب هيمنة القرآن على ما قبله من الكتاب فيحق ما فيه من الحق ويبطل ما نسب إليه من الباطل.

وأما ما سكت عنه ، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، روى أحمد وأبو داود
"عَنِ ابْنِ أَبِي نَمْلَةَ أَنَّ أَبَا نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجَنَازَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْيَهُودِيُّ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ"
 
أخي الفاضل الدكتور عبد الرحمن الشهري
إن تفسير الطبري "جامع البيان" من أنفع التفاسير ، قال عنه النووي: (وكتاب ابن جرير لم يصنف أحد مثله)، ، وقال ابن تيمية : (هو من أجل التفاسير ، وأعظمها قدرا) وقد عد السيوطي ابن جرير الطبري رأس المفسرين على الإطلاق ،ولكن رغم ذلك فإن الطبري كان يروي الإسرائيليات دون التعليق عليها ؛ ولأجل ذلك دخلت في تفسيره إسرائيليات كثيرة دون أن يتعقبها إلا عرضاً عند الحديث عن إسنادها.
ومعلوم أن التفسير قد تأثر في بداية أمره بالحديث فكان للمفسرين في التعامل مع الروايات التفسيرية عموما طريقتان:
1- النقل أو الرواية دون التعرض لنقد الروايات وقد شاعت مقولة "إن من أسند لك فقد أحالك" أي كأنه ليس من شأن الذي ينقل لك الرواية الحكم عليها ؛ بل لسان حاله يقول انظر في الإسناد والرواية نفسها واحكم أنت ، فقد نقلت لك وانتهت مهمتي ، وهي طريقة معروفة عند أهل العلم ، ولهذا كثرت في التفسير الروايات عن كل أحد مهما كان حاله ،قال وكيع: (لا ينبُل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه، ومن هو مثله، ومن هو دونه).
2- الدراية وهي بيان ما يصح من هذه الروايات وما يتزيف قال ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل: " فإن قيل : فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة ؟ قيل : بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة ، ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر ومكان "
وقد ارتضى ابن جرير في التأليف المنهج الأول ؛ إذ كان يعتمد على هذه الروايات سواء قبلها هو أو رفضها ، وقد ذكر ذلك في مقدمة تاريخه وكأنما يغري بنقده ؛ يقول (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه) ثم ذكر أن بعض ما رواه من الأخبار عن بعض الماضين – ومنهم اليهود والنصارى وغيرهم – قد يستنكره القارئ ويستشنعه السامع ولا يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة ؛ فهو قد نقل لنا كما نقل الرواة إليه ، ولهذا أكثر الطبري في تفسيره الرواية عن المبهمين وروى كثيرا عمن لا يوثق بهم مع علمه بما فيهم وفي رواياتهم من الضعف، لكنه منهجه فماذا يفعل ؟ ومعلوم أن أهل هذا المنهج قد فرقوا بين أسانيد الحلال والحرام وأسانيد غيرها من حيث التشديد والتساهل ، ولهذا تساهل الطبري في الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب ما دامت لا تتعلق بالحلال والحرام.
وأرى أن هذا الإمام كأنه كان يظن أن ما سطره من علم سيؤول أمره إلى علماء نقاد حسب ما تقتضي طبيعة المنهج ؛ ولهذا ينبغي للعلماء أن ينظروا في أمر هذه الإسرائيليات داخل كتب التفسير ويتشاوروا فيها وفي ما يفعلون من أمرها فيعلقوا عليها في الهوامش ويبينوا بطلانها على أقل تقدير أو يحذفوها ويعزلوها منفصلة لتداول أهل الاختصاص أو نحو ذلك
والحق أن كتب التفسير عموما قد تفاوتت في الأخذ بهذه الإسرائيليات قلة وكثرة ولم يكد تفسير من التفاسير القديمة ينجو من ذلك ؛ يقول الدكتور محمد حسين الذهبي : (لا أكون مبالغاً أو متجاوزاً حدّ الصدق إن قلت إن كتب التفسير كلها قد انزلق مؤلفوها إلى ذكر بعض الإسرائيليات وإن كان ذلك يتفاوت قلة وكثرة وتعقيباً عليها وسكوتاً عنها)
ومعلوم أن "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير قد كان من أنقى التفاسير عن ذلك ، ورغم أن صاحبه كان مؤرخاً - والمؤرخون الأقدمون يتساهلون في قبول الأخبار – إلا أنه كان متشدّداً تجاه الإسرائيليات ، وكان ناقداً متميزاً لها ، ولأجل ذلك حمل على رواتها وعدّها عبثاً لا فائدة ولا طائل منه ، إلا إنه رغم ذلك قد انزلق داخل تفسيره في موضعين فقط إلى رواية هذه الإسرائيليات دون أن يعلق عليها ؛ وذلك أنه ذكر أن الله بعث إلى النمروذ ملكاً يأمره بالإيمان بالله ؛ فأبى عليه ، ثم دعاه الثانية فأبى ، ثم الثالثة فأبى ، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها.
، وكذلك ذكر رواية عن وهب ابن منبه وهي أن موسى لما ألقى عصاه على وجه الأرض صارت ثعبانا عظيما ؛ فدبّ يلتمس كأنه يبتغى شيئًا يريد أخْذَه، يمر بالصخرة مثل الخَلِفَة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه توقدان نارا، وقد عاد المحْجَن منها عُرفًا. وقيل شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع، فيه أضراس وأنياب، لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرًا ولم يُعَقِّب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجَز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى أنْ: ارجع حيث كنت. فرجع موسى وهو شديد الخوف
، ولما كان تفسير ابن كثير قد اقتصر على ذلك فحسب فقد عدّ من أنقى التفاسير عن هذه الإسرائيليات.
أما التفاسير التي أكثرت من الإسرائيليات فهي :
1- تفسير الثعلبي:
كان الثعلبي قاصاً مولعاً بالإسرائيليات والخرافات والأباطيل ، وقد ضمن كتابه (العرائس) الذي ذكر فيه قصص الأنبياء كثيراً من هذه الإسرائيليات ، وكان حاطب ليل لا يبالي ما يأخذ ، ولأجل ذلك امتلأ تفسيره بالإسرائيليات والأساطير والخرافات والمناكير ، ويعدّ تفسير الثعلبي من أشهر التفاسير في ذلك.
يقول ابن تيمية(في تفسير الثعلبى الغث والسمين فإنه حاطب ليل)
وكتاب الثعلبي "عرائس المجالس" كما لاحظت يتندر به النصارى اليوم في مواقعهم بالانترنت ويطعنون به في القرآن كأنما جاءت هذه الإسرائيليات من كتب غيرهم
2- تفسير معالم التنزيل للبغوي:
تفسير البغوي من التفاسير المشهورة برواية الإسرائيليات والأساطير ، وهو مختصر لتفسير الثعلبي.
3- تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن:
إذا كان تفسير البغوي مختصراً لتفسير الثعلبي فإن تفسير الخازن هذا كان مختصراً لتفسير البغوي ، وليس ذلك فحسب ؛ بل كان الخازن يرجع إلى الثعلبي إذا أهمل البغوي بعض الإسرائيليات فيأخذها من الثعلبي فيزيد تفسيره من هذه الأباطيل ، وقد عزا الخازن كثيراً من الإسرائيليات التي نقلها إلى الثعلبي مباشرة ، وقد كان الخازن قاصاً واعظاً متصوفاً.
 
أخي الفاضل محب القرآن
ما ذكرته صحيح في عمومه
لكن هنالك - كما ذكرت في هذه الدراسة - مستويان
المستوى الأول : مصدر المعرفة عندنا - نحن المسلمين – ليس التوراة ولا الإنجيل المحرفين فلا نأخذ منهما شيئا سواء في العقيدة أو الأحكام أو الأخبار وسواء صح الذي نريد أخذه أم لم يصح ، وفي الحديث الذي أوردته ، أخي محب القرآن ، والذي رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وابن حبان وعبد الرزاق في مصنفه - دليل على أن هذه الإسرائيليات ليست مصدر معرفتنا على الإطلاق ؛ إذ إن ذلك اليهودي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمراً ثابتاً في عقيدتنا ومبيناً في السنة الصحيحة سواء كان ذلك ما يجري في القبر من سؤال وجواب أو كان قبل ذلك نحو قول الجنازة " قدموني قدموني" كما جاء في البخاري والنسائي والبيهقي وابن حبان وأحمد وابن حبان وأبي يعلى والطيالسي ، ورغم ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤيد قول اليهودي "الصحيح" بل أرجع الأمر إلى "علم الله "ليرينا المنهج في التعامل مع الإسرائيليات ، وقد أورد ابن حبان في تمام هذا الحديث تعليق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك : (قاتل الله اليهود لقد أوتوا علما) وهذا الحديث إسناده قوي ؛ مما يدل على أن كلام اليهودي موافق لما عندنا وإن كان المصدر مرفوضاً ، أما ما ذكره بعض العلماء من الشراح من أن هذا من مشكل الحديث ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير عارف بذلك ؛ إذ لم يوح إليه بعد أمر "كلام الجنازة " حين سأله اليهودي فهو كلام لا وجاهة له ؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل "لا أعلم" بل قال "الله أعلم" والفرق كبير ثم كيف وصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالعلم إذا لم يكن يعرفه . والحق الذي لا لبس فيه هو أن التوراة والإنجيل قبل تحريفهما قد كانا من عند الله ؛ ولذلك لا بد أن تشابه القرآن في كثير من الأمور ، ولكن لما وقع فيهما التحريف والتبديل لم يكن الأخذ منهما مأموناً حتى في تلك الأمور الموافقة ؛ إذ لاحظت أن بعض الأمور الموافقة لما عندنا قد تكون فيها بعض الزيادات الطفيفة وقد تبدو هذه الزيادات يسيرة ومعقولة المعنى وغير مؤثرة ، ولكن عند التأمل والتدقيق تجدها شديدة الخطورة ؛ فتلتصق هذه المعاني بمعاني القرآن أشد ما بكون الالتصاق ولا يستطيع الذهن التخلص منها إلا بعد جهد كبير ؛ فالأمر شديد الدقة جدا
المستوى الثاني : وهو مستوى خاص يتعلق بالنقد والمناظرة والدراسات المقارنة وهذا المستوى من الضروري فيه إعمال ما ذكرته أخي محب القرآن زادك الله وإيانا للقرآن حبا
 
عودة
أعلى