أبو محمد الظاهرى
New member
- إنضم
- 04/02/2006
- المشاركات
- 389
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
- العمر
- 57
- الإقامة
- مصر
- الموقع الالكتروني
- www.aldahereyah.net
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعريف بصاحب المقال:
د/ نعمان بو قرة
دكتوراه بجامعة باجي مختار – عنابة – الجزائر.
ماجستير في اللسانيات وأستاذ مساعد بكلية الآداب واللغات بالجامعة.
يقول في المقال :
تعريف بصاحب المقال:
د/ نعمان بو قرة
دكتوراه بجامعة باجي مختار – عنابة – الجزائر.
ماجستير في اللسانيات وأستاذ مساعد بكلية الآداب واللغات بالجامعة.
يقول في المقال :
1- هل الظاهرية مذهب فكري أم مشروع ثقافي بديل؟
ليس من الموضوعية في شيء أن يجاب عن هذا السؤال الملح والمشروع في الوقت نفسه إلاّ بعد عملية تحليلية لللنظرية الظاهرية من خلال تفكيك البنية الفكرية الممثلة في آراء ابن حزم القرطبي الفقهية والأصولية والعقدية واللغوية، وهذه الآراء المشكلة لمنظومة معرفية متماسكة تستحق إعادة نقد وقراءة على ضوء المعطيات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمثل السياق التاريخي الذي ظهرت فيه الحركة الظاهرية في الأندلس وبلاد المغرب. ثم إن محاولة فهم الأصول التي بنيت عليها الحزمية تفيدنا في استكشاف حقيقة هذا الحركة من حيث بعدها السياسي وخطورتها على الاتجاه الفكري السائد في ذلك الوقت.
نودّ في هذا المقام التأكيد على ملاحظة مهمة تخص تراث ابن حزم الذي لا يزال غير معروف أو مدروس بالقدر الكافي ولعل السبب الرئيس لهذا القصور راجع إلى مواقف لا تمت بصلة للموضوعية المتوخاة في دراسة التراث بكل مدارسه وآرائه وآفاقه. وإننا في هذه العجالة نحاول التأكيد على ما أكد عليه سلفنا وذلك بتسليط الأضواء على أهم الجوانب المتعلقة بالظاهرية الحزمية كتيار فكري مشبع بالأصالة، ترك آثاراُ لا يمكن نكرانها في حضارة الأندلس وبلاد المغرب، وكمشروع واحد يبشر بالتجديد في مستويات معرفية، وإن كان مفتقراً لبعض الآيات والآداب المناسبة التي كثيراً ما يصادفنا عكسها ونحن نطرق أبواب الأفكار والمذاهب في بدايات تشكلها الأولى شرقاً وغرباً.
ونود أن نلمح للقارئ بأننا سننطلق من رؤية خاصة ترى في فكر ابن حزم وقراءته المتميزة للنص اعتماداً على سلطة اللغة ذاتها بديلاً فكرياً ومنهجياً يقف كلبنة أولى لمشروع ثقافي إسلامي منبته الأندلس وفروعه في البلاد الإسلامية، وهذا المشروع طبعاً – من وجهة نظر معرفية – يستهدف إحياء أصول الثقافة الإسلامية وإعادة الإعتبار لسلطان النص والعقل اللذين شوهتهما مشاريع ثقافية أخرى كانت تتغذى من الثقافة الغنوصية وبعض الاتجاهات التي لا تنفض يديها من الاعتماد على العرفان واكتناه الأسرار الربانية بل وتعطيل السنن الكونية والدعوة لعجز العقل من جهة وعدم الوثوق باللغة من جهة ثانية، وربما كانت هذه الآراء هي السبب في انتشار الفساد والتبرير له اجتماعياً وسياسياً وعقدياً. ولقد كان عالمنا في خصامه لبعض الفقهاء بغض النظر عن اتجاهاتهم المذهبية يطمح لإعادة تأسيس الثقافة العربية الإسلامية على مبدأ أصيل فيها هو البيان الذي يعتمد على البرهان. والذي لا مشاحة فيه أن عناية ابن حزم بالمنطق الأرسطي هو جزء من عنايته بالبيان الذي يتأسس عليه نظرية وتطبيقاً منهج قراءة النصوص وتفسيرها واستنباط الأحكام التكليفية منها. وبالمثل كان إلحاحه في غير موضع في كتبه على ضرورة الالتزام بما يفهم من ظاهر اللفظ وما تتيحه إمكانيات اللغة من قدرات بيانية وأخرى أسلوبية صرخاً على البيان دون ضرورة التجاء للتأويل على ما في هذه الرؤية من إقصاء حاد لأصل بنيت عليه أطروحات مناقضة للظاهرة اللغوية ومن العلوم أن رفض التأويل على غير مقتضى اللسان العربي في النص يفضي ضرورة إلى إنكار المجاز غير المسوّغ كظاهرة لغوية، مما يسهّل على الظاهرة مهمة الرّد على علماء الكلام في مسألة الصفات الإلهية خاصة، ورد كل أدلة الشيعة ورؤوس الأحزاب والفرق في الإمامة وتفاصيلها انطلاقاً من النص وحده.
كما أن السير وراء التأويل وفق هذه الرؤية يجعل قراءة النص خارجية، في حين يفترض من المجتهد أن ينطلق من النص نفسه وتركيبه ودلالات ألفاظه دون أن يتعب ذهنه في البحث عن الدلالات الخافية، وما يمكن أن يفهم بعد منطوق النص. والحقيقة أن منهج ابن حزم هذا المعتمد على البيان رأساً يتمشى مع طبيعة المعجزة القرآنية بوصفها دليلاً بيانياً أقامه صاحب المعجزة على العرب أهل البيان فتكون بذلك المعادلة متساوية الأبعاد ولو افترضنا طبيعة أخرى للنص المعجز لما كانت للمعجزة قيمة حين تخالف في جنسها وطبيعتها الهدف الذي أوجدت له.
إنه من الضرورة بمكان أن يقارن ابن حزم في ظاهريته هذه بالتيارات الفقهية والكلامية والفلسفية في زمانه ليتم الإدراك الواعي بتفوّقه وجدية أطروحاته دون حاجة إلى مزايدات مبنية على مواقف ذاتية وأهواء مذهبية، ولسنا في حاجة إلى أن يقنع بعضنا بعضاً بأنها روافد رغم اختلافها، وربما تناقضاتها تصب في النهر الخالد نهر الثقافة الاسلامية التي ندين لها بضرورة نقدها وغربلتها من جديد وتقديمها في ثوبها الأصيل بكل طاقاتها الخلاقة وأفكارها التجديدية للعالم في إطار أسلمة المعرفة.
وفي إطار هذا الموقف نؤكد على نقطة مهمة هي أن الدّعوة الظّاهرية إن سمح لنا اعتبارها كذلك – اتجاه فكري نقدي لم يكن هدفه النيل من رموز فقهية معينة بقدر ما كان دعوة إلى تغيير الفكر العربي وتجديد رؤيته لأمهات القضايا التي تمس الناس في حياتهم ومعادهم، كما يجب أن يفهم من حدة طبع رائد هذا الاتجاه غيرته على أصول الدين وطموحه الناجح لهدف نبيل. ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن الآراء الصائبة التي سادت عبر الزمن لم يكن لها خيار في استعمال لغة كلغة ابن حزم في كثير من الأحيان، فإن لم يكن "الجدال بالتي هي أحسن" سلاحها، كان السلطان موصلها لعقول الناس قبل قلوبهم.
ويمكننا أيضاً أن ندرس نشأة هذا المذهب وتطوره وآثاره العلمية والسياسية ومنهجه الأصولي دون حاجة منا إلى إدراجه ضمن قائمة المذاهب الأثرية والنصية التي تقبلها أهل الأندلس ولم يتقبلوا غيرها لأسباب لا يسمح المقام بعرضها، واستبعادنا لهذه الحاجة مبني على تحول المنهج الظاهري من مجرد منهج أثري نصي إلى منهج لساني من طراز خاص تفكك به النصوص الدينية سواء أكانت إسلامية في الحوار الذي دار بين أساطين الفكر الفقهي كابن حزم والباجي مثلاً، أم اسلامية يهودية كنقد ابن حزم للكتاب المقدس في الفصل والرد على ابن التغريلة اليهودي، ورده كذلك وفق وجهة نظر ظاهرية على الفلاسفة والفرق الإسلامية. فلا غرو بعدئذٍ أن نعد حركته شمولية مبنية على منهج بياني برهاني واضح وضوح اللغة التي نزل بها الوحي، بل إن الظاهرية في التعامل مع النص وفق ما تتيحه إمكانات اللغة أضحت نزعة لدى الكثيرين، وقد كان المقريزي في مصر يكتب بهذه الروح، كما اضطلع الصوفي الشعراني بحفظ كثير من آراء الظاهرية، في حين يكثر الفخر الرازي من إيراد التفسير الظاهري للآيات، وبالروح نفسِها راح ابن مضاء القرطبي ثائراً على نظرية العامل في النحو العربي، وثورة ابن حزم على القياس والعلة وفروعها لا تفترق ثورتهما كثيراً إلاّ في بعض الجزئيات التي يفرض اختلاف الموضوع حدوثها.
وسنحاول بعون الله مد الجسور للتعرف إلى بعض آراء ابن حزم المشكّلة امنحى تفكيره العلمي والمنهجي دون أن ندّعي صحة ما ننسبه له فقد يكون انتصاراً له أو تجنياً عليه، وستكون أولى وقفاتنا مع نظريته في اكتساب المعرفة ثم نعرض لملامح منهجه العلمي التي تظهر عقلانيته المتزنة، وفي ضوئها نحدد موقفه من المنطق والفلسفة القياس، ثم نعرض لمفهوم الدليل وحجيته في النظرية الحزمية لنختم كلامنا بتحديد معالم الظاهرية الحزمية في ضوء مفهوم البيان القائم على البرهان.
2- نظرية المعرفة عند ابن حزم (الأصول والأبعاد)
يُعَدُّ ابن حزم الحسن مصدراً للمعرفة الإنسانية وسبيلاً موصلاً إلى النفس علماً أن العلاقة بينهما علاقة تأثر وتأثير، فإن عرض للنفس ما يشغلها عجزت الحواس عن أداء دورها المنوط بها1. ويلزم عند تعطيل دور الحواس تعرض صاحبها للخطأ في إصدار الأحكام، فقد يعتريه هيجان الصراء فيجد الحلو مراً، ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا أصل لها2. ولما كانت الأحكام الناتجة نسبية كان لا بد من الاستنجاد بالعقل الذي أعطاه ابن حزم مكانة لائقة بقيمة الذي كان البارئ رسمه بها دون أن يطلق له العنان مثلما فعل غيره في أن يتعرف المجهول الغائب، وليس أدل على ذلك من استنجاده به حين يعوزه الدليل النصي في رد أقوال أهل الكتاب فكثيرة هي الردود التي اختفى بها الفصل والتي بنيت رأساً على توجيه العقل والمنطق3. وقد غدا العقل ميزاناً يرفض به كل ما يعارض الحقائق الإسلامية في قصص الأنبياء ويطرحها على أنها ترَّهات لا سند لها، ويشيد به في التقريب بقوله: ".... ومن كذب عقله فقد كذب شهادة الذي لولاه لم يعرف ربه وحصل في حال الجنون، ولم يحصل على حقيقة..."4.
غير أنه يضع له حدوداً يجب أن لا يتعداها، فليس من واجبات العقل إيجاب شيء أو منعه، كما أنه ليس من خصوصياته تحسين أمر أو تقبيحه مثلما ذهب إلى ذلك المعتزلة، بل دوره يكمن في أن يفهم من الله ويقر بأنه يفعل ما يشاء، ولو شاء الله أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان له5.
ويسلك ابن حزم مسلكاً مغيراً يكشف عن الدور التربوي الذي يقوم به العقل في توجيه وإرشاد الإنسن في معاشه ومعاده، فيه تستعمل الطاعات وتجتنب المعاصي، والعقل من نجى نفسه من عذاب النار، والدليل في ذلك قوله تعالى التوحيد وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (الملك: 10)، ثم يرفع شعاراً للعقل يجعل منه خضوعاً للحق بعد إدراكه مع سياسة الدنيا لتكون مزرعة للآخرة6.
ومن العقلا ما لا يختلف عليه شخصان معافان من كل بلاء ومصدر هذا الاتفاق فطرة الانسان. وعلم نفسه على حد تعبير ابن حزم كعلم النفس أن الجزء أقل من الكل وعدم اجتماع المتضادين وعدم ظهور جسم واحد في مكانين مختلفين7. في حين يرجع ابن حزم خطأ استعمال هذه القوة الفطرية عند العلماء إلى سببين: أحدهما يتمثل في طول وكثرة المقدمات إلى درجة يصعب فيها رد هذه المقدمات إلى البديهيات ككثرة الأعداد والأرقام في العمليات الحسابية، وثانيهما خروج العقل عن منهجه الموضوعي واستسلامه لنزوات النفي وإغراءات الهوى واتباع المتشابهات وعدم الخضوع للحقائق والميل إلى الرأي والتأوي الباطل8.
ويهتم ابن حزم بقيمة الخبر المتواتر في إيجاب العلم والبلدان والعلماء والملوك والوقائع والتواليف، ولا يحتاج في ضوء هذا الموقف إلى دليل يدعم ما جاء به الخبر، وإن ادعى مدع وجوب ذلك لزمه إثبات نسبه إلى أمه وأبيه وعشيرته9، وبعد أن يتبين اختلاف الناس في العدد الذي يتحقق به التواتر الخبري، وهذا اختلاف متهافت ليس له ما يبرره سوى ميول ذاتية لبعض الأحداث في حياة الأمة يجنح لضرورة الاحتياط لمنع التواطؤ على الكذب في الخبر المنقول، ولا يهم فيها العدد كثيراً فقد يكذب الكثير ويصدق الواحد10. والحق أن العلم الضروري لا يثبت إلا بالتواتر مع العدد، وفي ضوء ذلك نقرأ له،: "وقد يضطر الخبر الواحد إلى العلم بالصحة، إلاّ أن اضطراره ليس بمطرد ولا في كل وقت ولكن على قدر ما يتهيأ"11.
3- ملامح المنهج العقلي والنفكير العلمي عند ابن حزم
في فكر ابن حزم بالاضافة إلى ما سبق ذكره تتأكد ملامح المنهج العقلي حين يدعو إلى احترام سنن الله في الكون وهي سنن لا يمكن خرقها إلا من اللله عزّ وجل، فتغدو هذه السنن ثابتة مستقرة كأنها صفات ذاتية جبلت عليها المخلوقات في الكون الفسيح، ويظهر من قوله معللاً: "لأن من الصفات المحمولة في الوصف ما هو ذاتي به، لا يتوهّم زواله إلاّ بفساد حامله وسقوط الاسم عنه، كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت حلاً وبطل اسم الخمر عنها ..."12.
وفي ضوء هذه السنن الكونية الظاهرة للإنسان عن طريق الحواس والعقل والتجربة والخبر لا يمكن التسليم بكثير من الخوارق التي نص عليها الكتاب المقدس في شأن اليهود، فهؤلاء السحرو الذين كلفهم فرعون بالتصدي لموسى عليه السلام استطاعوا تحويل ماء النهر إلى دم ونقل ضفادع الماء إلى أرض مصر لتملأها وترعب الناس، في الحقيقة لم يخرقوا نظم الكون بل موهوا على الناظرين واحتالوا عليهم، ووفق هذه الرؤيا التي لا تخلوا من نزوع إلى الظاهر يفسر ابن حزم كثيراً من نصوص التوراة التي حرّفها اليهود13.
وتظل النعجزة باعتبارها قيمة إلهية مرتبطة بالنبوة والرسالة فقط. وتبقى كلمة لا بد من ذكرها وهي أن ابن حزم كان نقلياً في مواضع لا يجوز فيّها إلاّ ذاك وعقلياً في مقامات لا يمكن التفاهم فيها إلاّ بالركون إلى سلطان العقل، وقد أفصح هو ذاته عن هذا المبدأ في كتابه الأحكام14، ويمكن إجمال المواضع التي بدت فيها حواراته العقلية في مناقشته للسوفسطائية والفلاسفة والفرق الدينية والمذاهب الاسلامية في أصول عقائدها.
4- مواقف ابن حزم من المنطق والفلسفة
يؤمن ابن حزم بجدوى المنطق وقيمته في سلم المعارف الإنسانية واعتباره سبيلاً برهانياً لثبوت التوحيد ومعرفة الشريعة، ويظهر ذلك في مقدمة كتابه التقريب لحدود المنطق، إذ اعتبر المنطق وسيلة لفهم الأشياء التي نص الله تعالى ورسوله عليها وما تحتوي عليها من المعاني التي تقع عليها الأحكام وما يخرج عنها من المسميات وانتسابها تحت الأحكام على حسب ذلك15، بل لا يستجيز الفتيا لمن لم يطلع على المنطق، ذلك أنه جاهل بحدود الكلام وبناء بعضه على بعض وتقديم المقدمات وأنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان، وإزاء هذا الموقف لا يغض الطرف عن العلاقة الحميمة بين المنطق والشريعة يقف ابن حزم صلباً معانداً لكل الهجمات التي حاولت النيل منه والتشهير به لاشتغاله بعلوم الأوائل.
ولعله من الغريب أن يمتدح الفلسفة ويدافع عنها في بيئة اشتهرت بهجوم الفقهاء على الفلسفة عامةً ودعاة المنطق خاصةً في إطار حملة منظمة، تحذر وتتهم كل متمنطق بتهمة التزندق كمرحلة أولى للإطاحة به، بل تزداد الغرابة خين يعتبر الفلسفة معناها وثمرتها طريقاً لإصلاح النفس وحسن سيرتها المؤدية إلى سلامتها في معادها وحسن سياساتها في حياتها16.
5- نقد ابن حزم للقياس أصولياً
يرد ابن حزم في إطار وجهة نظر منهجية القياس في التفكير الأصولي، ذلك أن مدارس فقهية يمكن إدراجها تحت مدرسة كبرى تتأسس على الرأي في تطبيقاتها لآليات القياس كانت تؤلف بين عناصر مختلفة في طبائعها لا يمكن اعتبارها متوافقة رغم تشابهها، وهذا التشابه لا يمكن أن يتخد مطية لسحب الأحكام الثابثة على ما لم يثبت في حكم نصاً، كما أن الظنية لا تنتفي عن التشريع الذي يستمد مرجعيته من الكتاب، وهذا الأخير قطعي لا مجال للتأويل فيه، ويمكننا إراء هذه الرؤيا الحزمية أن نَعُدَّ هذا الموقف أساساً لنظرية خاصة في تاريخ الاجتهاد الاسلامي تستمد قوتها من المنهج الظاهري الذي يعتمد تفسير النصوص من ذاتها بعيداً عم مغاهيم الباطن والمعرفة البعدية والدلالات الخاصة، وما إلى ذلك من الآليات التي يتقرحها منهج التفسير بالرأي.
وفي إطار رفضه للقياس يرفض كذلك الاستدلال بالشاهد عن الغائب لخروجه عن بديهة العقل التي تقتضي بالتفرقة بين عالم الغيب والشهادة، كما ينكر على القائلين بقياس التمثيل أخذهم به، ذلك بأن هذا الموع لا يقوم على أسس مضبوطة، مما ينجم عنه الخطأ في الحكم رغم سعي الأصوليين إلى جعل العلة الجامعة بين الأصل والفرع وصفاً منضبطاً مطرداً غير مضطرب على جهة القطع17
ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن ابن حزم في حركته الثورية تلك ضد القياس كان يستشعر ظهور ادّعاء انصار القياس تصريحاً أو تضميناً غياب النص في نوازل لم يرد لها حكم في كلام الله أو سنة نبيه ، مما سيفسح المجال لكثير من الأطراف في غياب المرجعية النصية لكي تحتال على الشريعة وتفرض آراءها تحليلاً وتحريماً توطؤاً في أحيان كثيرة مع رغبات ذاتية يجسدها فساد أخلاقي واجتماعي عاينه الرجل في البيئة الأندلسية المتميزة بخصوصيات اجتماعية وثقافية وسياسية.
ومن جهة ثانية لعله كان يرى في القياس الفقهي وأشكاله نوعاً من السفسطة والتحكم الضعيف، ذلك أن البحث عن العلة في الفرع والأصل تتم عند القياسيين باستقراء لا يمكن أن يكون تاماً برهانياً لذلك نجده ينكر على من لا يوجب اختلاف الحمم في حال افتراق السبه، مثلما يوجب استواءه في اجتماعه في قياس الشبه18. أما قياس العلة فغير معمول به أصلاً في الشريعة، وإن كان مستساغاً في الطبيعيات19، إلاّ أنه يجوز العمل به في الشريعة إذا نص النص نفسه على وجود العلة في الحكم.
ويحلو لنا ونحن نبسط رؤيته هذه على مائدة الحوار إن نعدها شكلاً من أشكال التوسيع والترخيص للناس في حياتهم الدينية. إذ ليس للعقل وكل آلياته سلطان في التحريم أو التحليل، فيضحي كل شيء لم ينص فيه بحكم مباحاً سهلاً للأخذ. وعاى ما في هذه الفكرة من وجاهة نقف متعجبين ممن ناصب ابن حزم العداء واتهمه بالتعصب من حيث كان هذا الأخير ساعياً للتيسير على الناس، ولعل ابن حزم كان محقاً حين قال: "... وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر أزهد الناس في عالمٍ أهلُه ... وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: لا يفقد النبي حرمته إلاّ في بلده".
6- مفهوم الدليل وحجيته في النظرية
لا بد ونحن نصف عناصر البنية الفكرية التي تؤطر فكر ابن حزم أن نتطرق ولو بشكل مجمل لمفهوم الدليل الذي يعرفه بكونه أمراً مأخوذاً من النص أو الإجماع، إذ هو محصل منهما مدرك من دلالتهما، وليس الدليل باعتباره مصدر استنباط حملاً على النص أو الإجماع عنده عن طريق النظر في العلل، بل هو أمر مأخوذ من النص نفسِه، ولهذا تنتفي التسوية بين الدليل المؤسس على النص عند ابن حزم ومفهوم القياس عند القائمين به.
6- أ – أشكال الدليل
يبين ابن حزم انقسام الدليل إلى أقسام أهمها:
6 – أ – 1 – اشتمال النص على مقدمتين دون التنصص على النتيجة التي يكون استخراجها دليلاً، والأكيد في هذا الأنموذج أن الحاصل ليس قياساً لفرع على أصل لعلة جامعة بينهما سواء نص النص على العلة أم لم ينص عليها.
6 – أ – 2 – تنفيذ عموم فعل الشرط، مثل قوله تعالى التوحيد إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف والشرط هنا يقتضي أن كل من يغفر له الله شركاً كان أم غيره.
6 – أ – 3 – تضمن المعنى الذي يحمله اللفظ في ذاته نفي معنى آخر لا يجوز اجتماعه مع معنى اللفظ المقصود كتضمن لفظة أف في قوله تعالى فلا تقل لهما أفٍّ (الإسراء: 23) معنى النهي عن النهر والضرب واستحالة اجتماع هذين المعنيين مع معنى الإحسان لهما والتقرب إليهما.
6 – أ – 4 – أما الشكل الرابع فيتمثل في عدم التنصيص على حكم الشيء الذي إما أن يكون حراماً بالنص وحكم الإثم في الفعل، وإما أن يكون فرضاً بالنص فيأثم التارك له، وإما أن يكون مباحاً إذا لم ينص على أحد الحكمين السابقين، والحقيقة أن هذا النوع أدخل في باب الاستصحاب عند الظاهرية وسنعرض له في محلّه20.
وربما يتبادر إلى الأذهان سؤال عن جدوى استقلالية الدليل كمصدر رابع في التفكير الظاهري رغم كونه نتاج النظر في النص ذاته، والجواب أن ابن حزم ينكر التأويل البعيد ويحرص على الدلالة الظاهرة للنص، لما كانت هذه الصور ممثلة بما تضمنته ودلالات الألفاظ من معان تأخذ بالتأمل، وليست أخذاً بظاهر اللفظ وإن كانت متفرعة ومشتقة عنه وهو السبب المباشر لإخراجها مستقلة عن سائر الأدلة21.
والحقيقة أن ما ذكر آنفاً من أقسام إضافة إلى أنواع أخرى هي أرب ما تكون للبراهين المنطقية التي تعكس صدى المنطق في دراسات ابن حزم للشريعة من جهة، وترتبط بالنص القرآني والحديث النبوي من جهة ثانية، في حين يقدم الإجماع عند الظاهرية أشكالاً أخرى للدليل أهمها استصحاب الحال. وأقل ما قيل وإجماعهم على ترك قولة ما وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء.
وخلاصة هذه الأدلة مبسوطة في كتاب الأحكام كما تناولها غير أصولي موافقاً لأصول الظاهرية أو مخالفاً لهم، غير أن ما يهم في هذه الأدلة كلها موقف ابن حزم من الاستصحاب الذي يعرفه بأنه بقاء حكم الأصل الثابت بالنصوص حتى يقوم الدليل عنها على التغيير22، فيكون هذا المصدر بدوره مؤسساً على النص وليس على مجرد أصل ثابت من الإباحة الأصلية23. ويبدو أن أغلب المتكلمين ينكرون حجيته في الشرعيات دون الحسيات التي أجرى الله فيها العادة بالاستصحاب، في حين يثبته الظاهرية والشافعية والمالكية24.
إن استصحاب الحال عند ابن حزم تعبير عن عدم مراوحة الحكم الشرعي لنص المستدل به عليه فهو يدور معه وجوداً أو عدماً، فإن وجد النص وجد الحكم بالحل أو الحرمة، وإن لم يوجد فهو على الإباحة نزولاً عند قوله تعالى ولكم في الأرض مستقر ومتاعٌ إلى حين.
7- ظاهرية ابن حزم في ضوء مفهوم البيان
يصر ابن حزم على وجوب وضوح المعنى في الكلمة والجملة على حد سواء، غير أن المعنى الظاهر للكلمة كما يعدّه ابن حزم وما يجب أن نفهمه نحن ليس المعنى الذي تستقبله الأذن المشتتة غير المنتبهة والتي تجعله بعيداً عن الدقة قريباً من الغموض، إنما المعنى المقصود هو المرتبط بالفهم العميق لمبدأ اللغة، لذلك انشغل ابن حزم في مشروعه البياني بالوضوح اللغوي في إطار التعريفات. والمعرفة كلها فقهاً أم أصولاً أم فلسفة مبنية على التعريف25.ويمكننا بعد الاطلاع على عمل ابن حزم في هذا الموضوع من الموضوع المذكور سلفاً تبيان رؤيته البيانية القائمة على تحليل الألفاظ وتمييز معانيها منعاً لأي خلط أو التباس أو إبهام، ثم إن مهمة المفسر للنصوص أن يقتصر على استخلاص معاني الكلمات والعلاقات بينها بغية تتبعها بوصفها قواعد يمكن ممارستها على نحو عملي مترابط، وتتبدى الرؤية الحزمية الحرفية بإلغاء الثنائية القائمة بين المعاني العامة والخاصة فيبطل بذلك التمييز بين المراد والظاهر كنتيجة لإنشاء المعادلة بين العام والخاص، فاللغة أولاً وأخيراً ليست لغزاً من الألغاز المبهمة،كما أن هذا الموقف هو أصلح دعوة إلى نظرية يمكن أن نسميها بنظرية العموم26.والمتفحص لأعماله من جهة ثانية يكتشف مدى عمومية هذه الرؤية وتحولها إلى منهج قراءة في معارف متعددة فهذه الظاهرية البيانية تلوح في عمله الفقهي والأصولي، كما تبرز في وضوح في حواره مع اليهود والنصارى في الرد على ابن النغريلة وكتاب الفصل، كما تتأكد نظرياً في الأحكام وكتابه التقريب ناهيك عن رسالة إبطال القياس والاستحسان.
لقد استطاع ابن حزم أن يقيم مذهبه البياني في جميع المسائل الكلامية وأن يطبق أصول منهجه القائم على البعد اللساني تطبيقاً بارعاً في حجة مبسوطة لم تعرض بكيفية دقيقة – فيما نعلم – إلاّ عنده، ولقد لخص منهجه البياني هذا بقوله: "إن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة إلاّ أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حسّ، على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر، فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص أو الاجماع أو الضرورة، لأن كلام الله تعالى أو أخباره وأموامره لا تختلف. والإجماع لا يأتي إلا بحق والله تعالى لا يقول إلا الحق، وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق"27. ثم إن الرجوع إلى النص بوصفه مصدراً للمعرفة الدينية بكل فروعها إنما يعتمد رأساً على الدلالة اللغوية ومبدأ المواضعة خاصة، ولا يمكن لأحد تحت غطاء التأويل وباسم المجاز أن يحيل الألفاظ عن دلالاتها إلا بنص جلي أو إجماع معلوم، لذلك سيكون هذا الطريق المسلك الوحيد للوصول إلى الحقيقة الشرعية المشفوعة بالبرهان العقلي والمزود بحجية ضرورات الحسّ28.
ثم إن الرجوع إلى ظاهر النص ليس بالأمر الهين كما يبدو لبعضهم؛ فليس الظاهر مجرد قشرة خارجية يمكن لمسها أو اقتلاعها، إنما الحقيقة تتعلق بإعادة تركيب للغة التي نزل بها الوحي وخوطب بها الناس، وهي في نظر ابن حزم المسؤول الوحيد عن تفسير الفكر الإسلامي الذي يستمد سلطانه من الوحي الإلهي، وهذا الأخير يجد قوته في البرهان من خلال بلاغتها ووضوحها وبيان دلالاتها.
أخيراً يمكننا وبدون مبالغة القول أن ابن حزم قد أدرك طبيعة المأزق الذي وقعت فيه الأمة في زمنه وقد كان مأزقاً خطيراً يهدد الحضارة الإسلامية في عمق وجودها، وكان من اللزم القيام بثورة فكرية تجديدية مَبْدَؤُها نقد الأصول بتأصيلها وطرح ما نتج من خيارات خاطئة ما زالت حضارتنا أسيرة لها إلى اليوم.
ليس من الموضوعية في شيء أن يجاب عن هذا السؤال الملح والمشروع في الوقت نفسه إلاّ بعد عملية تحليلية لللنظرية الظاهرية من خلال تفكيك البنية الفكرية الممثلة في آراء ابن حزم القرطبي الفقهية والأصولية والعقدية واللغوية، وهذه الآراء المشكلة لمنظومة معرفية متماسكة تستحق إعادة نقد وقراءة على ضوء المعطيات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمثل السياق التاريخي الذي ظهرت فيه الحركة الظاهرية في الأندلس وبلاد المغرب. ثم إن محاولة فهم الأصول التي بنيت عليها الحزمية تفيدنا في استكشاف حقيقة هذا الحركة من حيث بعدها السياسي وخطورتها على الاتجاه الفكري السائد في ذلك الوقت.
نودّ في هذا المقام التأكيد على ملاحظة مهمة تخص تراث ابن حزم الذي لا يزال غير معروف أو مدروس بالقدر الكافي ولعل السبب الرئيس لهذا القصور راجع إلى مواقف لا تمت بصلة للموضوعية المتوخاة في دراسة التراث بكل مدارسه وآرائه وآفاقه. وإننا في هذه العجالة نحاول التأكيد على ما أكد عليه سلفنا وذلك بتسليط الأضواء على أهم الجوانب المتعلقة بالظاهرية الحزمية كتيار فكري مشبع بالأصالة، ترك آثاراُ لا يمكن نكرانها في حضارة الأندلس وبلاد المغرب، وكمشروع واحد يبشر بالتجديد في مستويات معرفية، وإن كان مفتقراً لبعض الآيات والآداب المناسبة التي كثيراً ما يصادفنا عكسها ونحن نطرق أبواب الأفكار والمذاهب في بدايات تشكلها الأولى شرقاً وغرباً.
ونود أن نلمح للقارئ بأننا سننطلق من رؤية خاصة ترى في فكر ابن حزم وقراءته المتميزة للنص اعتماداً على سلطة اللغة ذاتها بديلاً فكرياً ومنهجياً يقف كلبنة أولى لمشروع ثقافي إسلامي منبته الأندلس وفروعه في البلاد الإسلامية، وهذا المشروع طبعاً – من وجهة نظر معرفية – يستهدف إحياء أصول الثقافة الإسلامية وإعادة الإعتبار لسلطان النص والعقل اللذين شوهتهما مشاريع ثقافية أخرى كانت تتغذى من الثقافة الغنوصية وبعض الاتجاهات التي لا تنفض يديها من الاعتماد على العرفان واكتناه الأسرار الربانية بل وتعطيل السنن الكونية والدعوة لعجز العقل من جهة وعدم الوثوق باللغة من جهة ثانية، وربما كانت هذه الآراء هي السبب في انتشار الفساد والتبرير له اجتماعياً وسياسياً وعقدياً. ولقد كان عالمنا في خصامه لبعض الفقهاء بغض النظر عن اتجاهاتهم المذهبية يطمح لإعادة تأسيس الثقافة العربية الإسلامية على مبدأ أصيل فيها هو البيان الذي يعتمد على البرهان. والذي لا مشاحة فيه أن عناية ابن حزم بالمنطق الأرسطي هو جزء من عنايته بالبيان الذي يتأسس عليه نظرية وتطبيقاً منهج قراءة النصوص وتفسيرها واستنباط الأحكام التكليفية منها. وبالمثل كان إلحاحه في غير موضع في كتبه على ضرورة الالتزام بما يفهم من ظاهر اللفظ وما تتيحه إمكانيات اللغة من قدرات بيانية وأخرى أسلوبية صرخاً على البيان دون ضرورة التجاء للتأويل على ما في هذه الرؤية من إقصاء حاد لأصل بنيت عليه أطروحات مناقضة للظاهرة اللغوية ومن العلوم أن رفض التأويل على غير مقتضى اللسان العربي في النص يفضي ضرورة إلى إنكار المجاز غير المسوّغ كظاهرة لغوية، مما يسهّل على الظاهرة مهمة الرّد على علماء الكلام في مسألة الصفات الإلهية خاصة، ورد كل أدلة الشيعة ورؤوس الأحزاب والفرق في الإمامة وتفاصيلها انطلاقاً من النص وحده.
كما أن السير وراء التأويل وفق هذه الرؤية يجعل قراءة النص خارجية، في حين يفترض من المجتهد أن ينطلق من النص نفسه وتركيبه ودلالات ألفاظه دون أن يتعب ذهنه في البحث عن الدلالات الخافية، وما يمكن أن يفهم بعد منطوق النص. والحقيقة أن منهج ابن حزم هذا المعتمد على البيان رأساً يتمشى مع طبيعة المعجزة القرآنية بوصفها دليلاً بيانياً أقامه صاحب المعجزة على العرب أهل البيان فتكون بذلك المعادلة متساوية الأبعاد ولو افترضنا طبيعة أخرى للنص المعجز لما كانت للمعجزة قيمة حين تخالف في جنسها وطبيعتها الهدف الذي أوجدت له.
إنه من الضرورة بمكان أن يقارن ابن حزم في ظاهريته هذه بالتيارات الفقهية والكلامية والفلسفية في زمانه ليتم الإدراك الواعي بتفوّقه وجدية أطروحاته دون حاجة إلى مزايدات مبنية على مواقف ذاتية وأهواء مذهبية، ولسنا في حاجة إلى أن يقنع بعضنا بعضاً بأنها روافد رغم اختلافها، وربما تناقضاتها تصب في النهر الخالد نهر الثقافة الاسلامية التي ندين لها بضرورة نقدها وغربلتها من جديد وتقديمها في ثوبها الأصيل بكل طاقاتها الخلاقة وأفكارها التجديدية للعالم في إطار أسلمة المعرفة.
وفي إطار هذا الموقف نؤكد على نقطة مهمة هي أن الدّعوة الظّاهرية إن سمح لنا اعتبارها كذلك – اتجاه فكري نقدي لم يكن هدفه النيل من رموز فقهية معينة بقدر ما كان دعوة إلى تغيير الفكر العربي وتجديد رؤيته لأمهات القضايا التي تمس الناس في حياتهم ومعادهم، كما يجب أن يفهم من حدة طبع رائد هذا الاتجاه غيرته على أصول الدين وطموحه الناجح لهدف نبيل. ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن الآراء الصائبة التي سادت عبر الزمن لم يكن لها خيار في استعمال لغة كلغة ابن حزم في كثير من الأحيان، فإن لم يكن "الجدال بالتي هي أحسن" سلاحها، كان السلطان موصلها لعقول الناس قبل قلوبهم.
ويمكننا أيضاً أن ندرس نشأة هذا المذهب وتطوره وآثاره العلمية والسياسية ومنهجه الأصولي دون حاجة منا إلى إدراجه ضمن قائمة المذاهب الأثرية والنصية التي تقبلها أهل الأندلس ولم يتقبلوا غيرها لأسباب لا يسمح المقام بعرضها، واستبعادنا لهذه الحاجة مبني على تحول المنهج الظاهري من مجرد منهج أثري نصي إلى منهج لساني من طراز خاص تفكك به النصوص الدينية سواء أكانت إسلامية في الحوار الذي دار بين أساطين الفكر الفقهي كابن حزم والباجي مثلاً، أم اسلامية يهودية كنقد ابن حزم للكتاب المقدس في الفصل والرد على ابن التغريلة اليهودي، ورده كذلك وفق وجهة نظر ظاهرية على الفلاسفة والفرق الإسلامية. فلا غرو بعدئذٍ أن نعد حركته شمولية مبنية على منهج بياني برهاني واضح وضوح اللغة التي نزل بها الوحي، بل إن الظاهرية في التعامل مع النص وفق ما تتيحه إمكانات اللغة أضحت نزعة لدى الكثيرين، وقد كان المقريزي في مصر يكتب بهذه الروح، كما اضطلع الصوفي الشعراني بحفظ كثير من آراء الظاهرية، في حين يكثر الفخر الرازي من إيراد التفسير الظاهري للآيات، وبالروح نفسِها راح ابن مضاء القرطبي ثائراً على نظرية العامل في النحو العربي، وثورة ابن حزم على القياس والعلة وفروعها لا تفترق ثورتهما كثيراً إلاّ في بعض الجزئيات التي يفرض اختلاف الموضوع حدوثها.
وسنحاول بعون الله مد الجسور للتعرف إلى بعض آراء ابن حزم المشكّلة امنحى تفكيره العلمي والمنهجي دون أن ندّعي صحة ما ننسبه له فقد يكون انتصاراً له أو تجنياً عليه، وستكون أولى وقفاتنا مع نظريته في اكتساب المعرفة ثم نعرض لملامح منهجه العلمي التي تظهر عقلانيته المتزنة، وفي ضوئها نحدد موقفه من المنطق والفلسفة القياس، ثم نعرض لمفهوم الدليل وحجيته في النظرية الحزمية لنختم كلامنا بتحديد معالم الظاهرية الحزمية في ضوء مفهوم البيان القائم على البرهان.
2- نظرية المعرفة عند ابن حزم (الأصول والأبعاد)
يُعَدُّ ابن حزم الحسن مصدراً للمعرفة الإنسانية وسبيلاً موصلاً إلى النفس علماً أن العلاقة بينهما علاقة تأثر وتأثير، فإن عرض للنفس ما يشغلها عجزت الحواس عن أداء دورها المنوط بها1. ويلزم عند تعطيل دور الحواس تعرض صاحبها للخطأ في إصدار الأحكام، فقد يعتريه هيجان الصراء فيجد الحلو مراً، ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا أصل لها2. ولما كانت الأحكام الناتجة نسبية كان لا بد من الاستنجاد بالعقل الذي أعطاه ابن حزم مكانة لائقة بقيمة الذي كان البارئ رسمه بها دون أن يطلق له العنان مثلما فعل غيره في أن يتعرف المجهول الغائب، وليس أدل على ذلك من استنجاده به حين يعوزه الدليل النصي في رد أقوال أهل الكتاب فكثيرة هي الردود التي اختفى بها الفصل والتي بنيت رأساً على توجيه العقل والمنطق3. وقد غدا العقل ميزاناً يرفض به كل ما يعارض الحقائق الإسلامية في قصص الأنبياء ويطرحها على أنها ترَّهات لا سند لها، ويشيد به في التقريب بقوله: ".... ومن كذب عقله فقد كذب شهادة الذي لولاه لم يعرف ربه وحصل في حال الجنون، ولم يحصل على حقيقة..."4.
غير أنه يضع له حدوداً يجب أن لا يتعداها، فليس من واجبات العقل إيجاب شيء أو منعه، كما أنه ليس من خصوصياته تحسين أمر أو تقبيحه مثلما ذهب إلى ذلك المعتزلة، بل دوره يكمن في أن يفهم من الله ويقر بأنه يفعل ما يشاء، ولو شاء الله أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان له5.
ويسلك ابن حزم مسلكاً مغيراً يكشف عن الدور التربوي الذي يقوم به العقل في توجيه وإرشاد الإنسن في معاشه ومعاده، فيه تستعمل الطاعات وتجتنب المعاصي، والعقل من نجى نفسه من عذاب النار، والدليل في ذلك قوله تعالى التوحيد وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (الملك: 10)، ثم يرفع شعاراً للعقل يجعل منه خضوعاً للحق بعد إدراكه مع سياسة الدنيا لتكون مزرعة للآخرة6.
ومن العقلا ما لا يختلف عليه شخصان معافان من كل بلاء ومصدر هذا الاتفاق فطرة الانسان. وعلم نفسه على حد تعبير ابن حزم كعلم النفس أن الجزء أقل من الكل وعدم اجتماع المتضادين وعدم ظهور جسم واحد في مكانين مختلفين7. في حين يرجع ابن حزم خطأ استعمال هذه القوة الفطرية عند العلماء إلى سببين: أحدهما يتمثل في طول وكثرة المقدمات إلى درجة يصعب فيها رد هذه المقدمات إلى البديهيات ككثرة الأعداد والأرقام في العمليات الحسابية، وثانيهما خروج العقل عن منهجه الموضوعي واستسلامه لنزوات النفي وإغراءات الهوى واتباع المتشابهات وعدم الخضوع للحقائق والميل إلى الرأي والتأوي الباطل8.
ويهتم ابن حزم بقيمة الخبر المتواتر في إيجاب العلم والبلدان والعلماء والملوك والوقائع والتواليف، ولا يحتاج في ضوء هذا الموقف إلى دليل يدعم ما جاء به الخبر، وإن ادعى مدع وجوب ذلك لزمه إثبات نسبه إلى أمه وأبيه وعشيرته9، وبعد أن يتبين اختلاف الناس في العدد الذي يتحقق به التواتر الخبري، وهذا اختلاف متهافت ليس له ما يبرره سوى ميول ذاتية لبعض الأحداث في حياة الأمة يجنح لضرورة الاحتياط لمنع التواطؤ على الكذب في الخبر المنقول، ولا يهم فيها العدد كثيراً فقد يكذب الكثير ويصدق الواحد10. والحق أن العلم الضروري لا يثبت إلا بالتواتر مع العدد، وفي ضوء ذلك نقرأ له،: "وقد يضطر الخبر الواحد إلى العلم بالصحة، إلاّ أن اضطراره ليس بمطرد ولا في كل وقت ولكن على قدر ما يتهيأ"11.
3- ملامح المنهج العقلي والنفكير العلمي عند ابن حزم
في فكر ابن حزم بالاضافة إلى ما سبق ذكره تتأكد ملامح المنهج العقلي حين يدعو إلى احترام سنن الله في الكون وهي سنن لا يمكن خرقها إلا من اللله عزّ وجل، فتغدو هذه السنن ثابتة مستقرة كأنها صفات ذاتية جبلت عليها المخلوقات في الكون الفسيح، ويظهر من قوله معللاً: "لأن من الصفات المحمولة في الوصف ما هو ذاتي به، لا يتوهّم زواله إلاّ بفساد حامله وسقوط الاسم عنه، كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت حلاً وبطل اسم الخمر عنها ..."12.
وفي ضوء هذه السنن الكونية الظاهرة للإنسان عن طريق الحواس والعقل والتجربة والخبر لا يمكن التسليم بكثير من الخوارق التي نص عليها الكتاب المقدس في شأن اليهود، فهؤلاء السحرو الذين كلفهم فرعون بالتصدي لموسى عليه السلام استطاعوا تحويل ماء النهر إلى دم ونقل ضفادع الماء إلى أرض مصر لتملأها وترعب الناس، في الحقيقة لم يخرقوا نظم الكون بل موهوا على الناظرين واحتالوا عليهم، ووفق هذه الرؤيا التي لا تخلوا من نزوع إلى الظاهر يفسر ابن حزم كثيراً من نصوص التوراة التي حرّفها اليهود13.
وتظل النعجزة باعتبارها قيمة إلهية مرتبطة بالنبوة والرسالة فقط. وتبقى كلمة لا بد من ذكرها وهي أن ابن حزم كان نقلياً في مواضع لا يجوز فيّها إلاّ ذاك وعقلياً في مقامات لا يمكن التفاهم فيها إلاّ بالركون إلى سلطان العقل، وقد أفصح هو ذاته عن هذا المبدأ في كتابه الأحكام14، ويمكن إجمال المواضع التي بدت فيها حواراته العقلية في مناقشته للسوفسطائية والفلاسفة والفرق الدينية والمذاهب الاسلامية في أصول عقائدها.
4- مواقف ابن حزم من المنطق والفلسفة
يؤمن ابن حزم بجدوى المنطق وقيمته في سلم المعارف الإنسانية واعتباره سبيلاً برهانياً لثبوت التوحيد ومعرفة الشريعة، ويظهر ذلك في مقدمة كتابه التقريب لحدود المنطق، إذ اعتبر المنطق وسيلة لفهم الأشياء التي نص الله تعالى ورسوله عليها وما تحتوي عليها من المعاني التي تقع عليها الأحكام وما يخرج عنها من المسميات وانتسابها تحت الأحكام على حسب ذلك15، بل لا يستجيز الفتيا لمن لم يطلع على المنطق، ذلك أنه جاهل بحدود الكلام وبناء بعضه على بعض وتقديم المقدمات وأنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان، وإزاء هذا الموقف لا يغض الطرف عن العلاقة الحميمة بين المنطق والشريعة يقف ابن حزم صلباً معانداً لكل الهجمات التي حاولت النيل منه والتشهير به لاشتغاله بعلوم الأوائل.
ولعله من الغريب أن يمتدح الفلسفة ويدافع عنها في بيئة اشتهرت بهجوم الفقهاء على الفلسفة عامةً ودعاة المنطق خاصةً في إطار حملة منظمة، تحذر وتتهم كل متمنطق بتهمة التزندق كمرحلة أولى للإطاحة به، بل تزداد الغرابة خين يعتبر الفلسفة معناها وثمرتها طريقاً لإصلاح النفس وحسن سيرتها المؤدية إلى سلامتها في معادها وحسن سياساتها في حياتها16.
5- نقد ابن حزم للقياس أصولياً
يرد ابن حزم في إطار وجهة نظر منهجية القياس في التفكير الأصولي، ذلك أن مدارس فقهية يمكن إدراجها تحت مدرسة كبرى تتأسس على الرأي في تطبيقاتها لآليات القياس كانت تؤلف بين عناصر مختلفة في طبائعها لا يمكن اعتبارها متوافقة رغم تشابهها، وهذا التشابه لا يمكن أن يتخد مطية لسحب الأحكام الثابثة على ما لم يثبت في حكم نصاً، كما أن الظنية لا تنتفي عن التشريع الذي يستمد مرجعيته من الكتاب، وهذا الأخير قطعي لا مجال للتأويل فيه، ويمكننا إراء هذه الرؤيا الحزمية أن نَعُدَّ هذا الموقف أساساً لنظرية خاصة في تاريخ الاجتهاد الاسلامي تستمد قوتها من المنهج الظاهري الذي يعتمد تفسير النصوص من ذاتها بعيداً عم مغاهيم الباطن والمعرفة البعدية والدلالات الخاصة، وما إلى ذلك من الآليات التي يتقرحها منهج التفسير بالرأي.
وفي إطار رفضه للقياس يرفض كذلك الاستدلال بالشاهد عن الغائب لخروجه عن بديهة العقل التي تقتضي بالتفرقة بين عالم الغيب والشهادة، كما ينكر على القائلين بقياس التمثيل أخذهم به، ذلك بأن هذا الموع لا يقوم على أسس مضبوطة، مما ينجم عنه الخطأ في الحكم رغم سعي الأصوليين إلى جعل العلة الجامعة بين الأصل والفرع وصفاً منضبطاً مطرداً غير مضطرب على جهة القطع17
ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن ابن حزم في حركته الثورية تلك ضد القياس كان يستشعر ظهور ادّعاء انصار القياس تصريحاً أو تضميناً غياب النص في نوازل لم يرد لها حكم في كلام الله أو سنة نبيه ، مما سيفسح المجال لكثير من الأطراف في غياب المرجعية النصية لكي تحتال على الشريعة وتفرض آراءها تحليلاً وتحريماً توطؤاً في أحيان كثيرة مع رغبات ذاتية يجسدها فساد أخلاقي واجتماعي عاينه الرجل في البيئة الأندلسية المتميزة بخصوصيات اجتماعية وثقافية وسياسية.
ومن جهة ثانية لعله كان يرى في القياس الفقهي وأشكاله نوعاً من السفسطة والتحكم الضعيف، ذلك أن البحث عن العلة في الفرع والأصل تتم عند القياسيين باستقراء لا يمكن أن يكون تاماً برهانياً لذلك نجده ينكر على من لا يوجب اختلاف الحمم في حال افتراق السبه، مثلما يوجب استواءه في اجتماعه في قياس الشبه18. أما قياس العلة فغير معمول به أصلاً في الشريعة، وإن كان مستساغاً في الطبيعيات19، إلاّ أنه يجوز العمل به في الشريعة إذا نص النص نفسه على وجود العلة في الحكم.
ويحلو لنا ونحن نبسط رؤيته هذه على مائدة الحوار إن نعدها شكلاً من أشكال التوسيع والترخيص للناس في حياتهم الدينية. إذ ليس للعقل وكل آلياته سلطان في التحريم أو التحليل، فيضحي كل شيء لم ينص فيه بحكم مباحاً سهلاً للأخذ. وعاى ما في هذه الفكرة من وجاهة نقف متعجبين ممن ناصب ابن حزم العداء واتهمه بالتعصب من حيث كان هذا الأخير ساعياً للتيسير على الناس، ولعل ابن حزم كان محقاً حين قال: "... وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر أزهد الناس في عالمٍ أهلُه ... وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: لا يفقد النبي حرمته إلاّ في بلده".
6- مفهوم الدليل وحجيته في النظرية
لا بد ونحن نصف عناصر البنية الفكرية التي تؤطر فكر ابن حزم أن نتطرق ولو بشكل مجمل لمفهوم الدليل الذي يعرفه بكونه أمراً مأخوذاً من النص أو الإجماع، إذ هو محصل منهما مدرك من دلالتهما، وليس الدليل باعتباره مصدر استنباط حملاً على النص أو الإجماع عنده عن طريق النظر في العلل، بل هو أمر مأخوذ من النص نفسِه، ولهذا تنتفي التسوية بين الدليل المؤسس على النص عند ابن حزم ومفهوم القياس عند القائمين به.
6- أ – أشكال الدليل
يبين ابن حزم انقسام الدليل إلى أقسام أهمها:
6 – أ – 1 – اشتمال النص على مقدمتين دون التنصص على النتيجة التي يكون استخراجها دليلاً، والأكيد في هذا الأنموذج أن الحاصل ليس قياساً لفرع على أصل لعلة جامعة بينهما سواء نص النص على العلة أم لم ينص عليها.
6 – أ – 2 – تنفيذ عموم فعل الشرط، مثل قوله تعالى التوحيد إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف والشرط هنا يقتضي أن كل من يغفر له الله شركاً كان أم غيره.
6 – أ – 3 – تضمن المعنى الذي يحمله اللفظ في ذاته نفي معنى آخر لا يجوز اجتماعه مع معنى اللفظ المقصود كتضمن لفظة أف في قوله تعالى فلا تقل لهما أفٍّ (الإسراء: 23) معنى النهي عن النهر والضرب واستحالة اجتماع هذين المعنيين مع معنى الإحسان لهما والتقرب إليهما.
6 – أ – 4 – أما الشكل الرابع فيتمثل في عدم التنصيص على حكم الشيء الذي إما أن يكون حراماً بالنص وحكم الإثم في الفعل، وإما أن يكون فرضاً بالنص فيأثم التارك له، وإما أن يكون مباحاً إذا لم ينص على أحد الحكمين السابقين، والحقيقة أن هذا النوع أدخل في باب الاستصحاب عند الظاهرية وسنعرض له في محلّه20.
وربما يتبادر إلى الأذهان سؤال عن جدوى استقلالية الدليل كمصدر رابع في التفكير الظاهري رغم كونه نتاج النظر في النص ذاته، والجواب أن ابن حزم ينكر التأويل البعيد ويحرص على الدلالة الظاهرة للنص، لما كانت هذه الصور ممثلة بما تضمنته ودلالات الألفاظ من معان تأخذ بالتأمل، وليست أخذاً بظاهر اللفظ وإن كانت متفرعة ومشتقة عنه وهو السبب المباشر لإخراجها مستقلة عن سائر الأدلة21.
والحقيقة أن ما ذكر آنفاً من أقسام إضافة إلى أنواع أخرى هي أرب ما تكون للبراهين المنطقية التي تعكس صدى المنطق في دراسات ابن حزم للشريعة من جهة، وترتبط بالنص القرآني والحديث النبوي من جهة ثانية، في حين يقدم الإجماع عند الظاهرية أشكالاً أخرى للدليل أهمها استصحاب الحال. وأقل ما قيل وإجماعهم على ترك قولة ما وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء.
وخلاصة هذه الأدلة مبسوطة في كتاب الأحكام كما تناولها غير أصولي موافقاً لأصول الظاهرية أو مخالفاً لهم، غير أن ما يهم في هذه الأدلة كلها موقف ابن حزم من الاستصحاب الذي يعرفه بأنه بقاء حكم الأصل الثابت بالنصوص حتى يقوم الدليل عنها على التغيير22، فيكون هذا المصدر بدوره مؤسساً على النص وليس على مجرد أصل ثابت من الإباحة الأصلية23. ويبدو أن أغلب المتكلمين ينكرون حجيته في الشرعيات دون الحسيات التي أجرى الله فيها العادة بالاستصحاب، في حين يثبته الظاهرية والشافعية والمالكية24.
إن استصحاب الحال عند ابن حزم تعبير عن عدم مراوحة الحكم الشرعي لنص المستدل به عليه فهو يدور معه وجوداً أو عدماً، فإن وجد النص وجد الحكم بالحل أو الحرمة، وإن لم يوجد فهو على الإباحة نزولاً عند قوله تعالى ولكم في الأرض مستقر ومتاعٌ إلى حين.
7- ظاهرية ابن حزم في ضوء مفهوم البيان
يصر ابن حزم على وجوب وضوح المعنى في الكلمة والجملة على حد سواء، غير أن المعنى الظاهر للكلمة كما يعدّه ابن حزم وما يجب أن نفهمه نحن ليس المعنى الذي تستقبله الأذن المشتتة غير المنتبهة والتي تجعله بعيداً عن الدقة قريباً من الغموض، إنما المعنى المقصود هو المرتبط بالفهم العميق لمبدأ اللغة، لذلك انشغل ابن حزم في مشروعه البياني بالوضوح اللغوي في إطار التعريفات. والمعرفة كلها فقهاً أم أصولاً أم فلسفة مبنية على التعريف25.ويمكننا بعد الاطلاع على عمل ابن حزم في هذا الموضوع من الموضوع المذكور سلفاً تبيان رؤيته البيانية القائمة على تحليل الألفاظ وتمييز معانيها منعاً لأي خلط أو التباس أو إبهام، ثم إن مهمة المفسر للنصوص أن يقتصر على استخلاص معاني الكلمات والعلاقات بينها بغية تتبعها بوصفها قواعد يمكن ممارستها على نحو عملي مترابط، وتتبدى الرؤية الحزمية الحرفية بإلغاء الثنائية القائمة بين المعاني العامة والخاصة فيبطل بذلك التمييز بين المراد والظاهر كنتيجة لإنشاء المعادلة بين العام والخاص، فاللغة أولاً وأخيراً ليست لغزاً من الألغاز المبهمة،كما أن هذا الموقف هو أصلح دعوة إلى نظرية يمكن أن نسميها بنظرية العموم26.والمتفحص لأعماله من جهة ثانية يكتشف مدى عمومية هذه الرؤية وتحولها إلى منهج قراءة في معارف متعددة فهذه الظاهرية البيانية تلوح في عمله الفقهي والأصولي، كما تبرز في وضوح في حواره مع اليهود والنصارى في الرد على ابن النغريلة وكتاب الفصل، كما تتأكد نظرياً في الأحكام وكتابه التقريب ناهيك عن رسالة إبطال القياس والاستحسان.
لقد استطاع ابن حزم أن يقيم مذهبه البياني في جميع المسائل الكلامية وأن يطبق أصول منهجه القائم على البعد اللساني تطبيقاً بارعاً في حجة مبسوطة لم تعرض بكيفية دقيقة – فيما نعلم – إلاّ عنده، ولقد لخص منهجه البياني هذا بقوله: "إن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة إلاّ أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حسّ، على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر، فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص أو الاجماع أو الضرورة، لأن كلام الله تعالى أو أخباره وأموامره لا تختلف. والإجماع لا يأتي إلا بحق والله تعالى لا يقول إلا الحق، وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق"27. ثم إن الرجوع إلى النص بوصفه مصدراً للمعرفة الدينية بكل فروعها إنما يعتمد رأساً على الدلالة اللغوية ومبدأ المواضعة خاصة، ولا يمكن لأحد تحت غطاء التأويل وباسم المجاز أن يحيل الألفاظ عن دلالاتها إلا بنص جلي أو إجماع معلوم، لذلك سيكون هذا الطريق المسلك الوحيد للوصول إلى الحقيقة الشرعية المشفوعة بالبرهان العقلي والمزود بحجية ضرورات الحسّ28.
ثم إن الرجوع إلى ظاهر النص ليس بالأمر الهين كما يبدو لبعضهم؛ فليس الظاهر مجرد قشرة خارجية يمكن لمسها أو اقتلاعها، إنما الحقيقة تتعلق بإعادة تركيب للغة التي نزل بها الوحي وخوطب بها الناس، وهي في نظر ابن حزم المسؤول الوحيد عن تفسير الفكر الإسلامي الذي يستمد سلطانه من الوحي الإلهي، وهذا الأخير يجد قوته في البرهان من خلال بلاغتها ووضوحها وبيان دلالاتها.
أخيراً يمكننا وبدون مبالغة القول أن ابن حزم قد أدرك طبيعة المأزق الذي وقعت فيه الأمة في زمنه وقد كان مأزقاً خطيراً يهدد الحضارة الإسلامية في عمق وجودها، وكان من اللزم القيام بثورة فكرية تجديدية مَبْدَؤُها نقد الأصول بتأصيلها وطرح ما نتج من خيارات خاطئة ما زالت حضارتنا أسيرة لها إلى اليوم.