نحو مؤسسة قرآنية مركزية لضبط مسائل علوم القرآن وتجديدها
إعداد
محمود عبد الجليل روزن
إعداد
محمود عبد الجليل روزن
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، مُجيب السائلين، وهادي التائهين، وملاذ الحائرين، برأ الكون ودبَّره، وخلق الإنسان وصوَّره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، وأشهد ألا لا إله إلا الذي خضعت له الرقاب، وسجدت له الألباب بما أودعها من حكمة؛ أجَلَّت أربابها بسابغ من لباس جلاله، وغامرٍ من متواتر مَنِّه وإفضاله، وأشهد أنَّ محمداً عبد اللهُ ورسولُه، الواردُ بالمحامد، والصادرُ بالشفاعة لمن ارتضى؛ حين يُحجم المقرَّبون، وهم من خشيته مشفقون. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ ثم أما بعد..
فإنَّ المُجيلَ بصائر الصدور، فيما ينتحله نفرٌ مُصطفَوْن بالخصوصية، ومُجتبَوْن للصدع برسائل العبودية؛ ليربأُ بهم عن منازلَ حطَّ بها سفهاءُ قومٍ جعلوا القرآن سمت منادٍ، وشراذم أورادٍ، وأقاصيص طُرُوس، كالذي يُجلِّي العروس لساعة لهوٍ قريب، يخادع فيها أفانين العجائب، بمدح الأتراب والصواحب.
واكمداً في فؤادِ مُعنّىً، يريد أن يمحوَ الليل بكفيه عن نور هنالك خلف الدياجر! واهمسًا مصلوباً على شفةٍ، حين يستبد به الحنين فينساب مدادًا! يتساءل:هل قُدَّت الأفكار من جماد القراطيس، فصارت بالجوامد تُشبَّهُ، وإن كانت بالرواسي الشامخات أشبهَ؟ أم على قلوبٍ أوزارها؟
رُبَّما تكثفت أمطارُ الخصب عن نفثة مصدور، لا يتوانى عن تعاهد نباته ولو كان حميل سيل بدموع تروِّيه، ودماء تغذِّيه، إيماناً بأنَّ العُنصر ماءٌ واحدٌ، والزارِعُهُ يُفضِّلُ بعضًا على بعض في الأكل.
الداء المترامي على الجانبين: نشأٌ اتخذوا القرآن مزامير يُقدِّمون أحدهم ليغنِّيهم، وما هو بعالمهم، وما هو بقدوتهم، وشبيبةٌ حظِّهم من العلم نِحلةُ درهم، لها بريق الدراهم - وإن كان ومضة شهاب في ديجور؛ ولها صلصلتها - وإن كانت نشاز طُرطور. إي وربي! تُنتحل الإجازات بدراهم، وتوقف الصدارة على مُطرِّبي القوم بأهازيج يسمونها قرءانًا، كيف لا، وقد اختُزل هذا الدين الخاتم، وهذه الشريعة الحاكمة في التسابق في مضمار العويل على الفردوس المفقود تارة، والتنابُز بألقاب الحزبية البغيضة أخرى؟! كيف لا وقد تناسى القوم ما يرددون ليل نهار، أمِن غموضٍ لم يفهموه، أم من التباس لم يعوه، أم من ذهول أخذوه وأهملوه؟ ألم يُلخَّص لهم القرآن في قول موجز: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].
هل من الإصلاح، أم من التمسيك بالكتاب: أن تأخذ الحناجر من القرآن مأخذها، اختلافًا فيه بالجهل مبتدأً، وبالتعصب وقودًا، وبالتفرق منتهىً؟! هل من التمسيك بالقرآن أن تُباع الإجازات ليباهى بها السفهاء، ويمارى بها العلماء؟! هل من التمسيك بالقرآن أن ينزله الله للعمل به، فتتخذ قراءته عملًا، تبتدع من أجله الألحان والمقامات الموسيقية، وتقام المسابقات، بل وتخصص لذلك الفضائيات التي كان يعدها المتفائلون منارة هداية للغافلين، وشوكة نكاية في ظهور الحاقدين، فما كانت إلا غُصَّةً في حلوق الغيورين؟
هل من التمسك بالكتاب الإصرار على ما ثبت خطؤه، والتواطؤ عليه لا لشيء إلا لأنه ميراث مجتهد نشد الحق فأصاب جلَّه، وأخطأ قليله؟!
هل من التمسك بالكتاب أن نُغفل بعض المهامِّ المنوطة بعلماء القرآن، ليتصدى لها المستشرقون والمستغربون؟
هل من التمسيك بالكتاب: مُعارضةُ بعضه ببعضٍ والصدُّ عنه به، مُسوَّغًا ببريق المُصطلحات الرنَّانة الفضفاضة مثل: التجديد، والمواكبة ونحو ذلك؟
هل من التمسيك بالكتاب أن نقيم فلذات أكبادنا عند ظواهره، ولا نفطمهم على لبابه وجواهره؟ هل المطلوب الحفظ والاستظهار وتحصيل الأسانيد العالية، لا لشيء إلا لأنها عالية، وإجادة القراءة بالقراءات العشر والمقامات العشرين؟
أهمية هذا الطرح
إنَّ هذا الطرح يهدف إلى اقتراح حلٍّ عمليٍّ يمكن تنفيذه، لوضع حدٍّ لكثير من الظواهر السلبية التي تعاني منها علوم القرآن بصفة عامة والتجويد والقراءات بصفة خاصة.
ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الظواهر في النقاط الآتية:
1- اهتمام الكثير من القُرَّاء بالرواية على حساب الدراية. بل إنَّ حظَّ الكثيرين من الرواية مجرد تحصيل الأسانيد بغض النظر عما في بعضها من تضارب واختلاط، حتى إنك لترى في بعض الأسانيد الشيخ تلميذًا والتلميذ شيخًا، وقلَّ من يهتم بقراءة الإسناد على شيخه بله مَن يستظهر إسناده. ومن ذلك أيضًا اهتمام الكثير من الطلاب بتحصيل الأسانيد العالية، بغضِّ النظر عما سيحصله من علوم الدراية، حتى إن بعضهم يكتفي بقراءة بعض المقتطفات، أو يكتفي بشراء الإسناد! ([1]). والخلاصة أن نظام منح الإجازة القائم يحتاج لكثير من المراجعة، والتمحيص.
2- طروء بعض هيئات الأداء والتلقي التي تتعارض قطعًا مع ما يقرره علماؤنا من السلف أو مع ما تقرره ثوابت الدرس الصوتي الحديث. وكلٌ يحتج بما قرأ به على شيخه مما يدل دلالة يقين على قصور الاعتماد المجرَّد على ما بين أيدينا من أسانيد.
3- التضخُّم الكميّ الهائل في المؤلفات والمصنفات من الكتب المنثورة والمنظومة التي لا تعدو كونها تكرارًا، مع خروج معظمها عن العرض المنهجيّ الذي يقتضيه التحقيق والتأصيل، وأكثر ما نرى ذلك في كتب التجويد التي صنَّفها المتأخرون والمعاصرون([2]).
4- تراكم الأخطاء الكثيرة في بعض المصنفات المشار إليها، وهذه الأخطاء تتنوع بين الأخطاء العلمية المنهجية، والأخطاء اللغوية. وتظهر خطورة هذا الأمر جليًّا عندما يكون المصنف سائرًا.
5- كما ترتَّب على ما سبق: انصرافُ كثير من المصنِّفين والباحثين عن الدراسات التجديدية التي سينتقل بها علم التجويد والقراءات حال تطبيقها إلى آفاق رحبة.
6- ومما يؤسف له أن يأخذ المستشرقون بزمام الدراسات الصوتية الحديثة، التي ابتكرها أسلافنا منذ أكثر من عشرة قرون، فأصبحنا ننقل عنهم - فيما يخصنا ترجمةً، والأدهى ألا يوجد حتى الآن حسب علمي مختبر واحد في أي بلد عربي مزود بأجهزة دراسة الصوت وتحليله، بل لم ير هذه الأجهزة ويستخدمها إلا فئة قليلة من المُبتعثين للدراسة في الجامعات الغربية، وهو أمر يُرثى له إذا علمنا مقدار ما ننفق من أموال على المسابقات الشكلية التي لن نتأخر بالاستغناء عنها عاماً أو عامين، فهل يُعقل أن يصير بنا الحال إلى مجرد نقلة عن غيرنا في دراسات نحن مبتكروها؟!!
وأدهى من ذلك كله؛ أن نجد من يحذر من هذه الدراسات الصوتية ويصمها بالبدعة!!! هكذا جزافًا، وما دَرَى المسكين أنَّ الغرب لم يعرفوا الدراسات الصوتية إلا من ترجماتهم لكتاب سيبويه وبقية آثاره، والدراسات الرائدة للخليل وابن جني وغيرهم، بل اعترف الغرب صراحة أنَّ أمة من الأمم لم تبلغ معشار ما بلغه العرب والمسلمون في هذا المضمار، كل ما فعله الغربيون أنهم طوروا هذه الدراسات وأخضعوها للتحليل التجريبيّ باستخدام أجهزة معملية دقيقة أتاحها لهم التقدم العلمي الهائل، وطوَّعوها على قواعد لغاتهم ونظامها الصوتي، والمطلوب منّا الآن أن نسترد بضاعتنا ونُطوِّعَها وَفقَ نظام لغتنا ولهجاتها، ونبدأ من حيث انتهى علماؤنا الأوائل.
7- تحول الكثيرين من القراء المنوط بهم وراثة الكتاب بلاغًا وتطبيقًا، صلاحًا وإصلاحًا، إلى مقرئين في المآتم والمناسبات والقبور، استغناءً بزيٍّ يسلكهم في زمرة القراء اسمًا وسمتًا ظاهرًا، على ما ينطوي عليه الظاهر من قلوب مكَّاسين، وأخلاق مُهرِّجين.
8- حيود وسائل الإعلام عن رسالتها السامية إلى سفاسف من القول، وخطل من الفكر، فهي تروج لفكر أشبه ما يكون بالفكر الطقوسي تحت مسميات خادعة لا هدف لها إلا التربح الماديّ ولو على حساب كتاب الله، وصرنا نرى تهافت الشبيبة على برامج المسابقات لا لشيء إلا حبًّا في الظهور، وما هو إلا زجٌّ بالمستقبل المنتظر في أخاديد الشُهرة الحارقة. وكان من لوازم ذلك أن عُقدت البرامج لتمرير هذا الغثاء والتأصيل له، وإلباسه ثوب الجهاد في العلم والقيام على ثغوره! فصار وكأنه الغاية التي من أجلها نزل القرآن، والله المستعان.
9- قصور المناهج التربوية، والأساليب الموضوعة لها عن إنبات العلماء القرآنيين الجامعين، وإنَّ المتفحص في هذه المناهج ليرى أنها لا تساعد على تربية الملكات وتنمية الاستعداد الفطريّ الطبعيّ لدى الأطفال والدارسين من غيرهم؛ إذ إنَّ جُلَّ اهتمام هذه المناهج والأساليب الموضوعة لها على الحفظ والاستظهار، فترى التفاضل بين الدارسين على مقدار ما يستحفظونه ويستظهرونه، فيخرج من المئات بل من الآلاف عدد أصابع اليد الواحدة، لا عن قلة الدارسين؛ ولكن عن ضعف مُقوِّمات المنظومة الدراسية. ومما يدلُّك على ما أزعمه أنك ترى مئات المسابقات المعقودة لإبراز قدرات الحفظ والاستظهار، ولا ترى مسابقة واحدة في مجال إبداعي يتعلق بالقرآن.
كل هذا وغيره دفعني وغيري للتساؤل عن المخرج، فكانت هذه الوريقات.
فكرة الطرح
كثيراً ما نسمع ونقرأ في هذه الأيام- عما يسمى بالهيئات الرقابية المركزية، وهي هيئات مستقلة يُناط بها رقابة مجال ما، وتقويم كفاءة أفراده، ومدى إجادتهم في القيام بمسئولياتهم، وعلى غرارها توجد هيئات الجودة العالمية والمحلية، التي تقوِّم المؤسسات والشركات - بل والحكومات في بعض الأحيان، وبِناءً على درجة الأداء تُمنح هذه المؤسسات والشركات شهادات جودة معتمدة من قبل تلك الهيئات الرقابية، تُخوِّل لها تسويق السلع والخدمات في أية سوق عالمية، أو في سوق معينة تبعًا لدرجة الشهادة الممنوحة ونوعها.
من أشهر هذه المنظمات؛ المنظمة الدولية للتوحيد القياسي؛ الأيزو (ISO)([3])، وهيئات التقييس المنتشرة في أقطار العالم جميعها، ومنها عالمنا العربي والإسلامي، ولا تختص هذه الهيئات الرقابية بالرقابة في مجال دون مجال، ولكنها تُعمل قواعدَها العامةَ على كل من ينتج خدمة أو سلعة، إذ إنَّ المنظمات الدولية نشأت في الأصل - بغرض توحيد القوانين المنظمة لتداول السلع والخدمات بما يضمن حماية المستهلك صحيًّا واقتصاديًّا، ويضمن في نفس الوقت تنظيم المنافسة، والالتزام بالأخلاق المهنية، على تفصيل معروف لدى المهتمين بهذه المجالات.
وغنيٌ عن القول؛ إن لهذه الهيئات الرقابية أثرًا بالغًا؛ ليس في حماية المستهلك وضمان حقوقه حسبُ، ولكن أيضًا في تطوير جميع عناصر الإنتاج. ولا نكون مبالغين إذا ادعينا أن لهذه التشريعات فضلاً كبيرًا فيما نشهده من تقدم علميٍّ وتقنيٍّ.
وربما لا تبدو العلاقة واضحة للوهلة الأولى بين ما نحن بصدد بحثه، وما ذكرناه ها هنا. لكنَّ الأمر جليٌّ عند التأمل، إذ إنَّ إنشاء هيئة رقابية على صعيد العالم الإسلامي يناط بها تنظيم بعض الأمور المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه = هذا العمل سيكون له - إن شاء الله أعظم الأثر في ازدهار الفكر القرآني - خاصة - والفكر الإسلامي عامة.
إنَّ من أسباب التقدم العلميّ الذي نشهده اليوم الاهتمام بالفكر الجماعيّ، والإبداع المنظم، وهو سبكُ الأفكار الفردية في منظومة جماعية، تستفيد من كفاءات أفرادها كلٌّ في تخصصه فضلًا عن إنجازها أعظم المهام وأدقها في زمن لا يتناسب مع جلالة الأعمال المنجزة. فما أحوجنا اليوم في مجالات الفكر كافة، وفي مجال الفكر الإسلامي خاصة؛ أن نُؤصِّل لهذا الإبداع الجماعي، أو فلنسمِّه الاجتهاد الجماعي، الذي لا يشترط أن يمتلك كل فرد من أفراده مُقوِّمات الاجتهاد المطلق، ومع ذلك يكون للفريق أقصى مُقوِّمات الاجتهاد المُطلق.
وفيما نحن بصدد بحثه؛ يتشكل الفريق الذي يمثل نواة الهيئة الرقابية المنشودة- من مجموعة منتقاة من العلماء المُقرئين المختصين المشهود لهم بالعلم روايةً ودرايةً = من جميع الأقطار الإسلامية، ويكون لهذه الهيئة حق الرقابة اختياريًّا على المؤسسات القرآنية: المدارس والمعاهد ودور التحفيظ النموذجية، ومنحها ما يُفيد جديتها وتمكنها من القيام بمهامِّها وأداء رسالتها، وتُجدَّدُ الشهادة بنفس درجتها أو بدرجة أعلى بِناءً على متابعات دورية؛ تتحمل هذه المؤسسات نفقاتها. كذلك يكون منوطًا بهذه الهيئات القيام بدراسات موسوعية منظمة لتنقيح الأسانيد الموجودة على مستوى العالم، فيجمع كل ما يمكن جمعه من الأسانيد الموجودة ومقارنتها، والترجمة لرجالها، مستفيدةً من الوسائل التقنية المعاصرة المتاحة. كذلك يكون بإمكان هذه الهيئات منح الإجازات الفردية المعتمدة اختياريًّا للمقرئين المنتشرين في كل مكان من العالم.
ولتيسير هذه المسألة يمكن إنشاء مكتب تابع للهيئة الأم في كل قطر من الأقطار الإسلامية، كذلك تصميم موقع على شبكة المعلومات بالمواصفات التي تتيح استخدامه لهذا الغرض.
سيكون من اختصاص هذه الهيئة الفصل في نتائج الأبحاث المتعلقة بالقرآن وعلومه، وبخاصة ما يتعلق منها باستخدام التقنيات الحديثة، والمسائل المختلف حولها مما له أثر عمليٌّ في الأداء.
سيكون كذلك على هذه الهيئة توحيد المصطلحات المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه، وهو أمر مهم جدًّا، يحتاج لجهد جماعي لعلماء مُوثقين في كل التخصصات الرئيسية والفرعية المتعلقة بالقرآن وعلومه، بالإضافة إلى خبراء في مجال التقنية المعاصرة.
إنَّ البداية عند وجود أشخاص يؤمنون بهذا الفكر الشموليّ، ووجود مؤسسات - قائمة فعلاً - تتبنى هذه الفكرة وتحتضنها.
ومن المؤسسات التي لا يختلف عليها اثنان في العالم الإسلامي: مجمع الملك فهد - رحمه الله -، ومعهد الإمام الشاطبي بجدة، وجمعية المحافظة على القرآن الكريم بعمّان بالأردن، وكلية علوم القرآن بالأزهر الشريف، ومعهد الدراسات المصطلحية بالمغرب، وغيرها.
وفي النهاية لا يسعني إلا أن أضع هذه الفكرة بين أيدي علمائنا وأُستاذينا من المخلصين الغيورين على هذا الدين، والله الموفق وهو المستعان.
وإتمامًا لهذا الطرح؛ أُجمِلُ المهامَّ المُقترحة التي يمكن أن تؤديها الهيئة الرقابية المركزية، وعند الوجود الفعلي لهذه الهيئة في الواقع سيمكنها إن شاء الله القيام بمهامَّ أخرى إضافة المهام المقترحة.
1- تنقيح الأسانيد الموجودة:
فالناظر إلى الكثير من الأسانيد التي بين أيدي القراء يجد فيها من التضارب، والسقط في بعض الطبقات ما يجعلها غير متفقة مع بعضها من جهة، ومع ما هو موجود بكتب التراجم التي بين أيدينا - والتي تحدد مشايخ من تترجم له وأهم تلاميذه = من جهة أخرى. ولعل جمع أكبر قدر ممكن من أسانيد مشاهير القراء، وغير المشاهير يتيح لنا رسم الطبقات رسمًا دقيقًا محكمًا يعيد تنسيق كثير مما بين أيدينا من الأسانيد.
2- تقييم الرجال (تطبيق قواعد الجرح والتعديل):
إنَّ أسانيد المُقرئين - اليوم - أحوج إلى تطبيق قواعد الجرح والتعديل من أسانيد المُحدِّثين، ولا يتعجبنَّ أحد من هذا الزعم، فإذا كان إسناد المحدث - في هذا الزمان؛ مع طول السند وقلة الحفظ وتشعب الطرق = لا يخلو من مجهول أو ضعيف، فما الفائدة المباشرة من تحصيل أسانيد الحديث عاليها ونازلها في هذا الزمان إلا شرف اتصال السند بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟ اسمع لهذا الكلام النفيس الذي ينقله النووي عن ابن الصلاح - رحمهما الله - يقول:
“ قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح -: اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا، وكثير من الأعصار قبله؛ إثبات ما يُروى؛ إذ لا يخلو إسنادٌ منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطًا يصلح لأن يعتمد عليه ثبوته، وإنما المقصود بها إبقاء سلسلة الإسناد التي خُصَّت بها هذه الأمة زادها الله كرامة” ([4]).
نعم والله إنه لشرف لا يعادله إلا شرف الذَبِّ عن الأحاديث المنسوبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتمييز صحيحها من سقيمها، والغوص على المعاني الفريدة والدرر الخريدة والتمسك بها ظاهرًا وباطنًا، وإظهارها للناس عملاً وعلمًا، أما السعي في تحصيل هذه الأسانيد الآن ظنًّا بأنَّ كتابة الطرق - مهما تكاثرت وتواترت - قد تؤدي لتصحيح حديث استقر الحفاظ قديمًا وحديثًا على تضعيفه، أو الحطّ من رتبة حديث استقر الحفاظ على تصحيحه؛ فهذا ما لا يقول به عاقل، ويجب ألا يخلط أحد بين أهمية دراسة الأسانيد المدونة في كتب الحفاظ التي يعول عليها كدواوين للسنة مشهورها ومغمورها، وبين تحصيل الإسناد المتصل في هذا الزمان، فالأمر الأول هو عمل الحفاظ المحدثين اليوم، يساعدهم في هذا الانفتاحُ على وسائل العصر الحديث من برامج حاسوبية متطورة، تقوم بالبحث الدقيق والسريع، والفهرسة الشاملة للمتون وأسانيدها وطرقها، كذلك الاستفادة من كتب الأصول الكثيرة التي وصلتنا مخطوطاتها، وقام الباحثون بتحقيقها، والتي يساعد الإلمام بها في نقد الأحاديث سندًا ومتنًا، كل هذا وغيره مما يعرفه المختصون يجعل الحاجة إلى إعمال قواعد الجرح والتعديل على طلاب علم الحديث بأسانيده أقل من الحاجة إلى إعماله في أسانيد القراء اليوم.
وربما يقول قائل: إننا متفقون على الشق الأول من هذا الكلام، وهو أنَّ إعمال الكثير من قواعد الجرح والتعديل على نَقَلَةِ الحديث اليوم ليس تحته كبير فائدة، ولكن ما مدخلُ الحاجة الزائدة التي طرأت في أسانيد القراء فاحتيج معها إلى إعمال قواعد الجرح والتعديل؟ ولم لا يحتج عليك محتجٌّ بأن القرآن محفوظ بحفظ الله له، وأنَّ أسانيد القراء لا تخلو - كما هي الحال في أسانيد المحدثين = من المجهولين والضعفاء، بل إنَّ وجود ذلك في أسانيد القراء أكثر لقلة من يهتمُّ بذلك اتكالًا منهم على جلالة القرآن وحفظ الله له، ودليل ذلك قلة من ترجم للقراء بتصحيح وتضعيف، عكس كتب الرجال التي تطفح بآلاف بل عشرات الآلاف من المحدَّثين المترجم لهم؟
فنقول وبالله التوفيق: كل ما قلتموه صحيح، ولكن مكمن الفرق في أن المقصود الأول من تحصيل الأسانيد عند القراء ليس إثبات تواتر القرآن، فهذا ثابت ومستقرٌّ في بطون المصاحف، وكتب القراءات، وصدور الرجال بل والأطفال، بحيث يردُّك طفل إلى الصواب إذا أبدلت حرفًا بحرف أو أسقطت حرفًا = وإنما المقصود إجادة كيفيات الأداء وهيآته، وتحقيق مخارج الحروف وصفاتها، وهو ما لا يتحقق إلا بالمشافهة والتلقي عن شيخ متقن مجيد ذي رواية تعصمه من الابتداع، ودراية تعصمه من التحريف والنسيان. وقد انتبه علماؤنا - رحمهم الله - إلى ذلك، وها هو السيوطي -يُجلِّي ذلك؛ فيقول: “ وأما القراءة على الشيخ فهي المستعملة سلفًا وخلفًا، وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا، لأن الصحابة إنما أخذوا القرآن من النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن لم يأخذ به أحد من القراء، والمنع فيه ظاهر؛ لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته، بخلاف الحديث، فإنَّ المقصود فيه معنى الحديث أو لفظه لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه نزل بلغتهم”([5]).
ولما كان السلف الصالح - وخصوصًا قرب عهد النبوة - أصحاب فصاحة، وأرباب بيان؛ فقد كانوا يُحقِّقُون القرآن على السليقة، حتى اختلط المجتمع الإسلامي بكثير من المسلمين الأعاجم القادمين من البلاد التي فتحها المسلمون لينهلوا الدين من منبعه، وقد أدى هذا الاختلاط إلى فساد ملكة اللغة والبيان بتتابع الأيام وتقادم الأزمان، حتى صرنا اليوم على ما نحن عليه من أخطاء ولحون تقشعر لها جلود الغيورين على هذا الدين.
ولا أعني بذلك الكثير من أئمة المساجد غير المؤهلين، ولا العوامَّ الذين لا يجيدون القراءة، وإنما أعني الاختلاف في الأداء حتى بين العلماء المختصين في القراءات والتجويد، وهو الأمر الذي يحاول البعض تمريره على أنه من الخلاف السائغ تارة، أو مما عمَّت به البلوى تارة أخرى. ويكفي للتأكيد على ذلك ذكر بعض الحروف التي أصابها التطور عن صورتها التي وصفتها لنا كتب اللغة والتجويد، مثل الضاد، والطاء، والقاف، والجيم، كذلك الخلاف في كيفية إخفاء الميم الساكنة قبل الباء، وكيفية أداء حروف القلقلة، وكيفية إخفاء النون الساكنة قبل حروفها، وغير ذلك مما يعرفه المحققون.
وإذا قنعتَ بهذا فمن حق القرآن علينا أن نتساءل: ما الذي أدَّى إلى ما وُصِفَ؟ والإجابة متفرعة ومتشعبة تشعُّب الأسباب التي بها تتطور أي لغة، فضلًا عن الأسباب الناتجة عن تهاون الكثير من المسلمين في أخذ القرآن على وجهه؛ عملًا بقول الله - تعالى-: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4]، غير أن السبب الأهم في تقديري راجع إلى مشايخ التجويد والمقرئين أنفسهم، إذ إن التساهل المُفرط في الشهادة بالأهلية ومنح الإجازات لغير المؤهلين لها رواية ودراية أدَّى إلى تمرير هذه الأخطاء بصورة شرعية، فهو يتلقَّى على التساهل، فإن أقرأ أقرأ على تذوُّقه، فيطرأ الفساد، فإن تصدَّى عالمٌ لبيان هذا الفساد؛ رفع الكل شعار: (هكذا تلقيت، وهكذا قرأت على شيخي)!
أيضًا؛ فإن بعض الدارسين المنظِّرين في علم التجويد تحديدًا والذي هو أجلُّ ملكات المقرئ ووسائله لم ينفتحوا بالقدر اللائق بأمثالهم على نتائج الأبحاث والدراسات الحديثة التي تطورت في اتجاهين، يمثلان رافدين عظيمين كانا كفيلين بتجنب كثير مما ذكرنا، أما الرافد الأول: فهو تحقيق مئات - بل وربما آلاف - المؤلفات المخطوطة في علم التجويد ونشرها، والتي ألَّفها علماؤنا في وقت لم تشُبْ فيه اللغةَ أية شائبة، فضلًا عن كون هؤلاء العلماء من الجامعين روايةً ودرايةً، يدعمهم قرب السند وصفاء الملكة. أما الرافد الثاني: فهو علم الأصوات الحديث الذي شهد تطورًا هائلًا، يدعمه الاعتماد على الأجهزة الحديثة المبتكرة لتصوير أعضاء آلة النطق وتحليل الأصوات تحليلًا طيفيًّا يجعل الكثير من ما كان علماؤنا يصفونه فيخمِّنون ويرجحون وتدقُّ عبارتهم تارة وتغمض تارة = هو اليوم من قبيل المسلَّمات والبديهيات التي أُرسيت ورسخت منذ بدايات القرن المنصرم. ورغم ذلك لا نرى الكثرة الكاثرة من كتب التجويد تشير إلى هذه الأبحاث والحقائق ولو من قبيل الاستئناس فضلًا عن خلو العالم الإسلامي كله من هذه الأجهزة الصوتية الحديثة، الأمر الذي جعل الفجوة بين الواقع والمأمول تنمو اتساعًا لتبتلع الجهود الفردية المُشتتة التي يقوم بها المخلصون الغيورون على القرآن وعلومه، المدركون لهذه الحقائق، وهم واأسفًا قلة قليلة ربما لا يتجاوزون عدد المشايخ في أعلى أسانيد القراء.
من هنا كان لابد من هذه الصيحة التي تُؤصل لاجتهاد جماعي يستقطب الغيورين، ويلمُّ شتات السائرين؛ لعل الله عز وجل يُقيِّضُ له من يقوم به. إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ويمكن تحقيق هذا عمليًا من خلال وضع معايير الضبط والعدالة، ثم تطبيق هذه المعايير واستخدامها في تصنيف الطبقات الثلاثة الأخيرة - على الأقل - ما أمكن، والحكم على مشايخها بقواعد الجرح والتعديل، مع التركيز أكثر على الضبط، وعدم استخدام مقياس العدالة إلا فيمن وضح تجريحه، أو تلبس ببدعة متفق على منافاتها لمقصود القرآن الكريم ورسالته. واعتماد مقياس الرواية والدراية كأساس للحكم بالضبط من عدمه.
3- وضع موسوعات جامعة لتراجم القراء:
وهي رسالة متعلقة بما قبلها، إذ نطمح إلى وضع موسوعة يترجم فيها للقراء بصورة جامعة تستوعب كل من يمكن الوقوف على تراجمه من المقرئين على مر الأزمان، ولا تعتمد تراجم المعاصرين من القراء إلا بعد وفاتهم، نعم؛ يمكن أن تكتب تراجم مشاهيرهم بصورة تحضيرية غير نهائية - كما فعل الذهبي -في ”معرفة القراء“، حيث ترجم لكثير من معاصريه من المشايخ والأقران والتلاميذ، وكذلك فعل ابن الجزري -في ”غاية النهاية“ وغيرهما، ويمكن أن يوضح في هذه التراجم التحضيرية أنها كذلك بأن تكتب بلون مخالف لباقي تراجم الموسوعة أو تميز بأي طريقة ممكنة، وتصدر موسوعة شاملة على غرار الموسوعة الفقهية.
4- ضبط المصطلحات:
إنَّ من أهم ما يساعد الباحث أو الدارس على إتقان علمه أو تخصصه ضبط المصطلحات الخاصة بهذا العلم أو الفن، وكثيرًا من ينشأ الخلل والخلاف عن عدم ضبط المصطلحات، وبخاصة مصطلحات المشترك اللفظي أو المصطلحات التي تدل على أكثر من معنى، يقول ابن حزم -: "والأصل في كل بلاء وعماء، وتخليط وفساد، اختلاط الأسماء ووقوع اسم واحد على معانٍ كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي تحته، فيجعله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر فيقع البلاء والإشكال، وهذا في الشريعة أضر شيء وأشده هلاكًا لمن اعتقد الباطل إلا من وفقه الله تعالى”([6]).
ومن هنا يدخل على غير المتقن فيعمم الخاص، ويخصص دلالة العام، ويقيس على ما لا يقاس عليه بسبب شبهة لفظية، وإذا كان تحرير موضع النزاع هو الخطوة الأولى الصحيحة لإزالة الخلاف، فإن تحرير موضع النزاع لا يتأتى أبدًا إلا إذا كانت دلالات المصطلحات المستخدمة في القضية المبحوثة واحدة في ذهن المتباحثين، ومن هنا تأتي الأهمية القصوى لهذه القضية، فإن من أهم وظائف هذه المؤسسة، وأول المسئوليات المطلوب أداؤها؛ هو إصدار قاموس أو معجم موسوعي به ضبطٌ وتحريرٌ لكل المصطلحات المتعلقة من قريب أو بعيد بالقرآن وعلومه، في صورة واضحة لا غموض فيها ولا لبس([7]).
5- إصدار مجلة علمية محكمة مختصة بالقرآن الكريم وعلومه:
ونعني بعلوم القرآن هنا؛ كل ما يتعلق بعلوم الرواية والدراية؛ مثل القراءات وتوجيهها، والتجويد وطرق تدريسه، والتفسير واللغة والوقف والابتداء.. إلخ. وتوضع ضوابط صارمة للنشر، بحيث يمكن الارتقاء بمستوى البحوث المنشورة، فيشترط أن تأتي بجديد لا أن تكتفي بالأفكار المكررة والأنماط المستهلكة لمجرد تسويد الصفحات ونَيل الترقيات، كذلك تولى العناية بالبحوث التأصيلية في الجوانب المبهمة فيما مر ذكره من علوم، كذلك الاعتناء عناية خاصة بالبحوث التطبيقية القائمة على المنهج التجريبي سواء أكان متعلقًا بالإقراء والتجويد، أم كان متعلقًا بالتدريس وتكوين الملكات. كذلك الاهتمام بالبحوث التي تعنى بتحقيق أهم ما يُحتاج إليه من كتب التراث في القرآن الكريم وعلومه، وتوسيع قاعدة البحوث التي تعنى بربط القرآن وعلومه وطرق تدريسه بالوسائل التقنية الحديثة.
6- الاجتهاد الجماعي في المسائل المتعلقة بعلوم القرآن:
وبخاصة المسائل الخلافية، والتي تثير نقاشات قد تُفضي في بعض الحالات إلى تشاحُن وتدابر وقطيعة بين شبيبة طلاب العلم، لإصرار كل منهم على التقليد الأعمى لشيخه، ولأن لديه إسنادًا فهو يقرأ كما أُقرئ، فرأيه صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي مجادله خطأ لا يحتمل الصواب، ويكون الحكم لأعضاء اللجنة الأكثر اختصاصًا بالمسألة الفرعية المبحوثة، وإن كان الأمر يحتاج لإشراك من هم أكثر دراية وتخصصًا في هذه المسألة الفرعية من خارج اللجنة فتتم الاستعانة بهم، على أن يكونوا من المُوثَّقين رواية ودراية الجامعين للحدِّ الأدنى من آلات الاجتهاد الجزئي، وتكون البحوث الفردية نواة للاجتهادات الجماعية.
ويمكن اقتراح إنشاء مركز بحثي متخصص تابع لهذه المؤسسة الفرعية، يقوم بالإشراف على البحوث العلمية، وتقديم المنح الدراسية للطلاب المتميزين، على أن يتم اختيارهم وفق معايير علمية صارمة تضمن كفاءة إنتاج الطالب ومتانته.
7- إصدار الموسوعات الجامعة في كل ما يتعلق بالقرآن وعلومه:
إضافة إلى إصدار الموسوعة التاريخية الخاصة بتراجم القراء، وموسوعة المصطلحات السابق الإشارة إليهما؛ يمكن الاهتمام بالموسوعات الجامعة والفهارس الشاملة للمؤلفات الخاصة بكل فرع من فروع علوم القرآن قديمها وحديثها، مطبوعها ومخطوطها، كذلك إصدار موسوعة فقهية بكل الأحكام الفقهية المتعلقة بالقرآن وعلومه، والإشراف على طباعة مصاحف القراءات، والمصاحف المزودة بهوامش القراءات والتجويد والتفسير وأسباب النزول ومعاني الكلمات، والترجمات إلى اللغات الأجنبية المختلفة... إلخ.
8- المهام والوظائف التربوية:
إنَّ تطوير المناهج التربوية من أهم التحديات التي يواجهها الفكر الإسلامي اليوم. وقد أضحى التجديد كلمة ينادي بها الجميع وإن اختلف مقصوده من التجديد، وهل هو تجديد في الوسائل أم في الغايات.
ولا يخفى أنَّ الأفكار التي يُرجى لها السيادة في عالم الغد لابد أن تُبنى - من الآن - على أسس سليمة تضمن لها جذورًا تقاوم العواصف في عالم يموج بكل التيارات الفكرية. والتقوقع على الذات صار سمة من كَلَّ تفكيره، وشُلَّت يداه. وقد انقسم المفكرون الإسلاميون على قسمين:
أحدهما: ينبذ كل نقاش فيما يتعلق بالتجديد والتطوير من قديم أو بعيد؛ شعارهم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
والقسم الثاني: يُحاجج بأنهم يفهمونه في ضوء ما توحي به (ما) في السياق إذ إنها تفيد العموم، وهذا غير مقصود قطعًا فالغايات ثوابت تنسحب قيمتها الإصلاحية على كل زمان ومكان، بعكس كثير من الوسائل التي سلمت من أن يتناوشها فسادٌ من داخلها أو حظر من خارجها، فهي وُلدت يوم وُلدت مباحةً ثم قد أكسبها البعد الزماني من القيمة ما جعلها من مفردات بل من أبجديات خطاب العصر.
ولا شك أنَّ الخلاف بين الفريقين لفظيٌّ، فلم نسمع بعالم مُتشرِّب بروح الشريعة قد وقف بفتاواه أو مواعظه حجر عثرة في طريق اتضحت للسالكين، حتى ولو لم يسلكها السلف، إلا إذا كان السلف قد علموها وقدروا على سلوكها ولم يفعلوا بل حذروا منها، غير ذلك فالأمر مَشاعٌ يسبق إليه من اجتهد وثابر وصابر، ويتخلف عنه من اكتفى بالتنظير من مقاعد المشاهدين.
لا يعيب كثير من النظريات إلا أنها نظريات، حتى لو أُقيم عشراتُ البراهين النظرية على صدقها، أما ما يجعل الاقتناع بالنظرية فرض عقل، وواقع حال؛ أن تخرج عن كونها نظرية إلى حيز الممارسة والتطبيق.
كل هذا يجعل من المهم جدًّا أن تتبنى إحدى المؤسسات الكبرى كهذه المؤسسة المركزية التي نقترحها = رسالة تطوير المناهج التربوية، وبخاصة ما يتعلق منها بالتحفيظ، والتجويد، بتنقيح المناهج القائمة من الأخطاء اللغوية والعلمية، والمنهجية التربوية، وكذلك تطوير الوسائل، وإعلاء شأن الطرق القائمة على مهارات الفهم والإبداع والتحليل والتقييم والتركيب وتكوين الملكات، وإكساب علوم الوسائل في سنٍّ صغيرة، واكتشاف الموهوبين... إلخ. ثم لا تتوقف رسالة المؤسسة المركزية عند التنظير، إذ يقترح إنشاء مدرسة تربوية تجريبية تابعة للمؤسسة المركزية يكون عليها أن تصنع من الأفكار أشخاصًا، ومن النظريات أعلامًا.
ثم إنه من الضروري جدًّا أن تنبغ عن المؤسسة المركزية هيئة تابعة لها، تكون مهمتها التطوير والتجديد والابتكار على غرار ما يحدث في الشركات الكبرى، حيث قسم الجودة وقسم التطوير صنوان لا ينفكان، وإنما يكمل أحدهما الآخر.
نعم؛ ربما كانت الرسالة الأهم في المرحلة الأولى هي ما ذكر آنفًا، مما يتعلق تعلقًا مباشرًا بالإقراء وعلومه، ولكن الاقتصار على ذلك وترك الرسالة التربوية يجعل المؤسسة كالناظر بعين واحدة، أو كالناظر تحت قدميه، وسيكون إهدارًا للطاقات ألا تُستغل المكانة المعنوية التي صنعتها هذه المؤسسة في إرساء قواعد هذا الفكر التربوي الشمولي، ولا يخفى على أحد أنَّ التربية والتعليم هي باعث كل نهضة، ومحركها، ووقودها.
9- تنقيح المتون والمؤلفات.
وهذه المهمة تكميلية، فهي من لوازم التجديد والتطوير.
والناظر بعين النقد الممعنة في إخلاصٍ، السارحة في غَيرة؛ يرى أن كثيرًا من المؤلفات والمتون العلمية بحاجة إلى غربلة ما بها من أخطاء علمية ولغوية، كثيرٌ من هذه الأخطاء أشهر من أن يُذكر، وأوضح من أن يُدلَّل عليه، ومع ذلك تمتلئُ بها الكتب والمؤلفات والمتون والمناهج؛ بحجة أنَّ هذا التجاوز هَنَةٌ غير مؤثرة، وأن هذا الخلل ضرورة شعرية، وأنَّ هذا اللبس خلافٌ لفظيٌ، وما هو عند التحقيق بخلاف لفظي، إلى آخر هذه القائمة من التبريرات التي هي في نفسها أشد مما ارتكبت من أجله، وانتُحلت للمحاججة عنه.
ولو فُرض أنَّ ما سبق عذر وما هو بعذر فكيف الاعتذار عمن يتمسك بميراث ثبت خطؤه، وظهر خطله، مع ما أتاح العلم الحديث من وسائل لم تكن في حسبان الأوائل؟!
إنَّ هذا النداء لا يعني التمرد على تراث الأسلاف بقدر ما يعني التمرُّد له، ولا يعني الغضب على الأسلاف أنفسهم بقدر ما يعني الغضب لهم، ولا يعني سوء الأدب معهم بقدر ما يُجلِّيهم في أعين المغبونين والموتورين من دعاة نبذ التراث، وخلعه كما يخلع المعطف.
كل هذا وغيره يدعو لانتهاج سبيل جديدة تُغربل فيها مؤلفات الأوائل، وتُنقَّح مما اتُفق على خطئه، سواء أكان هذا الخطأ في الشكل أو في المضمون([8]).
10- الرقابة على المؤسسات الإعلامية التي تبث موادَّ متعلقة بالقرآن وعلومه:
إنَّ الإعلام هو أقوى أسلحة العصر الحالي، والفلاسفة والمفكرون يُصنفون هذه الحقبة من تاريخ البشرية بأنها حقبة السماوات المفتوحة.
إنَّ تشكيل وعي الشعوب والأفراد صناعةُ مَن يجيد التعامل بسلاح الإعلام، وكم من مآسٍ مُرِّرت بتزييف الإعلام لوعي من يخاطبهم، وكم من سوقٍ نفقت لا لشيءٍ إلا لأن مُروِّجيها يعرفون كيف يتحدثون، ومتى يتحدثون.
بطبيعة الوضع الراهن؛ لن تكون هذه الرقابة إلزامية، ولكن الدعاية المُنظَّمة، والمصداقية التي يمكن أن تكتسبها هذه المؤسسة المركزية = يمكن أن يمنحها قوة معنوية تُجبر وسائل الإعلام على الالتزام بآراء وتوجهات المؤسسة المركزية، ويمكن - كذلك - تصنيف هذه الوسائل الإعلامية، ومنحها شهادات اختيارية على غرار شهادة الجودة المشار إليها في صدر البحث، بحيث يحق لهذه الوسيلة الإعلامية أن تُعلم من تخاطبهم بأنها حاصلة على شهادة تصنيفية معينة من الهيئة المركزية، وطبعًا لن يمكن ذلك إلا بعد أن تُثبت المؤسسة المركزية أقدامها، وترسخ منهجها وتوجهاتها، وتكتسب مصداقتيها العلمية والأدبية.
11- الرقابة على المؤسسات التعليمية والتربوية المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه:
تتم الرقابة على المؤسسات التعليمية القائمة؛ مثل المدارس القرآنية ومراكز التحفيظ النموذجية، ومعاهد القراءات، وكليات علوم القرآن... إلخ، بالطريقة نفسها المشار إليها سابقًا، وذلك من خلال معايير محددة يجب التزامها من قبل المؤسسة التي ترغب في الحصول على شهادة الجودة من الهيئة الرقابية المركزية.
والضوابط الإلزامية - ها هنا - نوع المناهج التي تدرس للطلاب، ومدى اهتمامها بالدراية، ومدى اعتمادها للوسائل التربوية المعاصرة، وقدرتها على تكوين الملكات، واكتشاف الموهوبين، فضلاً عن طريقة معاملة الدارسين والمُدرسين والإداريين والعاملين... إلخ.
***
وبعد؛ فهذه جملة من الاقتراحات للمهامِّ المطلوب أداؤها، ولا يعني ذلك إغلاق الباب على ما تقدَّم، إذ إنَّ الواقع عند إقامته سيختلف ولابد عن التنظير، وساعتها ستُوجد مهامُّ جديدة، وسيُستغنى - ولو مرحليًا - عن بعض ما ذكر.
أيضاً؛ فإنَّ ما أنتجه عقل واحد يقل ولا شكَّ عما يمكن أن تنتجه آلاف العقول، لذا فمن الضروريّ أن تكون:
أولى الخطوات العملية لتحقيق هذا الأمر: أن تتبنى إحدى المؤسسات القرآنية القائمة هذه الفكرة ثم تدعو العلماء والمفكرين الإسلاميين إلى ندوة حول هذه الفكرة، وهي بهذا تدعم الفكرة معنويًا وأدبيًا، ولا يشترط بالضرورة أن تكون المؤسسة الداعية إلى هذه الندوة هي نفسها المؤسسة المركزية المقترحة، إذ من المُفضَّل أن تكون المؤسسة المقترحة ذات استقلالية مُطلقة منذ لحظة ولادتها، فانبثاقها عن هيئة ما قائمة فعلًا قد يطيل الوقت اللازم لحصول هذه المؤسسة على مصداقيتها، واقتناع الآخرين بحياديتها المطلقة.
الخطوة التالية: إنشاء موقع على الإنترنت للتعريف بالفكرة، والدعاية لها كذلك - من خلال المواقع المشهورة، وبخاصة المتعلقة منها بالقرآن والتفسير؛ مثل ملتقى أهل التفسير وطريق الإسلام، وموقع حلقات، وموقع معهد الإمام الشاطبي، وغيرها من المواقع الخاصة بكبار المشايخ والعلماء.
الخطوة الثالثة: اقتراح لجنة استشارية من أكبر عدد ممكن من العلماء البارزين في كل التخصصات المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه، ويُعتدُّ بترشيحات المؤسسات والأفراد. بحيث يتم انتقاء أصحاب أعلى مائة ترشيح ليشكلوا الهيكل العام للمؤسسة.
الخطوة الرابعة: انتخاب اللجان المختلفة؛ العلمية، التربوية، الرقابية، والتنظيمية... إلخ.
الخطوة الخامسة: إصدار القوانين المنظمة للمسائل الرقابية، وتوضيح المعايير الدقيقة التي على أساسها تُمنح الشهادات التصنيفية المختلفة.
الخطوة السادسة: البدء في المشروعات العلمية. والبدء في إصدار المجلة العلمية المتخصصة، والبدء في مشروع توثيق الإجازات إلكترونياً.
الخطوة السابعة: ويتم فيها إنشاء المركز البحثي، وإنشاء المركز التربوي التجريبي، والامتداد الأفقي عن طريق التمهيد لإنشاء فروع للهيئة المركزية في الأقطار الأخرى.
وبعد؛ فهذا جهد مُقلٍّ أضعه بين أيدي علمائنا وأكابرنا ليقولوا كلمتهم، ويبينوا ما في هذا الكلام من صواب فنحمد الله عليه، وما فيه من زلل فنستغفر الله منه، والحمد لله أولاً وآخرًا، والحمد لله ظاهراً وباطناً، وصل اللهم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
ـــــــ الحواشي ـــــــــ
(2) انظر : زاد المجاز والمجيز ففيه توسع في إيراد هذه الظواهر وما جرى مجراها.
(3) انظر بحث: مناهج كتب تعليم قواعد التلاوة؛ لفضيلة الدكتور غانم قدوري الحمد – حفظه الله – منشور في مجلة كلية المعارف الجامعة، العدد الأول، الأنبار، العراق، ومنشور ضمن مجموعة أبحاث أخرى في التجويد تحت عنوان أبحاث في علم التجويد، دار عمار ، الأردن 1422هـ= 2002م ( ص 76 – 106 ).
(4) اختصار للمصطلح الإنجليزي International Standards Organization . وجدير بالذكر أنَّ البعض يترجمها ( التقييس ) بدل التوحيد القياسي، وبعضهم يسميها ( النمذجة )، ولكلٍ من هذه المصطلحات ميزات ومثالب ليس هذا مجال مناقشتها.
(5) مسلم بشرح النووي ، المقدمة ( 1/14)
(6) الإتقان (ص 136)
(7) الإحكام في أصول الأحكام ( 8 / 464 ).
(8) هناك دراسة علمية بعنوان: مصطلحات علم القراءات في ضوء علم المصطلح الحديث، وأصلها رسالة دكتوراه تقدم بها الباحث حمدي صلاح الهدهد لنيل درجة الدكتوراه لكلية الآداب جامعة الإسكندرية، ( نشرتها دار البصائر بالقاهرة عام 2008 )، وقد جمع فيها الكثير من مصطلحات القراءات، وهي دراسة متميزة غير أنه يؤخذ عليها عدم استيعاب مصطلحات القراءات إذ إن بها من الفوت الشيء الكثير، كذلك عدم وضوح التعريفات الموضوعة لبعض المصطلحات، وقصورها عن حد الجمع والمنع.
(9) انظر في هذا مؤلفات الشيخ العلامة الدكتور غانم قدوري الحمد، وما تحمله من دعوات إصلاحية في علم التجويد، ، انظر للكاتب: تنقيح المنظومات العلمية بين حاجة الدارسين والتوقف في الاستدراك على العلماء، منشور بمجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية؛ العدد الحادي عشر، جمادى الآخرة 1432هـ - مايو 2011م، (ص 156: 202).
المصدر : ظ…ظˆظ‚ط¹ ط§ظ„ظ…ط®طھط§ط± ط§ظ„ط¥ط³ظ„ط§ظ…ظٹ