أبو عبد المعز
Active member
- إنضم
- 20/04/2003
- المشاركات
- 598
- مستوى التفاعل
- 26
- النقاط
- 28
نحو علم بلاغة منقح لتفسير القرآن ( نقد ،اقتراح، وتطبيق)
سنخصص - بإذن الله ثم بحسب ما تيسر من وقت – هذا المكان لنقد كثير من الوجوه في البلاغة الموروثة ، وننبه أنه لن يكون نقدنا منهجيا وإنما سنقتصر على ذكر لمع وشذرات متفرقة، ثم نقترح وجوها جديدة غفل عنها إرثنا البلاغي. لكن قصدنا الأول هو التدبر العملي التطبيقى، وما النقد والاقتراح إلا من باب الذريعة، يشهد الله أنا سئمنا من التنظير والمنظرين ونريد أن نتدبر كلام الله بلا واسطة لا أن نتدبر كلام من تدبر القرآن!
- الصدق قبل البلاغة
لا تعارض بين الكذب والبلاغة في الدرسين البلاغي والأدبي الموروثين،ولهم مقولتهم المشهورة "أعذب الشعرأكذبه" فلا حرج إذن في الجمع بين الكذب والبلاغة، بل هو مندوب إليه كما هو مدلول ظاهر مقولتهم!
وزعم السيوطي أن القرآن لو خلا من المجاز لخلا من شطر الجمالـ ، والمجاز عند منكريه كذب ، فها أنت ترى طيف مقولة "أعذب الكلام أكذبه" يكاد يحوم حول القرآن....
ولما كانت مقولة "أعذب الشعرأكذبه" صادمة لفطرة الإنسان فقد حاول أنصارها درء الصدمة بتبنيهم مذهب الفصل بين الأدب والأخلاق، وروج المعاصرون منهم لمصطلح ابتدعوه: (الصدق الفني)
وقالوا إن الشاعر غير محاسب على الصدق الخلقي أو المنطقي ولكن يحاسب على الصدق الفني ، بعبارة أخرى ليس الشأن في أن يطابق قول الشاعر الواقع ولكن الشأن في أن يطابق إحساسه ، فلو قال " الشمس سوداء" لكان صادقا فنيا لأنه كذلك يشعر بها وكذلك يراها!
بلاغة الكذب هذه لا شأن لها بالقرآن....ولا شأن للقرآن بالمبالغة أيضا فإن كان ذوق الناس يبتهج لمثل قول القائل :
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فإن مثل هذا القول ،وما نسج على منواله ، يتنزه عنه كلام الله ... ومن ثم لا تصلح كل الأعراف البلاغية المتداولة لتفسير القرآن...
قال عز من قائل:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل : 81]
زعموا أن في قوله تعالى " وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ " وجها من وجوه بلاغة الحذف يسمونه (الاكتفاء)، ومعناه عدم ذكر أمر اكتفاء بالمذكور الذي يدل على المحذوف (كما هو الشأن في الاحتباك مثلا) وهكذا فالآية أصلها عندهم : (سرابيل تقيكم الحر وتقيكم البرد) وطوي عجز العبارة لإشارة صدرها إليه على سبيل الاكتفاء.
قلت لو كان في الآية اكتفاء لأتاها الباطل !
وقبل تفصيل ذلك نجادلهم بلاغيا أولا:
لو كان في الآية مذكور ومحذوف – كما زعموا - لكان الأولى بلاغيا ذكر المحذوف وحذف المذكور، فأهمية الثياب تظهر في زمن البرد لا في زمن الحر، والسياق كما هو ظاهرسياق ذكر النعم فيتعين ذكر النعمة الكبرى وطي الصغرى لا العكس....
وتحضرني بالمناسبة قصة من أدب الأمثال كتبها حكيم روسيا (تولستوي) – نسجا على منوال ابن المقفع- قال:
اختصمت الشمس والريح عند رؤيتهما قرويا يسير متلفعا في ثيابه أيهما أقدر على تجريده منها ، ظنت الريح من غرورها أنها منتصرة بلا ريب لكن ظنها خاب، فالرجل كان يزداد تمسكا بمعطفه كلما عصفت الريح لتنزعه عنه ...وشدة تمسكه تتناسب طردا مع قوة هبوبها...ثم قالت للشمس بعد ما مسها اليأس: "أريني أنت كيف ستفعلين..."
لم تفعل الشمس شيئا بالرجل إلا أنها زادت من حرارتها ، فلما عرق الرجل خلع معطفه من تلقاء نفسه! فانتصرت الشمس...
السرابيل قد تكون – إذن- مصدر عدم ارتياح في شدة الحر لكنها بالضرورة مفيدة في كل برد ، فذكرها في البرد أولى، لكن الآية لم تذكر ذلك لأن السرابيل – بكل بساطة - لا تقي البرد ، فالبرد أمر عدمي ولا يمكن للشيء أن يتقي عدم شيء!
ولما كان البرد عدميا – أي عدم الحرارة- فلم يكن بالإمكان قياسه ،وإنما تقاس الحرارة فيقال ثلاثون درجة أو عشرون، وعند الصفر يستمرون في قياس الحرارة بالأعداد السلبية ، فلا ترتفع درجة البرودة حينئذ وإنما تنخفض درجة الحرارة ، إلى أن تصل إلى درجة نظرية سموها (الصفر المطلق) حيث تنعدم كل حرارة...
والبرد كالسكون، وإنما تقاس كمية الحركة وشدتها أما السكون فلا تفاوت فيه فليس في العدم تفاوت ولا تفاضل .
لم يقل عالم الغيب والشهادة( تقيكم البرد ) لأن السرابيل لا تقي إلا من الحر فما قيل عن وجه الاكتفاء هنا فهو باطل...
ووقاية الحر تكون على وجهين:
- وقاية الحر الداخلي بمنعه من التسرب إلى الخارج . فمن المعلوم أن في جسم الإنسان حرارة طبعية تقدر ب 37 درجة ( حرارة الجسم العادية تضاهي حرارة يوم صيفي قائظ !) والثياب لا تدفيء الجسد - كما يعتقد كثير من الناس- بل إن الجسد هو الذي يدفئها ، فليس في القطن والصوف مولد للطاقة فيزود بها الجسد بل إن حرارة الصوف مستمدة من الجسد نفسه وعندما يفقد البدن حرارته لا ينفع قطن ولا صوف ولو تدثر بعشر قطع منها وسيظل البدن يرتجف، هل تدرون لماذا يرتجف ؟
يرتجف لتحتك العضلات بعضها ببعض فتتولد الحرارة من جراء ذلك الاحتكاك ويتم تزويد البدن بما يحتاجه من طاقة ...يحدث هذا كله بدون اختيار الإنسان وإرادته، لكنه تقدير العليم الخبيرالذي خلق فسوى!
وبعد ذلك يأتي دور الصوف ليمنع تسرب حرارة لم يكن له لينتج منها شيئا....وما يقال عن كون بعض الثياب أدفأ من بعض لا يعني أن بعضها يولد الحرارة أكثر من بعض بل يعني أن تركيبة أليافها كيمياويا تتفاوت في القدرة على منع الحرارة من التسرب...
- الوجه الثاني من وقاية الحر هو منع الإشعاعات الخارجية من غزو الجسد ، فيكون للثياب هذا الدور المزدوج في الوقاية : منع الحرارة الداخلية من التسرب ومنع الحرارة الخارجية من الاقتحام...
ولعل أكثر شيء شدني في الآية هو تعدي فعل (وقى) بنفسه فلم يقل( يقيكم من الحر) بل قال (يقيكم الحر) فلو قال( يقيكم من الحر) لدل على الوجه الثاني فقط ولم يدل على الوجه الأول... فلا معنى ل( يقيكم من حرارتكم الداخلية ) بل يقيها - أي يحفظها من التسرب والضياع - فبحذف حر الجر توسع المعنى وكانت الآية أصدق مع الواقع...
ثم ذكرت الآية الوقاية الأخرى للسرابيل: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ....جاءت (البأس) معرفة بالإضافة ولم تأت معرفة ب(اللام) كما قال عن (الحر) قبلها، فهل في هذا إشارة خفية إلى أن( اللام) في (الحر) بدل عن الإضافة وفاء بحق التناسب والاتساق:( سرابيل تقيكم حركم وسرابيل تقيكم بأسكم ) وعندئذ يكون القرآن قد أشار إلى ما بيناه من وهم الناس حول دفء الثياب....
... قرآنا عجبا!!
خلاصة المسألة تقرير قاعدة عامة:
لا وجه بلاغي على حساب الصدق في كتاب الله.
سنخصص - بإذن الله ثم بحسب ما تيسر من وقت – هذا المكان لنقد كثير من الوجوه في البلاغة الموروثة ، وننبه أنه لن يكون نقدنا منهجيا وإنما سنقتصر على ذكر لمع وشذرات متفرقة، ثم نقترح وجوها جديدة غفل عنها إرثنا البلاغي. لكن قصدنا الأول هو التدبر العملي التطبيقى، وما النقد والاقتراح إلا من باب الذريعة، يشهد الله أنا سئمنا من التنظير والمنظرين ونريد أن نتدبر كلام الله بلا واسطة لا أن نتدبر كلام من تدبر القرآن!
- الصدق قبل البلاغة
لا تعارض بين الكذب والبلاغة في الدرسين البلاغي والأدبي الموروثين،ولهم مقولتهم المشهورة "أعذب الشعرأكذبه" فلا حرج إذن في الجمع بين الكذب والبلاغة، بل هو مندوب إليه كما هو مدلول ظاهر مقولتهم!
وزعم السيوطي أن القرآن لو خلا من المجاز لخلا من شطر الجمالـ ، والمجاز عند منكريه كذب ، فها أنت ترى طيف مقولة "أعذب الكلام أكذبه" يكاد يحوم حول القرآن....
ولما كانت مقولة "أعذب الشعرأكذبه" صادمة لفطرة الإنسان فقد حاول أنصارها درء الصدمة بتبنيهم مذهب الفصل بين الأدب والأخلاق، وروج المعاصرون منهم لمصطلح ابتدعوه: (الصدق الفني)
وقالوا إن الشاعر غير محاسب على الصدق الخلقي أو المنطقي ولكن يحاسب على الصدق الفني ، بعبارة أخرى ليس الشأن في أن يطابق قول الشاعر الواقع ولكن الشأن في أن يطابق إحساسه ، فلو قال " الشمس سوداء" لكان صادقا فنيا لأنه كذلك يشعر بها وكذلك يراها!
بلاغة الكذب هذه لا شأن لها بالقرآن....ولا شأن للقرآن بالمبالغة أيضا فإن كان ذوق الناس يبتهج لمثل قول القائل :
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فإن مثل هذا القول ،وما نسج على منواله ، يتنزه عنه كلام الله ... ومن ثم لا تصلح كل الأعراف البلاغية المتداولة لتفسير القرآن...
قال عز من قائل:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل : 81]
زعموا أن في قوله تعالى " وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ " وجها من وجوه بلاغة الحذف يسمونه (الاكتفاء)، ومعناه عدم ذكر أمر اكتفاء بالمذكور الذي يدل على المحذوف (كما هو الشأن في الاحتباك مثلا) وهكذا فالآية أصلها عندهم : (سرابيل تقيكم الحر وتقيكم البرد) وطوي عجز العبارة لإشارة صدرها إليه على سبيل الاكتفاء.
قلت لو كان في الآية اكتفاء لأتاها الباطل !
وقبل تفصيل ذلك نجادلهم بلاغيا أولا:
لو كان في الآية مذكور ومحذوف – كما زعموا - لكان الأولى بلاغيا ذكر المحذوف وحذف المذكور، فأهمية الثياب تظهر في زمن البرد لا في زمن الحر، والسياق كما هو ظاهرسياق ذكر النعم فيتعين ذكر النعمة الكبرى وطي الصغرى لا العكس....
وتحضرني بالمناسبة قصة من أدب الأمثال كتبها حكيم روسيا (تولستوي) – نسجا على منوال ابن المقفع- قال:
اختصمت الشمس والريح عند رؤيتهما قرويا يسير متلفعا في ثيابه أيهما أقدر على تجريده منها ، ظنت الريح من غرورها أنها منتصرة بلا ريب لكن ظنها خاب، فالرجل كان يزداد تمسكا بمعطفه كلما عصفت الريح لتنزعه عنه ...وشدة تمسكه تتناسب طردا مع قوة هبوبها...ثم قالت للشمس بعد ما مسها اليأس: "أريني أنت كيف ستفعلين..."
لم تفعل الشمس شيئا بالرجل إلا أنها زادت من حرارتها ، فلما عرق الرجل خلع معطفه من تلقاء نفسه! فانتصرت الشمس...
السرابيل قد تكون – إذن- مصدر عدم ارتياح في شدة الحر لكنها بالضرورة مفيدة في كل برد ، فذكرها في البرد أولى، لكن الآية لم تذكر ذلك لأن السرابيل – بكل بساطة - لا تقي البرد ، فالبرد أمر عدمي ولا يمكن للشيء أن يتقي عدم شيء!
ولما كان البرد عدميا – أي عدم الحرارة- فلم يكن بالإمكان قياسه ،وإنما تقاس الحرارة فيقال ثلاثون درجة أو عشرون، وعند الصفر يستمرون في قياس الحرارة بالأعداد السلبية ، فلا ترتفع درجة البرودة حينئذ وإنما تنخفض درجة الحرارة ، إلى أن تصل إلى درجة نظرية سموها (الصفر المطلق) حيث تنعدم كل حرارة...
والبرد كالسكون، وإنما تقاس كمية الحركة وشدتها أما السكون فلا تفاوت فيه فليس في العدم تفاوت ولا تفاضل .
لم يقل عالم الغيب والشهادة( تقيكم البرد ) لأن السرابيل لا تقي إلا من الحر فما قيل عن وجه الاكتفاء هنا فهو باطل...
ووقاية الحر تكون على وجهين:
- وقاية الحر الداخلي بمنعه من التسرب إلى الخارج . فمن المعلوم أن في جسم الإنسان حرارة طبعية تقدر ب 37 درجة ( حرارة الجسم العادية تضاهي حرارة يوم صيفي قائظ !) والثياب لا تدفيء الجسد - كما يعتقد كثير من الناس- بل إن الجسد هو الذي يدفئها ، فليس في القطن والصوف مولد للطاقة فيزود بها الجسد بل إن حرارة الصوف مستمدة من الجسد نفسه وعندما يفقد البدن حرارته لا ينفع قطن ولا صوف ولو تدثر بعشر قطع منها وسيظل البدن يرتجف، هل تدرون لماذا يرتجف ؟
يرتجف لتحتك العضلات بعضها ببعض فتتولد الحرارة من جراء ذلك الاحتكاك ويتم تزويد البدن بما يحتاجه من طاقة ...يحدث هذا كله بدون اختيار الإنسان وإرادته، لكنه تقدير العليم الخبيرالذي خلق فسوى!
وبعد ذلك يأتي دور الصوف ليمنع تسرب حرارة لم يكن له لينتج منها شيئا....وما يقال عن كون بعض الثياب أدفأ من بعض لا يعني أن بعضها يولد الحرارة أكثر من بعض بل يعني أن تركيبة أليافها كيمياويا تتفاوت في القدرة على منع الحرارة من التسرب...
- الوجه الثاني من وقاية الحر هو منع الإشعاعات الخارجية من غزو الجسد ، فيكون للثياب هذا الدور المزدوج في الوقاية : منع الحرارة الداخلية من التسرب ومنع الحرارة الخارجية من الاقتحام...
ولعل أكثر شيء شدني في الآية هو تعدي فعل (وقى) بنفسه فلم يقل( يقيكم من الحر) بل قال (يقيكم الحر) فلو قال( يقيكم من الحر) لدل على الوجه الثاني فقط ولم يدل على الوجه الأول... فلا معنى ل( يقيكم من حرارتكم الداخلية ) بل يقيها - أي يحفظها من التسرب والضياع - فبحذف حر الجر توسع المعنى وكانت الآية أصدق مع الواقع...
ثم ذكرت الآية الوقاية الأخرى للسرابيل: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ....جاءت (البأس) معرفة بالإضافة ولم تأت معرفة ب(اللام) كما قال عن (الحر) قبلها، فهل في هذا إشارة خفية إلى أن( اللام) في (الحر) بدل عن الإضافة وفاء بحق التناسب والاتساق:( سرابيل تقيكم حركم وسرابيل تقيكم بأسكم ) وعندئذ يكون القرآن قد أشار إلى ما بيناه من وهم الناس حول دفء الثياب....
... قرآنا عجبا!!
خلاصة المسألة تقرير قاعدة عامة:
لا وجه بلاغي على حساب الصدق في كتاب الله.