محمد محمود إبراهيم عطية
Member
اختلف في نجاسة الخمر على قولين :
الأول : أنها نجسة ، وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، وهو مذهب الظاهرية ، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والشيخ عبد العزيز بن باز ، رحم الله الجميع .
الثاني : أنها طاهرة ، نقله القرطبي عن ربيعة الرأي ، والليث بن سعد ، والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين ؛ واختار هذا القول من المتأخرين : الصنعاني ، والشوكاني ، وأحمد شاكر .
قال القرطبي - رحمه الله : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها .
وخالفهم في ذلك ربيعة ، والليث بن سعد ، والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين ، فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها ؛ وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة ؛ قال : ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، ولنهى رسول الله e عنه كما نهى عن التخلي في الطرق .
والجواب ، أن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها ، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم ؛ وقالت عائشة - رضي الله عنها : إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت ، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور ؛ وأيضًا فإنه يمكن التحرز منها ، فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها ؛ هذا ، مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها ، وأنه لا ينتفع بها ، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك ؛ والله أعلم .
فإن قيل : التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه ، ولا يلزم من كون الشيء محرمًا أن يكون نجسًا ، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس ، قلنا : قوله تعالى : ] رِجْسٌ [ يدل على نجاستها ، فإن الرجس في اللسان النجاسة ، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة ، فإن النصوص فيها قليلة ؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك ؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والاقيسة .ا.هـ .
استدل الجمهور على نجاستها بقوله تعالى: ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ .
ودلالة الآية من وجهين ؛ الأول : أن الله تعالى سمى الخمر رجسًا ، والرجس يقع على الشيء المستقذر النجس ، والنجس حرام ، وقد سمى الله تعالى النجاسات من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجسًا .
الثاني : أن الله تعالى قال : ] فَاجْتَنِبُوهُ [ ، وهذا يفيد اجتناب الخمر من كل وجه ، فلا يجوز شربها ، ولا بيعها ، ولا تخليلها ، ولا المداواة بها ، ولا غير ذلك .
كما استدلوا بما روى أبو داود عَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ t أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ ، وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا " وقوله : " فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ " أي : اغسلوها ؛ فأمرهم ألا يستعملوها إلا إذا لم يجدوا غيرها ، بعد أن يغسلوها ، والأمر بغسلها دليل نجاستها ، ولو كانت طاهرة لم يأمرهم e بغسلها .
وقد سئل e عن الخمر تتخذ خلاً فقال : " لا " ؛ ولو لم تكن نجسة لسمح e بمعالجتها حتى تصير خلاً ، فتطهر بذلك .
ونجاسة الخمر متفق عليها عند الأئمة الأربعة ، فهي نجسة العين ، أما إذا تخللت بذاتها ، وتحولت العين من عين خمرية إلى عين الخل فتطهر ، وكما يقولون : تغيرت الماهية فتغير الحكم ؛ لأن نجاستها كانت معلولة بالتخمير ، فما دامت مخمرة مسكرة فهي نجسة ، فإذا ذهبت عنها صفة الخمرية والإسكار رجعت إلى الأصل ، فصارت طاهرة .
والذي يظهر - والله أعلم - القول بنجاسة الخمر ، لقوة أدلة القائلين بذلك ، ولا سيما حديث أبي ثعلبة ؛ ولأن القول بنجاستها مما يعين على إتلافها وعدم إبقائها ، بخلاف ما لو قيل بطهارتها ، فإنه قد يُتساهل في إبقائها والابتعاد عنها .
وأما من قال بطهارتها فليس له دليل سوى إراقة الخمر في شوارع المدينة، وهذا لا ينهض دليلاً على الطهارة ؛ لأنه لم يكن للصحابة رضي الله عنهم مجارٍ تحت الأرض لتصريف الفضلات، وإخراجها خارج المدينة فيه بعض الحرج، ولأن الخمر التي أريقت ليست من الكثرة بمكان حتى تعم جميع الطرق، بحيث لا يبقى للمارة طريق يمشون فيه، ثم إن الطرق التي أريقت فيها الخمر ليست مواضع للصلاة، بل هي مواضع للاستطراق، وعلى فرض أنه يشق الاحتراز منها فربما وطئها المار، فنقول: إذا وطئها فإن رجله أو نعله يطهره ما بعده من الأرض الطاهرة ـ كما ثبت في السنة ـ بل قد يقال: إن هذا الدليل دليل على النجاسة؛ لأن الطاهر لا يراق في الشوارع، وإنما ينتفع به في أي وجه من وجوه الانتفاع . هذا ، والعلم عند الله تعالى .
الأول : أنها نجسة ، وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، وهو مذهب الظاهرية ، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والشيخ عبد العزيز بن باز ، رحم الله الجميع .
الثاني : أنها طاهرة ، نقله القرطبي عن ربيعة الرأي ، والليث بن سعد ، والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين ؛ واختار هذا القول من المتأخرين : الصنعاني ، والشوكاني ، وأحمد شاكر .
قال القرطبي - رحمه الله : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها .
وخالفهم في ذلك ربيعة ، والليث بن سعد ، والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين ، فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها ؛ وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة ؛ قال : ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، ولنهى رسول الله e عنه كما نهى عن التخلي في الطرق .
والجواب ، أن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها ، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم ؛ وقالت عائشة - رضي الله عنها : إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت ، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور ؛ وأيضًا فإنه يمكن التحرز منها ، فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها ؛ هذا ، مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها ، وأنه لا ينتفع بها ، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك ؛ والله أعلم .
فإن قيل : التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه ، ولا يلزم من كون الشيء محرمًا أن يكون نجسًا ، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس ، قلنا : قوله تعالى : ] رِجْسٌ [ يدل على نجاستها ، فإن الرجس في اللسان النجاسة ، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة ، فإن النصوص فيها قليلة ؛ فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك ؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والاقيسة .ا.هـ .
استدل الجمهور على نجاستها بقوله تعالى: ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ .
ودلالة الآية من وجهين ؛ الأول : أن الله تعالى سمى الخمر رجسًا ، والرجس يقع على الشيء المستقذر النجس ، والنجس حرام ، وقد سمى الله تعالى النجاسات من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجسًا .
الثاني : أن الله تعالى قال : ] فَاجْتَنِبُوهُ [ ، وهذا يفيد اجتناب الخمر من كل وجه ، فلا يجوز شربها ، ولا بيعها ، ولا تخليلها ، ولا المداواة بها ، ولا غير ذلك .
كما استدلوا بما روى أبو داود عَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ t أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : إِنَّا نُجَاوِرُ أَهْلَ الْكِتَابِ ، وَهُمْ يَطْبُخُونَ فِي قُدُورِهِمُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَشْرَبُونَ فِي آنِيَتِهِمُ الْخَمْرَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا " وقوله : " فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ " أي : اغسلوها ؛ فأمرهم ألا يستعملوها إلا إذا لم يجدوا غيرها ، بعد أن يغسلوها ، والأمر بغسلها دليل نجاستها ، ولو كانت طاهرة لم يأمرهم e بغسلها .
وقد سئل e عن الخمر تتخذ خلاً فقال : " لا " ؛ ولو لم تكن نجسة لسمح e بمعالجتها حتى تصير خلاً ، فتطهر بذلك .
ونجاسة الخمر متفق عليها عند الأئمة الأربعة ، فهي نجسة العين ، أما إذا تخللت بذاتها ، وتحولت العين من عين خمرية إلى عين الخل فتطهر ، وكما يقولون : تغيرت الماهية فتغير الحكم ؛ لأن نجاستها كانت معلولة بالتخمير ، فما دامت مخمرة مسكرة فهي نجسة ، فإذا ذهبت عنها صفة الخمرية والإسكار رجعت إلى الأصل ، فصارت طاهرة .
والذي يظهر - والله أعلم - القول بنجاسة الخمر ، لقوة أدلة القائلين بذلك ، ولا سيما حديث أبي ثعلبة ؛ ولأن القول بنجاستها مما يعين على إتلافها وعدم إبقائها ، بخلاف ما لو قيل بطهارتها ، فإنه قد يُتساهل في إبقائها والابتعاد عنها .
وأما من قال بطهارتها فليس له دليل سوى إراقة الخمر في شوارع المدينة، وهذا لا ينهض دليلاً على الطهارة ؛ لأنه لم يكن للصحابة رضي الله عنهم مجارٍ تحت الأرض لتصريف الفضلات، وإخراجها خارج المدينة فيه بعض الحرج، ولأن الخمر التي أريقت ليست من الكثرة بمكان حتى تعم جميع الطرق، بحيث لا يبقى للمارة طريق يمشون فيه، ثم إن الطرق التي أريقت فيها الخمر ليست مواضع للصلاة، بل هي مواضع للاستطراق، وعلى فرض أنه يشق الاحتراز منها فربما وطئها المار، فنقول: إذا وطئها فإن رجله أو نعله يطهره ما بعده من الأرض الطاهرة ـ كما ثبت في السنة ـ بل قد يقال: إن هذا الدليل دليل على النجاسة؛ لأن الطاهر لا يراق في الشوارع، وإنما ينتفع به في أي وجه من وجوه الانتفاع . هذا ، والعلم عند الله تعالى .