هذه مقالة حول كتاب المجاز ، كنت قرأتها قديماً في موقع المجلة ، ثم لما رأيت هذا السؤال بحثت عنها فلم أوفق ، ثم قام الأخ الكريم نايف الزهراني وفقه الله بوضعها على هيئة ملف مرفق، فأحببت وضعها برمتها هنا ، ليطلع عليها الجميع مع شكري لأخي أبي بيان .
[align=center]كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة ـــ أ.بهاء الدين عبد الله الزهوري[/align]
[align=center]مجلة التراث العربي - العدد 81 - 82 [/align]
يذكر المؤرخون أن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب، أحد كتَّاب الفضل بن الربيع، سأل أبا عبيدة عن معنى آية من القرآن، فأجاب عن السؤال واعتزم أن يؤلف (مجاز القرآن)(1). ونقل الرواة أن أول ما يطالعنا في آخر القرن الثاني الهجري من دراسات القرآن الكريم، الدراسات اللغوية لأسلوب القرآن، وكان أولها كتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة (2) معمر بن المثنى (110-209)هـ. ومهما يكن الداعي إلى تأليف هذا الكتاب، فقد كان أبو عبيدة يرى أن القرآن نص عربي، وأن الذين سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة لم يحتاجوا إلى السؤال عن معانيه، لأنهم كانوا في غنى عن السؤال ما دام القرآن جارياً على سنن العرب في أحاديثهم ومحاوراتهم، وما دام يحمل كل خصائص الكلام العربي؛ من زيادة وحذف وإضمار واختصار وتقديم وتأخير(3).
وكتاب المجاز يمثل التيار اللغوي للتفسير، وتوجد به بعض آثار البحث البياني -الذي اتسع من بعد- وهو مهم من هذه الناحية، لأنه يحدد أيضاً بدء الدراسات النقدية من دراسات القرآن نفسها، وسنتناول الكتاب ببعض التفصيل.
تحليل الكتاب :
يحسن بنا أن نقف وقفة قصيرة أمام مجهود أبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن)، لاعتبارات كثيرة، أحدها أنه أول دراسة تصلنا في هذا الميدان اللغوي في القرآن، وثانيهما أنه يعتبر مرحلة أولية من مراحل تطور النقد والدراسات البيانية لأسلوب القرآن، وفي تطور الأدب العربي عامة، وثالثها أن هذا الكتاب كان مرجعاً لكثير من الدراسات اللغوية والأدبية التي تلت، لأن الرجل علم من أعلام اللغة والأدب في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ولا يصح إغفال إنتاجه في دراسة متعلقة بالقرآن الكريم.
يقدم أبو عبيدة لكتابه بمقدمة في بحوث لغوية عامة في القرآن، يبدؤها ببحث كلمة (قرآن)، وله رأي خاص في اشتقاق هذه الكلمة ينقله عنه المتأخرون، وهو قوله: إنما سمي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من القرآن، قال الله جل ثناؤه: (إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ( [القيامة: 75/17]. ويستشهد عليه من كلام العرب(4).
وبعد أن ينتهي من تلك المقدمة العامة، التي رسم فيها منهجه، ووضع فكرته التي دار عليها الكتاب، يبدأ بتناول السور والآيات تناولاً تنازلياً، يبدأ بسورة الفاتحة. ويتبع في تفسيره نظاماً لا يحيد عنه، نلخصه فيما يلي:
1-يبدأ بشرح الآية بآية أخرى ما أمكن.
2-يتبعها بحديث في المعنى نفسه.
3-ثم يتبعها بالشاهد الشعري القديم، أو بكلام العرب الفصيح، كالخطب والأمثال والأقوال المأثورة. ويحرص أبو عبيدة على أن يؤكد دائماً صلة أسلوب القرآن وفنون التعبير فيه بأساليب العرب وفنونهم، فيذكر دائماً في ختام كلامه أن (العرب تفعل هذا).
فكرة المجاز واستعمال اللفظ عند أبي عبيدة :
كان أبو عبيدة يدير لفظ (مجاز) على أمر في نفسه، وأنه التزم فكرة بعينها كانت تشغل ذهنه، فلم تكن هذه الكلمة تعبر عن مدلول كلمة تفسير، أو كلمة معنى بصفة مطلقة، وهذا لا ينفي إطلاقها أحياناً في ذلك المعنى. فكان أبو عبيدة يستعمل في تفسيره للآيات هذه الكلمات: (مجاز كذا)، و (تفسيره كذا)، و(معناه كذا)، و(غريبه)، و(تقديره)، و(تأويله) على أن معانيها واحدة أو تكاد، ومعنى هذا أن كلمة (المجاز) عنده عبارة عن الطرق التي يسلكها القرآن في تعبيراته، وهذا المعنى أعم بطبيعة الحال من المعنى الذي حدده علماء البلاغة لكلمة (المجاز) فيما بعد.
وجاز في اللغة بمعنى قطع جوز الفلاة، والمجازاة الطريقة، والمادة ومشتقاتها تعني الانتقال بوجه عام، ومنه التجوز في الشيء، الترخص فيه. وعلى هذا المعنى بنى أبو عبيدة فهمه لكلمة مجاز، ويقصد(5):
1-الانتقال في التعبير من وجه لآخر:
كالانتقال في التشبيه من وجه الشبه المعروف إلى وجه آخر غير معروف، أو مألوف. كما في قوله تعالى: (إنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِين) [الصافات: 37/64-65]. وعلى أساس أن هذا الانتقال من تعبير قريب إلى تعبير بعيد غير معهود لغير العربي الأصيل. يرى أبو عبيدة أن في أسلوب القرآن مجازاً، وانتقالاً على طريقة العرب في الانتقال، أو الرخصة في التعبير.
وقد صرح أبو عبيدة في أن العرب لم يكونوا في حاجة إلى مثل كتابه لفهم المجاز في القرآن. لأنهم أعرف بفنون القول في لغتهم، ومن ثم في القرآن الذي جاء على أصول هذه اللغة عربياً مبيناً. فالفكرة التي تراود أبا عبيدة وهو يؤلف كتابه، كانت مدرسية، يحاول أن يضع أمام طبقة المستعربين صوراً من التعبير في القرآن، وما يقابله من التعبير في الأدب العربي شعراً ونثراً، ويبين ما فيها من التجاوز أو الانتقال من المعنى القريب أو التركيب المعهود للألفاظ والعبارات إلى معان أخرى اقتضاها الكلام.
فكلمة مجاز عنده إذاً ليست مجرد مقابل لكلمة تفسير، ولكي نثبت هذا نحب أن نعطي فكرة عامة عن دوران معنى الكلمة ليتضح الأمر.
(أ)قد يكون التحول في مدلول الكلمة لغوياً:
قد يتحول المعنى من مدلول صيغة إلى مدلول صيغة أخرى، من المصادر إلى الصفات، مثل قوله تعالى: (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ( [البقرة: 2/177]، يقول: فالعرب تجعل المصادر صفات، فمجاز البر هنا مجاز الصفة لمن آمن بالله. وقد يتحول مدلول الفاعل إلى المفعول، أو العكس، مثل قوله تعالى: ( ما إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ( [القصص: 28/76] والعصبة هي التي تنوء بالمفاتح. ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل، قوله تعالى: ( كَمَثَلِ الَّذي يَنعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ( [البقرة: 2/171] والمعنى على الشاة المنعوق بها، وحوَّل على الراعي الذي ينعق بالشاة. والأمثلة كثيرة على ذلك.
ومنه أيضاً تحول مدلول الأدوات والحروف، يقول: ومن مجاز الأدوات اللواتي لهن معان في مواضع شتى، فتجيء الأداة تتفق في بعض تلك المعاني، قال تعالى: ( أَنْ يَضْرِبَ مثلاً ما بعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا( [البقرة: 2/26] معناه فما دونها، وفي قوله تعالى: ( والأرضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاها( [النازعات: 79/30] ومعناها مع ذلك.
(ب)الانقلاب في المدلول إلى الضد:
فقد ينقلب معنى وراء إلى قدام، في قوله تعالى: (مِنْ وَرَائِهِمُ جَهَنَّمُ( [الجاثية: 45/10] مجازه قدامه وأمامه، يقال إن الموت من ورائك أي قدامك.
(ج)التغير في الصيغة:
بزيادة في الحروف كأن يكون مدلول مَطَرَ غير مدلول أَمْطَرَ في تفسيره لقوله تعالى: (فأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجَرَةً مِنَ السَّماءِ( [الأنفال: 8/32] مجازه أن كل شيء من العذاب فهو أمطرت بالألف، وإن كان من الرحمة فهو مَطَرت.
(د)التغير في مدلول الاستفهام:
ففي قوله تعالى: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا( [البقرة: 2/30] جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربها، وقد قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ( ولكن معناها الإيجاب أي أنك ستفعل، وقال جرير فأوجب ولم يستفهم:
[align=center]أَلَسْتُم خيرَ مَنْ رَكِبَ المطَايَا * وأنْدى العَالمينَ بُطُونَ رَاحِ [/align]
ويهتم أبو عبيدة في مواضع كثيرة بصيغة أفعل في القرآن، مثل قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه( [الروم: 30/27] مجازه مجاز ذلك هيِّن عليه، لأن أفعل يوضع موضع الفاعل. قال:
[align=center]لعَمْرُك ما أَدري وإِنِّي لأوْجَلُ *على أَيِّنا تَأْتي المنيَّةُ أَوَّلُ [/align]
إني لأوجل أي وجل، وفي الأذان: الله أكبر، الله أكبر. وهكذا قد تتغير صيغة التفضيل فتصبح مجرد فاعل.
2-ويتحول المعنى تحولاً بلاغياً:
وذلك على سبيل الإيضاح أو التأنق في التعبير والتفنن في القول، فتجري كلمة مجاز على مجموعة من المعاني اصطلح البلاغيون من بعد على إدراجها تحت تعريفات خاصة في علم البلاغة، ومن هذه التعريفات ما نشأ أو قوي في ظل القرآن والدراسات القرآنية الأولى ومنها هذا الكتاب. ومنها:
(أ)التقديم والتأخير: يذكره أبو عبيدة في المقدمة، فيقول: ومن مجاز المقدم والمؤخر، قوله تعالى: (فَإِذا أَنْزَلْنَا عَلَيْها المَاءَ اهتزَّتْ وَرَبتْ( [فصلت: 41/38] أراد ربت واهتزت، و قوله تعالى: ( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا( [النور: 24/40] لم يرها ولم يكد.
(ب)التشبيه، وأول ما ترد هذه الكلمة على لسان أبي عبيدة في كتاب المجاز، عند شرحه لقوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ( [البقرة: 2/223] كناية وتشبيه.
(ج)التمثيل، وهو يعني عنده هنا التشبيه، أو تشبيه التمثيل، قال في تفسير قوله تعالى:
(على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ( مجاز هائر. ومجاز الآية: (أَفَمَنْ أَسِّسَ عَلَى تَقْوى من اللهِ وَرِضْوانٍ خَيرٌ مَنْ أُسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ( [التوبة: 9/109]. مجاز تمثيل لأن ما بناه على التقوى أثبت أساساً من البناء الذي بنوه على الكفر والنفاق، وهو على شفا جرف وهو ما يجرف من سيول الأودية، فلا يثبت البناء عليه(6).
ويجدر بنا أن ننبه إلى معرفة أبي عبيدة بالتشبيه والتمثيل لونين من ألوان التعبير، ولم يهتم في الآية بكلمة هائر وحدها بل اهتم بالصورة البيانية بتمامها. وفهمه للصورة البيانية بوجه عام لا يتعدى الفهم اللغوي، فهو يتعرض لكل الفنون البيانية المتعلقة بالأسلوب، ويعتبرها من المجاز اللغوي.
(د)الاستعارة: يطلق كلمة مجاز على معنى الاستعارة، مثل قوله في تفسير قوله تعالى:
(وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ( [الأنفال: 8/11] مجازه يفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم فيثبتون لعدوهم. وفي قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى( [الأنفال: 8/17] مجازه ما ظفرت، ولا أصبت ولكن الله أظفرك وأصاب بك ونصرك.
وكثير من الاستعارات والتشبيهات في القرآن تدخل نطاق الحرج لأنها تتعلق بالذات أو العقيدة، أو بصورة البعث. وموقف أبي عبيدة من هذه جميعاً موقف اللغويين، يأخذ بظاهر القول إلى أمد محدود غايته المعنى المجازي القريب، وهو المذهب الذي عرفوا به ولامهم عليه المعتزلة، ولكنه قد يعمد أحياناً إلى التحلل من التشبيه، ويدور حول بعض عبارات القرآن حتى لا تدخله في دائرة الحرج أو التجسيم، فيفسر قوله تعالى: (يَدُ الله مغلولةٌ) بقوله: أي خير الله.
(هـ)الكناية: ينص على الكناية في أكثر من موضع، والفعل كنى يستعمله بمعناه اللغوي أي أخفى أو أضمر، واستعماله للكلمة في الدلالة على فن من فنون الأسلوب، قريب من استعمال البلاغيين للدلالة على الاصطلاح البلاغي المعروف (الكناية). مثل قوله في الآية: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ( [البقرة: 2/223] كناية وتشبيه، وفي قوله: (أَوْ عَلَىْ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِط( [النساء: 4/43] كناية عن إظهار لفظ قضاء الحاجة من البطن، وكذلك قوله تبارك وتعالى: (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساءَ( [النساء: 4/43] كناية عن الغشيان، وكذلك -سوءاتهما- كناية عن فروجهما، وهذه كلها قريبة من الاستعمال البلاغي.
ويتعرض أبو عبيدة لنكت عامة في الأسلوب تأتي عرضاً في تفسيره، فيعرض للإيجاز والإطناب، ويشير إلى ما في بعض الآيات من الحذف، وما فيها من الزيادة، ومن الفنون البلاغية الأخرى التي التفت إليها، واعتبرها من المجاز (الالتفات) ويذكره في المقدمة. فيقول: ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد ثم تركت وحولت هذه إلى مخاطبة الغائب، قوله تعالى: (حتى إِذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ( [يونس: 10/22] أي بكم. والأمثلة على ذلك كثيرة في كتاب مجاز القرآن.
هذا بعض ما تنطوي عليه مرامي كلمة مجاز في كتاب أبي عبيدة، وهذه المعاني السابقة غالبة على غيرها من الاستعمالات، وخاصة استعمالها في معنى -تفسير- وقد تأتي بهذا المعنى في أحوال غير قليلة، كما يفسر قوله تعالى: (وَ لاَطَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالَكُمْ( [الأنعام: 6/38] قال: مجازه إلا أجناس، وقوله تعالى: (ما فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ( [الأنعام: 6/38] قال: مجازه ما تركنا ولا ضيعنا(7).
وخلاصة القول في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، أنه كان خطوة في سبيل الكلام في طرق القول، أو (المجاز) بمعناه العام، وقد حاول أبو عبيدة أن يكشف عن بعض ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن، مع مقارنته بما جاء في الأدب العربي، وساعد عليه محصوله اللغوي والأدبي الغزير فيهما.
وقد حددت هذه المحاولة؛ القول في بعض المسائل والمشكلات في أسلوب القرآن، والتي صارت فيما بعد مسائل البيان العربي عامة، كما أنها كانت ذات قيمة لغوية كبيرة أفادت بحوث اللغة.
وختاماً، يقول الجاحظ(8): (لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلم من أبي عبيدة) (9)، وكان له إلى هذه السعة في العلم نفاذ وعمق يتمثلان في قولهم عنه: (إنه كان ما يفتش عن علم من العلوم إلا كان من يفتشه عنه يظن أنه لا يحسن غيره، ولا يقوم بشيء أجود من قيامه به)(10).
وقد عاصر أبو عبيدة من علماء اللغة الأصمعي(11)، وأبا زيد(12) وكان بينهم من الخلاف مايكون بين المعاصرين، ولكن خلافهم هذا لم يصل إلى الريبة في الثقة بما يرويه كل واحد منهم، أو إلى الأنفة من الاعتراف بالحق لصاحبه حين يبدو وجه هذا الحق. ذلك لأنهم لم يكونوا يختلقون ولا يتزيدون. وكان الرواة والآخذون عنهم يرجحون أبا عبيدة إذا قاسوه بصاحبيه أو أحدهما(13). ولعل ملحظهم في هذا التفضيل أن أبا عبيدة كان له- إلى غزارة العلم -مرونة في فهم اللغة عند الأصمعي وأبي زيد، على أن أبا عبيدة وأبا زيد كانا يتفقان في كثير من مسائل اللغة(14).
الحواشي:
(1) مجاز القرآن أبو عبيدة: ، تحقيق: د.محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، ط(2) بيروت 1981م، 1/المقدمة.
(2)أبو عبيدة (110-209هـ/728-824م) معمر بن المثنى. في مقدمة العلماء الرواد في البصرة، عاصر الخليل والأصمعي وأبا زيد الأنصاري، واسع الاطلاع على أخبار العرب وأيامهم.
(3)مجاز القرآن، 1/المقدمة.
(4)المرجع السابق، 1/2.
(5) أثر القرآن في تطور النقد العربي د.محمد زغلول سلام: ، دار المعارف بمصر ط(2)، القاهرة 1961/، ص39.
(6)مجاز القرآن، 1/71.
(7)المرجع السابق، 1/82.
(8)الجاحظ (159-255هـ/775-868م) أبو عثمان، عمرو بن بحر. قمة في البيان والنثر الفني، وإمام في التأليف، ورأس من فرقة المعتزلة، ترك نحواً من 360 كتاباً.
(9) البيان والتبيين الجاحظ: ، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط(1) القاهرة 1950م، 1/347
(10) النوادر أبو زيد الأنصاري: ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1894م، ص51.
(11)الأصمعي: (122-231هـ/739-831م) أبو سعيد، عبد الملك بن قريب.. بن أصمع، علم بصري فذ في اللغة والرواية قوي الحافظة لأنساب العرب وأيامها وأخبارها وأرجازها، وله كتاب الأصمعيات في الشعر القديم.
(12)الأنصاري (119-215هـ/737-830م) أبو زيد، سعيد بن أوس بن ثابت. من أئمة البصريين في النحو واللغة والرواية، في منزلة الأصمعي وأبي عبيدة، موثق في علمه وروايته، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء.
(13) المزهر في علوم اللغة وأنواعها السيوطي: ، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وعلي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 2/402.
(14) جمهرة اللغة ابن دريد: ، ط حيدر آباد 1345هـ، 3/434.
من باب الفائدة :
الرواية المذكورة في قصة تأليف كتاب المجاز التي أشار إليها الكاتب فيها غرابة ، وتكاد ألا تكون صحيحة ، ومما يستأنس به في ردِّها أمران :
أولاً : أن أبا عبيدة أبان عن سبب تأليفه للمجاز ، وهما سببان :
الأول : أن الصحابة ومن بعدهم عرب يفهمون الخطاب العربي ، فلم يحتاجوا إلى أن يسألوا عنه ، بخلاف من جاء بعدهم ممن هو في حاجة إلى معرفة هذا الخطاب العربي .
الثاني : الرد على من يزعم أن في القرآن غير اللفظ العربي ( المعرَّب ) .
وهذان السببان قد نصَّ عليهما نصًّا واضحًا في مقدمة المجاز .
ثانيًا :أنه لم يذكر هذا السبب في مقدمة تفسيره ، كما لم يذكر تفسيرًا لهذه الآية أصلاً ، فكيف يغفل عن تفسير آية كانت هي سبب تأليف الكتاب ؟!
وهذا الكتاب ـ مع ما لاقى من معارضة ـ نفيس جدًّا في بابه ، وهو من أهمِّ كتب الشواهد اللغوية في التفسير ، ولإن كان يجوز القول في أن الناس عيال على فلان في كذا ، فالمفسرون واللغويون عيال على أبي عبيدة في باب الشاهد اللغوي الشعري .
والكتاب بحاجة إلى تحقيق جديد ، ودراسة علمية مستقصية لجوانب إفادة هذا الكتاب ، ومنزلته في التأليف في هذا الفنِّ ، ودراسة عصره اللغوي وما لأهلها من اللغويين من كتابات في غريب القرآن ومعانيه ، وأثره فيمن جاء بعده ، إلى غير ذلك .
والله الموفق .
وهذا بحث آخر بعنوان :
[align=center]أَبو عبَيْدة التّيمي منهجه ومذهبه في "مجَاز القرآن"[/align]
[align=center] لموفق السرّاج[/align]
[align=center]نشر بمجلة التراث العربي بدمشق -العدد 18 - ربيع الثاني 1405 [/align]
تمهيد:
أحب أن أشير في البداية إلى أن أهم نقطة يمكن أن يتعرض لها الباحثون في التراث العربي هي المنهج الذي كان يتبعه أصحاب تلك الأعمال التراثية الضخمة في مؤلفاتهم، هذا المنهج الذي يتخطى حدود الزمان والمكان، ويكشف عن التوجه العقلي الذي يصدر عنه الكاتب في كتاباته، وبالتالي يدل على مكانة العمل التراثي وصاحبه، والأثر الذي خلفه في عصره ومابعد عصره، ويجلو مذاهب المؤلفين من آثارهم. وذاك ما أبتغيه من هذه الدراسة فأعرض لكتاب "مجاز القرآن"، لأبي عبيدة مَعمر بن المثنى التيمي /110 ـ 210 هـ/ فأبين من خلال هذا الكتاب منهج مؤلفه ومذهبه لأنه أول كتاب و صلنا في عنوانه وموضوعه، وعندما ظهر في زمانه أحدث ضجة كبيرة في الأوساط العلمية المختلفة، ولكن أرى من الضرورة، قبل ذلك، أن أعرِّج على ما ألف في القرآن كي نعرف إلى أي لون من التفاسير القرآنية ينتمي كتاب المجاز هذا.
*ما ألف في القرآن:
قد يكون من نافلة القول أن نذكر بأن لوناً من ألوان التراث العربي لم يحظ بالعناية والدراسة والشرح والتمحيص مثل ما حظي به القرآن الكريم خاصة، والعلوم الشرعية عامة، منذ نزل القرآن على محمد (ص) ليكون مفسره الأول إلى الصحابة والتابعين والعلماء والدارسين في أصقاع متنوعة من عالم واسع عريض امتد من الصين والهند في أقصى المشرق، إلى مراكش والأندلس في أقصى المغرب، وحتى عصرنا هذا الذي ظهرت فيه ـ ولا تزال ـ دراسات وشروح وتفاسير مختلفة.
والناظر إلى المكتبة القرآنية يدرك مدى غناها بكتب التفسير، كما يلحظ ألواناً شتى للتفاسير، بسبب العصبيات المذهبية والسياسية والفكرية التي ينتمي إليها المفسرون، فكان ما يسمى بـ"التفسير بالمأثور"، أو "التفسير النقلي" الذي اعتمد فيه أصحابه على ما ورد في القرآن، وما جاء في الحديث الشريف، وأثر عن الصحابة والتابعين من تفسير للآيات.
ثم "التفسير بالرأي" أو "التفسير العقلي" الذي اتخذ من الرأي أو العقل والاجتهاد طريقاً له في الكشف عن غامض التنزيل. و"تفاسير الفرق الإسلامية المختلفة" ترجع في الحقيقة إلى التفسير بالرأي، لأن أصحابها لم يؤلفوها إلا لتأييد أهوائهم... ومن ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوفة... ويغلب على تفاسير المعتزلة الطابع العقلي والمذهب الكلامي... ولا ترد النصوص فيها إلا على أنها شيء ثانوي نادراً ما يلجؤون إليه لشرح معاني الآيات(1)، ويغلب على تفاسير المتصوفة الشطحات التي تبعدهم عن النسق القرآني، وتجعل كلامهم غامضاً إلا على المشتغل بالشؤون الروحية(2).
ويقرب من تفاسير المتصوفة ما يسمى بالتفسير الإشاري، وهو الذي تؤول به الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والخفي(3).
إلا أن من كتب التفسير ما أظهر عناية خاصة في جانب من جوانب القرآن، كالتوجيه الأعرابي أو البلاغي أو النظر في معاني مفردات القرآن، أو مجازه، أو في أقسامه، أو نظمه ونذكر من ذلك على سبيل المثال كتاب "مجاز القرآن"، لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 210 هـ)، وكتب "معاني القرآن"، للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة(4)، (ت 215هـ)، ويحيى بن زياد الفراء (5) (ت 207)، والزجاج (6) (ت 310 هـ)، وأبي جعفر النحاس (7) (ت 337)، وكتاب "أحكام القرآن"، لأبي بكر الجصاص (ت 370 هـ)، و"إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم"، لابن خالويه (ت 370 هـ)، وإعجاز القرآن"، للقاضي الباقلاني (ت 403هـ)، و"دلائل الإعجاز" للإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، وكتاب "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502 هـ)، ....الخ.
ولعل من دواعي كثرة الدراسات والتفاسير القرآنية أن هذا الكتاب قد بهر أرباب الفصاحة والبيان، وجعلهم عاجزين عن مجاراته بله الإتيان بآية من آياته، مما دفع علماء العربية إلى البحث عن أسباب إعجازه من جهة، واستنباط قواعد العربية النحوية واللغوية من خلال القراءات التي لم تعدُ وجوهاً فصيحة صحيحة لكلام العرب ولهجاتهم من جهة أخرى، فظهرت عن ذلك التفاسير اللغوية التي يلجأ فيها المفسر إلى اللغة، يستعين بها في تطبيق المنهاج الذي ارتضاه لنفسه والمذهب الذي يميل إليه. بيد أن الاعتماد على اللغة يختلف مقداره من مفسر إلى آخر، فمنهم من جعل كل اعتماده أو جله على اللغة، فقدموا إلينا كتب "معاني القرآن"، التي تنحو في التفسير منحى لغوياً ونحوياً وبلاغياً، وكتاب "مجاز القرآن" واحد منها، وإن اختلف عنها في التسمية، لأنه ينحو في التفسير منحى لغوياً.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن الحركة اللغوية عامة، و النحوية خاصة، بدأت أول ما بدأت، بدافع من الحرص على حفظ ألسن العرب من اللحن وتعليم الأعاجم، الذين دخلوا الإسلام أفواجاً، حسن قراءة القرآن "وكان القائمون على ذلك من قراء القرآن الذين ورثوا ألواناً من وجوه القراءات هي سابقة ولا شك على الاشتغال باللغة والنحو، فمن الطبيعي، والحالة هذه، أن يورثوها بدورهم تلاميذهم، وأن يحاول هؤلاء التلاميذ مع الزمن تأويلها وتعليلها حين بدأت تتكون مقومات البحث المنهجي العلمي"(8).
وكيلا نشعب القول ونظل في التعميم، نلقي المرساة في أواخر القرن الثاني الهجري فنرى أن "أول ما يطالعنا من دراسات القرآن الدراسات اللغوية والنحوية لأسلوب القرآن، أما اللغوية فيضطلع بها أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه "مجاز القرآن"، وأما النحوية فيضطلع بها أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء في كتابه "معاني القرآن"، (9)، وسوف نقف على الكتاب الأول ونفصل فيه القول لأن عليه مدار حديثنا.
*في مجاز القرآن:
كنت قد ذكرت أن هذا الكتاب ينضوي تحت ما ألف من كتب في "معاني القرآن" وإن اختلف عنها في التسمية، لأنه ينطلق ـ كما انطلقت هذه الكتب ـ في غاية واحدة هي الرجوع إلى أساليب العربية المستعملة، ومعرفة الطرق التي تسلكها في التعبير، ومن ثم فهم آي التنزيل التي نزلت على طريقة العرب.
وإذا كان كتاب الفراء "معاني القرآن"، يمثل المذهب الكوفي النحوي واللغوي فإن "مجاز القرآن"، لا يكاد يمثل مذهباً سوى الرأي المتحرر من القيود التي كانت المدرستان البصرية والكوفية تضعانها لفهم النصوص (10)، على أن صاحبه يعد من علماء البصرة.
ومع أن الكتاب قد وجدت فيه بعض آثار البحث البلاغي إلى أن الطابع اللغوي يكاد يطغى عليه حتى يوشك أن يكون كتاب لغة قبل أن يكون كتاب تفسير. و"يعد معاني القرآن للفراء دراسة مكملة ـ من الناحية اللغوية ـ لكتاب مجاز القرآن لأنه يبحث في التراكيب والإعراب، و"المجاز" يبحث في الغريب والمجاز، وكلتا الدراستين متعلقتان بالأسلوب، واختلفت دراسة الفراء هنا عن دراسة أبي عبيدة، وكان لهذا الخلاف أسبابه(11).
ولكن ما الدافع الذي جعل أبا عبيدة يؤلف كتاب المجاز، ويطلق عليه هذا الاسم؟، وفي أي وقت كان ذلك؟...
لقد ذكرت كتب التراجم سبب التأليف وزمنه من غير تحديد دقيق للسنة التي تم فيها ذلك. سوى ياقوت الحموي الذي حدد زمن تأليفه بسنة 188هـ، قال: "... قال أبو عبيدة: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه سنة 188 هـ، فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي، ودخلت وهو في مجلس له طويل عريض في بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي وهو جالس عليها... ثم دخل رجل في زي الكتَّاب له هيئة فأجلسه إلى جانبي. وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة. أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا. قال لي: إني كنت إليك مشتاقاً وقد سئلت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟... قلت: هات. قال: قال الله تعالى: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين(. وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف، فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
[align=center]أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي* ومسنونة زرق كأنياب أغوال [/align]
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل، واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، ولما يحتاج إليه من علم. فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز، وسألت عن الرجل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه يقال له إبراهيم بن اسماعيل بن داود الكاتب"(ص12).
وهذا الذي حكاه أبو عبيدة يلفتنا إلى أمور نرى من الفائدة ذكرها وهي التالية:
1 ـ أن أبا عبيدة ألف كتاب المجاز سنة 188 هـ، وهذا يعني أنه سابق لكتاب الأخفش الأوسط الذي اعترف بأنه أفاد منه في كتابه "معاني القرآن"، كما سيرد في حينه، كما أنه أسبق من كتاب الفراء الذي ألف مابين (202 ـ 204هـ).
2 ـ إن الدافع لتأليفه هو سؤال إبراهيم بن إسماعيل بن داود أحد كتاب الوزير الفضل بن الربيع، ولم يكن هذا الكاتب ممن عرفوا بالفصاحة والحذق وسعة الاطلاع على العربية ومذاهبها من أفواه أصحابها الذين ارتحل إليهم علماء العربية، فدرسوا اللغة عليهم في مواطنها، وإنما كان ـ فيما يبدو ـ ممن تعلم العربية تعلماً مدرسياً كما كانت تعلم في المدن، فعرف القواعد الدقيقة التي تنسرب اللغة فيها، من غير أن يدرك الأوجه المختلفة التي تستعمل فيها مفردات العربية التي تتمرد على كل القواعد الصارمة التي يجب أن تخضع لأحوال استعمال المفردات لا أن تخضع هذه المفردات لتلك القواعد(13)، التي كانت تدرس في مجالس النحاة واللغويين. "وغني عن البيان أن أي قاعدة نحوية أو لغوية تضيق دائماً عن إمكانات الواقع الحي للغة وثرائه، ويظل من يتعلم اللغة ولفترة طويلة جداً في حدود القواعد والحدود، دون أن يتجاوز ذلك إلى رحابة الأساليب الفنية للغة"(14).
"فالفكرة التي تراود أبا عبيدة وهو يؤلف كتابه كانت فكرة مدرسية، يحاول أن يضع أمام طبقة المستعربين صوراً من التعبير في القرآن وما يقابله من التعبير في الأدب العربي شعراً ونثراً ويبين ما فيها من التجاوز أو الانتقال من المعنى القريب أو التركيب المعهود للألفاظ والعبارات إلى معان وتراكيب أخرى اقتضاها الكلام. فكلمة مجاز عنده إذاً ليست مجرد مقابل لكلمة تفسير أو كلمة معنى بصفة مطلقة. وإن هذا لا ينفي إطلاقها أحياناً في ذلك المعنى".(15).
فهو قد سماه بـ"المجاز" انطلاقاً من هذا المعنى لأن "جاز الموضع جوزاً... ومجازاً... سار فيه وخلَّفه... والمجاز الطريق إذا قطع من أحد جانبيه إلى الآخر. وخلاف الحقيقة".(16).
والمجازة الطريقة، والمادة ومشتقاتها تعني الانتقال بوجه عام، ومنه التجوز في الشيء: الترخص فيه(17).
وقد وضح لنا مراده هذا منذ الصفحة الأولى وما تلاها عندما شرح معنى كلمة قرآن ولماذا سمي القرآن بهذا الاسم فقال:
"القرآن: اسم كتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء من سائر الكتب غيره، وإنما سمي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من القرآن. قال الله جلَّ ثناؤه: (إن علينا جمعه وقرآنه( [القيامة: 17]. مجازة: تأليف بعضه إلى بعض، ثم قال: (فإذا قرآناه فاتبع قرآنه( [القيامة: 18]. مجازه: فإذا ألقينا منه شيئاً فضممناه إليك فخذ به واعمل به وضمه إليك وقال عمرو بن كلثوم في هذا المعنى:
[align=center]ذراعي حرة أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا [/align]
أي لم تضم في رحمها ولداً قط... وفي آية أخرى: (فإذا قرأت القرآن( [النحل: 98]، مجازه: إذا تلوت بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه يصير إلى معنى التأليف والجمع"(18). ثم يأتي على معنى الفرقان ومجاز السورة فالآية (19) مما يتصل بمعارف عامة في القرآن، ثم يصرح بالدافع الذي جعله يؤلف كتابه فيبين أنه لم يضعه للعرب الفصحاء وإنما لعامة الناس ـ بما فيهم الأعاجم ـ الذين شعر أبو عبيدة بحاجتهم إلى فهم القرآن وإدراك معانيه، والإلمام بأساليبه الجارية على خصائص الكلام العربي من زيادة وإضمار وحذف واختصار وتقديم وتأخير وما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشاهد، وما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال: "فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي ( أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص....".(20)، ثم يضرب أمثلة مختلفة من القرآن على أنواع المجاز التي ذكرنا (21)، ثم يشرع بتفسير آيات من كل سورة بحسب ورودها في القرآن حتى يأتي على جميع السور(22).
ولعل هذا ما حدا أحد الباحثين على أن يعد أبا عبيدة في كتابه المجاز نحوياً رائداً تجاوز وقوف النحاة على حركات الإعراب وانشغالهم بها زمناً طويلاً ليتناول بحسه طرق التعبير، ويكشف من سر العربية ونظم تأليفها ما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابه. بيد أنه لم يكثر ما أكثر سيبويه وجماعته، ولم يتعمق ما تعمقوا، ولا أحاط إحاطتهم. ولكنه دل على سبيل تبصرة انصرف الناس عنها غافلين(23).
3 ـ وأما الأمر الثالث الذي يلفتنا إليه جواب أبي عبيدة فهو أنه يرد المثال القرآني الذي سئل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن عليها فيجعل من ذلك منهجاً له في الكتاب. ودليل ذلك أنه يقول:
"نزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن "طه" بالنبطية فقد أكبر، وإن لم يعلم ماهو، فهو افتتاح كلام وهو اسم للسورة وشعار لها. وقد يوافق اللفظ اللفظ ويقاربه ومعناهما واحد وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها. فمن ذلك الاستبرق بالعربية، وهو الغليظ من الديباج، والفِرِند، وهو بالفارسية استبره، وكَوز وهو بالعربية جوز، وأشباه هذا كثير". (24).
وفي ذلك طرف من القضية اللغوية الهامة التي أثارها القرآن على أقلام علماء العربية الذين انقسموا في ألفاظه بين فريق رافض لفكرة وجود أية ألفاظ غير عربية في القرآن معتمداً على تفسير لظاهر الآيات التي تعرضت للسان الذي جاء به التنزيل من مثل قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي((25). [فصلت:44]. وفريق آخر رأى أن العرب خالطوا سائر الألسنة فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن(26). وبين الرأيين رأي ثالث اتخذ منحى توفيقياً فقال بوجود كلمات يسيرة غير عربية دون أن تخرج القرآن عن عربيته(27).
وعلى هذا يكون أبو عبيدة من أصحاب الرأي الأول، وعليه بنى منهجه في الكتاب كله، بمعنى أنه يحاول شرح لفظ أو تركيب، ثم يستشهد على صحته بآية أو حديث في المعنى نفسه أو كلام العرب الفصيح، كالخطب والأمثال والأقوال المأثورة، وفي أغلب الأحيان بأبيات من الشعر القديم وخاصة الرجز منها، ويحرص دائماً على أن يؤكد صلة أسلوب القرآن بأساليب العرب، فيذكر في ختام كلامه أن "العرب تفعل هذا".
وبعد، فمجاز القرآن كتاب تمتزج فيه اللغة والبلاغة والنحو، وكذلك كان الأمر في تراثنا القديم، حيث كانت الدراسة البلاغية متداخلة مع الدراسة اللغوية في كتب النحاة الأوائل أمثال سيبويه حتى عده بعض الباحثين واضع علمي المعاني والبيان(28). ورأى أن أبا عبيدة في كتابه "مجاز القرآن"، لم يفعل أكثر من أنه سلك مسلك سابقيه من اللغويين من ربط النحو بالأساليب والتراكيب، على عكس ما فعل المتأخرون حيث قصروه على أنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء (29). وقد بينا ذلك حين تحدثنا عن المقصود بكلمة "مجاز".
على أن ذلك لا يمنع أن نرى في أبي عبيدة، نظرياً، رجل لغة أولاً، وبلاغة ثانياً، ونحو ثالثاً كفنان يلم بألوان الفن، ولكنه يبرع في رسم الوجوه وكشف ملامحها بأفضل من محاولته مع المناظر الطبيعية، ويتقن رسم الطبيعة بما لا يتوافر له مع اللوحات التجريدية.
أولاً: أبو عبيدة اللغوي:
لا يخفى على كل ذي نظر متأمل في كتاب "المجاز" أن صاحبه لغوي في المقام الأول، عليم بلغات العرب وغريبها، يوجه اهتمامه الأول عند التفسير إلى شرح ما يراه يستحق الشرح من مفردات القرآن، مستعيناً ببعض الآيات المماثلة أو فصيح الكلام، من غير أن يغفل الاستشهاد بالشعر القديم، وخاصة الرجز الممتلئ بأوابد اللغة وشواردها(30). وقد يحدد نوع الكلمة ووزنها(31)، وكثيراً ما يبدو ذا حس لغوي مرهف ومثال ذلك إدراكه فرق المعنى بين كسر العين وفتحها في كلمة "عوج" في الآية: (تبغونها عوجاً( [آل عمران: 99]. إذ يقول: مكسورة الأول لأنه في الدين، وكذلك في الكلام والعمل، فإذا كان في شيء قائم نحو الحائط، والجذع، فهو عوج مفتوح الأول (32)، ويستطرد في شرح مفردة لا علاقة لها بالآية، كان يشرح اسم صاحب الشاهد الشعري(33)، أو مفردة من الشاهد(34)، أو من كلامه، ويأتي لها بالشاهد مما يدل على تبحره باللغة فمن ذلك مثلاً شرحه الآية: (قاتلهم الله( [التوبة: 30]، قتلهم الله، وقلما يوجد فاعل إلا أن يكون العمل من اثنين، وقد جاء هذا ونظيره ونِظْره: عافاك الله، والمعنى أعفاك الله، وهو من الله وحده والنظر والنظير سواء مثل ندّ ونديد، قال:
[align=center]ألا هل أتى نظري مليكة أنني"(35). [/align]
وقد أشاد الطبري بهذا التفسير (36)، كما أقر في مواضع كثيرة من تفسيره ببصر أبي عبيدة بكلام العرب ونقل عنه (37)، وبعد ذلك يحق له أن يسن القواعد اللغوية (38)، وأن يكون له تفرده فيخالف غيره من العلماء في بعض أمور اللغة كالفراء والكسائي (39). ويكون له مذهب في التفسير (40).
وربما مر بتعليل حركة كلمة فقال: "زعم النحويون" (41)، وكأنه يقر أنه لغوي أولاً، واهتمامه بالنحو محدود لأنه يذكر رأيهم فلا يعلق عليه. ومما يؤكد ما نذهب إليه قول صاحب اللسان: "وقال الأزهري: أبو عبيدة صاحب بالغريب وأيام العرب وهو بليد النظر في باب النحو ومقاييسه".(42).
ثانياً: أبو عبيدة البلاغي:
لقد سبق وعرفنا أن تأليف كتاب المجاز كان بسبب مسألة بلاغية في القرآن، تتعلق بالتشبيه (طلعها كأنه رؤوس الشياطين( [الصافات: 65]، فلا غرابة أن نجد أن أبا عبيدة يهتم بإيضاح المسائل البيانية الموجودة في القرآن، ويجد لها ما يماثلها في كلام العرب وأساليبهم في التعبير، وقد صارت هذه المسائل فيما بعد مسائل في البيان العربي (43)، حتى وصل الأمر بالأستاذ إبراهيم مصطفى إلى أن وجده أسبق من الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، في وضع أسس علم المعاني الذي فصله النحاة فيما بعد عن معاني النحو فأزهقوا روح الفكرة(44)، كما عده آخر أول من كتب في علم البيان(45).
ولا بد من التدليل على هذا الكلام فنحدد ما جاء في الكتاب من أمور بلاغية، لأن كل كلام يفتقر إلى الدليل القاطع يبقى في حيز الافتراض فإليك البيان:
1 ـ المجاز العقلي حيث قال في قوله تعالى: (والنهار مبصراً( [يونس: 67]، له مجازان أحدهما: إن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل، والمعنى أنه مفعول، لأنه ظرف يفعل فيه غيره لأنه لا يبصر ولكنه يبصر فيه الذي ينظر، وفي القرآن: (في عيشة راضية([الحاقة:21]. وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها، قال جرير:
[align=center]لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى *ونمت وما ليل المطي بنائم [/align]
والليل لا ينام وإنما ينام فيه، وقال رؤبة:
[align=center]"فنام ليلي وتجلى همي"(46). [/align]
ب ـ الكناية والتشبيه المصرح بهما من غير تفصيل في مثل قوله: (نساؤكم (47)، حرث لكم( [البقرة: 223]، كناية وتشبيه قال: (فأتوا حرثكم أنى شئتم(، [البقرة: 223]، (47). وفي بعض الأماكن يريد الكناية من غير أن يصرح باسمها (48) أما مجاز التمثيل فيعني عنده التشبيه أو تشبيه التمثيل كما في تفسير قوله تعالى: (على شفا جرف هار((49)، [التوبة ـ 109].
ج ـ الاستعارة: وإليها يشير إشارة تفهم من خلالها (50) وقد يخلط بينها وبين التشبيه (51).
د ـ الالتفات: تنبه أبو عبيدة إلى هذا الأسلوب، وإن لم يسمعه، كأن يقول: "ومن مجاز ما جاءت به مخاطبة الشاهد، ثم تركت، وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قول الله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة(ـ [يونس ـ 22]، (أي بكم).(52).
هـ ـ الحذف والاختصار عند أمن اللبس للإيجاز. والإيجاز صفة محمودة من صفات الكلام عند العرب، والقرآن خير ممثل لهذه الصفة في أسلوبه، وقد أشار أبو عبيدة إلى كثير من مواضع الحذف في آياته فلنسمعه يقول في هذه الآية: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم(. [آل عمران: 106]"، العرب تختصر لعلم المخاطب بما أريد به، فكأنه خرج مخرج قولك: فأما الذين كفروا فيقول لهم: أكفرتم، فحذف واختصر الكلام، وقال الأسدي:
[align=center]كذبتم وبيت الله لا تنكحونها *بني شاب قرناها تصر وتحلب [/align]
أراد: بني التي شاب قرناها، وقال النابغة الذبياني:
[align=center]كأنك من جمال بني أقيش *يقعقع خلف رجليه بشنِّ [/align]
"بني أقيش"، حي من الجن، أراد: كأنك جمل يقعقع خلف رجليه بشن، فألقى الجمل، ففهم عنه ما أراد". (53).
و ـ الإطناب: مثلما أحب العرب الإيجاز، فحذفوا عند أمن اللبس، لم يستنكروا الإطناب حين تدعو الحاجة إليه، كتوكيد بعض الكلام. وقد أشار أبو عبيدة إلى مكان الإطناب من غير تسمية، فقال: "ومن مجاز المكرر للتوكيد قوله تعالى: (يا أبت أني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين(. [يوسف: 4]، أعاد الرؤية، وقال: (أولى لك فأولى( [القيامة: 34]، أعاد اللفظ"، (54).
ز ـ إدراك الفارق بين الخبر والإنشاء قوله تعالى: (لا تُضارُّ والدة بولدها( [البقرة: 233]. يقول: رفع، خبر، ومن قال: "لا تضارَّ"، بالنصب، فإنما أراد (لا تضارِرْ(. نهي (55)، ومعلوم أن النهي غرض من أغراض الإنشاء.
ح ـ خروج الإنشاء عن حقيقة معناه ليعبر عن معنى آخر يفهم من السياق كخروج الاستفهام إلى تقرير أمر ما، وهو ما يسمى بالاستفهام التقريري(56)، أو خروجه إلى معنى التحذير (57)، أو الإنكار(58). وكذا الحال في الأمر الذي يخرج معناه إلى الوعيد(59).
ط ـ التقديم والتأخير: يحدث في الجملة أن تتقدم كلمة على أخرى لغرض بلاغي، مما يكسب الكلام جمالاً وتأثيراً، ويجعل للتقديم والتأخير مكانة سامية في علم المعاني، وقد أشار أبو عبيدة إلى أماكنه في القرآن وتنبه إليها ولكنه لم يكن يذكر السبب البلاغي الذي حصل من أجله التقديم والتأخير(60).
ي ـ الكلام بالواحد على لفظ الجمع بغرض التفخيم. وكثيراً ما ردد أبو عبيدة أن العرب تتكلم بهذا أو تفعله.(61).
ولكن يجدر بنا بعد هذا البيان أن نشير إلى أن فهم أبي عبيدة للصورة البيانية بوجه عام لا يتعدى الفهم اللغوي، فهو يتعرض لكل الفنون البيانية المتعلقة بالأسلوب، ويعدها من المجاز اللغوي، وكثير من الاستعارات والتشبيهات في القرآن تدخل نطاق الحرج لأنها تتعلق بالذات أو بالعقيدة، أو بصورة البعث، وموقف أبي عبيدة من هذه جميعاً موقف اللغويين، يأخذ بظاهر القول إلى أمد محدود غايته المعنى المجازي القريب، وهو المذهب الذي عرفوا به (62)، ولكن استعماله للكناية في الدلالة على فن من فنون الأسلوب قريب من استعمال البلاغيين للدلالة على الاصطلاح البلاغي المعروف، "الكناية"، (63).
ثالثاً: أبو عبيدة النحوي:
بان لنا أن أبا عبيدة يوجه جل اهتمامه إلى اللغة ثم البلاغة ليكون الجانب النحوي عنده أضعف الجوانب، واحتفاؤه به قليلاً. ولا بأس علينا أن نتلمس شخصيته النحوية من خلال هذا القليل فنجده:
أ ـ لا يحتفي بإيراد وجوه القراءات احتفاء غيره بها، وأن أورد منها شيئاً فأحياناً يكتفي بوجه واحد (64)، وحيناً بوجهين (65)، ونادراً بثلاثة وجوه(66).
ب ـ إذا مر ببعض وجوه الإعراب مسَّها مساً خفيفاً من غير أن يقف عليها أو يتأملها بعمق نظر النحاة (67)، ويكاد النصب على المصدرية يشكل قاعدة لديه فكثيراً ما ذكر المصدر سبباً للنصب(68).
ج ـ يقول بالإعمال (69)، ويذكر العامل المحذوف أحياناً ليعلل حركة كلمة (70)، ولكن دون أن يبالغ في ذلك أو يتزيد أو يتمحل فعل متأخري النحاة.
د ـ له شخصية مستقلة ورأي حر، فلا يتقيد ـ وهو البصري ـ بمذهب أهل البصرة، فيستعمل أحياناً مصطلحاً كوفياً كالكناية التي يعبر بها الكوفيون عن الضمير (71)، وقد يعمم عليه قاعدة نحوية (72).
لماذا تألب على أبي عبيدة معاصروه؟
ما إن ألف أبو عبيدة كتاب "المجاز"، وذاع أمره حتى أحدث ضجة كبيرة في البيئات العلمية في البصرة والكوفة على السواء.
في البصرة كان الأصمعي يحمل لواء الحملة ويتهمه بأنه فسر القرآن برأيه فلما بلغ ذلك أبا عبيدة سأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فذهب إليه وسأله: أبا سعيد، ما تقول في الخبز؟... قال: هو الذي تخبزه وتأكله، فقال له أبو عبيدة: فسرت كتاب الله برأيك؟... قال: قال تعالى: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً( [يوسف: 36]. قال: الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي، فقال له أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا(73).
وانتقل هذا الحرج إلى أبي حاتم السجستاني الذي قال ـ وقد سئل عن كتاب المجاز: (إنه لكتاب ما يحل لأحد أن يكتبه، وما كان شيء أشد علي من أن أقرأه قبل اليوم، ولقد كان أن أضرب بالسياط، أهون علي من أن أقرأه)، ثم نازعته إليه نفسه فقرأه، والتقى بحمد بن المعذل فصار كل منهما يقول للآخر: "وقفني على خطأ أبي عبيدة في القرآن"، (74).
وكذلك ذهب أبو عمرو الجرمي بشيء منه إلى أبي عبيدة، وكأنه ينكره، وقال له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟... فقال له، وقد ضاق به: (هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم فإن شئت فخذه وإن شئت فدعه). (75).
أما في الكوفة فقد كان موقف علمائها أشد حدة مما ذكرنا، فهم أنكروا عليه ما ورد في تفسيره، وشنعوا عليه حتى قال الفراء: "لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في كتابه المجاز"(76)، وكثيراً ما قال في كتابه: "معاني القرآن"، "وقد قال بعض من لا يعرف العربية"، (77)، قاصداً أبا عبيدة.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما الأسباب التي جعلت علماء البصرة والكوفة يقفون من تفسير أبي عبيدة موقف المنكر المستهجن؟...
لقد عزا بعض الباحثين الاختلاف حول كتاب المجاز في البصرة إلى الخصومة بين النزعة العقلية، والنزعة النقلية(78)، إذ كان مسلك أبي عبيدة في عدم التزامه بآثار السلف في التفسير، واعتماده على النزعة العقلية، والتفكير الحر والنظر الدقيق المستقل خروجاً على ما كان عليه علماء اللغة والتفسير الذين كانوا يتحرجون أشد الحرج ويلتزمون بآثار السلف(79)، على حين كان موقف علماء الكوفة من كتاب المجاز من أول الدلائل على العصبية القائمة بين البلدين(80).
بيد أنني، وإن كنت لا أنفي أن تكون الأسباب المذكورة وراء الحملة التي شنت على أبي عبيدة، إلا أنني أرى لهذه الخصومة سبباً أهم من كل ذلك، ولا أقدم عليه سواه، وهو سبب شخصي يتعلق بأصل أبي عبيدة وموقفه وأخلاقه، ذلك أنه ينحدر من أصل يهودي، وقد عرف بشعوبيته وطعنه على العرب، كما اتهم في أخلاقه، ومن ذلك قول بروكلمان: "ولد أبو عبيدة... لأبوين رقيقين من يهود فارس من باجروان، وكان مولى لتيم قريش، وأخذ في شبيبته عن أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. ولا عيب عليه نسبه من العجم لحق بفرقة الصفرية من الخوارج، وحاول أن ينتقم لنفسه بتصنيف كتب في مثالب العرب على مذهب الشعوبية... وهجاه أبو نواس بتهمة اللواط. ولما كتب كتاب المثالب، الذي نقل عنه ياقوت كرهه الناس فلم يحضر جنازته أحد من البصريين".(81).
ولعل هذا دليل على ماكان في شخصية أبي عبيدة من أسباب جعلت حتى جماعته البصريين يقفون منه هذا الموقف وينفرون منه ويحجمون عن المشاركة في تشييعه حتى انتقل إلى جوار ربه.
ولو كان الخلاف المعروف بين البصرة والكوفة السبب الأول والوحيد في موقف بعض علماء الكوفة من أبي عبيدة لوجب أن نجد لهذه الخصومة نظائر مع علماء بصريين آخرين كتبوا في تفسير القرآن على هذا المنحى، كالأخفش الأوسط أبي الحسن سعيد بن مسعدة المتوفى سنة 215هـ، الذي كتب كتاب "معاني القرآن"، (82)، في الفترة نفسها، والذي يعد من كبار علماء البصرة إذ أخذ النحو واللغة عن سيبويه(83)، غير أننا نرى أبا زكريا الفراء إمام مدرسة الكوفة بعد الكسائي يجله ويعترف بسمو مكانته العلمية في أمور اللغة بين علماء عصره، فقد روى ياقوت على لسان ثعلب (أن الفراء دخل على سعيد بن سالم فقال: قد جاءكم سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا). (84).
على أن ما ذكرناه في شخصية أبي عبيدة لا يغض من مكانته العلمية ومنزلته الثقافية بحال من الأحوال فقد قال فيه الجاحظ: "لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة"، (85). وفي عهده وضعت أسس العلوم الإسلامية على ما اختلفت نواحيها من تفسير وفقه وأخبار، وكان أبو عبيدة يشارك في أنواع هذه الثقافة مشاركة جيدة. ونستطيع أن نتبين في كتبه جوانب من هذه الثقافة، فهي لغوية بما فيها من تفسير وحديث وغريب، وهي تاريخية تتناول مواضيع في تاريخ العرب وعاداتهم في جاهليتهم أحياناً وفي إسلامهم أحياناً أخرى، وقد تتجاوز ثقافته هذه الأمة العربية إلى عادات وأخبار لغير العرب(86).
ولعل فيما روي من اعتراف أبي الحسن الأخفش الأوسط برفعة مكانة أبي عبيدة في العلم بغريب اللغة حتى قدمه على نفسه، معلناً تأثره بكتاب المجاز وإفادته منه في كتابه معاني القرآن، دليلاً آخر يضاف في هذا المجال فقد (قال أبو حاتم: كان الأخفش قد أخذ كتاب أبي عبيدة في القرآن فأسقط منه شيئاً وزاد شيئاً، وأبدل منه شيئاً، قال: أبو حاتم: فقلت له: أي شيء هذا الذي تصنع؟... من أعرف بالغريب أنت أو أبو عبيدة؟... فقال: أبو عبيدة، فقلت: هذا الذي تصنع له ليس بشيء، فقال: الكتاب لمن أصلحه، وليس لمن أفسده). (87).
كما أن فيما ورد في صلب الدراسة دلائل أخر تثبت شأن أبي عبيدة وعلو قدره العلمي، ولا مندوحة لنا من الإقرار بأنه من العسف أن نغضَّ من المكانة العلمية لإنسان ما، فنغمطه حقه لأنه لا يوافقنا في أخلاقه ومعتقداته ومواقفه. فهذه الأمور شيء والعلم والحقيقة شيء آخر.
******
*الحواشي والتعليقات:
(1) ـ مباحث في علوم القرآن، ص 294.
(2) ـ نفسه، ص 295.
(3) ـ نفسه 296.
(4) ـ معاني القرآن للأخفش الأوسط مطبوع في الكويت في جزأين عام 1979، بتحقيق د.فائز فارس.
(5) ـ معاني القرآن للفراء مطبوع في ثلاثة أجزاء بتحقيق محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي.
(6) ـ معاني القرآن للزجاج، مخطوط، دار الكتب المصرية، رقم (111)، م تفسير.
(7) ـ معاني القرآن للنحاس مخطوط، دار الكتب المصرية، رقم (385)، تفسير. وفي دار الكتب الظاهرية مخطوط " معاني القرآن"، رقم (181)، للزجاج والنحاس في أوله خمس ورقات ربما كانت للنحاس من أصل (246)، ورقة. (فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية قسم علوم القرآن. د.عزة حسن).
(8) ـ أثر القراءات القرآنية في تطور الدرس النحوي ص 45.
(9) ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 36.
(10) ـ مقدمة المجاز للدكتور محمد فؤاد سزكين ص 19.
(11) ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 48.
(12) ـ معجم الأدباء7/ 166. وانظر تاريخ بغداد 13/254، وطبقات النحويين واللغويين ص 97، والبغية ص 395، وبروكلمان 2/143، وضحى الإسلام 2/304 ـ 305، وانظر في ترجمة إبراهيم بن اسماعيل بن داود الكاتب انباه الرواة 3/278.
(13) ـ انظر الاتجاه العقلي في التفسير ص 100 ـ 101.
(14) ـ نفسه ص 101.
(15) ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي 43 ـ 44، وانظر دائرة المعارف الإسلامية. مادة: تفسير.
(16) ـ القاموس المحيط: جاز.
(17) ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 43.
(18) ـ المجاز 1/1 ـ 2 ـ 3.
(19) ـ المجاز 1/ 3 ـ 4 ـ 5.
(20) ـ المجاز 1/8.
(21) ـ المجاز 1/8 ـ 16.
(22) ـ كلام الأستاذ المرحوم إبراهيم مصطفى غير دقيق، حيث ذكر أن أبا عبيدة، "أخذ في تفسير القرآن الكريم كله"، لأنه أغفل كثيراً من الآيات (انظر إحياء النحو ص 12).
(23) ـ إحياء النحو 11 ـ 16.
(24) ـ المجاز 1/17 ـ 18.
(25) ـ انظر الإتقان في علوم القرآن 1/ 135. والمزهر 1/ 129 ـ 130.
(26) ـ الإتقان في علوم القرآن 1/ 136.
(27) ـ الإتقان في علوم القرآن 1/ 136.
(28) ـ تاريخ علوم البلاغة العربية ص 43، وانظر البلاغة العربية تطور وتاريخ ص 29، والاتجاه العقلي في التفسير ص 100.
(29) ـ تاريخ علوم البلاغة العربية ص 49، والاتجاه العقلي في التفسير ص 100.
(30) ـ انظر مثلاً: المجاز1/ 43 ـ 44 ـ 68 ـ 82 ـ 83 ـ 105 ـ 164 ـ 165 ـ 234.
(31) ـ انظر مثلاً المجاز 1/ 88 ـ 93 ـ 117 ـ 140.
(32) ـ المجاز 1/98.
(33) ـ انظر مثلاً المجاز 1/149.
(34) ـ المجاز 2/56 ـ 72 ـ 263.
(35) ـ المجاز 1/ 256 ـ 257، وانظره 1/301. لقد أصاب الاستطراد منهج أبي عبيدة بالقصور، وكذا التكرار في الشرح (انظر المجاز 1/149 ـ 154 ـ 155 ـ 157).
(36) ـ تفسير الطبري 10/110.
(37) ـ تفسير الطبري 12/ 54.
(38) ـ المجاز 1/351
(39) ـ المجاز 2/99
(40) ـ المجاز 2/188
(41)ـ المجاز 2/150 ـ 152 ـ 155.
(42)ـ اللسان: عشا.
(43)ـ انظر المعاني في ضوء أساليب القرآن ص 14.
(44)ـ إحياء النحو ص 16 وما بعدها.
(45)ـ علوم البلاغة العربية ص 7 و 215.
(46)ـ المجاز 1/ 279 و 2/96.
(47)ـ المجاز 1/73 وانظره 1/155 و2/127.
(48)ـ المجاز 1/75 ـ 170 ـ 171 ـ 263 ـ 290.
(49)ـ المجاز1/269 وأثر القرآن في تطور النقد العربي 46 ـ 47.
(50)ـ المجاز 1/410 ـ 2/82 ـ 196.
(51)ـ المجاز 2/68
(52)ـ المجاز 1/11 وانظره 1/23ـ 253.
(53)ـ المجاز 1/100 ـ 101 وانظره 1/126 ـ 257 ـ 297 ـ 342.
(54)ـ المجاز1/12
(55)ـ المجاز1/75
(56)ـ المجاز 1/35 ـ 287 و 2/118 ـ 133.
(57)ـ المجاز 1/288
(58)ـ المجاز 1/130
(59)ـ المجاز 2/197ـ 270
(60)ـ المجاز 1/173 ـ 185 ـ 364.
(61)ـ المجاز 1/38 ـ 108 ـ 131.
(62)ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 47.
(63)ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 47 ـ 48.
(64)ـ المجاز 1/91
(65)ـ المجاز 1/355
(66)ـ المجاز 1/303
(67)ـ المجاز 1/211
(68)ـ انظر مثلاً المجاز 2/214 ـ 223
(69)ـ انظر 1/35 ـ 107 و 2/160
(70)ـ المجاز 1/57 و 2/143.
(71)ـ المجاز 1/174 وانظر 2/109.
(72)ـ المجاز 1/24.
(73)ـ معجم الأدباء 19/ 159 ـ رواية اللغة 141.
(74)ـ طبقات النحويين واللغويين ـ رواية اللغة 141.
(75)ـ طبقات النحويين واللغويين ـ تاريخ بغداد 13/ 255.
(76)ـ معجم الأدباء 19/159.
(77)ـ انظر مثلاً معاني القرآن للفراء 1/8، ومجاز القرآن 1/25.
(78)ـ رواية اللغة 142.
(79)ـ انظر المرجع نفسه ص 141.
(80)ـ نفسه ص 142.
(81)ـ تاريخ الأدب العربي 2/143، وانظر مقدمة مجاز القرآن لمحققه الدكتور محمد فؤاد سزكين ص 14 ـ 15.
(82)ـ انظر في سبب تأليفه وزمنه بغية الوعاة ص 258.
(83)ـ البلغة في تاريخ أئمة اللغة ص 87.
(84)ـ معجم الأدباء 11/ 227.
(85)ـ البيان والتبيين 1/ 331، نقلاً عن مقدمة المجاز 1/ 12.
(86)ـ مقدمة المجاز 1/ 13 ـ 14.
(87)ـ طبقات النحويين واللغويين ص 74 ـ 75.
المصادر والمراجع:
(1) ـ الاتجاه العقلي في التفسير د. نصر حامد أبو زيد الطبعة الأولى 1982 دار التنوير للطباعة والنشر ـ بيروت.
(2) ـ الإتقان في علوم القرآن. جلال الدين السيوطي. الطبعة الثانية 1925. المطبعة الأزهرية بمصر.
(3) ـ أثر القراءات القرآنية في تطور الدرس النحوي. د.عفيف دمشقية. معهد الإنماء العربي 1978.
(4) ـ أثر القرآن في تطور النقد العربي د.محمد زغلول سلام ـ الطبعة الثالثة 1952، دار المعارف.
(5) ـ إحياء النحو. إبراهيم مصطفى القاهرة 1959، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر.
(6) ـ انباه الرواة. علي بن يوسف القفطي تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم القاهرة ـ دار الكتب 1973.
(7) ـ بغية الوعاة، جلال الدين السيوطي الطبعة الأولى 1326هـ دار السعادة.
(8) ـ البلاغة تطور وتاريخ د.شوقي ضيف الطبعة الثانية 1965 ـ دار المعارف.
(9) ـ البلغة في تاريخ أئمة اللغة. الفيروز آبادي تحقيق محمد المصري ـ وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
(10) ـ تاريخ الأدب العربي. كارل بروكلمان ترجمة: د.عبد الحليم نجار ـ الطبعة الثانية 1959 ـ دار المعارف.
(11) ـ تاريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي الطبعة الأولى 1931.
(12) ـ تاريخ علوم البلاغة العربية. أحمد مصطفى المراغي. الطبعة الأولى 1950 ـ مصطفى البابي الحلبي.
(13) ـ تفسير الطبري (جامع البيان) الطبعة الثانية 1954 مصطفى البابي الحلبي.
(14) ـ دائرة المعارف الإسلامية مادة: تفسير للأستاذ أمين الخولي.
(15) ـ رواية اللغة. د.عبد الحميد الشلقاني ط 1971 ـ دار المعارف.
(16) ـ ضحى الإسلام. أحمد أمين ط10 دار الكتاب العربي ـ بيروت.
(17) ـ طبقات النحويين واللغويين للزبيدي. الطبعة الأولى 1954 تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ـ مكتبة الخانجي.
(18) ـ علوم البلاغة العربية. أحمد مصطفى المراغي ـ الطبعة الثالثة. المطبعة العربية.
(19) ـ فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية (قسم علوم القرآن)، د.عزة حسن.
(20) ـ القاموس المحيط للفيروز آبادي مادة: جاز.
(21) ـ لسان العرب لابن منظور المصري مادة: عشا.
(22) ـ مباحث في علوم القرآن. د.صبحي الصالح ط6 ـ 1969 ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.
(23) ـ مجاز القرآن. أبو عبيدة معمر بن المثنى ط2 مؤسسة الرسالة 1981 تحقيق د.محمد فؤاد سزكين.
(24) ـ المزهر في علوم اللغة. جلال الدين السيوطي. المطبعة الأميرية ـ 1282هـ.
(25) ـ المعاني في ضوء أساليب القرآن. د.عبد الفتاح لاشين ط1 ـ 1976 دار المعارف.
(26) ـ معاني القرآن للفراء، ط2 ـ 1980 ـ عالم الكتب ـ بيروت.
(27) ـ معجم الأدباء. ياقوت الحموي ط. دار المأمون 1355 هـ = 1936م.