عيسى السعدي
New member
بسم1
التطيّر هو التشاؤم بمرئيّ ، أو مسموع ، أو معلوم ؛ كطير ، أو بقعةٍ ، أو اسم ، أو لفظ ، أو يوم ، أو شهر . وأصله التطيّر بالسوانح والبوارح من الطّير والظِّباء ، وإنّما غلب اسم الطّير لأوليته ، أو لخفّته ، أو لأنّ ما كان يقع في قلوبهم بسببه أقوى ممّا كان يقع فيها بسبب الظِّباء . ثُمَّ كثر استعمال التطيّر ، وتوسّع في مدلوله حتَّى أصبح اسمًا لكلّ تشاؤم بقطع النّظر عن متعلّقه من طير أو غيره ([1]) .والطِّيَرَةُ من أمر الجاهليّة لا الإسلام ؛ ولهذا لم تذكر إلاّ عن أصحاب المثلات ([2]) ، قال تعالى : } قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ {[ النَّمل : 47 ] ، وقال : } فَإذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {[ الأعراف : 131 ] ، وقال : } قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ {[ يس : 18 ـ 19 ] ؛ أي معتدون متجاوزون بجهلكم ما لم يكن حقّه أن يتجاوز من الإذعان للحقّ ، والإيمان بعموم القدر ، وإثبات أسباب الخير والشرّ كما هي في الواقع ونفس الأمر ؛ فالخير والشرّ ، واليُمن والشؤم ، والخصب والجدب ، والحسنات والسيئات كلّها من عند اللّه تعالى ؛ أي بما يقدّره على عباده بسبب أعمالهم لا بما يتوهّمونه ويتطيّرون به من الذّوات والمعاني ؛ ولهذا أضاف ما أصابهم لنفسه إضافة تقدير وخلق ، وأضافه إليهم إضافة سبب وفعل ؛ لأنّ طائر الباغي الظّالم معه تسبّبًا وكسبًا ، وإن كان من عند اللّه تقديرًا وخلقًا ([3]) . وأمّا قوله تعالى : } إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ {[ القمر : 19 ] ؛ فلا يناقض ما أبطلته هذه النّصوص من الطِّيَرَةِ ؛ لأنّ المراد بيان أنّ هذا اليوم كان نحسًا على قوم عاد بخصوصهم ؛ لكفرهم وكبرهم ، لا إثبات الشؤم في ذات اليوم ونفسه ، بحيث يستمرّ شؤمه على جميع الخلق في جميع الزّمن ؛ وإلاّ للزم أن تكون كلّ الأيَّام شؤمًا ؛ لأنّ الرِّيح استمرّت عليهم ثمانية أيّام متتابعات ، وقد وصفت بما وصف به هذا اليوم ، قال تعالى : } فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ {[ فصّلت : 16 ] ؛ أي نحسات عليهم خاصّة لا على الخلق كافّة ، يقول ابن كثير : (( معلوم أنَّها ثمانية أيَّام متتابعات ، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيّام السّبعة المندرجة فيها مشؤومة ، وهذا لا يقوله أحد ، وإنّما المراد في أيّام نحسات ؛ أي عليهم ))([4]) .
وكذلك الشأن فيما يذكر ويؤثر من أن مبتدأ عذاب عاد قوم هود كان يوم الأربعاء ؛ فهو لذلك يوم نحس مستمر ؛ إمّا مطلقًا ، أو بقيد كونه آخر أربعاء في الشّهر ! فهذا كلّه لا حجّة فيه على إثبات ما أبطلته النّصوص من الطِّيَرَة ؛ لأمرين : ـ
أحدهما : أنّه ليس على ابتداء عذابهم دليل ثابت ، وإنّما هو مجرّد قول ذكره بعض المفسِّرين يعارضه قول من ذكر أن ابتداءه كان يوم الجمعة ([5]) .
والثّاني : أنّ الأخبار الواردة في شؤم يوم الأربعاء تروى بأسانيد ضعيفةٍ أو واهية ، ومن العلماء من حكم على بعضها بالوضع ؛ كابن الجوزي ، وابن رجب ، وابن حجر ، والشّوكاني ، وغيرهم ([6]) .
وأهمّ ما يدلّ على بطلان هذه الأخبار وفساد الاستدلال على إثبات الشؤم بقوله تعالى : } إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ {[ القمر : 19 ] منافاة ما يتوهّم من دلالاتها لما جاءت به الشّريعة من إثبات القدر خيره وشرّه ، وإبطال ما يعارضه من التطيّر بالمرئيات والمسموعات ، واعتباره شركًا ووهمًا في نفس المتطيّر لا حقيقة في عين المتطيّر به ، وأدلّة هذه الأصول المهمّة كثيرة ، منها : ـ
1 ـ قوله تعالى : } مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {[ الحديد : 22 ] ، يقول ابن عبد البرّ : (( ما قد خطّ في اللّوح المحفوظ لم يكن منه بدّ ، وليست البقاع ، ولا الأنفس بصانعةٍ شيئًا من ذلك ))([7]) .
2 ـ روى البخاريّ بسنده عن أبي هريرة t مرفوعًا : ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ))([8]) ، يقول ابن القيّم : (( هذا محتمل أن يكون نفيًا وأن يكون نهيًا ؛ أي لا تتطيّروا . ولكن قوله في الحديث : ولا عدوى ، ولا صفر ، ولا هامة يدلّ على أنَّ المراد النفي ، وإبطال هذه الأمور الَّتي كانت الجاهليّة تعانيها ، والنّفي في هذا أبلغ من النّهي ؛ لأنّ النّفي يدلّ على بطلان ذلك وعدم تأثيره ، والنّهي إنّما يدلّ على المنع منه ))([9]) ؛ وفائدة هذا النّفي : (( ليرفع عن المتوقّع ما يتوقّعه من ذلك كلّه ، ويعلمه أنّ ذلك ليس يناله منه إلاّ ما كتب له ))([10]) .
3 ـ روى مسلم بسنده عن مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ t قَالَ : ((قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ ، قَالَ : فَلاَ تَأْتُوا الْكُهَّانَ . قُلْتُ : كُنَّا نَتَطَيَّرُ ، قَالَ : ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ))([11]) ؛ يقول ابن القيَّم : (( أخبر أنّ تأذّيه وتشاؤمه بالتطيّر إنّما هو في نفسه وعقيدة لا في المتطيّر به ؛ فوهمه وخوفه وإشراكه هو الَّذي يطيره ويصدّه لا ما رآه وسمعه ؛ فأوضح e لأمّته الأمر ، وبيَّن لهم فساد الطِّيَرَة ؛ ليعلموا أنّ اللَّه سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ، ولا فيها دلالة ، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه ([12]) ؛ لتطمئن قلوبهم ، ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيّته تعالى الَّتي أرسل بها رسله ، وأنزل بها كتبه ، وخلق لأجلها السّموات والأرض ، وعمر الدارين ، الجنّة والنّار ، فبسبب التّوحيد ومن أجله جعل الجنّة دار التَّوحيد وموجباته وحقوقه ، والنَّار دار الشّرك ولوازمه وموجباته ، فقطع e علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقة منها ، ولا يتلبّسوا بعمل من أعمال أهله ألبتة ))([13]) .
4 ـ روى أبو داود بسنده عن ابن مسعود t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e : ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاَثًا))([14]) ، فتضمّن هذا النّص وما قبله من نصوص بيان حكم الطِّيَرَة ، وحدها ، وإبطال كونها علّة للمكروه ، أو سببًا له ، أو دليلاً عليه . ولكن هذا لا يمنع أن يصاب المتطيّر ببعض ما يتوهّمه عقوبة على إشراكه ، وتعلّق قلبه بغير اللَّه ؛ لأنّ من تعلّق بغير اللَّه وكل إليه ، ومن خاف غير اللَّه سلّط عليه ، قال تعالى : } وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا {[ الجنّ : 6 ] ؛ أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا ([15]) ، وروى ابن حبّان بسنده عن أنس بن مالك t مرفوعًا : ((لاَ طِيَرَةَ ، والطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّر))([16]) ، يقول ابن القيَّم : ((قد يجعل اللَّه سبحانه تطيّر العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به ، كما يجعل الثّقة والتوكّل عليه وإفراده بالخوف والرّجاء من أعظم الأسباب الَّتي يدفع به الشرّ المتطيّر به . وسرّ هذا أنّ الطِّيَرَة لما تضمّنت ([17]) الشِّرك باللَّه تعالى ، والخوف من غيره ، وعدم التوكّل عليه ، والثّقة به كان صاحبها غرضًا لسهام الشرّ والبلاء ، فيتسرع نفوذها فيه ؛ لأنّه لم يتدرّع من التَّوحيد والتوكّل بجنّةٍ واقية ، وكلّ من خاف غير اللَّه سلّط عليه ، كما أنّ من أحبّ مع اللَّه غيره عذّب به ، ومن رجا مع اللَّه غيره خذل من جهته . وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلّتها ))([18]) . وعلى هذا المعنى يمكن أن يحمل قول النَّبيّ e : ((الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ ، وَالْمَرْأَةِ ، وَالْفَرَسِ))([19]) ، وفي رواية ((إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَالْمَرْأَةِ))([20]) ، وفي رواية ثالثة : ((إِنْ يَكُنْ مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ فَفِي الْفَرَسِ ، وَالْمَرْأَةِ ، وَالدَّارِ))([21]) ؛ فيكون المراد إثبات الشؤم في حقّ من تطيّر بشيء من هذه الأعيان ؛ عقابًا له على إشراكه ، وضعف توكّله ، وتعلّق قلبه بغير إلهه وفاطره ؛ أي أنّ شؤمها حقّ في حقّ المتطيّر دون المتوكّل فإنها لا تكون شؤمًا في حقّه ؛ لأنّ من توكّل على اللَّه وفوّض أمره إليه كفاه ، ومن تعلّق بغير اللَّه أو سكن إلى تطيّره وشركيّاته وكل إليها وسلّطت عليه ([22]) ، قال تعالى : } وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ {[ الطَّلاق : 3 ] ، وقال e : ((مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ))([23]) ؛ أي ترك إلى ما تعلّقه ؛ فمن تعلّقت نفسه باللّه ، وفوّض أمره إليه كفاه كلّ مؤنةٍ ، وقرّب إليه كلّ بعيد ، ويسّر عليه كلّ عسير . ومن تعلّق بغيره ، أو سكن إلى الأسباب والأوهام وكله اللَّه إليها وخذله ، وسلَّط عليه كلّ ما يخافه ويحذره ؛ فالخوف قرين الشّرك ولازمه ، كما أنّ الأمن قرين التَّوحيد وثمرته ([24]) ، قال تعالى : } الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ {[ الأنعام : 82 ] ، روى البخاريّ بسنده عن عبد اللَّه بن مسعود t قال : ((لَمَّا نَزَلَتْ :} الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ {[ الأنعام : 82 ]قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ ؟ قَالَ : لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ ، لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ : بِشِرْكٍ ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ :} يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {[ لقمان : 13 ]))([25]) ؛ يقول ابن تَيْمِيَّة : (( بيَّن النبيُّ e لهم ما دلّهم على أنّ الشّرك ظلم في كتاب اللَّه ، وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلاّ لمن يلبس إيمانه بهذا الظَّلم ، ومن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء ))([26]) .
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنّ إثبات الشؤم في الدّار والمرأة والفرس لا تراد حقيقته ، وإنّما هو كناية عن قلّة الموافقة ، وسوء الطِّباع ، فشؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها ، وشؤم الدابّة منعها ظهرها وسوء طبعها ، وشؤم المرأة عقمها ، وسوء خلقها ([27]) . قال معمر : (( سمعت من يفسّر هذا الحديث يقول : شؤم المرأة إذا كانت غير ولود ، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليه في سبيل اللَّه ، وشؤم الدار جار السوء ))([28]) . وممّا يقوّي هذا القول في توجيه الحديث ما ذكره ابن حجر بقوله : (( جاء في بعض الرِّوايات ما لعلّه يفسّر ذلك ؛ وهو ما أخرجه أحمد وصحّحه ابن حبّان والحاكم من حديث سعد مرفوعًا : ((مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ ؛ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ ، وَمِنْ شَقَاوة ابْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ ؛ الْمَرْأَةُ السُّوءُ ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ)) . وفي رواية لابن حبّان : ((المركب الهني ، والمسكن الواسع)) . وفي رواية للحاكم : ((وثلاثة من الشقاء ؛ المرأة تراها فتسوؤك ، وتحمل لسانها عليك ، والدابة تكون قطوعًا ؛ فإن ضربتها أتعبتك ، وإن تركتها لم تلحق أصحابك ، والدار تكون ضيّقة قليلة المرافق)) . وللطبراني من حديث أسماء : ((إِنَّ من شقاء المرء في الدّنيا سوء الدار ، والمرأة ، والدابة))([29]) .
ولأهل العلم أجوبة كثيرة عن الحديث سوى ما ذكر ؛ كتغليط الرّاوي ، والقول بأنّه سمع آخر الحديث ولم يسمع أوّله ([30]) ، أو القول بأنّ المحفوظ من الحديث رواية التَّعليق لا الجزم ، وأنّ رواية التَّعليق لا تدلّ على إثبات الشؤم أصلاً ، أو أنَّها إلى نفيه أقرب من إثباته ([31]) ، أو القول بأنّ الحديث إخبار عمَّا كانت تعتقده العرب في الجاهلية . ثُمَّ نسخ ذلك ، وأبطله القرآن والسنن([32]) .
وهذه الأجوبة كلّها أجوبة غير مسلّمة ؛ لأنّ الحديث ثابت برواية الجزم والتعليق ، ولأنّه لم يتفرّد بروايته عن النبيِّ e راو واحد حتَّى يقال : إنّه حفظ آخر الحديث ولم يحفظ أوّله ؛ فرواه أبو هريرة ، وابن عمر ، وسهل بن سعد السَّاعدي ، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري ، ورواياتهم ثابتة مشهورة مخرّجة في أصحّ كتب السنّة ([33]) ، وأمّا دعوى النّسخ فشرط صحّتها تعذّر الجمع ، وتراخي النّاسخ ، والجمع هنا ممكن ، والنّفي مقارن للإثبات ؛ فالخبر مشتمل على نفي التطيّر ثُمَّ إثباته في الأعيان المذكورة ([34]) .
وهذه الأجوبة وإن كانت غير مسلّمةٍ فنيًّا إلاّ أنّ مقصودها صحيح علميًّا ؛ وهو إبطال الطيرة في كلّ شيء بما في ذلك الدار والمرأة والفرس ، وما ذكر معها في بعض الرّوايات كالخادم والسّيف ([35]) ؛ ولهذا ورد نفي التطيّر وإثباته في نصّ واحد ؛ فروى البخاريّ بسنده عن ابن عمر ـ رضي اللَّه عنهما ـ مرفوعًا : ((لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ ؛ فِي الْمَرْأَةِ ، وَالدَّارِ ، وَالدَّابَّةِ))([36]) ؛ فلو كان المراد إثبات الطيرة في هذه الأعيان الثلاثة لكان الحديث ينفي بعضه بعضًا ؛ لأنّ أوّله نفي للطيرة ، وآخره إيجاب لها ، يقول ابن عبد البر : (( محال أن يظنّ بالنبيّ e مثل هذا من النّفي والإثبات في شيء واحدٍ ، ووقت واحد ))([37]) ؛ وبهذا يظهر ضعف ما جنح إليه ابن قتيبة والخطّابي والشوكاني وغيرهم من استثناء هذه الأعيان من حكم الطيرة ، يقول الشوكاني : (( حديث الشؤم مخصص لعموم حديث لا طيرة ؛ فهو في قوّة لا طيرة إلاّ في هذه الثلاث ، وقد تقرّر في الأصول أنّه يبنى العام على الخاص مع جهل التَّاريخ . وادّعى بعضهم أنّه إجماع ، والتَّاريخ في أحاديث الطيرة والشؤم مجهول ))([38]) .
وهذا القول لا شكّ في عدم صحّته إن كان المراد به أنّ لهذه الأعيان تأثيرًا في حصول المكروه على وجه العليّة ، أو السّببيّة ، أو الدلالة ؛ لما في ذلك من مخالفةٍ لأدلّة عموم المقادير ، ولأدلّة نفي الطّيرة وإبطال تأثيرها بأصرح صيغ العموم ، ولما قد يفضي إليه هذا المعنى من فساد في اعتقاد العامّة حتَّى ينجرّ الأمر ببعضهم إلى اعتقاد أنّ ما يتوهّمون الشؤم فيه سبب حتمي ، أو مؤثّر ذاتي في حصول المكروه ، وهو لازم منكر ، يبرأ هؤلاء الأعلام من قصده ، وتبرأ النّصوص من الدلالة عليه ، يقول ابن القيم : (( من اعتقد أنّ رسول اللَّهe نسب الطيرة والشؤم إلى شيء من الأشياء على سبيل أنّه مؤثّر بذلك دون اللَّه فقد أعظم الفرية على اللَّه وعلى رسوله وضلّ ضلالاً بعيدًا ))([39]) .
وأمّا إن كان المراد باستثناء هذه الأعيان من حكم الطيرة إباحة تركها ، واستبدالها بغيرها ؛ حسمًا لمادّة الشّرك ، وسدًّا لذريعته ؛ لئلا يوافق وهم المتطيّر قدرًا فيعتقد صحّة الطيرة وتأثيرها فهو مقصد حسنٌ يلائم أصول الشّريعة ومقاصدها ، وعليه يمكن أن يحمل ما رواه الصنعاني بسنده عن عبد اللّه بن شدّاد أنّ امرأة من الأنصار قالت : ((سكنّا دارنا هذه ، ونحن كثير فهلكنا ، وحسن ذات بيننا فساءت أخلاقنا ، وكثيرة أموالنا فافتقرنا ؟ قال : أفلا تنتقلون عنها ذميمة))([40]) ، وفي رواية : ((ذَرُوهَا ذَمِيمَةً))([41]) ؛ فأباح لهم التحوّل عن دارهم سدًّا لذريعة الشّرك ، ورأفةً بهم ، ومراعاة لما جعله اللَّه في تركيبة البشر من استثقال ما نالهم الشرّ فيه وإن كان ليس سببًا في حصوله . واللَّه أعلم ([42])
__________________________________________________ ________
([1]) انظر : تفسير القرطبي 7/264 ، 265 ، مفتاح دار السّعادة لابن القيّم 2/246 ، فتح الباري لابن حجر 10/215 ، حاشية كتاب التّوحيد لابن قاسم ص 212 ، القول السّديد لابن سعدي ص 101 ، القول المفيد لابن عثيمين 2/77 .
([2]) انظر : مفتاح دار السّعادة 2/231 ، 232 .
([3]) انظر : تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 391 ، 392 ، المفردات للراغب ص 230 ، 231 ، تفسير ابن كثير 2/239 ، فتح المجيد ص 349 ، حاشية ابن قاسم في التوحيد ص 213 ، 214 .
([4]) البداية والنهاية 1/128 .
([5]) انظر : تفسير القرطبي 17/135 ، 136 ، البداية والنهاية لابن كثير 1/128 ، روح المعاني للآلوسي 27/84 ـ 88 ، أضواء البيان للشنقيطي 7/123 ـ 126 .
([6]) انظر : المقاصد الحسنة للسخاوي ص 559 ، كشف الخفاء للعجلوني 1/11 ـ 14 ، 2/538 ، الفوائد المجموعة للشوكاني ص 451 ـ 454 .
([7]) التمهيد 9/285 .
([8]) صحيح البخاريّ : كتاب الطب ، باب لا هامة ح ( 5757 ) ( فتح الباري 10/215 ) . وانظر : صحيح مسلم : كتاب السّلام ، باب لا عدوى ولا طيرة (شرح النّووي 14/213 ) .
([9]) مفتاح دار السَّعادة 2/234 . وانظر : شرح صحيح مسلم للنّووي 14/219 .
([10]) التمهيد لابن عبد البر 9/283 .
([11]) صحيح مسلم : كتاب السّلام ، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهّان ( شرح النّووي 14/223 ) .
وفي تعليق النّهي عن الطيرة على الصدّ هنا ، والردّ في غير هذه الرِّواية دليل على أنّ مجرّد الانقباض القلبي عند رؤية المكروه أو سماعه لا يشمله النّهي ولا يدخل في حدّ الطيرة ؛ ولهذا ذكر أهل العلم أنّ الطيرة الشركيّة هي الَّتي تستتبع عملاً بموجبها من إمضاء أو ردّ ، فكلّ ما أوجب للعبد نوع اعتماد في الفعل أو الترك فهو داخل في النّهي ؛ وبهذا يفترق الفأل عن الطيرة ؛ إذ الفأل مجرّد بشارة تسرّ العبد دون أن تحمله على المضيّ فيما يريده . انظر : تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد اللّه ص 440 ، حاشية ابنقاسم في التّوحيد ص 218 ـ 222 .
([12]) في هذه الكلمات الَّتي سطّرها يراع هذا الإمام هنا دليل على أنّه لا يرى الطيرة سببًا ظاهرًا أو خفيًّا أو دليلاً على حصول المكروه . وقد تكرّر النصّ على ذلك في كلامه على حديث ( لا عدوى ولا طيرة ) ؛ فقرّر أنّ النَّفي في الحديث يدلّ على بطلان التطيّر وعدم تأثيره . انظر : مفتاح دار السّعادة 2/234 .
ولكنّه قرّر في مواضع أخرى من كتبه أنّ حديث ( لا عدوى ولا طيرة ) لا ينفي أن تكون الطيرة سببًا للشرّ ، وإنّما ينفي ما كان المشركون يثبتونه تبعًا للطبائعيين والمنجّمين من سببيّة مطّردة لحصول المكروه على وجه لا يمكن إبطاله ولا معارضته ؛ وبناء على ذلك رأى أنّ حديث ( الشؤم في المرأة والدار والفرس ) يدل على إثبات نوع خفيّ من الأسباب لا يطّلع على تأثيره إلاّ بعد وقوع مسبّبه خلافًا للأسباب الظَّاهرة الَّتي تعلم مسبّباتها قبل وقوعها ؛ أي أنّ هذه الأسباب الخفيّة أو الأعيان الثلاثة المذكورة في الحديث تؤثّر في حصول البلاء كما تؤثّر سائر الأسباب الظَّاهرة في مسبّباتها بقدر اللَّه ومشيئته خلافًا لما يعتقده المشركون والطبائعيون وغيرهم من إثبات تأثيرها على وجه مطّرد لا يتخلّف ؛ وبهذا فرق بين ما جاءت به الأحاديث من شؤم هذه الأعيان وما كان عليه المشركون من الطيرة ؛ فإثبات تأثيرها في حصول المكروه على وجه خفيّ مرتبط بالقدر لون وما كان عليه المشركون من إثبات تأثيرها على وجه مطّرد لا يمكن معارضته ولا إبطاله لون آخر . انظر : إعلام الموقعين 2/298 ، 299 ، 4/397 ، 398 ، مفتاح دار السَّعادة 2/257 .
وهذا القول غير مسلَّم ؛ لأنّ النّصوص اطّردت على إبطال التطيّر على أبلغ وجه ، كما في قوله e : (( لا عدوى ولا طيرة )) ؛ والنّكرة في سياق النّفي أو النّهي من صيغ العموم الصّريحة ، فتدلّ على إبطال التطيّر على كلّ وجه ؛ فلا هو علّة ، ولا سبب ، ولا دليل على حصول المكروه . انظر : شرح الكوكب المنير للفتوحي 3/136 ـ 138 ، إرشاد الفحول للشوكاني ص 119 ، المذكّرة في أصول الفقه للشنقيطي ص 206 . ثمّ إِنَّ في هذا القول ذريعة لتوسّع العامّة في التطيّر حتَّى إنّه ربما انجرّ الأمر ببعضهم إلى اعتقاد التطيّر على وجه يضاهي ما كان عليه أهل الجاهليّة ؛ فيجب إغلاق هذا الباب وحسمه ؛ سدًّا لذريعة الشّرك ، وحفاظًا على عقيدة التّوحيد .
([13]) مفتاح دار السَّعادة 2/234 .
([14]) سنن أبي داود : كتاب الطبّ ، ح ( 3411 ) . وانظر : سنن الترمذي : كتاب السير ، ح ( 1539 ) ، سنن ابن ماجه : كتاب الطبّ ، ح ( 3528 ) ، مسند أحمد ، مسند المكثرين ، ح ( 3504 ) . والحديث صحّحه الترمذي ، والحاكم ، والذهبي ، والعراقي ، وغيرهم . انظر : سلسلة الأحاديث الصّحيحة للألباني 1/716 ، ح ( 429 ) ، النّهج السّديد لجاسم الدوسري ص 162 .
([15]) انظر : حاشية كتاب التَّوحيد لابن قاسم ص 110 .
([16]) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان : كتاب العدوى والطِّيرة ، ذكر الخبر الدالّ على أنَّ الطيرة تؤذي المتطيّر ، ح ( 6123 ) 13/492 . والحديث رجاله ثقات غير عتبة بن حميد الضبي ؛ فقد اختلف فيه ؛ فوثّقه ابن حبّان ، وضعّفه أحمد . وقال أبو حاتم : صالح الحديث ، وقال ابن حجر : صدوق له أوهام ، من السّادسة ؛ وهي من مراتب التّحسين ، ولهذا حسّن الأرنؤوط إسناده . انظر : فتح الباري لابن حجر 6/63 ، تهذيب التهديب لابن حجر 7/96 ، تقريب التهذيب 2/4 ، الخلاصة للخزرجي 2/209 . وفيما بوّب به ابن حبّان دلالة على المعنى الظّاهر المتبادر للحديث خلافًا لما ذكره ابن عبد البرّ من أنّ معناه : لا طيرة ، وإثم الطّيرة على من تطيّر بعد علمه بالنّهي . انظر : التمهيد 9/284 .
([17]) في الأصل ( إنّما تتضمّن ) .
([18]) مفتاح دار السّعادة 2/256 .
([19]) صحيح مسلم : كتاب السَّلام ، باب الطيرة ، ح ( 4127 ) ( بشرح النَّووي 14/220 ) . وانظر : صحيح البخاريّ : كتاب النِّكاح ، باب ما يتّقى من شؤم المرأة ، ح ( 5093 ) ( فتح الباري 9/137 ) .
([20]) صحيح مسلم : كتاب السَّلام ، باب الطيرة ، ح ( 4130 ) ( بشرح النَّووي 14/222 ) . وانظر : صحيح البخاريّ : كتاب النِّكاح ، باب ما يتّقى من شؤم المرأة ، ح ( 5094 ) ( فتح الباري 9/137 ) .
([21]) صحيح مسلم : كتاب السَّلام ، باب الطيرة ، ح ( 4129 ) ( بشرح النَّووي 14/221 ) .
([22]) انظر : مفتاح دار السَّعادة 2/256 ، حاشية كتاب التَّوحيد لابن قاسم ص 84 ، 85 .
([23]) سنن الترمذي : كتاب الطبّ ، ح ( 1998 ) . وانظر : سنن النسائي : تحريم الدم ، ح ( 4011 ) ، مسند الإمام أحمد ، مسند الكوفيين ح ( 18030 ) ، ( 18035 ) . والحديث حسّنه الأرنؤوط وغيره . انظر : تخريجه لأحاديث فتح المجيد ص 137 ، النهج السّديد للدّوسري ص 62 .
([24]) انظر : تيسير العزيز الحميد ص 169 ، 170 .
([25]) صحيح البخاريّ : كتاب الأنبياء ، باب قوله تعالى : }وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً{ ح ( 3360 ) ( فتح الباري 6/389 ) .
([26]) مجموع الفتاوى 7/80 .
([27]) انظر : التمهيد لابن عبد البرّ 9/279 ، شرح النَّووي لصحيح مسلم 14/222 ، مفتاح دار السَّعادة لابن القيَّم 2/256 ، فتح الباري لابن حجر 6/62 ، 9/138 .
([28]) المصنَّف للحافظ عبد الرزّاق الصنعاني : كتاب الجامع ، باب الشؤم ح ( 19527 ) 10/411 .
([29]) فتح الباري 9/138 .
([30]) انظر : التمهيد لابن عبد البرّ 9/288 ، 289 ، مفتاح دار السَّعادة 2/253 ، فتح الباري لابن حجر 6/61 .
([31]) انظر : تهذيب الآثار للطبري 1/31 ، سلسلة الأحاديث الصّحيحة للألباني 2/728 .
([32]) انظر : التمهيد لابن عبد البرّ 9/290 .
([33]) انظر : صحيح البخاريّ بشرحه فتح الباري 6/60 ، 61 ، صحيح مسلم بشرحه للنّووي 14/219 ـ 223 ، مفتاح دار السَّعادة لابن القيَّم 2/254 .
([34]) انظر : فتح الباري لابن حجر 6/62 .
([35]) انظر : صحيح مسلم بشرحه للنّووي 14/222 ، التمهيد لابن عبد البر 9/278 ، مفتاح دار السَّعادة لابن القيَّم 2/253 ، فتح الباري لابن حجر 6/63 .
([36]) صحيح البخاريّ : كتاب الطيرة ، باب الطيرة ح ( 5753 ) ( فتح الباري 10/212 ) . وانظر : صحيح مسلم : كتاب السَّلام ، باب الطيرة 14/220 .
([37]) التمهيد 9/284 .
([38]) نيل الأوطار 7/158 . وانظر : شرح النّووي لصحيح مسلم 4/220 ، 221 ، مفتاح دار السَّعادة لابن القيَّم 2/256 ، فتح الباري لابن حجر 6/61 ، 62 .
([39]) مفتاح دار السَّعادة 2/257 .
([40]) المصنّف : كتاب الجامع ، باب الشؤم ، ح ( 19526 ) 10/411 . قال ابن حجر : إسناده صحيح . فتح الباري 6/62 .
([41]) سنن أبي داود : كتاب الطبّ ، ح ( 3423 ) . وانظر : الأدب المفرد للبخاري : باب الشؤم في الفرس ح ( 921 ) ( بشرحه فضل اللَّه الصّمد 2/392 ، 393 ) . قال الألباني : الحديث على أقلّ الدّرجات حسن الإسناد . سلسلة الأحاديث الصّحيحة 2/433 ، ح ( 790 ) .
([42]) انظر : تهذيب الآثار للطبري 1/30 ، التمهيد لابن عبد البرّ 9/290 ، 291 ، مفتاح دار السَّعادة 2/258 ، فتح الباري لابن حجر 6/62 .