د محمد الجبالي
Well-known member
مَنْ المؤمن القوي في حديث النبي:
[المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف]؟
الْمُؤْمِن: في اللُّغَة هو الْمُصَدِّق، وفي الاصْطِلاح هو : مَنْ تَحَقَّقَتْ فيه أَرْكَانُ الإيمانِ السِّتَّة وهي: [الإيمانُ بِاللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وبِالْقَضَاءِ خَيْرِهِ وشَرِّه] قال الله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة 285)
الْقَوِيّ لغة: ضِدَّ الضَّعِيف، والْقُوَّةُ أَنْوَاعٌ مِنْهَا: الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّة، والْقُوَّةُ النَّفْسِيَّة ، والْقُوَّةُ الرُّوحِيَّة، وغَيْرُها.
وسوف نجتهد معكم في الإجابة عن سؤال [من المقصود بالمؤمن القوي؟] في أَفْكَارٍ مُوجَزَةٍ قَصِيرَة نَكْشِفُ فيها عَنْ الأُصُولِ الْعَامَّةِ لِمَبْدَأِ الْخَيْرِيَّة في الْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ، وعن الْفُرُوعِ الْهَامَّةِ النَّاتِجَةِ عَنْ هذه الْخَيْرِيَّة.
أولا: ما الْمَقْصُودُ بِالْقُوَّةِ في قَوْلِ النَّبِي {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ}؟
هَلْ الْمَقْصُودُ بِقُوَّةِ الْمُؤْمِنِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّة؟
لا ، لَيْسَ الْمُقْصُودُ الْقُوَّةَ الْبَدَنِيَّة، فَكَمْ مِنْ رِجَالٍ أَقْوِياء قُوَّتُهم بَلاءٌ على الناس!
إنَّما الْمَقْصُودُ قُوَّةُ الإيمان، قُوَّةُ الْعَقِيدَةِ، وقُوَّةُ الْيَقِينِ بالله، فَإِنَّ رَسُولَ لم يَقُلْ الرَّجُلَ الْقَوِيّ، بَلْ قال الْمُؤْمِنَ الْقَوِيّ، أيْ أنَّ الْمَقْصُودَ الْمُؤْمِنُ الْقَوْيُّ في قَلْبِهِ وعَقِيدَتِه، الْمُتَشَبِّعُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ بِأَمْرِ الله وأَمَرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، لا يَضْعُفُ قَلْبُهُ أَمَامَ شُبْهَةٍ أو انْحِرَافٍ فِكْرِيّ، وَاثِقٌ بِمَبَادِئِهِ وقِيَمِه، لا تُزَعْزِعْهُ رِياحُ الشُّبَهَات، ولا تَجْرِفُهُ مَوْجَاتُ الشَّهَوَات.
إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ غَنِيٌّ بِإيمانِه ، غَنِيٌّ بِعِزَّتِه ، غَنِيٌّ بِرَبِّهِ عَن الْخَلْق ، فَهُوَ غَنِيٌّ وإنْ لم يَكُنْ مَعَهُ دِينَار ولا دِرْهَم. إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ هو الْوَاثِقُ بِنَصْرِ الله وإنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ سِلاح، وإنْ تَخَلَّى عَنْهُ النَّاس وإنْ تَرَكَتْهُ الْعَشِيرَةُ والأتْبَاع، إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ هُو مِنَ الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران 173)
ثانيا: أَيْنَ تَكْمُنُ الْقُوَّةُ الْحَقِيقِيَّة:
إنَّ مَعَاني الْقُوَّةِ الإيمانية كَثِيرة، أَعْلاهَا وأَشَدُّهَا قُوَّةُ ضَبْطِ النَّفْسِ، إنَّ الْقُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ في ضَبْطِ النَّفْس، والتَّحَكُّمِ في الإرادة التي تَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ السَّجَايا، وحَمِيدِ الْخِصَال، كَإِبَاِء الضَّيْمِ، وعِزَّةِ النَّفْسِ، والتَّعَفُّف، وعُلُوِّ الْهِمَّة، وإنَّكَ لَتَرَى فَقِيراً قَلِيلَ ذَاتِ الْيَد، ولَكِنَّهُ ذُو إرادةٍ قَوِيَّة، ونَفْسٍ عَزِيزَة، شَرِيفُ الطَّبْع، نَزِيهُ الْمَسْلَكِ، بَعِيدٌ عَنْ الطَّمَعِ والتَّذَلُّل.
إنَّ قُوَّةَ ضَبْطِ النَّفْسِ تَأْخُذُ صَاحِبَها بِالسَّيْرِ في مَسَالِكِ الطُّهْرِ، ودُرُوبِ النَّزَاهَةِ والاسْتِقَامَة، أمَّا الرجلُ الْخَرِبُ الذِّمَّة، السَّاقِطُ الْهِمَّة، عَدِيمُ الْمَرُوءَةِ ، فَلا قُوَّةَ له، ولو لَبِسَ جُلُودَ السِّبَاع ، ومَشَى في رِكَابِ الأقْوِيَاء.
وُيَؤَيِّدُ ذلك حَدِيثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"
ثالثا: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ لا تَأْخُذُهُ في الله لَوْمَةُ لائِم:
إنَّ الْقُوَّةَ في الْحَقِّ الصَّدْعُ به، والْمُصَارَحَةُ فيه، لا يُصَانِعُ على حِسَابِ الْحَقِّ، ومَنْ يَحْيَا بِالْحَقِّ لا يُتَاجِرُ بِالْبَاطِلِ، ومِنْ أَجْلِ هذا فَإِنَّ الصَّدْعَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ يَنْبُتُ مِنَ السِّمُوِّ النَّفْسِي والُقُوَّةِ الإيمانية، وقُوَّةِ الاسْتِمْسَاكِ بالْحَقِّ والرِّضَا به ولو كَرِهَ الْكَارِهُون، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ"
إنها قُوَّةٌ في مُصَارَحَةِ الْمُخَالِفِين، وتًنْبِيهِ الْخَاطِئِين، إنها نَقْدٌ لِلْعُيُوبِ الْمُعْلَنَة، لا خَوْفَ من وَجِيهٍ، ولا حَيَاءَ مِنْ قَرِيبٍ، ولا خَجَلَ مِنْ صَدِيقٍ. وبِعِبَارَةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ: لا َتْأخُذُهُ في الله لَوْمَةُ لائِم.
رابعا: مَصَادِرُ قُوَّةِ الْمُؤْمِن:
إنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَمِدُّ قُوَّتَهُ مِنَ الْحَقِّ الذي يُؤْمِنُ به، ويَعْمَلُ له، فَهُوَ لا يَعْمَلُ لِشَهْوَةٍ عَارِضَة، ولا لِمَنْفَعَةٍ شَخْصِيَّة، ولا لِعَصَبِيَّة جَاهِلِيَّة، لَكِنَّه يَعْمَلُ لِلْحَقِّ الذي قَامَتْ له السَّماواتُ والأَرْض قال الله عز وجل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}، هذا الإيمانُ هو الذي جَعَلَ أَطْفَالا وشَبَابًا علَى أَرْضِ فَلَسْطِين أَرْضِ الأقْصَى يَحْمِلُونَ أَحْجَارًا يَضْرِبُونَ بها الدَّبَّابات، ويَقْهَرُونَ بها عَسْكَرَ يَهُود، بَاعُوا أنفسَهُم في سَبِيلِ الله، وهُم وَاثِقُونَ بِأَنَّهم علَى الْحَقّ، فإنْ مَاتوا في هذه الدُّنيا، فَهُم أَحْيَاءٌ عندَ الله، قال اللهُ الْعَزيزُ الْجَلِيل:{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (آل عمران169)
خامسا: الصِّفَاتُ الزَّاهِرَةُ للْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ:
إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ لَيْسَ إِمَّعَةً في أَفْكَارِهِ ولا في أَقْوَالِهِ ولا في أَفْعَالِه ، يَعْتَرِفُ بِالْخَطَأِ إذا أَخْطَأَ، ويَتَرَاجَعُ إذا ذُكِّرَ، وَقَّافاً عِنْدَ حُدُودِ الله وأَوَامِرِه. الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ قَلْبُهُ عَامِرٌ بِالْحُبِّ والْوَفَاءِ والرحْمَةِ والإحْسَان، الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ لا يَحْمِلُ حِقْداً ولا كُرْهاً، إنما يُحِبُّ في الله ويَبْغَضُ في الله.
الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ قَوِيٌّ في صَبْرِهِ وتَحَمُّلِهِ لِنَوَائِبِ الدَّهْر، هُو الْكَرِيمُ في أَخْلاقِهِ يُصَاحِبُ الناسَ ويَصْبِرُ علَيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»
سادسا: اِجْتِمَاعُ قُوَّةِ الإيمانِ وقُوَّةِ الْبَدَن:
إنَّنا نُؤَكِّدُ مَرَّةً أُخْرَى أنَّ الْقُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ قُوَّةُ الإيمان، لَكِنْ مِمَّا لا شَكَّ فيه أَنَّ اِجْتِمَاعَ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ مَعَ الْقُوَّةِ الإيمانِيَّةِ يَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ أَعْظَمَ نَفْعًا لِلْإسلامِ والْمُسْلِمِين، وتكون خَيْرِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمَ بِمَا يُقَدِّمُ مِنْ فَوَائِدَ عَظِيمَة، وخِدْمَاتٍ جَلِيلَة لِدِينِهِ ولأُمَّتِه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"
وأَخِيرًا مَا أَحْسَنَ الْقُوَّةَ في الْحَقِّ تَنْطَلِقُ بَرْدًا وسَلامًا لِرَدِّ الْمَظَالِمِ وإِقَامَةِ الْحُدُودِ، ولا يَعْرِفُ أَهَمِّيَّةَ هذه الْقُوَّةَ إلا مَنْ عَاشَ تَحْتَ وَطْأَةِ الطُّغْيَانِ. ومَا أَحْسَنَ الْقُوَّةَ التي تُرْشِدُ الضَّالَّ، وتَدُلُّ الْحَيْرَانَ، وتُشَجِّعُ الْجَبَان! ما أَجْمَلَ الْقُوَّةَ عِنْدَمَا تُحِقُّ الْحَقَّ، وتُبْطِلُ الْبَاطِلَ، وهي الْقُوَّةُ التي أَمَرَ بِهَا الإسلامُ!
د. محمد الجبالي
هذا المقال نشرته منذ سنة في هاف بوست عربي
[المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف]؟
الْمُؤْمِن: في اللُّغَة هو الْمُصَدِّق، وفي الاصْطِلاح هو : مَنْ تَحَقَّقَتْ فيه أَرْكَانُ الإيمانِ السِّتَّة وهي: [الإيمانُ بِاللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وبِالْقَضَاءِ خَيْرِهِ وشَرِّه] قال الله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة 285)
الْقَوِيّ لغة: ضِدَّ الضَّعِيف، والْقُوَّةُ أَنْوَاعٌ مِنْهَا: الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّة، والْقُوَّةُ النَّفْسِيَّة ، والْقُوَّةُ الرُّوحِيَّة، وغَيْرُها.
وسوف نجتهد معكم في الإجابة عن سؤال [من المقصود بالمؤمن القوي؟] في أَفْكَارٍ مُوجَزَةٍ قَصِيرَة نَكْشِفُ فيها عَنْ الأُصُولِ الْعَامَّةِ لِمَبْدَأِ الْخَيْرِيَّة في الْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ، وعن الْفُرُوعِ الْهَامَّةِ النَّاتِجَةِ عَنْ هذه الْخَيْرِيَّة.
أولا: ما الْمَقْصُودُ بِالْقُوَّةِ في قَوْلِ النَّبِي {الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ}؟
هَلْ الْمَقْصُودُ بِقُوَّةِ الْمُؤْمِنِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّة؟
لا ، لَيْسَ الْمُقْصُودُ الْقُوَّةَ الْبَدَنِيَّة، فَكَمْ مِنْ رِجَالٍ أَقْوِياء قُوَّتُهم بَلاءٌ على الناس!
إنَّما الْمَقْصُودُ قُوَّةُ الإيمان، قُوَّةُ الْعَقِيدَةِ، وقُوَّةُ الْيَقِينِ بالله، فَإِنَّ رَسُولَ لم يَقُلْ الرَّجُلَ الْقَوِيّ، بَلْ قال الْمُؤْمِنَ الْقَوِيّ، أيْ أنَّ الْمَقْصُودَ الْمُؤْمِنُ الْقَوْيُّ في قَلْبِهِ وعَقِيدَتِه، الْمُتَشَبِّعُ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ بِأَمْرِ الله وأَمَرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، لا يَضْعُفُ قَلْبُهُ أَمَامَ شُبْهَةٍ أو انْحِرَافٍ فِكْرِيّ، وَاثِقٌ بِمَبَادِئِهِ وقِيَمِه، لا تُزَعْزِعْهُ رِياحُ الشُّبَهَات، ولا تَجْرِفُهُ مَوْجَاتُ الشَّهَوَات.
إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ غَنِيٌّ بِإيمانِه ، غَنِيٌّ بِعِزَّتِه ، غَنِيٌّ بِرَبِّهِ عَن الْخَلْق ، فَهُوَ غَنِيٌّ وإنْ لم يَكُنْ مَعَهُ دِينَار ولا دِرْهَم. إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ هو الْوَاثِقُ بِنَصْرِ الله وإنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ سِلاح، وإنْ تَخَلَّى عَنْهُ النَّاس وإنْ تَرَكَتْهُ الْعَشِيرَةُ والأتْبَاع، إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ هُو مِنَ الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران 173)
ثانيا: أَيْنَ تَكْمُنُ الْقُوَّةُ الْحَقِيقِيَّة:
إنَّ مَعَاني الْقُوَّةِ الإيمانية كَثِيرة، أَعْلاهَا وأَشَدُّهَا قُوَّةُ ضَبْطِ النَّفْسِ، إنَّ الْقُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ في ضَبْطِ النَّفْس، والتَّحَكُّمِ في الإرادة التي تَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ السَّجَايا، وحَمِيدِ الْخِصَال، كَإِبَاِء الضَّيْمِ، وعِزَّةِ النَّفْسِ، والتَّعَفُّف، وعُلُوِّ الْهِمَّة، وإنَّكَ لَتَرَى فَقِيراً قَلِيلَ ذَاتِ الْيَد، ولَكِنَّهُ ذُو إرادةٍ قَوِيَّة، ونَفْسٍ عَزِيزَة، شَرِيفُ الطَّبْع، نَزِيهُ الْمَسْلَكِ، بَعِيدٌ عَنْ الطَّمَعِ والتَّذَلُّل.
إنَّ قُوَّةَ ضَبْطِ النَّفْسِ تَأْخُذُ صَاحِبَها بِالسَّيْرِ في مَسَالِكِ الطُّهْرِ، ودُرُوبِ النَّزَاهَةِ والاسْتِقَامَة، أمَّا الرجلُ الْخَرِبُ الذِّمَّة، السَّاقِطُ الْهِمَّة، عَدِيمُ الْمَرُوءَةِ ، فَلا قُوَّةَ له، ولو لَبِسَ جُلُودَ السِّبَاع ، ومَشَى في رِكَابِ الأقْوِيَاء.
وُيَؤَيِّدُ ذلك حَدِيثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"
ثالثا: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ لا تَأْخُذُهُ في الله لَوْمَةُ لائِم:
إنَّ الْقُوَّةَ في الْحَقِّ الصَّدْعُ به، والْمُصَارَحَةُ فيه، لا يُصَانِعُ على حِسَابِ الْحَقِّ، ومَنْ يَحْيَا بِالْحَقِّ لا يُتَاجِرُ بِالْبَاطِلِ، ومِنْ أَجْلِ هذا فَإِنَّ الصَّدْعَ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ يَنْبُتُ مِنَ السِّمُوِّ النَّفْسِي والُقُوَّةِ الإيمانية، وقُوَّةِ الاسْتِمْسَاكِ بالْحَقِّ والرِّضَا به ولو كَرِهَ الْكَارِهُون، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ"
إنها قُوَّةٌ في مُصَارَحَةِ الْمُخَالِفِين، وتًنْبِيهِ الْخَاطِئِين، إنها نَقْدٌ لِلْعُيُوبِ الْمُعْلَنَة، لا خَوْفَ من وَجِيهٍ، ولا حَيَاءَ مِنْ قَرِيبٍ، ولا خَجَلَ مِنْ صَدِيقٍ. وبِعِبَارَةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ: لا َتْأخُذُهُ في الله لَوْمَةُ لائِم.
رابعا: مَصَادِرُ قُوَّةِ الْمُؤْمِن:
إنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَمِدُّ قُوَّتَهُ مِنَ الْحَقِّ الذي يُؤْمِنُ به، ويَعْمَلُ له، فَهُوَ لا يَعْمَلُ لِشَهْوَةٍ عَارِضَة، ولا لِمَنْفَعَةٍ شَخْصِيَّة، ولا لِعَصَبِيَّة جَاهِلِيَّة، لَكِنَّه يَعْمَلُ لِلْحَقِّ الذي قَامَتْ له السَّماواتُ والأَرْض قال الله عز وجل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}، هذا الإيمانُ هو الذي جَعَلَ أَطْفَالا وشَبَابًا علَى أَرْضِ فَلَسْطِين أَرْضِ الأقْصَى يَحْمِلُونَ أَحْجَارًا يَضْرِبُونَ بها الدَّبَّابات، ويَقْهَرُونَ بها عَسْكَرَ يَهُود، بَاعُوا أنفسَهُم في سَبِيلِ الله، وهُم وَاثِقُونَ بِأَنَّهم علَى الْحَقّ، فإنْ مَاتوا في هذه الدُّنيا، فَهُم أَحْيَاءٌ عندَ الله، قال اللهُ الْعَزيزُ الْجَلِيل:{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (آل عمران169)
خامسا: الصِّفَاتُ الزَّاهِرَةُ للْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ:
إنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ لَيْسَ إِمَّعَةً في أَفْكَارِهِ ولا في أَقْوَالِهِ ولا في أَفْعَالِه ، يَعْتَرِفُ بِالْخَطَأِ إذا أَخْطَأَ، ويَتَرَاجَعُ إذا ذُكِّرَ، وَقَّافاً عِنْدَ حُدُودِ الله وأَوَامِرِه. الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ قَلْبُهُ عَامِرٌ بِالْحُبِّ والْوَفَاءِ والرحْمَةِ والإحْسَان، الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ لا يَحْمِلُ حِقْداً ولا كُرْهاً، إنما يُحِبُّ في الله ويَبْغَضُ في الله.
الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ قَوِيٌّ في صَبْرِهِ وتَحَمُّلِهِ لِنَوَائِبِ الدَّهْر، هُو الْكَرِيمُ في أَخْلاقِهِ يُصَاحِبُ الناسَ ويَصْبِرُ علَيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»
سادسا: اِجْتِمَاعُ قُوَّةِ الإيمانِ وقُوَّةِ الْبَدَن:
إنَّنا نُؤَكِّدُ مَرَّةً أُخْرَى أنَّ الْقُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ قُوَّةُ الإيمان، لَكِنْ مِمَّا لا شَكَّ فيه أَنَّ اِجْتِمَاعَ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ مَعَ الْقُوَّةِ الإيمانِيَّةِ يَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ أَعْظَمَ نَفْعًا لِلْإسلامِ والْمُسْلِمِين، وتكون خَيْرِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمَ بِمَا يُقَدِّمُ مِنْ فَوَائِدَ عَظِيمَة، وخِدْمَاتٍ جَلِيلَة لِدِينِهِ ولأُمَّتِه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"
وأَخِيرًا مَا أَحْسَنَ الْقُوَّةَ في الْحَقِّ تَنْطَلِقُ بَرْدًا وسَلامًا لِرَدِّ الْمَظَالِمِ وإِقَامَةِ الْحُدُودِ، ولا يَعْرِفُ أَهَمِّيَّةَ هذه الْقُوَّةَ إلا مَنْ عَاشَ تَحْتَ وَطْأَةِ الطُّغْيَانِ. ومَا أَحْسَنَ الْقُوَّةَ التي تُرْشِدُ الضَّالَّ، وتَدُلُّ الْحَيْرَانَ، وتُشَجِّعُ الْجَبَان! ما أَجْمَلَ الْقُوَّةَ عِنْدَمَا تُحِقُّ الْحَقَّ، وتُبْطِلُ الْبَاطِلَ، وهي الْقُوَّةُ التي أَمَرَ بِهَا الإسلامُ!
د. محمد الجبالي
هذا المقال نشرته منذ سنة في هاف بوست عربي