مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى

إنضم
05/05/2003
المشاركات
70
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الموقع الالكتروني
www.toislam.net
[align=center][مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى][/align]
[align=justify]هذه الآية اسْتُفْتِحتْ بها سورة طه _كما هو معلوم_.
فما أروعه من استفتاح، وما أبرعه من استهلال؛ حيث تَبَيَّن من خلاله أن هذا القرآن وما فيه من أوامرَ، ونواهٍ، وإرشاداتٍ، وقصصٍ، وأحكامٍ، وأخبارٍ _ إنما أنزل لمحض السعادة؛ لذا فإنه حقيق على المسلم الذي يؤمن بهذا القرآن ومُنَزِّلِهِ، والمُنَزَّل عليه _ أن يدرك هذا المعنى العظيم، ويستحضر أن جلبَ السعادة، وطردَ الهم من أعظم مقاصد تلك السورة، بل والقرآن والشريعة عموماً.
والتفسيرُ العمليُّ لذلك كان في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان أكثرَ الناس تبسماً، وبشراً، وطلاقة، وأنساً، ورضاً، وسروراً.
وما قعد به عن ذلك كثرةُ الآلامِ، والمصائبِ، والمشاقِّ التي تمر به.
وفي هذا إرشاد عظيم لمن يظن أن عبوسَ الجبين، وكَرَفَ العرنين، وتَجَهُّمَ الأسارير، وتَكَلُّفَ التوقُّرِ، واجترارَ المآسي، وسوادَ النظرةِ، وإساءةَ الظنِّ بالآخرين _ هو علامةُ التدين الصحيح.
لا، ليس الأمر كذلك، بل هو بعكسه تماماً.
ولو كان كذلك لكنا ندعو الناس إلى ما فيه شقاؤهم، وهَمُّهم، وتعاستهم؛ كيف يكون كذلك ونحن نقول بأفواهنا: إن الإسلام والتدين الصحيح هو سبيل السعادة في العاجل والآجل؟!
فحقيق على من آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً _ أن يستحضر هذا المعنى العظيم، وأن يكون على باله دائماً؛ فيستقبل الحياة وما فيها من تكاليف، ويقوم بما أمره الله به بكل ارتياح، وسرور؛ فإذا وُفِّق لما يرجوه من نجاح، وطاعة حَمِد اللهَ، واستمر على الطاعة، وإذا أتت الأمور على خلاف ما يريد تعزى بقدر الله، وإذا خذل؛ فوقع في المعصية استغفر، وتاب ورجع إلى مولاه.
وهكذا سيرته مع الناس؛ حيث يسعى سعيه لإرشادهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ فإذا حصلت الإجابة فبها ونعمت، وإذا كانت الأخرى لم تذهب نفسه عليهم حسرات.
فهذا سر من أسرار السعادة، وهو مما يحتاج إلى صبر ومراوضة، [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] (فصلت:35).
وإن مما يعين على تَمَثُّلِ تلك المعاني، وتَمَكُّنِها في قرارات النفوس أموراً منها:

1_ طهارة القلب وسلامة المقاصد: فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله، وفكره، وبواعثه؛ فإذا كان عمله حسناً، وقلبه طاهراً، ومقاصده سليمة _ كان منظاره الذي ينظر به إلى الدنيا صافياً نقياً، فرأى الحياة جميلة كما خلقت، فسعد بنفسه، وأسعد غيره، وإلا تَغَبَّش منظارُه، واسودَّ زجاجه، وساء ظنه بنفسه وبغيره، فرأى كل شيء أسودَ مُغَبَّشاً.
وهذا كله يدعو الحريص على إسعاد نفسه وقومه إلى أن يكون طاهر القلب، سليم المقاصد، بعيداً عن كل ما ينافي ذلك.

2_ البعد عن مواطن الإثارة قدر المستطاع: فمن علم أن شيئاً معيناً يُهَيِّجُهُ فلينأ عنه، وليبتعد عن الأوساط التي تسببه؛ فإذا تمت راحته تم فرحه وسروره.
ومما يحسن في هذا الصدد أن يحميَ المرءُ نفسَه من مؤثرات الخوف، سواء ما يثيره في نفسه، أو ما يثيره من حوله؛ فإن الخوف من الأمراض التي تنغص الحياة، وتذهب بالسعادة، فهو مرض خطير قل أن يسلم منه إنسان، وهو أشكال وألوان، وهو مما يوجه أعمال الإنسان طوع إشارته وحسب إيحائه، وهو في كثير من الأحيان يصد عن العمل، ويَشُلُّ قوة التفكير، ويسبب اليأس، ويفقد الأمل، مع أن أكثره أوهام لا حقيقة لها.
ورُبَّ أمورٍ لا تضيرك ضيرةً *** وللقلبِ من مخشاتهن وجيبُ

3_ قوة الاحتمال: ذلك أن من أكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس، وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما أن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حرج الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، فتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي _وأكثر منها_ لو حدثت لمن هو أقوى منه احتمالاً لم يُلْقِ لها بالاً، ولم تحرك منه نفساً، ونام ملء جفونه رضيّ البال، قرير العين.
ومن أعظم ما يعين على قوة الاحتمال _ التمرين؛ فالصانع يكتسب صناعته بالتمرين، والموظف يتقن عمله بالتمرين، والأخلاق الفاضلة أو الرذيلة كذلك "وإنما الحلم بالتحلم، وإنما العلم بالتعلم" "ومن يتصبر يصبِّرْه الله".
فإذا قوي احتماله هان عليه كثيرٌ مما يلقاه، وحَسُنَ تعاملُه مع ما يواجهه.

4_ محاربة اليأس: فليس شيء يُعبِّسُ الوجه والنفس كاليأس؛ فاعتقادك أن لا مستقبل لك، ولا أمل في حياتك، ولا خير يتنظرك، ولا حلَّ لمشكلاتك _ سَمٌّ قاتل، وسجن مظلم، يَصُدُّ النفس، ويقمعها، ولا يزال بالإنسان حتى يهلكه.
وعلى العكس من ذلك فإن تَوقُّعَه الخير، وأملَه في الحياة يحمله على أن يوسع مداركه، وعلى الجد فيما اختاره من صنوف العيش، وعلى استعمال ما وهبه اللَّه خير استعمال.
فإذا أردت السرور فحارب اليأس، واقطع أسبابه، وعَوِّدْ نَفْسَك الأملَ، وتوقع الخير في المستقبل.

5_ محاربة الكآبة: فالاستسلام للحزن، والإغراق في التشاؤم، والاسترسال مع الهم، والخوف من وقوع المكروه، والإفراط في تقدير الشر _ مما ينغص الحياة، ويقلل الإنتاج، ويزيد الآلام، ويضاعف البؤس والشقاء؛ فحارب الكآبة من نفسك، وادرأ الهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وابتسم للحياة، وابتهج بها من غير إسراف _ تَزْدَدْ حياتُك إشراقاً وقوة، وتشعر بالسرور والسعادة.
قال الشافعي –رحمه الله-:
سهرت أعين ونامت عيون *** في أمور تكون أو لا تكونُ
فادرأ الهم ما استطعت عن النفـ *** ـس فَحُمْلانُك الهمومَ جُنون
إن ربَّاً كفاك بالأمس ما كا *** ن سيكفيك في غدٍ ما يكون

6_ سعة الأفق: لأن من أهم أسباب الحزن ضيق الأفق، وكثرة تفكير الإنسان في نفسه، حتى كأنها مركز العالم، وكأن الشمس، والقمر، والنجوم، والسعادة، والرخاء كلها خلقت لشخصه؛ فهو يقيس كلَّ المسائل بمقياس نفسه، ويديم الفكر فيها، وفي علاقة العالم بها؛ فيفسر تصرفات الآخرين على أنها موجهةٌ إليه، دون غيره.
وهذا _من غير ريب_ يوجد البؤس والشقاء والحزن؛ فمحالٌ أن يجري العالم على وَفْقِ ما تريده نفسه؛ لأن نفسه ليست هي المركز، وإنما هي نقطة صغيرة في محيط عظيم.
ومحالٌ أن يكون هو الهمَّ الوحيدَ للآخرين؛ لأن عندهم من أمورهم الخاصة والعامة ما يشغلهم عنه.
فإنْ هو وسَّع أفقه، ونظر إلى العالم الفسيح من حوله، ونسي نفسه كثيراً في سبيل مصلحة عامة أو نحو ذلك _ شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه، والقيود الثقيلة التي ينوء بها كاهله _ قد خفت كثيراً، وتحللت شيئاً فشيئاً.
وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغاً هو أشدهم ضيقاً بنفسه؛ لأنه يجد من زمنه ما يطيل التفكير فيها، فإنْ هو استغرق في عمله، وفكَّر في مصلحته الخاصة، ومصلحة أمته كان له من ذلك لذةٌ مزدوجةٌ: لذةُ الفكرِ والعملِ، ولذةُ نسيانِ الهموم.
قال الرافعي –رحمه الله-: "إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي".[/align]
 
قال الرافعي –رحمه الله-: "إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي".[/align]

أحسن الله إليكم يا أبا إبراهيم على هذه الوقفات ، ورحم الله الرافعي .
 
عودة
أعلى