مواقف المستشرقين من عملية جمع القرآن وتدوينه - الحلقة الثانية-

إنضم
05/01/2013
المشاركات
582
مستوى التفاعل
7
النقاط
18
العمر
64
الإقامة
تارودانت المغرب
مواقف المستشرقين من عملية جمع القرآن وتدوينه
- الحلقة الثانية-​
أ.د. محمد خروبات، أستاذ التعليم العالي
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش
00212666944441​
1- ما أُثير حول عملية جمع القرآن وتدوينه في عهد عثمان بن عفان (رضي الله عنه).
النص الأساس في قضية جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان بن عفان والذي اعتمد عليه المستشرقون كثيرا هو النص الذي أخرجه البخاري في جامعه الصحيح بسنده المتصل إلى ابن شهاب الزهري أن أنس بن مالك حدثه بأن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذريبجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمان بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: ( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق)[1].
هذا النص استشهد به كل من كاتب مادة " جمع القرآن" في الموسوعة الفرنسية[2]، وكارل بروكلمان في " تاريخ الأدب العربي " [3]، وترجموه ترجمة غير سليمة وغير منضبطة، وقفزوا على كثير من الفقرات، وغيبوا منه حقائقه الجوهرية، وعلقوا عليه تعليقا باهتا يقول كاتب المادة: ( cette seconde
histoire ne résiste pas plus que la première à une analyse
critique)[4] .
وتجانست بعض أحكامهم حول عملية الجمع في عهد عثمان، وتشابهت آراؤهم في الموضوع، وتماثلت تحليلاتهم، والسبب في ذلك أنهم توارثوها، وقلد بعضهم بعضا في الاستشهاد بها لأنهم- في غالب الأحوال- يجعلون جهود بعضهم في مجال الدراسات الإسلامية على وجه الخصوص هي مصادرهم الأولى التي تُستخلص منها المعرفة، وتُبنى عليها الأحكام.
- يقول ماسيه: (يمكن الافتراض أنه كان لعثمان هدف سياسي بعمله هذا يعادل الهدف الديني، فقد وصل إلى الخلافة بجهد، وكان أن عزز مركزه بإقراره نصا لا يتغير للكتاب المقدس)[5].
- ويقول ريجيس بلاشير أن الخلفية عثمان بن عفان سعى إلى تحقيق هذا الجمع بدافع من نزعته الأرستقراطية، وأن القرشيين الثلاثة الذين هم أعضاء في اللجنة الرباعية التي كلفها عثمان بكتابة القرآن هم أيضا ارستقراطيين تجمعهم بعثمان صلات المصاهرة والمصالح المشتركة، وقرار عثمان بحرق الصحف يُعد هتكا للقدسيات، فإن مصحف عثمان بقي غير مكتمل في جوانب كثيرة منه فإن النمط الخطي الذي استعمله الناسخون لم يزل بدائيا، ثم إن استنساخ المصاحف الخمسة الأساسية الموجودة في العواصم الإسلامية يثير مسألة خطيرة[6].
كذا قال، والله حسيبه!.
ويأبي كولد زيهر ألا أن يشارك بدوره في هذه المأدبة الشرقية الدسمة فيكتب بالحرف الواحد:
(ليس هناك نص موحد للقرآن، ومن هنا نستطيع أن نلمح في صياغته المختلفة أولى مراحل التفسير، والنص المُتلقى بالقبول " القراءة المشهورة" الذي هو لذاته غير موحد في جزئياته يرجع إلى الكتابة التي تمت بعناية الخلفية الثالث عثمان دفعا للخطر الماثل من رواية كلام الله في مختلف الدوائر على صور متغايرة، وتداوله في فروض العبادة على نسق غير متفق، فهي إذاََ رغبة في التوحيد ذات حظ من القبول ، بيد أن هذه الرغبة لم يصادفها التوفيق على طول الخط)[7].
ونجيب على ما جاء في هذه النصوص بما يلي مرجئين بعض القضايا الأخرى إلى حين معالجتها في موطن قادم بحول الله:
1- وصف عمل الخليفة عثمان رضي الله عنه بأنه كان لهدف سياسي هو وصف لا معنى له في الإسلام لأن كل ما كان من الدين فهو في السياسة، وكل ما كان لأجل السياسة النافعة والصالحة والتي لا تصادم الأحكام فهو من الدين، لأن السياسة والدين في الإسلام متلازمان، ولا فصل بينهما، وقد أخطأ المستشرقون حين أسقطوا قوالب الفكر العلماني وتجربة الدولة الوطنية في أوربا على فهم أحداث الإسلام وقضاياه.
2- إن الخليفة وصل إلى الخلافة عن طريق الشورى المحمودة لاعن طريق المزاحمة والمنافسة والمجاهدة كما حاول ماسيه أن يتأول، كما أنه لم يكن مبتدعا في عملية الجمع لتعزيز مركزه كما زعم ماسيه بل كان متبعا لسنة سلفه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكانت هناك أحداث جسام حتمت ذلك الجمع مع فارق كبير بين الحدثين، نقل الحافظ ابن حجر في الفتح ما يلي: (قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كَثُر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره كما سيأتي في " باب تأليف القرآن" واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت، فاقتصر على لغة واحدة وكانت لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها، وسيأتي مزيد بيان ذلك بعد باب واحد)[8].
3- عن لفظة الارستقراطية[9]، التي نعت بها بلاشير الخليفة عثمان رضي الله عنه والثلاثة القرشيون المشاركون في عملية الجمع، وهم :عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمان بن الحارث بن هشام تدل دلالة واضحة على أن الرجل يناقش بمفاهيمه، ويستخدم أدواته الشخصية من دون مراعاة خصوصية الثقافة المدروسة، فاللفظة عرفتها أوربا في عصره وقبل عصره، ولا معنى لإسقاط قضايا الواقع الأوربي على قضايا المجتمع الإسلامي في عهد الخلافة الراشدة، هذا العهد الذي يُعد من أزهى الفترات وأنقاها في تاريخ أمة الإسلام، والمسلمون أعرف بقضاياهم قبل بلاشير أو غيره، فلو كان أمر الأرستقراطية باديا لوقف عند حده، ولو كلف بلاشير نفسه عناء البحث والتنقيب لوجد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يستبد بفكرة الجمع، ولم يتعسف في اختيار اللجنة بل سأل واستشار، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: (وفي رواية مصعب بن سعد: فقال عثمان: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت، قال فأي الناس أعرب؟ - وفي رواية: أفصح- قالوا: سعيد بن العاص. قال: فليملل سعيد وليكتب زيد)[10]، وتمت العملية في ضبط مُحكم، وكانوا لا يكتبون شيئا إلا بحضرة الصحابة كلهم، وكان غير أولئك الأربعة المذكورين يشارك في عملية الجمع، قال أبو قلابة- وهو عبد الله بن زيد الجرمي 104هـ -: (حدثني أنس بن مالك: كنت فيمن يملي عليهم)[11].
وأخرج ابن أبي داود بسند متصل- رجاله ثقات- إلى محمد بن سيرين قال: (كان الرجل يقرأ حتى يقول الرجل لصاحبه كفرت بما تقول فرفع ذلك إلى عثمان بن عفان فتعاظم ذلك في نفسه، فجمع اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وأرسل إلى الربعة التي كانت في بيت عمر فيها القرآن فكان يتعاهدهم. قال محمد- يعني ابن سيرين -: فحدثني كثير بن أفلح أنه كان يكتب لهم فربما اختلفوا في الشيء فأخروه فسألت لم تؤخرونه؟ قال: لا أدري. قال محمد: فظننت فيه ظنا فلا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبوه على قوله)[12].
إذن لا مجال للشك في عمل اللجنة إطلاقا، ولا مجال للتشكيك في نية عثمان رضي الله تعالى عنه في هذه المنقبة التاريخية العظيمة.
ومن الأوهام التاريخية التي وقع فيها المستشرقون الباحثون في توثيق نص القرآن الكريم وجمعه في هذه الفترة قولهم إن جمع المصحف في عهد عثمان إنما كان في حدود سنة 30 هجرية المواقف 19 من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التاريخ ذكرته بعض المصادر خطأ[13]، وهو من أوهام الإخباريين والرواة- وما آفة الأخبار رواتها- وذكرهم لهذا التاريخ جعل ريجيس بلاشير يستغرب من ذكر ابن أبي داود لأبي بن كعب في لجنة الجمع ومن المفروض أن يكون قد توفي قبل هذا التاريخ[14].
وهذا تحليل قد نُسلم به لو كان صحيحا، فالصحيح المحقق هو أن الجمع كان في سنة 25 من الهجرة النبوية، وهو التاريخ الذي يصادق غزو أرمينية وأذريبجان، وقد تتبع الحافظ ابن حجر هذه الأمر فقال: ( وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان فقال: يا أيها الناس، إنما قُبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القراءة) ، الحديث في جمع القرآن[15]، وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر، فإن كان قوله (خمس عشرة سنة) أي كاملة فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته، لكن وقع في رواية أخرى (منذ ثلاث عشرة سنة)[16]، فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى، فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته، فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فُتحت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قبل عثمان[17]، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستندا )[18].
والعجيب في الأمر كيف أن المستشرقين تعلقوا بسنة ثلاثين من دون أن يحققوا في أمرها، أو على الأقل أن يقفوا على ما كتبه الحافظ ابن حجر في تفنيدها، وهم قد أطلعوا على فتح الباري واعتمدوه في دراساتهم وأبحاثهم حول القرآن ومع ذلك فإن المفاضلة تبقى جارية بين عمل أبي بكر وعمل عثمان رضي الله عنهما في عملية جمع القرآن وتدوينه، وذلك بموجب خصال انفرد بها عثمان على أبي بكر في هذه العملية، هذه الخصال هي التي يحددها عبد الرحمان بن مهدي الحافظ الناقد والمحدث البصري المتوفي سنة 198 هـ فيقول: (خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبي بكر ولا لعمر: صبره على نفسه حتى قُتل مظلوما، وجمعه الناس على مصحف)[19].
وإذا أردنا أن نُجمل القول في صنيع عثمان وما فعله في المصاحف بمعية زيد بن ثابت وسائر الصحابة فلن نجد أبلغ قول مما ذكره محمد بن جرير الطبري، والذي كان كتابه جامع البيان في تفسيرالقرآن مجالا للاختيار وللانتقاء من قبل المستشرقين يقول: ( وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب الكتاب، والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه جمع المسلمين نظرا منه لهم، وإشفاقا منه عليهم، ورأفة منه بهم حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام، والدخول في الكفر بعد الإيمان إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة[20]، التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر، فعلمهم رحمة الله عليه إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره، وحداثة عهدهم بنزول القرآن ، وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بما امن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن على حرف واحد، وجمعهم على مصحف واحد أو حرف واحد، وحرق ماعدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية..)[21].
2- ما أُثير حول حرق مصحف ابن مسعود من قبل عثمان (رضي الله عنهما).
أراد المستشرقون أن يختلقوا العداوة بين الخليفة عثمان بن عفان والصحابي عبد الله بن مسعود فقد اعتبر كولد زيهر أن ما فعله عثمان بن عفان من حرق مصحف ابن مسعود إنما هو بدافع الانتقام والحقد لأن ابن مسعود ألقى خطبة عنيفة على ملإ من الناس خطَّأ فيها سياسة عثمان لأمره بنفي أبي ذر الغفاري، وذكر أن عثمان لما تولى الخلافة نحَّى عبد الله بن مسعود على ولاية الكوفة وولَّى مكانه الوليد بن عقبة، إضافة إلى ذلك – يضيف زيهر- أن أسلوب حياة الخلفية عثمان كان قليل الانسجام مع الذوق العام عند صالحي المسلمين، وحكم على عملية الحرق بأنه (عمل تعسفي غير صالح)[22].
حدا حدو زيهر في هذه الشبهة ريجيس بلاشير الذي تقدم معنا أنه اعتبر العملية انتهاكا للقدسيات.
والجواب على هذا أن مصحف عبد الله بن مسعود هو جزء من مصاحف الصحابة، وأن عثمان لم يقدم على حرق مصحف ابن مسعود وحده بل شمل الحرق مصاحف الصحابة كلهم، فلماذا التركيز على مصحف ابن مسعود وحده؟!.
أما عملية الإحراق في حد ذاتها فكان فيها خير كثير لهذه الأمة، وهذا الخير لا يبصره إلا من كان هواه مع مصلحة الأمة وكانت نظرته في روح الموضوع لا في هوامشه، وفي مقاصده لا في وسائله، ذلك أن بقاء المصاحف الفردية سيكثر من الخلاف، أو ليس وجودها هو سبب الاختلاف؟
ثم لماذا أحرقها؟
أحرقها لأن فيها القرآن المنسوخ، والقرآن المختلط بالتفسير، والقرآن المختلط بالفقه، والقرآن المختلط بالحديث، وفيها من القراءات الشاذة والمنكرة الشيء الكثير...
ثم إن عثمان لم يقدم على إعدام المصاحف الفردية إلا بعد أن استشار مع الصحابة ، وأخذ الموافقة على ذلك بالإجماع، لأن هذا الإقدام فيه مصلحة، والإحجام فيه مضرة، وهذه تزكية أحد كبار الصحابة الذين وقفوا على العملية وأيدوها وهو الخلفية الرابع، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقد أخرج ابن أبي داود بسنده إلى سويد بن غفلة قال: "والله لا أحدُكم إلا شيئا سمعته من علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمعته يقول: يا أيها الناس لا تغلو في عثمان، ولا تقولوا إلا خيرا – أو قولوا له خيرا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل في الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا جميعا"[23].
ثم يواصل علي بن أبي طالب في هذه الرواية ليؤكد أن هذا الأمر كان شورى بين عثمان وبقية الصحابة، وأن عثمان حصل على الموافقة في ذلك، قال علي بن أبي طالب: (فقال: أي عثمان – ما تقولون في هذه القراءة؟ ، فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرا! قلنا فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ، ولا يكون اختلاف قلنا: فنعم ما رأيت)[24].
وفي هذه الرواية قال علي: (والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل)[25].
ومن الدرر المفيدة التي تضمنتها هذه الرواية أن عليا بن أبي طالب قال في مطلعها: (يا أيها الناس لا تقولوا في عثمان إلا خيرا) فنرجو من المستشرقين اللاحقين أن يقولوا خيرا لأنهم من جملة الناس، وأن يقولوا خيرا كما قال أصحاب الدار خيرا، وأن يقولوا خيرا كما قالت أمة الإسلام فيما فعله عثمان خيرا.
ومما تجب الإشارة إليه أن الشك سيخامر بعض الباحثين في الروايات التي جاء في بعضها الإحراق، وفي أخرى المحو فيحكمون على بعضها بالاضطراب ، أو يرجحون إحداها على الأخرى كما فعل الدكتور صبحي الصالح رحمه الله حين علق قائلا:
(نطق حديث البخاري كما رأينا بإحراقها ولكن ابن أبي داود يأبى إلا أن يذكر عددا من الروايات المتضاربة في هذا الموضوع فيتردد في إحراق الصحف وتمزيقها وقذفها في الماء، ونحن بلا ريب إنما نأخذ برواية البخاري الصحيحة فلا داعي للتردد، فلقد أُحرقت تلك المصاحف وكفى الله المؤمنين شر بقائها)[26].
فهذا اجتهاد مقبول منه – رحمه الله – وترجيح معقول، فصحيح جدا أن رواية حذيفة بن اليمان التي أخرجها البخاري جاء في طرفها الأخير (الإحراق)[27]، وصحيح أن ابن أبي داود أخرج جُملة من الروايات في الموضوع بعضها يقول بالإحراق[28]، وبعضها يقول بالمحو[29]، وبعضها يقول بالتمزيق[30]، والموقف الذي يبدو لنا صائبا تُجاه هذه الروايات هو الجمع بينها، ذلك أن القرآن الكريم كان يكتب – على عهد الرسول الله والصحابة- في مواد لينة ، وأخرى صلبة، ومن هذه المواد ما هو قابل للحرق، ومنها ما هو قابل للمحو، ومنها ما هو قابل للتمزيق- يقول السيوطي فيما نقله من كتاب فهم السنن للحارث المحاسبي: (وقد تقدم في حديث زيد[31] أنه جمع القرآن من العُسب واللخاف، وفي رواية: والرقاع، وفي أخرى وقطع الأديم وفي الأخرى: والأكتاف، وفي الأخرى: والأضلاع، وفي أخرى: والأقتاب، والعسب- جمع عسيب- وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف (...) وهي الحجارة الدقاق، وقال الخطابي صفائح الحجارة، والرقاع- جمع رقعة- وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد، والأكتاف - جمع كتف- وهو العظم الذي للبعير أو الشاة، كانوا إذا جف كتبوا عليه، والأقتاب – جمع قتب- وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليُركب عليه...)[32] وقد تقدم معنا نحو هذا البيان لكننا نعيده هنا لتأكيد المعنى، وذلك لاختلاف المقام.
3- ما أُثير حول مواقف عبد الله بن مسعود من زيد بن ثابت.
تعلقت أقوال المستشرقين التي استهدفت عملية جمع القرآن باحتجاجات عبد الله ابن مسعود التي تناولتها بعض الروايات، والواقع أننا إذا نظرنا في هذه الروايات نجدها تجسد موقف عبد الله بن مسعود من مسألتين:
- المسألة الأولى: حول حرق مصحفه.
- المسألة الثانية: حول طريقة جمع القرآن.
وهما مسألتين متلازمتان ما فتئ المستشرقين يفرقون بينهما.
وأما الروايات فإنها تبين أن عبد الله بن مسعود شق عليه (صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب من طريق عبد الرحمان بن مهدي عنه قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال يا معشر المسلمين، أُعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟ يريد زيد بن ثايث)[33].
وهذه الرواية ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح ولم يعلق عليها من جهة التصحيح والتضعيف، وفي الموضوع روايات أخرى جاءت بما هو أكثر من هذا، ومجمل هذه الروايات أخرجها ابن أبي داود وغيره ، وقد جمعتها وحققتها من جهة التصحيح والتضعيف وما يترتب على هذا من قبول أورد. وذلك في مبحث سيأتي بعد هذا إن شاء الله).
ومجمل هذه الروايات إن سلم قليلها فكثيرها مردود لا يُعول عليه، والواقع أن عبد الله بن مسعود وإن ثبت عنه أنه امتنع في البداية عن حرق مصحفه فلم يثبت عنه أنه قال ذلك الكلام، والرواية التي ذكرها الحافظ بن حجر نقلا عن الترمذي[34] هي معلولة بالانقطاع، فعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود مع ثقته لم يسمع من عبد الله بن مسعود، فروايته عنه مرسلة، وهذا ظاهر في سند الرواية ، فإنه لم يذكر سماعا ولا رؤية[35].
وعلى فرض صحة بعض هذه الأخبار، فما وقفه عبد الله بن مسعود هو موقف له ما يُبرره، لأنه كان بالكوفة، وكان لا يعلم ما يجري بالمدينة، ثم إن مقاصد الجمع والأهداف المتوخاة من عملية إتلاف المصاحف الفردية لم تتضح له بجلاء فاستصدر قولا يقضي بامتناعه عن حرق مصحفه، وكان أهل الكوفة قد تعلقوا به تعلقا شديدا .
ثم إن عبد الله بن مسعود ليس رجلا عاديا بل هو من كبار الصحابة سنا وعلما، فقد حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مباشرة، يقول ابن مسعود – فيما أخرجه ابن سعد في طبقاته- (أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة)[36]، وفي رواية أخرى: (سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد)[37].
وكان عالما بسور وآيات القرآن، وعارفا بأسباب النزول يقول: (ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل أو المطايا لأتيته)[38]، وهو صاحب حديث (كيف أقرأ عليك، وعليك أنزل؟)[39]، وكان من كتاب الوحي، وله فضائل أخرى كثيرة ، ومع هذا كله فقد استنكر الصحابة موقف عبد الله بن مسعود ولم يرضه أحد منهم، قال محمد بن شهاب الزهري: (بلغني أنه كره ذلك من مقالة عبد الله ابن مسعود الصحابة)[40].
والمقالة المقصودة هنا ليست من نوع ما تعلق به المستشرقون من الشتم والقدح في الخليفة عثمان وفي زيد، وإنما هي محمولة على استصداره لقول يقضي بامتناعه عن حرق مصحفه، والعذر مع عثمان في عدم إحضار عبد الله ابن مسعود لهذه المنقبة العظيمة، فعملية الجمع- كما تقدم- كانت بالمدينة وابن مسعود بالكوفة، واستدعاؤه إلى المدينة سيؤخرها، وعثمان أراد أن يسرع بالعملية حتى لا يتفاقم أمر الاختلاف في قراءة القرآن.
لقد جعل المستشرقون من هذه الحكايات والأخبار مادة للتحليل والتعليق وبطريقتهم المتميزة في التحليل أحدثوا نوعا من التلاطم والتضاد والصراع بين الصحابة، ومالوا مع احتجاجات عبد الله بن مسعود، وبنوا عليها أحكاما خطيرة، وركزوا على زيد بن ثابت أيما تركيز، ومن طرائقهم في البحث أنهم يأتون بهذه الروايات مجردة عن كل الأسانيد، فكولد زيهر في (مذاهب التفسير الإسلامي) يورد نصوصا من ذلك، قائلا: (وقد روي)، ويقول: (وفي رواية أخرى) ويقول في أخرى: (كما روى) إلى غير ذلك من صيغ التعليق التي تدل على أن الرجل لا يفقه في علم الإسناد شيئا، وليست له الجرأة الكافية لإيراد الروايات بأسانيدها، بل – وهذا أفظع- لا يحيل حتى على مظانها ومصادرها، وهذا يوهم أن هذه الروايات محفوظة ومشهورة لا تحتاج إلى سند ولا إلى توثيق، وهذه طريقة خطيرة في المنهج المعرفي عند هؤلاء، لأن هذه الأخبار إنْ كُتب لها أن تشتهر في صفوفهم، وتنتشر في مظانهم فهي عندنا لا تعدو أن تكون شاذة ومنسوخة، ومن أخبار الآحاد المرجوحة.
وإذا أردنا أن نجيب عما قيل في زيد بن ثابت فلا نجد أبلغ حجة في القول بأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يعرف زيدا ويعرف قدره لأسباب منها:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله كاتبا للوحي، وقربه منه، وهذا ما حدا بكاتب مادة جمع القرآن في الموسوعة من أن يصفه ب (secrétaire du prophète)[41].
2- شهد تنزيل القرآن الكريم، وحضر مرارا نزول جبريل بالوحي، وشهد العرضة الأخيرة للقرآن.
3- قال له أبو بكر رضي الله عنه: "إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه"[42].
وعلق الحافظ ابن حجر على هذا القول فقال: (ذكر له أربع صفات بذلك، كونه شابا فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له ، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة)[43].
4- كان رضي الله عنه من أشهر الصحابة حفظا للقرآن وقراءة له.
5- شهد له الصحابة بجودة الكتابة ، وحسن الخط حين سألهم عثمان: (من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت)[44].
6- لم يكن زيد بن ثابت يقوم بعملية الجمع بمبادرته الشخصية، ولا بصفته الفردية، بل هو أمر من الخليفة، أخرج ابن أبي داود بسند منقطع- مع ثقة رجال السند- أن أبا بكر قال لزيد وعمر بن الخطاب: ( اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه)[45].
وتقدم معنا في رواية محمد بن سيرين- عند ابن أبي داود- انه كان مع زيد بن ثابت إثنى عشر رجلا من الأنصار وقريش، وأن عثمان كان يتعاهدهم بين الحين والحين.
7- استدعاء زيد بن ثابت لعملية الجمع الثاني يوازي استدعاء حفصة رضي الله عنها لتقديم المصحف الإمام الذي جُمع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وذلك لسبب واحد هو أن هذا المصحف كُتب بخط زيد بن ثابت، فهو أدرى به من غيره[46].
فكيف إذن يحتج عبد الله بن مسعود على زيد بن ثابت وحده وفي اللجنة غيره ممن هو دونه في هذه المناقب والفضائل؟
إن نفسي تميل ميلا قويا إلى التشكيك فيما جاء على لسان عبد الله بن مسعود، وقد ذكرت فيما مضى أن تلك الروايات لا تعدو أن تكون شاذة وضعيفة، وهذه هي الأوصاف التي تليق بغالب الروايات التي أخرجها عبد الله بن أبي داود السجستاني في كتابة (المصاحف)، ففيها من المدرج والمعضل والشاذ والمنكر والمنقطع والمرسل الشيء الكثير، والعيب كل العيب يقع على كاهل المستشرق الأمريكي الدكتور آرثر جيفري الذي اكتفى بإخراج متن الكتاب من دون التعليق على رواياته، فلو أنه فعل لكفى المستشرقين مصيبة الوقوع في طامات الحديث المعلول، لكن أنَّى له أن يفعل وقد قعقع في مقدمة الكتاب قعقعات كان أحرى به أنه يطبع الكتاب من دون ذلك الكلام الذي ناقض فيه منهجه، وأبان فيه بكل جرأة أنه ضد النقل وضد منهج تحقيق الآثار، فقد ماثل بين عمل الذين يُحققون الأخبار ويفحصون الأسانيد وبين عمل من ينظر في المتن دون النظر في السند، فجعل الصنف الأول من أهل النقل والطريقة القديمة، والصنف الثاني من أهل العقل، ووصف أهل الصنف الأول بأنهم (اعتمدوا على آراء القدماء، وعلى هذه التخيلات التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم- كذا) وأنهم (إذا ما وجدوا بين هذه الآراء خلافا اختاروا واحدا منها وقالوا إنه ثقة وغيره ضعيف أو كاذب- كذا-) ثم وازى بهذا الصنف الصنف الثاني الذي قال فيه: (وأما أهل التنقيب فطريقتهم في البحث أن يجمعوا الآراء والظنون والأوهام والتصورات بأجمعها ليستنتجوا بالفحص والاكتشاف ما كان منها مطابقا للمكان والزمان وظروف الأحوال معتبرين المتن دون الإسناد...[47])[48].
وإذا أردْتَ أن تعرف منهم أصحاب الصنف الأول فقف عند قوله الآتي: (ولما ظهرت الطبعة الأولى من كتاب نولدكه تجنى عليها بعض أصحاب النقل في الشرق، واتهموه بالطعن في الدين، وزعموا أن الذين يتتبعون هذه الطريقة ليسوا خالين من المعاناة في أبحاثهم مع أن إنصافهم وصدق نيتهم وعدم محاباتهم ظاهرة؟، ويتبين من كتبهم أنهم لا يرومون إلا الكشف عن الحق، وكان عيبهم الوحيد في أعين أهل النقل أن يعتبرون المتن دون الإسناد، ويختارون من آراء القدماء ما يطابق ظروف الأحوال من أسانيد متواترة كانت أم ضعيفة، فكثيرا ما تُناقض نتائج أبحاثهم بهذه الطريقة تعليم أهل النقل الذي قد عرف بين العلماء من زمن بعيد)[49].
وهذا الكلام هو على أصحاب الصنف الثاني، فالمفهوم من منطوقه أنهم المستشرقون المحققون، وقد ذكر منهم تيودور نولدكه، فزكاه وزكى مؤلفه في تاريخ القرآن وأطنب عليه.
وما ذكره يُبين أن الرجل غير ضليع في علوم الإسلام، وليست له الخبرة الكافية ولا إلمامة منها بالمنهج الذي يضبط المعرفة الشرعية، لأن علوم الشرع قاطبة أساسها النص، وطريق النص (المتن) السند، والسند كما قال عبد الله بن المبارك من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء [50]، والمستشرقون غيبوا الإسناد وعولوا على المتون فقالوا ما شاءوا.
ثم إنها مسألة لا تُستساغ على المستويين المنهجي والمعرفي لأن جيفري – على سبيل المثال- غفل وهو يقول ذلك الكلام أنه يُقدم لكتاب خرَّج الآثار بالأسانيد، وصاحب الكتاب رجل من أهل النقل فكيف ينقض منهجه ويعاكس عمله؟!.
قلت فيما مضى أن الروايات التي تضمنت أقوالا عنيفة لابن مسعود- إذا سلمنا بصحة بعضها- فهي منسوخة جُملة لأن عبد الله بن مسعود تراجع عن امتناع حرق مصحفه، وأذعن لقرار عثمان بن عفان لما استبان له صوابه، وقد ترجم ابن أبي داود في كتابه المصاحف ما يفيد ذلك فقال: (باب رِضى ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان)[51] ، غير أنه لم يورد تحت هذا الباب ما يشهد له من الروايات، وأظن أن ذلك من سقط النساخ والرواة، وكيفما كان الحال فإن ابن أبي داود ذكر ما يفيد أن عبد الله بن مسعود رضي بعملية الجمع، وقال فيها خيرا[52]، وذكر ابن الأثير ما يفيد أن طائفة من تلامذة عبد الله بن مسعود شايعوا مصحف إمامهم عصبية[53]، في الوقت الذي قبله سائر الصحابة، لكن ابن مسعود كان صارما في إيقافهم عند حد الواجب والمصلحة العامة فخطب فيهم قائلا: (وَلَّى كل ذلك، فإنكم والله قد سبقتم سبقا بَيِّنا فأربعوا على ضلعكم).
قال ابن الأثير: (فزجرهم عبد الله بن مسعود فأنزجروا)[54].
وفعلا فإن مصحف ابن مسعود حرق بطاعته وعن رضاه، وحصلت الأمة على مصحف إمام جامع نُسخت منه سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا[55].
4- ما أُثير حول مواقف علي بن أبي طالب من عثمان في عملية الجمع.
في هذا الموضوع قضيتان إستشراقيتان:
الأولى: وهي أن ريجيس بلاشير شك في أن يكون علي بن أبي طالب أيد موقف عثمان في عملية جمع المصاحف وإحراقها بعد ذلك، يقول: (لقد ذهبت الرواية إلى أبعد من ذلك، إلى الاعتقاد أن عليا نفسه أيد الجمع الذي قام به الخليفة... وهذا المعطى مشكوك فيه)[56].
الثانية: وهي لهنري ماسيه الذي قابل بين موقف الشيعة وعلي بن أبي طالب وموقف السنة وعثمان بن عفان فقال: (إن الشيعيين يؤكدون أن المقاطع التي تتعلق بعلي وعائلته قد حُذفت بأمر عثمان، ويستندون في ذلك إلى عدم تلاحم بعض المقاطع ، ويعتبرون أن النص الأصلي قد انتقل سرا من كل إمام إلى خلفه، وسيظهر في النهاية عند ظهور الإمام المختفي)[57].
والجواب السليم على هذا كله هو ما جاء على لسان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه- فيما أخرجه ابن أبي داود- بسنده إلى سويد بن غفلة قال: قال علي: ( لا تقولوا في عثمان إلا خيرا، فوالله ما فعل في الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا، قال: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد يكون كفر؟ قلنا: فما ترى؟ أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا فنعم ما رأيت)[58].
وهذه هي الرواية التي قصدها بلاشير في السابق وعلق عليها فقال: (وهذا المعطى مشكوك فيه) ، ولا ندري ماذا يقصد بهذه العبارة، وما وجه الشك فيها ، وما هي القواعد والطرق العلمية التي استخدمها في رد هذه الرواية، وهي رواية صحيحة نقلها الحافظ جلال الدين السيوطي في الإتقان[59] عن ابن أبي داود وقال: (وأخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد...)[60].
وفي رواية أخرى عن سويد: (قال علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته)[61] ، وهذا الموقف الإيجابي الذي وقفه علي رضي الله عنه هو موقف الصحابة جميعا، فقد روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص- وهو رجل ثقة[62]، ما نصه: (أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك، منهم أحد)[63]، ويظهر أنه لم يستثن ابن مسعود لرجوعه إلى رأي الخليفة عثمان.
ومما تجب الإشارة إليه في هذا السياق أن عملية جمع المسلمين على مصحف إمام هي مبادرة أولى نحو انطلاق معرفة شرعية موحدة، وثقافة جامعة متماسكة دستورها النص القرآني الموحد، وإلى هذا أشار غنيم بن قيس المازني المتوفي سنة 90هـ ، وأبو مجلز لاحق بن حميد المتوفى سنة عشر ومائة- وهما ثقتان- فيما أخرجه ابن أبي داود عنهما، قال غنيم بن قيس: (لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون الشعر)[64]، وفي رواية أبي مجلز مثله[65].
فظهرت – من مجموع ما تقدم- المطابقة بين موقف علي بن أبي طالب وموقف الصحابة والتابعين، ولم يكتف علي بن أبي طالب بتزكية عمل عثمان وحده، بل زَكَّى عملية الجمع الأول التي تمت بعناية الخليفة أبي بكر وكان علي خير شاهد عليها، فقد أخرج ابن أبي داود بسنده إلى عبد خير – وهو ابن يزيد أبي عمارة الكوفي –قال: سمعت عليا يقول: ( أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله ) [66]، وسند هذه الرواية حسن[67].





5- خلاصة:

اِتضح مما مضى أن المستشرقين تكلموا في القرآن الكريم، وفي مراحل تدوينه وجمعه، والناظر في هذا المُعطى يجده لا يخرج عن كونه يشكل ثقافة أخرى من ثقافة تاريخ القرآن، وعلما آخر من العلوم الحديثة التي استُحدثت لأجله، لها أعلامها ومصادرها وقواعدها الجديدة في البحث ، وطرقها المتميزة والمتباينة في التعليل والتأويل والحكم والاستنتاج...
والذي لاحظناه أن عملية جمع القرآن في عهد الخليفة عثمان كانت من أكثر الموضوعات دراسة عند المستشرقين، ومرحلة عثمان (رضي الله عنه) كانت من أكبر المراحل التي وقفوا عندها، والسبب في ذلك أنها تمثل منعطفا ذا أهمية بالغة بالنسبة لتوثيق المصحف الشريف لأنها آخر مراحل تدوين القرآن، والقرآن الكريم المتداول في فروض العبادة اليوم يرتبط بهذه لمرحلة ارتباطا قويا.
وقبل الختم لابد من إبداء ملاحظتين اثنتين: إحداهما معرفية والأخرى منهجية:
- من الناحية المعرفية: تبقى (بعض) آرائهم غير صائبة، ومُضللة أحيانا، وواهية في أحيان أخرى، وضعيفة في كثير من الحالات لأنها لا تعتصم سوى بالأخبار الواهية، والصحيح فيها لا يعدو أن يكون من خبر الآحاد الذي يعارض المتواتر ويخالفه، ومعلوم أن القاعدة الإسلامية عندنا- في هذا المقام- إذا تعارض خبر الواحد مع المتواتر حكم للمتواتر، بل حتى الترجيح يبقى هنا غير لائق، لماذا؟ لأن الترجيح لا يكون إلا بين متواتر ومتواتر تعارضا، وبين أحاد وأحاد تعارضا، أما بين الآحاد والمتواتر فالبون شاسع، والهوة كبيرة بينهما، إذ لا مجال للموازنة بين طرفين متباينين جدا، وهذا يقودنا في النهاية إلى اعتبار الملاحظات والأحكام والاستنتاجات التي بُنيت على خبر واحد هي الأخرى لا تصمد بله تتقدم على الملاحظات والأحكام والاستنتاجات التي بُنيت على الأخبار المتواترة في الموضوع.
- من الناحية المنهجية: أن عطاءات المستشرقين في مجال الدراسات الإسلامية بصفة عامة لا يمكن تقويمها تقويما صائبا إلا بوضعها في إطارها العام الذي انبثقت منه، هذا الإطار الذي يرسم الثقافة الإستشراقية بصفة عامة ويحدد وضعيتها في ولائها للدولة الوطنية الهادفة إلى اكتناه الآخر لآجل تقريبه، وهي خطوة نحو ممارسة السلطة والسيادة عليه، والسلطة هنا بالمعنى التي أرادها إدوارد سعيد للكلمة، إنها سلطة الإنشاء والمعرفة وهي على كل حال سلطة الاستراتيجية لا التملك، ولذلك عاش المستشرق- في الدراسات الإسلامية- كأي أوربي في غالب الأحوال- ويمكن للباحث أن يجزم بهذا الأمر من دون تردد- سيدا على النص، مقررا بأحكام كيفما اتفقت، لا يُراعي خصوصية المجال ولا سلطة الحقل...والسيادة المقصودة هنا هي سيادة التسلط لا سيادة الشرف ، هكذا قدم الاستشراق نفسه ، وعزله عن هذا السياق لا معنى له على المستويين المنهجي والمعرفي.








[1] - فتح الباري- باب جمع القرآن – 9/11 رقم الحديث 4987.

[2] - voir encyclopédie de l'islam, p. 406.

[3] - انظر تاريخ الأدب العربي 1/140.

[4] - Encyclopédie de l'islam, p. 406.

[5] - l'islam, p. 78.

[6] - introduction au loran, p. (57-60)

[7] - مذاهب التفسير الإسلامي، ص: 6.

[8] - فتح الباري، 9/21.

[9] - راجع تعليق الدكتور صبحي الصالح رحمه الله على هذه الشبهة في كتابه النفيس (مباحث في علوم القرآن) ص: 79-80 (الهامش) – طبعة دار العلم للملايين لبنان الثانية عشرة يناير كانون (الثاني) 1981.

[10] - فتح الباري، 9/19.

[11] - جامع البيان للطبري 1/21، وهي عند ابن أبي داود في المصاحف، ص: 21 بمتن مضطرب.

[12] - كتاب المصاحف، ص: 25 و يشهد لهذه الرواية ما ذكره أبو قلابة في تتمة الرواية السابقة عند محمد بن جرير الطبري. انظر جامع البيان 1/21.

[13] - ابن الأثير في الكامل فإنه ساق خبر حذيفة بن اليمان في حوادث سنة ثلاثين وهو وهم إنما هذا كان قبل هذا التاريخ ، انظر الكامل في التاريخ 3/55-56 ، وكذلك ابن الجزري في النشر فإنه قال: ( ولما كان في نحو ثلاثين من الهجرة في عهد عثمان رضي الله عنه حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية وأذريبجان فرأى الناس يختلفون في القرآن...) وهو وهم أيضا ، انظر النشر في القراءات العشر 1/7- طبعة دار الكتب العلمية بيروت- لبنان.

[14] - introduction au Coran p53.
وانظر تعليق الدكتور صبحي الصالح على الموضوع في (مباحث في علوم القرآن) ص: 79 الهامش -، ولا أدري كيف تعلق بلاشير بتاريخ وفاة أبي بن كعب فجعله قبل سنة ثلاثين في حين أن الحافظ ابن حجر يقول في ترجمته من التقريب :(اختلف في سنة موته اختلافا كثيرا ، قيل: سنة تسع عشرة وقبل اثنين وثلاثين وقيل غيرذلك )

[15] - يريد بذلك ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق غيلان عن أبي اسحق عن مصعب بن سعد، ص: 24.

[16] - وهذه الرواية أخرجها ابن أبي داود من طريق إسرائيل عن أبي اسحق عن مصعب بن سعد، ص: 23-24.

[17] - ذكر ذلك ياقوت الحموي في فتح أذريبجان وقال أن الوليد بن عقبة الذي ولاه عثمان بن عفان على الكوفة هو الذي غزا أذريبجان سنة خمس وعشرين ، انظر معجم البلدان 1/129 ، طبعة دار إحياء التراث العربي- بيروت- لبنان.

[18] - النص في فتح الباري، 9/17.
وقوله: (غفل بعض من أدركناه...) يشير به إلى ابن الجزري الذي كانت وفاته سنة 833 هـ.

[19] - أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسنده إليه، ص: 13.

[20] - لمعرفة الأحرف السبعة، انظر ما كتبه الدكتور فاروق حمادة تحت محور: ما هو المقصود بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم؟ في كتابه: (مدخل إلى علوم القرآن والتفسير) ص: 174 وما بعدها.

[21] - جامع البيان، 1/22.

[22] - مذاهب التفسير الإسلامي، ص: 19-20.

[23] - كتاب المصاحف، ص: 22-23.

[24] - المصدر السابق.

[25] - المصدر السابق.

[26]- مباحث في علوم القرآن، ص: 82 (الهامش).

[27] - تقدم معنا أن الرواية أخرجها البخاري في جامعه الصحيح، أنظر فتح الباري 9/11 رقم 4987.

[28] - انظر ما أخرجه ابن أبي داود في الصفحات الآتية من كتاب المصاحف، ص: 20 وص: 12 و ص: 23.

[29] - أنظر ما أخرجه في الصفحة 22، المصدر السابق.

[30] - أنظر ما أخرجه في الصفحة 15 ، المصدر السابق.

[31] - في رواية زيد بن ثابت عند البخاري، أنظر الفتح 9/11 رقم الحديث 4986 ، وراجع تعليق الحافظ ابن حجر على هذه المواد في الفتح 9/14.

[32] - الإتقان 1/60.

[33] - انظر فتح الباري: 9/19.

[34] - وضعوا على لسانه رضي الله عنه أنه قدم قراءته على قراءة زيد بن ثابت، وأنه حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وزيد له ذؤابتان يلعب مع الغلمان، وأنه غَلَّظَ الكلامَ في حذيفة بن اليمان ودعا عليه بالغرق، كما أدرجوا فيما تباهى به من علمه بالقرآن وحفظه له أخبارا تفيد النيل من زيد والإجماع على عملية الجمع، وهذه المرويات سنتابع أمرها فيما يأتي من كلام في هذا الموضوع.

[35] - وهذه الرواية بنفس السند أخرجها ابن أبي داود في المصاحف، ص: 17.

[36] - الطبقات الكبرى لابن سعد 2/342- طبعة بيروت 1957م.

[37] - المصدر السابق.

[38] - أخرجه ابن سعد في المصدر السابق.

[39] - المصدر السابق، وأخرجها البخاري في الجامع الصحيح، انظر 9/93-94 رقم 5049 و 5050.

[40] - فتح الباري 9/19، والمصاحف لابن أبي داود، ص: 2.

[41] - encyclopédie de l'islam p. 406.

[42] - أخرجه البخاري انظر فتح الباري 9/10 رقم الحديث: 4986.

[43] - الفتح 9/13.

[44] - المصدر السابق، 9/19.

[45] - المصاحف، ص: 10.

[46] - زيد بن ثابت هو ابن الضحاك بن لوذان الأنصاري البخاري أبو سعيد، وأبو خارجة، صحابي جليل، من رواة العلم، شهد له جمهور الصحابة بالفضل وجلالة القدر، وأشادوا بأعماله، مات سنة 45 ه، وقيل 48ه، وقيل بعد الخمسين ، أنظر التقريب 1/272 رقم الترجمة 161، وفتح الباري 9/13.

[47] - إن جيفري صادق في كلامه، فالمتون التي رواها الزنادقة والضعفاء والمجاهيل والكذابون والوضاعون وأهل الهوى والدس والكيد لا حرج عليها عند المستشرقين لأن منهجهم واضح، وهو اعتبار المتون دون الأسانيد، فتأمل!!.

[48] - مقدمة جيفري لكتاب المصاحف، ص: 4.

[49] - مقدمة جيفري لكتاب المصاحف، ص: 4.

[50] - أخرجه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحة، ص: 15 ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، طبعة دار الحديث- مصر.

[51] - أنظر كتاب المصاحف بتحقيق المستشرق الأمريكي آرثرجيفري.

[52] - كتاب المصاحف، ص: 18.

[53] - أقصد هنا عصبية المشيخة، فإن أصحاب ابن مسعود هم طائفة من الطلبة الذين حصلوا عنه العلم، واشتهرت الكوفة بأنها مدرسة أستاذها الأول ابن مسعود ، فبدهى جدا أن يقع هذا الارتباط القوي بين الكوفيين وابن مسعود من جهة التعلق بمصحفه، ويُفسر ذلك ما ذكره ابن الأثير من أن عليا بن أبي طالب لما حل بالكوفة زائرا قام إليه أحد طلبة ابن مسعود فعابَ عثمانَ بجمع الناس على مصحف، فصاح فيهم وقال قولته المشهورة في الثناء على عثمان وعلى عمله في المصاحف ، أنظر الكامل، 3/56.

[54] - الكامل في التاريخ، 3/56.

[55] - الإتقان، 1/62.

[56] - introduction au Coran p. 63

[57] - l'islam p. 79

[58] - ماسيه- الإسلام، ص: 108.

[59] - الإتقان، 1/61.

[60] - المصدر السابق.

[61] - أخرجه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 12.

[62] - انظر ترجمته في التقريب 2/251 رقم 1152.

[63] - أخرجه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 12.

[64] - أخرجه ابن أبي داود في المصدر السابق، ص: 13.

[65] - أخرجه ابن أبي داود ف ي المصدر السابق- نفس الصفحة.

[66] - انظر الإتقان، 2/59.

[67] - المصدر السابق.
 
من الناحية المعرفية هناك مجال للموازنة بين طرفين متباينين حتى مع تفاوت في درجة الثبوت إذا حكم على الطرفين بالصحة وكيف لصحيح أن يتعارض مع صحيح وكيف لصحيح أن يتعارض مع صريح. المصداقية لصحة المنهجية في الجمع بين الآثار الصحيحة. بارك الله بك.
 
عودة
أعلى