عمر المقبل
New member
- إنضم
- 06/07/2003
- المشاركات
- 805
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
الموعظة الرابعة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ـ في مجموع الفتاوى 16/48-51 ـ معلقاً على قوله تعالى ـ في سورة المجادلة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)":
(خص سبحانه رفعه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان ، وهم الذين استشهد بهم في قوله تعالى : "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ "[آل عمران: 18] وأخبر أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى الرسول هو الحق بقوله تعالى: "وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ" [سبأ:6] ، فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها، كما قال تعالى: "نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ" [الأنعام:83]، قال زيد بن أسلم: بالعلم.
فرفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان، فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة، أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم وأرفع قدراً في قلوب الأمة، فهذا كرز بن وبرة، وكهمس، وابن طارق، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب، وابن سيرين، والحسن ـوغيرهمـ في القلوب أرفع.
وكذلك ترى كثيراً ممن لبس الصوف،ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره -ممن لا يدانيه في ذلك- من أهل العلم والإيمان أعظم في القلوب، وأحلى عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة، وصفائها، وخلوصها من شهوات النفوس، وأكدار البشرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك.
وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول، وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده، ومحبته، وأن يكون الدين كله لله، فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ" [الرعد:36]، وقال تعالى: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ... "الآية [يونس:58] ففضل الله ورحمته: القرآن، والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مفروح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه، ووضع الفرح في غير موضعه، فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقياً في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف، هذا في باب معرفة الأسماء والصفات.
وأما في باب فهم القرآن، فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قبله، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه، ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن: إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وغير ذلك، فإن هذا حائل للقلوب، قاطعٌ لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ(أأنذرتهم) وضم الميم: (من عليهم) ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها، ونحو ذلك.
وكذلك مراعاة النغم، وتحسين الصوت، وكذلك تتبع وجوه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.
وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم، وكذلك تأويل القرآن على قول من قلد دينه، أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق حتى يجعل القرآن تبعاً لمذهبه، وتقويةً لقول إمامه، وكلٌّ محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك، أو أكثره.
وكذلك يظن من لم يقدر القرآن حق قدره أنه غير كاف في معرفة التوحيد والأسماء والصفات، وما يجب لله وينزه عنه، بل الكافي في ذلك عقول الحيارى، والمتهوكين، الذين كلٌّ منهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرةً، وهؤلاء أغلظ الناس حجاباً عن فهم كتاب الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم) انتهى كلامه.