نايف الزهراني
New member
هذا شجنٌ من شجون, اعتمل في نفسي بعد أن شاهدت كامل حلقة "ساعة حوار" في ليلة الأحد 7/4/1426هـ, وكانت مع الأستاذ الدكتور: زغلول النجار وفقه الله وسدده, بعنوان: شبهات حول الأعجاز العلمي في القرآن الكريم, وبعد استماعي لحديث الدكتور زغلول في النصف ساعة الأولى أطلَّ الدكتور: مساعد الطيار حفظه الله بأول مشاركة هاتفية حول الموضوع, واستمرت قرابة ربع ساعة في اثني عشر نقطة واضحة, وأقف هنا لأنتقل إلى بضع وقفات حول هذا الموضوع:
الوقفة الأولى:
كرر الدكتور النجار عبارة: (لا يمكن فهم الآيات الكونية في القرآن الكريم باللغة وحدها) أكثر من خمس مرات, وقال أخرى: (اللغة وحدها ليست كافية لفهم النص القرآني في الآيات الكونية), وهنا أتسائل:
- هل الآيات الكونية في القرآن من كلام الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين؟ الجواب: نعم - ولا شك-.
- فإن كانت كذلك فهل نستطيع فهم ما عدا الآيات الكونية في القرآن الكريم بلغة العرب؟ الجواب: نعم - ولا شك-.
:: فإذا كانت الآيات الكونية نزلت بلسان عربي مبين,
وما عداها من القرآن نزل بلسان عربي مبين,
والذين نزل عليهم القرآن هم أهل هذا اللسان العربي المبين,
فكيف ينفي الدكتور فهم من نزل عليهم القرآن, وبلسانهم خاطبهم الله, لهذه الآيات القرآنية الكونية؟
هذا التفريق بين الآيات الكونية في القرآن وبين غيرها تحكمٌ لا يخفى اختلاله, ويُطَرِّقُ لأهل الرأي - ولأمرٍ ما سمَّاهُم السلف: أهل الأهواء- تناول هذه الآيات بعيداً عن منهاج التفسير القويم من لدن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من أهل التفسير.
الوقفة الثانية:
أخشى أن يكون أحد دوافع هذا الإطلاق السابق: أن تفاسير السلف لهذه الآيات القرآنية الكونية بحسب لغتهم وفهمهم, لا تتناسب مع الحقائق العلمية التي يُرَاد تنزيل الآيات القرآنية عليها, فبقي القائل لهذا الأمر بين أمرين عسيرين:
- إما أن يتناول هذه الحقيقة العلمية بعيداً عن القرآن الكريم, وهذا ما لا يريده أبداً, لأنه سماه (الإعجاز العلمي في القرآن), ولديه خطوات مهمة بعد إثبات هذه الحقيقة في القرآن.
- وإما أن يعيد فهم هذه الآيات القرآنية الكونية بما يتوافق مع الحقيقة التي تنتظر عنده استخراجها من القرآن, ولن يكون ذلك عندما يبقى مُحاصَراً - في نظره - بين فهم السلف وأقوالهم التي لا تخرج عن لسان العرب الذي نزل به القرآن, فيتعين عليه إعلان هذه القاعدة الممهدة للإعجاز المزعوم.
ثم لا أدري لماذا يُصِر الدكتور حفظه الله على جعل الإعجاز العلمي شيئاً آخر غير التفسير؟
لعل لعلم التفسير شروطاً وضوابط تعيق سَيْلَ الحقائق العلمية التي لا بد من استخراجها من القرآن الكريم, فليكن الإعجاز العلمي شيئاً آخرَ غير التفسير, ينطلق من قاعدة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز, ولا يعول على اللغة كثيراً, ولا إشكال عنده في العبث بالسياق أو الإعراض عنه بالكلية, وغير ذلك مما سافر فيه الإعجاز العلمي عن مناهج التفسير مسافة أعوام.
الوقفة الثالثة:
قد لا ندرك خطورة تجاوز الأصول المنهجية الشرعية عند تفسيرنا للآيات القرآنية, فنسارع في فَرَحٍ بتنزيل الآيات القرآنية بصورة أو بأخرى على الحقائق العلمية لتحقيق مصالح شرعية لا يعجزنا عدها, ولكن ما النتيجة؟
لو قلت لكم:
(يوجد في القرآن الكريم- أي من الآيات الكونية- ما لم يُفَسر تفسيراً صحيحاً إلى الآن), و قلت: (حتى نفهم هذه الآيات فهماً صحيحاً لا بد من مراجعة الحقائق العلمية الحديثة), لاستعظمتم قولي ونسبتموه إلى الجهل بعلم التفسير وقلة الفقه فيه, وحق لكم ذلك, غيرَ أني لا أجرؤ على التفوه بذلك لمَا فيه من تجهيل الصحابة, ومن بعدهم من علماء الأمة ومفسريها.
وللأسف فإن العبارة الأولى نص كلام الدكتور النجار, والثانية معناه الذي يشبه النص.
فإن سألتم عن الأصل الشرعي المنهجي الذي تجاوزه الدكتور هنا, فالجواب هو: ما أجمع عليه العلماء والأئمة من أنه:
لا يجوز إحداثُ قول ثالث في تفسير آية اختلف السلف فيها على قولين. لما في ذلك من نسبة الجهل العام إليهم, وزعم خروج الحق عنهم, وأن الأمة عملت في تلك القرون بخلاف الصواب, وغير ذلك من المحاذير الظاهرة.
وهنا أسأل الشيخ بأدب وأقول: هل يخرج الصواب عن أقوال السلف في تفسير آية قرآنية كونية أو غير كونية؟
الوقفة الرابعة:
قال الدكتور وفقه الله: (لم يشأ الله أن يفزع العقلية البدوية بما لا تحتمله من القضايا الكونية).
وهل سيتحدى الله أبا جهل والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف بما لم يسمعوا به من هذه الحقائق؟
لو كان ذلك لوجدوا خير سبيل للطعن في القرآن وتكذيبه؛ لما فيه مما لم يسمع به أحد من العالمين في وقتهم.
فالمسألة إذاً ليست رأفة بالعقلية البدوية, وإنما ليقوم التحدي على أصل عادل صحيح.
والذي يفهم من عبارة الدكتور هذه أن الله لم يشأ أن يتحدى المشركين زمن نزول القرآن بهذه القضايا الكونية؛ لأنهم لا يعرفونها. أقول: ما زال أكثر المسلمين والمشركين اليوم جاهلين بهذه القضايا الكونية, ولا يعلمها إلا القلة من المتخصصين فيها, فكيف يقع الإعجاز والتحدي في هذا الزمان بما لا يعرفه أكثر أهله؟ إن عبارة "الإعجاز" التي تذكر في هذا المقام أكبر بكثير من استخدام الدكتور لها, والواقع أن هذا النوع من الإعجاز الذي يسميه الدكتور" الإعجاز العلمي" في حقيقته إعجاز غيبي يظهر فيه مع الأيام ما كان غائباً عن الإنسان في زمن من الأزمان.
الوقفة الخامسة:
قال الدكتور: (القرآن معجز في كل زمان ومكان).
وهي عبارة جليلة محترمة, غير أني أقول لشيخي الكريم:
ما لم يكن معجزاً في ذلك الزمان لا يكون معجزاً الآن,
والذي أعجزهم في ذلك الزمان هو ما نبغوا فيه إلى الغاية, وتاهوا فيه على الأمم, وهو هذا اللسان والبيان, فنزل القرآن بالبيان المعجز, على أمة بلغت الغاية في التفنن في خطابها, فبهرها وأعجزها, وأسلمت إليه واستسلمت, ورأت هذا الإعجاز مبثوثاً في كل سورة منه.
فإن قيل: أبا بيان: هل تنفي هذه الحقائق العلمية الموجودة في القرآن؟
قلت: وهل يلزم أن نستخرجها من القرآن حتى تكون حقائق علمية؟
وهل كل حقيقة علمية ذكرت في القرآن مُعجزة؟
وهل أتجاوز فهم السلف لكلام الله لأفسر الآية تفسيراً عصرياً أستخرج منه حقيقة علمية؟
وأزيدك فائدة فأقول:
إن من يُحِس همساً, أو يسمع ركزاً, ليدرك أن من وراء هذا السؤال نفساً مهزومةً, رأت كيف أخذت الأمم بحظها من هذه العلوم, فارتقت بها وتصدرت, وأمته قابعة تدور في مكانها إن كانت تدور, فرجع يائساً من نيل تلك الحقائق كما ينبغي أن تُنال, وكما نالها أولئك الذي أخذوا بسنة الله فيها, وأخذ في انتزاعها من القرآن بحق وبدون حق, ليقول للعالم: لا جديد عندكم عَمَّا في القرآن. ولو صدق لقال: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ما دامت في القرآن؟!
أخي الكريم, لقد أخطأنا الطريق, فحين كان الواجب أن نفهم القرآن كما فهمه أهل العلم من سلف الأمة وأتباعهم, ثم نأخذ بأسباب القوة حيثما كانت وبكل سبيل, تركنا أسباب القوة وسُنَنَها الحسية, وخالفنا فهم الأوائل لكلام الله؛ لنستخرج منه - بعد لَأيٍ شديد- حقيقةً علمية أبلاها الزمان, وصارت من سقط متاع القوم, ومُباح حديثهم.
لماذا يُصِرَُ البعض على إخراج كُلّ شيء بكُلّ سبيل من القرآن؟
هذه مسألة أخرى ذاتُ شجون, وطريقها طويل, ولست لها الآن وقد:
[align=center]شكى إليَّ جملي طول السُّرى ** يا جملي ليس إلي المشتكى
صبراً جميلاً فكلانا مُبتلى[/align]
الوقفة السادسة:
يصر الدكتوركثيراً على عدم التعارض بين الآيات القرآنية, والحقائق الكونية, ويقترح ويرجوا من علماء التفسير أن يشاركوا ويحضروا مؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
وأقول: لاعلاقة لكلا الأمرين السابقين بموقف علماء التفسير المخالفين لهذا التجاوز في تفسير الآيات, فأهل التفسير أكثر الناس إدراكاً لتوافق الآيات القرآنية مع الحقائق الكونية, كما أنهم يعرفون أين يضعون دراسات هذه المؤتمرات؟ ومتى يأتي دورها؟ وكيف يستفيدون منها؟
ولم يغب عنهم بحمد الله فهم شيء من كلام الله حتى ينتظروا فهمه من هذه المؤتمرات.
الوقفة السابعة:
للأسف لم يُجِب الدكتور على اثني عشر إيراداً وملاحظة على هذا الموضوع ذكرها الدكتور مساعد وفقه الله, وقد تعرض لأول فقرة منها إجمالاً, ثم أراد المقدم استعراضها واحدا واحدا فأراحه الدكتور بقوله: أنا أخالف الدكتور مساعد ولا أوافقه في كل ما قال. فتركها المقدم ومضى. وكنت أتمنى من الدكتور الإجابة عليها تقديراً لتساؤلات أهل التفسير في هذا الموضوع, والتي أجاد الدكتور مساعد في عرضها.
الوقفة الثامنة:
من العبارات الجميلة التي ذكرها الدكتور النجار عبارتين:
الأولى قوله: (المقصد الأهم من الإعجاز العلمي حُسن فهم الآيات), وأقول: ما أجمل الغاية لو عرفنا السبيل, وأي فهم لكتاب الله أحسن من فهم من نزل عليهم القرآن, وبلسانهم, ورسول الله بين أظهرهم يبين لهم, وقد عرفوا قصة الآية, وسببها, وحال من نزل عليهم القرآن؟
والعبارة الثانية: شروط التفسير العلمي العشرة التي ذكرها الدكتور وفقه الله, وهي في مجملها شروط صحيحة مطلوبة في التعامل مع الآيات, غير أنه ينقصها التدقيق, فبعضها يرجع لبعض, كما أنها تقعيد بلا تطبيق صحيح في أغلب صورها, وما فعله الدكتور جزاه الله خيراً في آية التكوير التي ذكرها في الحلقة: {فلا أقسم بالخنس(15) الجوار الكنس} خيرُ دليل على فساد التطبيق, وأكبر تجاوز في تناوله ذلك هو تجاوزه لأقوال المفسرين بكل بساطة, ليذكر حقيقة علمية عنده, لم تكن لتتحملها العقول البدوية, وقد ذكرها أحد الباحثين الغربيين المتخصصين.
وأعتذر للدكتور النجار وفقه الله إن نَدَّ لفظ, أو تجاوز معنى, فلم أرتَض نقص العرض للموضوع الذي اعترى الحلقة, ولا سبيل لبعض الاستدراك والتصحيح فيه إلا بنحو هذا المقال, على قِلَّة قارئيه, والله المستعان.
والله يعلم أني لم أقصد من سماع الحلقة الرد أو الانتقاد, ولكن رجوت أن تكون الفائدة به أكثر, وأرجوا ممَّن يقرأه من الإخوة أن يعلم أن باعثه النصح, والفائدة العلمية, وحماية هذا العلم من جور الزمان, وقلة الأعوان, والله الموفق والمعين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وآله وصحبه.
الوقفة الأولى:
كرر الدكتور النجار عبارة: (لا يمكن فهم الآيات الكونية في القرآن الكريم باللغة وحدها) أكثر من خمس مرات, وقال أخرى: (اللغة وحدها ليست كافية لفهم النص القرآني في الآيات الكونية), وهنا أتسائل:
- هل الآيات الكونية في القرآن من كلام الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين؟ الجواب: نعم - ولا شك-.
- فإن كانت كذلك فهل نستطيع فهم ما عدا الآيات الكونية في القرآن الكريم بلغة العرب؟ الجواب: نعم - ولا شك-.
:: فإذا كانت الآيات الكونية نزلت بلسان عربي مبين,
وما عداها من القرآن نزل بلسان عربي مبين,
والذين نزل عليهم القرآن هم أهل هذا اللسان العربي المبين,
فكيف ينفي الدكتور فهم من نزل عليهم القرآن, وبلسانهم خاطبهم الله, لهذه الآيات القرآنية الكونية؟
هذا التفريق بين الآيات الكونية في القرآن وبين غيرها تحكمٌ لا يخفى اختلاله, ويُطَرِّقُ لأهل الرأي - ولأمرٍ ما سمَّاهُم السلف: أهل الأهواء- تناول هذه الآيات بعيداً عن منهاج التفسير القويم من لدن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من أهل التفسير.
الوقفة الثانية:
أخشى أن يكون أحد دوافع هذا الإطلاق السابق: أن تفاسير السلف لهذه الآيات القرآنية الكونية بحسب لغتهم وفهمهم, لا تتناسب مع الحقائق العلمية التي يُرَاد تنزيل الآيات القرآنية عليها, فبقي القائل لهذا الأمر بين أمرين عسيرين:
- إما أن يتناول هذه الحقيقة العلمية بعيداً عن القرآن الكريم, وهذا ما لا يريده أبداً, لأنه سماه (الإعجاز العلمي في القرآن), ولديه خطوات مهمة بعد إثبات هذه الحقيقة في القرآن.
- وإما أن يعيد فهم هذه الآيات القرآنية الكونية بما يتوافق مع الحقيقة التي تنتظر عنده استخراجها من القرآن, ولن يكون ذلك عندما يبقى مُحاصَراً - في نظره - بين فهم السلف وأقوالهم التي لا تخرج عن لسان العرب الذي نزل به القرآن, فيتعين عليه إعلان هذه القاعدة الممهدة للإعجاز المزعوم.
ثم لا أدري لماذا يُصِر الدكتور حفظه الله على جعل الإعجاز العلمي شيئاً آخر غير التفسير؟
لعل لعلم التفسير شروطاً وضوابط تعيق سَيْلَ الحقائق العلمية التي لا بد من استخراجها من القرآن الكريم, فليكن الإعجاز العلمي شيئاً آخرَ غير التفسير, ينطلق من قاعدة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز, ولا يعول على اللغة كثيراً, ولا إشكال عنده في العبث بالسياق أو الإعراض عنه بالكلية, وغير ذلك مما سافر فيه الإعجاز العلمي عن مناهج التفسير مسافة أعوام.
الوقفة الثالثة:
قد لا ندرك خطورة تجاوز الأصول المنهجية الشرعية عند تفسيرنا للآيات القرآنية, فنسارع في فَرَحٍ بتنزيل الآيات القرآنية بصورة أو بأخرى على الحقائق العلمية لتحقيق مصالح شرعية لا يعجزنا عدها, ولكن ما النتيجة؟
لو قلت لكم:
(يوجد في القرآن الكريم- أي من الآيات الكونية- ما لم يُفَسر تفسيراً صحيحاً إلى الآن), و قلت: (حتى نفهم هذه الآيات فهماً صحيحاً لا بد من مراجعة الحقائق العلمية الحديثة), لاستعظمتم قولي ونسبتموه إلى الجهل بعلم التفسير وقلة الفقه فيه, وحق لكم ذلك, غيرَ أني لا أجرؤ على التفوه بذلك لمَا فيه من تجهيل الصحابة, ومن بعدهم من علماء الأمة ومفسريها.
وللأسف فإن العبارة الأولى نص كلام الدكتور النجار, والثانية معناه الذي يشبه النص.
فإن سألتم عن الأصل الشرعي المنهجي الذي تجاوزه الدكتور هنا, فالجواب هو: ما أجمع عليه العلماء والأئمة من أنه:
لا يجوز إحداثُ قول ثالث في تفسير آية اختلف السلف فيها على قولين. لما في ذلك من نسبة الجهل العام إليهم, وزعم خروج الحق عنهم, وأن الأمة عملت في تلك القرون بخلاف الصواب, وغير ذلك من المحاذير الظاهرة.
وهنا أسأل الشيخ بأدب وأقول: هل يخرج الصواب عن أقوال السلف في تفسير آية قرآنية كونية أو غير كونية؟
الوقفة الرابعة:
قال الدكتور وفقه الله: (لم يشأ الله أن يفزع العقلية البدوية بما لا تحتمله من القضايا الكونية).
وهل سيتحدى الله أبا جهل والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف بما لم يسمعوا به من هذه الحقائق؟
لو كان ذلك لوجدوا خير سبيل للطعن في القرآن وتكذيبه؛ لما فيه مما لم يسمع به أحد من العالمين في وقتهم.
فالمسألة إذاً ليست رأفة بالعقلية البدوية, وإنما ليقوم التحدي على أصل عادل صحيح.
والذي يفهم من عبارة الدكتور هذه أن الله لم يشأ أن يتحدى المشركين زمن نزول القرآن بهذه القضايا الكونية؛ لأنهم لا يعرفونها. أقول: ما زال أكثر المسلمين والمشركين اليوم جاهلين بهذه القضايا الكونية, ولا يعلمها إلا القلة من المتخصصين فيها, فكيف يقع الإعجاز والتحدي في هذا الزمان بما لا يعرفه أكثر أهله؟ إن عبارة "الإعجاز" التي تذكر في هذا المقام أكبر بكثير من استخدام الدكتور لها, والواقع أن هذا النوع من الإعجاز الذي يسميه الدكتور" الإعجاز العلمي" في حقيقته إعجاز غيبي يظهر فيه مع الأيام ما كان غائباً عن الإنسان في زمن من الأزمان.
الوقفة الخامسة:
قال الدكتور: (القرآن معجز في كل زمان ومكان).
وهي عبارة جليلة محترمة, غير أني أقول لشيخي الكريم:
ما لم يكن معجزاً في ذلك الزمان لا يكون معجزاً الآن,
والذي أعجزهم في ذلك الزمان هو ما نبغوا فيه إلى الغاية, وتاهوا فيه على الأمم, وهو هذا اللسان والبيان, فنزل القرآن بالبيان المعجز, على أمة بلغت الغاية في التفنن في خطابها, فبهرها وأعجزها, وأسلمت إليه واستسلمت, ورأت هذا الإعجاز مبثوثاً في كل سورة منه.
فإن قيل: أبا بيان: هل تنفي هذه الحقائق العلمية الموجودة في القرآن؟
قلت: وهل يلزم أن نستخرجها من القرآن حتى تكون حقائق علمية؟
وهل كل حقيقة علمية ذكرت في القرآن مُعجزة؟
وهل أتجاوز فهم السلف لكلام الله لأفسر الآية تفسيراً عصرياً أستخرج منه حقيقة علمية؟
وأزيدك فائدة فأقول:
إن من يُحِس همساً, أو يسمع ركزاً, ليدرك أن من وراء هذا السؤال نفساً مهزومةً, رأت كيف أخذت الأمم بحظها من هذه العلوم, فارتقت بها وتصدرت, وأمته قابعة تدور في مكانها إن كانت تدور, فرجع يائساً من نيل تلك الحقائق كما ينبغي أن تُنال, وكما نالها أولئك الذي أخذوا بسنة الله فيها, وأخذ في انتزاعها من القرآن بحق وبدون حق, ليقول للعالم: لا جديد عندكم عَمَّا في القرآن. ولو صدق لقال: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ما دامت في القرآن؟!
أخي الكريم, لقد أخطأنا الطريق, فحين كان الواجب أن نفهم القرآن كما فهمه أهل العلم من سلف الأمة وأتباعهم, ثم نأخذ بأسباب القوة حيثما كانت وبكل سبيل, تركنا أسباب القوة وسُنَنَها الحسية, وخالفنا فهم الأوائل لكلام الله؛ لنستخرج منه - بعد لَأيٍ شديد- حقيقةً علمية أبلاها الزمان, وصارت من سقط متاع القوم, ومُباح حديثهم.
لماذا يُصِرَُ البعض على إخراج كُلّ شيء بكُلّ سبيل من القرآن؟
هذه مسألة أخرى ذاتُ شجون, وطريقها طويل, ولست لها الآن وقد:
[align=center]شكى إليَّ جملي طول السُّرى ** يا جملي ليس إلي المشتكى
صبراً جميلاً فكلانا مُبتلى[/align]
الوقفة السادسة:
يصر الدكتوركثيراً على عدم التعارض بين الآيات القرآنية, والحقائق الكونية, ويقترح ويرجوا من علماء التفسير أن يشاركوا ويحضروا مؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
وأقول: لاعلاقة لكلا الأمرين السابقين بموقف علماء التفسير المخالفين لهذا التجاوز في تفسير الآيات, فأهل التفسير أكثر الناس إدراكاً لتوافق الآيات القرآنية مع الحقائق الكونية, كما أنهم يعرفون أين يضعون دراسات هذه المؤتمرات؟ ومتى يأتي دورها؟ وكيف يستفيدون منها؟
ولم يغب عنهم بحمد الله فهم شيء من كلام الله حتى ينتظروا فهمه من هذه المؤتمرات.
الوقفة السابعة:
للأسف لم يُجِب الدكتور على اثني عشر إيراداً وملاحظة على هذا الموضوع ذكرها الدكتور مساعد وفقه الله, وقد تعرض لأول فقرة منها إجمالاً, ثم أراد المقدم استعراضها واحدا واحدا فأراحه الدكتور بقوله: أنا أخالف الدكتور مساعد ولا أوافقه في كل ما قال. فتركها المقدم ومضى. وكنت أتمنى من الدكتور الإجابة عليها تقديراً لتساؤلات أهل التفسير في هذا الموضوع, والتي أجاد الدكتور مساعد في عرضها.
الوقفة الثامنة:
من العبارات الجميلة التي ذكرها الدكتور النجار عبارتين:
الأولى قوله: (المقصد الأهم من الإعجاز العلمي حُسن فهم الآيات), وأقول: ما أجمل الغاية لو عرفنا السبيل, وأي فهم لكتاب الله أحسن من فهم من نزل عليهم القرآن, وبلسانهم, ورسول الله بين أظهرهم يبين لهم, وقد عرفوا قصة الآية, وسببها, وحال من نزل عليهم القرآن؟
والعبارة الثانية: شروط التفسير العلمي العشرة التي ذكرها الدكتور وفقه الله, وهي في مجملها شروط صحيحة مطلوبة في التعامل مع الآيات, غير أنه ينقصها التدقيق, فبعضها يرجع لبعض, كما أنها تقعيد بلا تطبيق صحيح في أغلب صورها, وما فعله الدكتور جزاه الله خيراً في آية التكوير التي ذكرها في الحلقة: {فلا أقسم بالخنس(15) الجوار الكنس} خيرُ دليل على فساد التطبيق, وأكبر تجاوز في تناوله ذلك هو تجاوزه لأقوال المفسرين بكل بساطة, ليذكر حقيقة علمية عنده, لم تكن لتتحملها العقول البدوية, وقد ذكرها أحد الباحثين الغربيين المتخصصين.
وأعتذر للدكتور النجار وفقه الله إن نَدَّ لفظ, أو تجاوز معنى, فلم أرتَض نقص العرض للموضوع الذي اعترى الحلقة, ولا سبيل لبعض الاستدراك والتصحيح فيه إلا بنحو هذا المقال, على قِلَّة قارئيه, والله المستعان.
والله يعلم أني لم أقصد من سماع الحلقة الرد أو الانتقاد, ولكن رجوت أن تكون الفائدة به أكثر, وأرجوا ممَّن يقرأه من الإخوة أن يعلم أن باعثه النصح, والفائدة العلمية, وحماية هذا العلم من جور الزمان, وقلة الأعوان, والله الموفق والمعين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وآله وصحبه.