يذكر المفسرون عند قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
ما يلــي:
قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه. {إلا ليعبدون} أيْ: إلَّا لآمرَهُم أَنْ يعبدُوني، وأَدعوهم إلى عبادتي . واختاره الزجَّاج.
1- من يتفضل منكم بإفادتــي بتوثيق النقل عن علي رضي الله عنه بالإسناد. وللعلم لم يذكره ابن جرير ولا السيوطي في الدر
2- وبنقل كلام الزجاج من أحد كتبه مع ذكر المصدر بالجزء والصفحة.
أما الجائزة فالدعـــاء للمفيد بظهر الغيب في يوم عرفة ... خير يوم طلعت عليه الشمس... ولهذا قلت: العرض محدود... حيث ينتهي يوم عرفة مع غروب شمس يوم الإثنين... (ابتسامة)
لم أقف على ذكر إسناد لقول الإمام على بن أبي طالب – رضى الله عنه – ( {إلا ليعبدون} أيْ: إلَّا لآمرَهُم أَنْ يعبدُوني، وأَدعوهم إلى عبادتي ) .
- و لكن ذكر كثير من المفسرين قوله هذا – أو قريب منه – في تفاسيرهم ، و من هؤلاء :
*1 - البغوى في كتابه " معالم التنزيل " ، قال : [ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إلاّ ليعبدون ". أي إلاَّ لآمُرَهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي ] ،
2 - و قال ابن عطية في " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " :
قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله: { ليعبدون }
3 - و قال ابن الجوزى في " زاد المسير في علم التفسير " :
واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال.
أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج.
4 - و قال القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " :
وقال عليّ رضي الله عنه: أي وما خلقت الجنّ والإنس إلا لآمرهم بالعبادة. وٱعتمد الزجاج على هذا القول.
5 - وقال الإمام النسفى في كتابه " مدارك التنزيل و حقائق التأويل " :
وقيل: إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه.
_________________________________
و هكذا – كما ترى – فإن اجتماع هؤلاء المفسرين على عزو ذلك القول للإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه يبيِن أن له أصلا صحيحا ، و ما روى عن مجاهد مثله أو نحوه فيترجح أنه نقله عنه ، و كذا القول فيما روى عن ابن عباس رضى الله عنهم جميعا ، و ألحقنا – و أهلنا – بهم في جنات النعيم مع رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم .
***************************
و إليكم هذا التفسير الإجمالى لتلك الآية الكريمة ، الذى يبيِن حقيقة العبودية المطلوبة من العباد لرب العباد عز و جل :
1 - قال الشهيد سيد قطب – رحمه الله – في كتابه " في ظلال القرآن " :
[وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }..
وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها.
سواء كانت حياة فرد أم جماعة. أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها.
وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. فقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله. أو هي العبودية لله.. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يَعبد، ورب يُعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار.
ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر؛ والله لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن؛ ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول الله تعالى:
{ وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة }
فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام.
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً. عبداً يَعبد، ورباًّ يُعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله.. كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها، ولا غاية له من ورائها، إلا الطاعة، وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضى الله عنه، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً.
وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقاً. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة. ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال. وخلص لله، واستقر في الوضع الكوني الأصيل: عبداً لله. خلقه الله لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها. ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها، ثم الفرار إلى الله منها!
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها..
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها. ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته. ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك. فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه، وليست من شأنه. إنما هو قدر الله ومشيئته. وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته:
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه، وضمن جزاءه، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعوا إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة. فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف. ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض، وثمرات هذا النشاط. فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته.
- أما ما جاء فيها من نقول في كتب التفسير :
-
- 2 - فقد قال الإمام القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " :
قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجنّ والإنس إلا ليوحدون. قال القشيريّ: والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ }
[الأعراف: 179] ومن خُلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم؛ وهو كقوله تعالى:
{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا }
[الحجرات: 14] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفرّاء والقتبي. وفي قراءة عبد الله: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وقال عليّ رضي الله عنه: أي وما خلقت الجنّ والإنس إلا لآمرهم بالعبادة. وٱعتمد الزجاج على هذا القول،{ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً }
[التوبة: 31]. فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: قد تذللوا لقضائه عليهم؛ لأن قضاءه جارٍ عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً أو كرهاً؛ رواه عليّ بن أبي طلحة عن ٱبن عباس. فالكره ما يُرَى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني. الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }
[الزخرف: 87]
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ }
[الزخرف: 9] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضاً: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جُبِلوا عليه من الشّقوة والسعادة؛ فخلق السعداء من الجنّ والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضاً: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدّة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى:
{ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ }
[لقمان: 32] الآية. وقال عِكْرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب؛ تقول: عبد بيِّن العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد. قال:
وظِيفـاً وَظِيفاً فـوقَ مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبداً. وكذلك الاعتباد. والعبادة: الطاعة، والتَّعبُّد التَّنسك. فمعنى «لِيَعْبُدُونِ» ليذِلّوا ويخضعوا ويعبدوا.
3 - و قال الإمام ابن جرير الطبرى في كتابه " جامع البيان في تفسير القرآن " :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ } فقال بعضهم: معنى ذلك: وما خلقت السُّعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم لمعصيتي. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن جُرَيج، عن زيد بن أسلم { وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونَ } قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن زيد بن أسلم بنحوه.
حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن جُرَيج، عن زيد ابن أسلم، بمثله.
حدثنا حُمَيد بن الربيع الخرّاز، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا ابن جُرَيج، عن زيد بن أسلم، في قوله: { وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قال: جَبَلَهم على الشقاء والسعادة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان { وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْس إلاَّ لِيَعْبُدُونَ } قال: من خلق للعبادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك. وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليُذْعِنوا لي بالعبودة. ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: { وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ }: إلا ليقرّوا بالعبودة طوعاً وكَرهاً.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وهو: ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا، والتذلل لأمرنا.
فإن قال قائل: فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه.
4 – و قال الزمخشري في " الكشاف " :
أي: وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها. فإن قلت: لو كان مريداً للعبادة منهم لكانوا كلهم عباداً؟ قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.
5 – و قال الإمام ابن كثير في كتابه " تفسير القرآن العظيم " :
قال جل جلاله: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي: إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً. وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس: { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي: إلا للعبادة، وقال السدي: من العبادة ما ينفع، ومنها ما لا ينفع
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }
[لقمان: 25] هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع الشرك، وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون.
6 – و قال الإمام السيوطى في كتابه " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " :
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون } قال: ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون } قال: على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي وشقوتي وسعادتي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن زيد بن أسلم رضي الله عنه في قوله { وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون } قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي الجوزاء في الآية قال: أنا أرزقهم وأنا أطعمهم، ما خلقتهم إلا ليعبدون.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلاّ تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ".
7 – و قال الشوكاني في " فتح القدير " :
و روي عن مجاهد أنه قال: المعنى: إلاّ لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله:
{ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـٰهاً وٰحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[التوبة: 31] واختار هذا الزجاج.
8 - و جاء في تفسير ابن عباس :
وقال علي بن أبي طالب ما خلقتهم إلا أن آمرهم وأكلفهم .
ويقال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إلا أمرتهم أن يوحدوني ويعبدوني .
9 - و قال السمرقندي في تفسيره ( بحر العلوم ) :
قال عز وجل { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } يعني ما خلقتهم إلا أمرتهم بالعبادة فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين وقال مجاهد: يعني ما خلقتهم إلا لآمرهم وأنهاهم ويقال إلا ليعبدون يعني إلا ليوحدون وهم المؤمنون وهم خلقوا للتوحيد والعبادة وخلق بعضهم لجهنم كما قال،
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ }
[الأعراف: 179] فقد خلق كل صنف للأمر والنهي الذي يصلح له
10 - و قال الماوردي في كتابه " النكت و العيون " :
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ } فيه خمسة تأويلات:
أحدها: إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً، قاله ابن عباس.
الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم، قاله مجاهد.
الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة، قاله زيد بن أسلم.
الرابع: إلا ليعرفوني، قاله الضحاك.
الخامس: إلا للعبادة، وهو الظاهر، وبه قال الربيع بن انس.
11- و قال البغوى في كتابه " معالم التنزيل " :
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، قال الكلبي والضحاك وسفيان: هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين، يدل عليه قراءة ابن عباس: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ } من المؤمنين { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، ثم قال في أخرى:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } الأعراف:179].
وقال بعضهم: وماخلقت السعداء من الجن والإِنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي، وهذا معنى قول زيد بن أسلم، قال: هو على ما جُبِلُوا عليه من الشقاوة والسعادة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إلاّ ليعبدون ". أي إلاَّ لآمُرَهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، يؤيده قوله عزّ وجلّ:
{ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَٰحِداً }
[التوبة:31].
وقال مجاهد: إلاّ ليعرفوني. وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، دليله: قوله تعالى:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللهُ }
[الزخرف:87].
وقيل: معناه إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجاً عمّا خُلق عليه.
وقيل: " إلا ليعبدوني " إلاَّ ليوحدوني، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله عزّ وجلّ:
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ }
[العنكبوت:65].
12- و جاء في " المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " لابن عطية :
وقوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله: { ليعبدون } إذ العبادة هي مضمن الأمر، وقال زيد بن أسلم وسفيان: المعنى خاص، والمراد: { وما خلقت } الطائعين من { الجن والإنس } إلا لعبادتي، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: " وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني " ، وقال ابن عباس أيضاً معنى: { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك. وتحتمل الآية، أن يكون المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمة، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة، وهذا كما تقول: البقر مخلوقة للحرث، والخيل للحرب، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وقوله: " كل مولود يولد على الفطرة الحديث .
13 - و قال ابن الجوزى في " زاد المسير في علم التفسير " :
قوله تعالى: { وما خلقْتُ الجنَّ والإنس إلاّ لِيعْبُدونِ } أثبت الياء في «يعْبُدون» و«يُطْعِمون» و«لا يستعجِلون» في الحالين يعقوب. واختلفوا في هذه الآية على أربعة أقوال.
أحدها: إلاّ لآمُرهم أن يعبدوني، قاله عليُّ بن أبي طالب، واختاره الزجاج.
والثاني: إلا لِيُقِرُّوا بالعُبودية طوْعاً وكرْهاً، قاله ابن عباس؛ وبيان هذا قوله
{ ولئن سألتهم منْ خلقهم ليقولُنَّ الله }
[الزخرف: 87].
والثالث: أنه خاصّ في حقِّ المؤمنين. قال سعيد بن المسيّب: ما خلقتُ منْ يعبُدني إلا ليعبُدَني. وقال الضحاك، والفراء، وابن قتيبة: هذا خاصّ لأهل طاعته، وهذا اختيار القاضي ابي يعلى فإنه قال: معنى هذا الخصوصُ لا العمومُ، لأن البُله والأطفال والمجانين لا يدخُلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس، فكذلك الكُفَّار يخرُجون من هذا بدليل قوله:
{ ولقد ذرأْنا لجهنَّم كثيراً من الجِنِّ والإنس }
[الأعراف: 179]، فمن خُلق للشَّقاء ولجهنَّم، لم يخلق للعبادة.
والرابع: إلا ليخضعوا إليَّ ويتذللَّوا. ومعنى العبادة في اللغة: الذُّلُّ والانقياد. وكُلُّ الخلْق خاضعٌ ذليلٌ لقضاء الله عز وجل لا يملك خُروجاً عمّا قضاه اللهُ عز وجل، هذا مذهب جماعة من أهل المعاني.
14 – و قال الإمام النسفى في كتابه " مدارك التنزيل و حقائق التأويل " :
[ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني { وَذَكّرْ فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلا بد أن توجد منهم، فإذا لم يؤمنوا علم أنه خلقهم لجهنم كما قال:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ }
[الأعراف: 179]. وقيل: إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه. وقيل: إلا ليكونوا عباداً لي. والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل عبادة في القرآن فهي توحيد. والكل يوحدونه في الآخرة لما عرفه أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني { وَذَكّرْ فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلا بد أن توجد منهم، فإذا لم يؤمنوا علم أنه خلقهم لجهنم كما قال:
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ }
[الأعراف: 179]. وقيل: إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه. وقيل: إلا ليكونوا عباداً لي. والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل عبادة في القرآن فهي توحيد. والكل يوحدونه في الآخرة لما عرفه أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله
{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
اللهم تقبل منك و منا دعاءنا و صالح عملنا
و تهنئة طيبة إخوانى الكرام بمقدم عيد الأضحى المبارك غدا ،
و أعاده اللهم علينا و على المسلمين في فلسطين و العراق و الشيشان و أفغانستان و فى كل مكان بالنصر و بالخير ، اللهم و أعز الإسلام و أهله ، و أذل الكفر و أهله
اللهم آمين
- و معذرة على كثرة الخطوط التي لحقت بكلامى ، فقد قصدت بعضها للاهتمام بها ، و لكن امتدت لغيرها
* و بخصوص ما ذكره الشهيد سيد قطب - رحمه الله - :
فالذي فهمته من كلامه أنه ينبغى أن تكون جميع أعمالنا في حياتنا الدنيا - من عمارة الأرض ، و سائر تصرفاتنا محكومة بشرع الله عز و جل و كذا تكون النية فيها لوجه الله ،
و ذلك لقوله تعالى : { قل إن صلاتى و نسكى و محياى و مماتى لله رب العالمين } . [ الأنعام : 162 ]
قال الإمام القرطبي في تفسيرها :
قوله تعالىٰ: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي } قد تقدّم اشتقاق لفظ الصَّلاة. وقيل: المراد بها هنا صلاة الليل. وقيل: صلاة العِيد. والنّسك جمع نسِيكة، وهي الذّبيحة، وكذلك قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم. والمعنى: ذَبْحِي في الحج والعمرة. وقال الحسن: نسكي دِيني. وقال الزجاج: عبادتي؛ ومنه الناسك الذي يتقرّب إلى الله بالعبادة. وقال قوم: النسك في هذه الآية جميع أعمال البر والطاعات؛ من قولك نسك فلان فهو ناسك، إذا تعبّد. { وَمَحْيَايَ } أي ما أعمله في حياتي { وَمَمَاتِي } أي ما أوصي به بعد وفاتي. { للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي أفرده بالتقرُّب بها إليه. وقيل: «وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ» أي حياتي وموتي له. انتهى كلامه
فلعل هذا المعنى هو ما عناه الشيخ سيد قطب رحمه الله