قال تعالى في سورة يونس: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } [42، 43]
[align=center]مَن يستمعون ... مَن ينظر[/align]
تخبر هاتان الآيتان عن المشركين، منهم من يستمع القرآن والأحاديث من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكن سماعه هذا لا يتجاوز آذانهم، فلا يتحصّل لهم منه إيمان، فكأنهم لا يسمعون، ومن المشركين من ينظر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببصره، لكنه لا يعتبر ولا يهتدي.
لماذا جمع القرآن الكريم في الموضع الأول، فقال: (يستمعون)، وأفرد في الثاني، فقال: (ينظر)؟[align=center]
******************************[/align]
قيل في الجواب:
[align=center]جُمع الضمير في الموضع الأول؛ مراعاةً لمعنى (مَن)، وفي الموضع الثاني؛ مراعاةً للفظها.[/align]
وفسّر الشيخ ابن عرفة اختصاص الموضع الأول بالجمع والثاني بالإفراد، لا العكس، بأن الإسماع يكون من الجهات كلها، أما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة، وقريب منه ما ذكره الشيخ أبو السعود، حيث قال:
"ولعل ذلك للإيماءإلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة".
وعلل الإمام البقاعي هذا، بأن المستمعين إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من الناظرين، والسبب هو أن المشركين كانوا أشهى الناس إلى تعرّف حاله، وهذا يكون عن طريق النظر والسمع، إلا أنهم كانوا يتركون سبيل النظر؛ إظهاراً لبغضه، وخوفاً من أن التعرض للإنكار، فالسمع يمكن إخفاؤه، بخلاف النظر والتحديق، فكان السامعون له أكثر عددا ًمن الناظرين، لذلك اختلف النظم الكريم.
بينما ردّ العلامة ابن عاشور الأساس الذي بُنيت عليه هذه التفسيرات، ولم يقبلها؛ لأن الجمع والإفراد هنا سواء، فمفاد (مَن) الموصولة فيهما هو مَن يصدر منهم الفعل، وهم عدد، وليس الناظر شخصاً واحداً.أ.هـ.
لكن يبقى السؤال وارداً: لماذا لم يقل تعالى: (ومنهم من يستمع)، كما جاء في سورة الأنعام، آية (25)، حيث يُفهم الجمع كذلك من هذه الصيغة؟
ولماذا لم يقل: (ومنهم من ينظرون)؟
معلوم أن (مَن) يراد بها الكثرة، إلا أن هذا على الغالبِ في استعمالِ العرب، وهذا الغالب لا ينفي احتمال استعمالها في المفرد، وإن كان استعمالاً أقل .. إلا أنه احتمال وارد.
وما يرفع احتمال المفرد ـ كما يقول ابن الزبير في ملاك التأويل ـ ما يأتي في تتمة الكلام من ضمائر تدل على أن المقصود الجمع لا المفرد، من ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوِبهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهـُوهُ وَفِي آذَانِـهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُـواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلـُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} الأنعام25.
فالضمائر التي جاءت في تتمة الآية وضحت أن المراد من قوله: (من يستمع) جمعٌ لا مفرد، بخلاف ما إذا لم يأتِ في الآية ما يرفع إرادة المفرد، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبـِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، فالضمائر جميعها في هذه الآية ضمائر تدل على أن المراد مفرد، وهذا ما أيدته الروايات، حيث ذكرت أن المقصود هو الأخنس بن شريق.
ولما لم يرد فيما انتظم مع آية يونس ضمير ولا غير ذلك مما يبين أن المستمعين جماعة ـ وكان بيان ذلك مراداً مقصوداً ـ أتى الضمير أولاً ضمير جمع؛ حملاً على معنى (مَن)، ولم يحمل على لفظها فيفرد؛ لئلا يوهم أن المستمع واحد، وذلك غير مقصود، فقيل: (ومنهم من يستمعون إليك)؛ إذ ليس في الكلام بعد ما يبين ذلك.
بينما جاءت آية الأنعام على الأكثر المطرد من كلام العرب ـ كما يقول ابن الزبير ـ، فقد ورد فيما انتظم بالآية بيان كون المستمعين جماعة، وذلك قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبـهـِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُـوهُ وَفِي آذَانـِهِمْ وَقْراً}، فبيّن أن المراد جماعة وارتفع احتمال المفرد ـ عبّر بضمير المفرد (يستمع).
والله تعالى أعلم ..
بانتظار تعليقاتكم وتصويباتكم .. أثابكم الله ..
[align=center]مَن يستمعون ... مَن ينظر[/align]
تخبر هاتان الآيتان عن المشركين، منهم من يستمع القرآن والأحاديث من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكن سماعه هذا لا يتجاوز آذانهم، فلا يتحصّل لهم منه إيمان، فكأنهم لا يسمعون، ومن المشركين من ينظر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببصره، لكنه لا يعتبر ولا يهتدي.
لماذا جمع القرآن الكريم في الموضع الأول، فقال: (يستمعون)، وأفرد في الثاني، فقال: (ينظر)؟[align=center]
******************************[/align]
قيل في الجواب:
[align=center]جُمع الضمير في الموضع الأول؛ مراعاةً لمعنى (مَن)، وفي الموضع الثاني؛ مراعاةً للفظها.[/align]
وفسّر الشيخ ابن عرفة اختصاص الموضع الأول بالجمع والثاني بالإفراد، لا العكس، بأن الإسماع يكون من الجهات كلها، أما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة، وقريب منه ما ذكره الشيخ أبو السعود، حيث قال:
"ولعل ذلك للإيماءإلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة".
وعلل الإمام البقاعي هذا، بأن المستمعين إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من الناظرين، والسبب هو أن المشركين كانوا أشهى الناس إلى تعرّف حاله، وهذا يكون عن طريق النظر والسمع، إلا أنهم كانوا يتركون سبيل النظر؛ إظهاراً لبغضه، وخوفاً من أن التعرض للإنكار، فالسمع يمكن إخفاؤه، بخلاف النظر والتحديق، فكان السامعون له أكثر عددا ًمن الناظرين، لذلك اختلف النظم الكريم.
بينما ردّ العلامة ابن عاشور الأساس الذي بُنيت عليه هذه التفسيرات، ولم يقبلها؛ لأن الجمع والإفراد هنا سواء، فمفاد (مَن) الموصولة فيهما هو مَن يصدر منهم الفعل، وهم عدد، وليس الناظر شخصاً واحداً.أ.هـ.
لكن يبقى السؤال وارداً: لماذا لم يقل تعالى: (ومنهم من يستمع)، كما جاء في سورة الأنعام، آية (25)، حيث يُفهم الجمع كذلك من هذه الصيغة؟
ولماذا لم يقل: (ومنهم من ينظرون)؟
معلوم أن (مَن) يراد بها الكثرة، إلا أن هذا على الغالبِ في استعمالِ العرب، وهذا الغالب لا ينفي احتمال استعمالها في المفرد، وإن كان استعمالاً أقل .. إلا أنه احتمال وارد.
وما يرفع احتمال المفرد ـ كما يقول ابن الزبير في ملاك التأويل ـ ما يأتي في تتمة الكلام من ضمائر تدل على أن المقصود الجمع لا المفرد، من ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوِبهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهـُوهُ وَفِي آذَانِـهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُـواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلـُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} الأنعام25.
فالضمائر التي جاءت في تتمة الآية وضحت أن المراد من قوله: (من يستمع) جمعٌ لا مفرد، بخلاف ما إذا لم يأتِ في الآية ما يرفع إرادة المفرد، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبـِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، فالضمائر جميعها في هذه الآية ضمائر تدل على أن المراد مفرد، وهذا ما أيدته الروايات، حيث ذكرت أن المقصود هو الأخنس بن شريق.
ولما لم يرد فيما انتظم مع آية يونس ضمير ولا غير ذلك مما يبين أن المستمعين جماعة ـ وكان بيان ذلك مراداً مقصوداً ـ أتى الضمير أولاً ضمير جمع؛ حملاً على معنى (مَن)، ولم يحمل على لفظها فيفرد؛ لئلا يوهم أن المستمع واحد، وذلك غير مقصود، فقيل: (ومنهم من يستمعون إليك)؛ إذ ليس في الكلام بعد ما يبين ذلك.
بينما جاءت آية الأنعام على الأكثر المطرد من كلام العرب ـ كما يقول ابن الزبير ـ، فقد ورد فيما انتظم بالآية بيان كون المستمعين جماعة، وذلك قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبـهـِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُـوهُ وَفِي آذَانـِهِمْ وَقْراً}، فبيّن أن المراد جماعة وارتفع احتمال المفرد ـ عبّر بضمير المفرد (يستمع).
والله تعالى أعلم ..
بانتظار تعليقاتكم وتصويباتكم .. أثابكم الله ..