من مواقف لا تنسى مع شيخي الحبيب فضل حسن عبّاس –أسكنه الفردوس الأعلى-:
كلمة لا بدّ منها:
كنت أتحدّث مع بعض أهلي عن بعض أحوالنا مع الله تعالى صبيحة يوم وفاته الأربعاء 9/3/ 1432هـ الموافق 9/2/2011م. وكان الحديث منصبّاً على موقف لي معه –أعلى الله مقامه-. فيا الله ما هذه الموافقة العجيبة؟.
وسأذكر الموقف في حينه إن شاء الله.
مقدّمة: دخلت الجامعة الأردنيّة على أساس التّفوّق الرّياضيّ؛ بسبب كبر سنّي عن طلبة الجامعة المقبولين حديثاً؛ وكنت قد درست دراسات علميّة سابقة؛ هندسة ميكانيكيّة سنة واحدة في اليمن الجنوبيّة عام 1979م. ثمّ تركتها ودرست الهندسة المدنيّة تخصّص المساحة عام 1984م في معهد تطبيقيّ عالٍ؛ وعملت بها في دائرة الأراضي والمساحة؛ ثمّ دخلت العسكريّة سنتين؛ ثمّ تحوّلت دراستي العلميّة كلّها إلى ما أحبّ وأعشق وأحلم منذ الصّبا: الشّريعة الإسلاميّة -كانت الأحلام في الأزهر لكنّني درستها في الأردنيّة- عام 1986م.
وكانت معرفتي السّمعيّة لشيخنا الحبيب فضل –-رحمه الله تعالى- عن طريق الإذاعة الأردنيّة الّذي فسّر القرآن فيها بصوته العذب النّديّ الشجيّ الممتلك لبحّة لذيذة عذبة وذلكم في السّبعينيّات؛ وما تزال حتّى اليوم يعاود بثّها عبر إذاعات المساجد قبيل الصّلوات بعد توحيد الأذان في الأردنّ. وكان صوته يدخل في أعماق قلبي؛ حتّى إنّني أذكر أنّي إذا سمعت صوته توقّفت عن أيّ عمل أقوم به. إذ كان صوتاً يدخل السّعادة والخشوع على القلب والجوارح.
مواقف مشاهدة من ذاكرتي:
الموقف الأوّل: سجّلت موادّ الفصل الأوّل عام 1986م، وكانت من ضمن الموادّ مادّة "أساليب البيان"؛ فحذّرني الطّلبة منها ومن أستاذها؛ شدّة وقلّة درجات -كما ذكر أحد الإخوة في الملتقى-. وأنا من طبيعتي أحبّ أن أكوّن فكرة عن الأشخاص والأشياء دوماً؛ ولكنّي لا آخذ بها إلا بقدر وذلك منذ الصّغر. فقلت لنفسي: أجرّب أوّلاً.
فدخلنا قاعة المحاضرة، وانتظرنا مجيء الدّكتور المحذَّر من شدّته؛ فإذا بصوت عالٍ وصوت أقدام كأنّها تهوي على الأرض هويّاً؛ حتىّ إذا اقترب الصّوت من باب القاعة حيث يمكن أن نرى؛ إذا برجل ضخم مكتنز اللّحم بعمامة كبيرة وجبّة أزهريّة –كنت أعشقها وأحلم بلبسها فيما مضى- ويتهادى مع رجل آخر قصير القامة قليل اللّحم؛ يلبس بدلة جاكيتتّها طويلة تكاد تصل نصف الرّكبتين، فإذا بهما يدخلان القاعة سويّاً متضاحكين. فيقول الشّيخ الضّخم موجّهاً كلامه لنا: هذا الياسمين هززت بسريره صغيراً. وذاك يقول: أنا كنت أداعبه طفلاً رضيعاً. ويتضاحكان.
وضحكنا أو تضاحك بعضنا معهما، واستبشرت خيراً إذ رأيت من وُصِفَ لي بالشّدّة يضحك. فهذه أولى البشريات.
فإذا بالأوّل المكتنز الشّيخ فضل حسن عبّاس، والآخر الخفيف اللّحم: الشّيخ ياسين درداكة -رحمه الله تعالى- ، الّذي كان يسمّيه ياسمين، هو وحبيبنا الآخر الشّيخ أحمد نوفل –حفظه الله وبارك في عمره ولا حرم الأمّة منه-.
وجلس بعد السّلام علينا ثمّ افتتح بقراءة القرآن. فيا لله ما أعذب هذا الصّوت الّذي ينطلق من حنجرته؛ ليذكّرنا بالأصوات الخالدة الّتي لا تبلى؛ قبل أن نبتلى بأصوات حسنة؛ لكنّها جافّة بلا قراءة حسنة؛ وقفاً ووصلاً وأحكاماً ومخارج وتعابير صوتيّة، و .... سرعان ما تمّحي بعد فترة. وفرق بين أن تسمع من مسجّلة أو غيرها وبين أن تسمع من الشّيخ عياناً وبخاصّة إن كان يؤمّ بك! لا يمكن أن تملك نفسك من البكاء خشوعاً إن كان جهاز الاستقبال صالحاً. فجهاز الإرسال عنده صالح.
وما زلت أذكر رغم بعد العهد بين تلك المحاضرة -ربع قرن من الزّمان- أنّ ما قرأه كان من أواخر سورة البقرة. فيا الله يقرأ والدّموع تنهمر من عينيه على وجنتيه فدته نفسي.
فوالله لقد زادني بكاء عينيه بكاءً فوق بكائنا على قراءته العذبة اللّذيذة بصوته الخاشع الباكي.
ثمّ بدأ يتحدّث ببلاغة عالية ولغة عربيّة فصيحة لم أسمعه بعدها يلحن؛ بل أحياناً يعيد الكلمة مرّتين بالنّصب أو بالضّمّ ويبيّن لنا سببها، ويجري الكلام على لسانه عذباً نميراً جريان الجدول الصّغير.
ثمّ طوّف بنا يتحدّث عن المساق؛ وقاطعته فرحاً به –سرعة فيها قلّة أدب؛ لكنّني معذور، فقد أحببت أن أقاطعه لأُسْمِعَهُ وأَسْمَعَهُ- سائلاً إيّاه: شيخنا أنا طالب سنة أولى، وبعض الطّلبة نصحني ألا آخذ هذه المادّة إلا في السّنة الرّابعة، فما رأيَك؟ ونصبت الياء؛ ثمّ استدركت فقلت: فما رأيُك؟ بالضّمّ. فقال بعد أن رأيت البشر بعد العبوس لصوابي بعد خطئي –وكم كان يغضب ممّن يلحن وبخاصّة من الأساتذة-: ما دمتَ صوّبتَ فخذها.
فأخذتها فحصلت على درجة 60%، فلمّا رأى بعض أصحابي درجتي قالوا: نصحناك فما انتصحت؛ فقلت: بل إنّ 60% عندي كالتّسعين عند غيره. ولن أدع مساقاً للشّيخ لا آخذه معه. لقد أحببته حبّاً كبيراً وكفى.
وذلك ممّا أفدت من علمه وفضله وخشوعه ورقائقه وسمته ودلّه وتواضعه ومزاحه.
استطراد: ولكن تفوّق على جميع الطّلبة طالب رزق بذاكرة عجيبة؛ يحفظ من أوّل قراءة لا يكرّر دراسته للامتحانات؛ يكتب المحاضرة في محاور رئيسة في دفتر، ثمّ يصبّ الإجابات صبّاً كأنّه ينقل عن كتاب؛ يرتجل الشّعر الفصيح ارتجالاً.
ولقد طلب منّا أحد الأساتذة الأفاضل هو الدّكتور أحمد فريد –حفظه الله ورعاه-تقريراً عن سورة المجادلة، فكتب له قصيدة من اثنين وعشرين بيتاً؛ في كلّ آية بيت؛ وهو الأخ العزيز الّذي انقطعت عنّي أخباره: منير الرّفاعيّ؛ ذكره الله بخير وبارك فيه. الصّافي صفاء الصّالحين؛ كما أحسبه!
ومعلوم عن الجامعة الأردنيّة في تلكم الأيّام قلّة الدّرجات عند الأساتذة. فمن يدنو من التّسعين؟ على عكس الجامعات السّعوديّة مثلاً؛ فمرّ بنا زملاء بدرجات تصل إلى الكمال 100%. وقد حصل أحد زملائنا على معدّل 93% من الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة –صلّى الله عليه وآله وسلّم الله على ساكنها وسلّم- لكنّه لم ينجح في الفصل الأوّل في الماجستير مع طلبة بينهم وبين معدّلاته بون شاسع؛ بل كانت درجاته في امتحان القبول للماجستير الأقلّ بين جميع الطّلبة. وهذه ليست حالة وحيدة. وهذا ليس ذمّاً في الجامعات الّسعوديّة ولا مدحاً في الأردنيّة؛ وإنّما هو وصف لحال موجود ظاهرةً كما رأينا.
كلمة لا بدّ منها:
كنت أتحدّث مع بعض أهلي عن بعض أحوالنا مع الله تعالى صبيحة يوم وفاته الأربعاء 9/3/ 1432هـ الموافق 9/2/2011م. وكان الحديث منصبّاً على موقف لي معه –أعلى الله مقامه-. فيا الله ما هذه الموافقة العجيبة؟.
وسأذكر الموقف في حينه إن شاء الله.
مقدّمة: دخلت الجامعة الأردنيّة على أساس التّفوّق الرّياضيّ؛ بسبب كبر سنّي عن طلبة الجامعة المقبولين حديثاً؛ وكنت قد درست دراسات علميّة سابقة؛ هندسة ميكانيكيّة سنة واحدة في اليمن الجنوبيّة عام 1979م. ثمّ تركتها ودرست الهندسة المدنيّة تخصّص المساحة عام 1984م في معهد تطبيقيّ عالٍ؛ وعملت بها في دائرة الأراضي والمساحة؛ ثمّ دخلت العسكريّة سنتين؛ ثمّ تحوّلت دراستي العلميّة كلّها إلى ما أحبّ وأعشق وأحلم منذ الصّبا: الشّريعة الإسلاميّة -كانت الأحلام في الأزهر لكنّني درستها في الأردنيّة- عام 1986م.
وكانت معرفتي السّمعيّة لشيخنا الحبيب فضل –-رحمه الله تعالى- عن طريق الإذاعة الأردنيّة الّذي فسّر القرآن فيها بصوته العذب النّديّ الشجيّ الممتلك لبحّة لذيذة عذبة وذلكم في السّبعينيّات؛ وما تزال حتّى اليوم يعاود بثّها عبر إذاعات المساجد قبيل الصّلوات بعد توحيد الأذان في الأردنّ. وكان صوته يدخل في أعماق قلبي؛ حتّى إنّني أذكر أنّي إذا سمعت صوته توقّفت عن أيّ عمل أقوم به. إذ كان صوتاً يدخل السّعادة والخشوع على القلب والجوارح.
مواقف مشاهدة من ذاكرتي:
الموقف الأوّل: سجّلت موادّ الفصل الأوّل عام 1986م، وكانت من ضمن الموادّ مادّة "أساليب البيان"؛ فحذّرني الطّلبة منها ومن أستاذها؛ شدّة وقلّة درجات -كما ذكر أحد الإخوة في الملتقى-. وأنا من طبيعتي أحبّ أن أكوّن فكرة عن الأشخاص والأشياء دوماً؛ ولكنّي لا آخذ بها إلا بقدر وذلك منذ الصّغر. فقلت لنفسي: أجرّب أوّلاً.
فدخلنا قاعة المحاضرة، وانتظرنا مجيء الدّكتور المحذَّر من شدّته؛ فإذا بصوت عالٍ وصوت أقدام كأنّها تهوي على الأرض هويّاً؛ حتىّ إذا اقترب الصّوت من باب القاعة حيث يمكن أن نرى؛ إذا برجل ضخم مكتنز اللّحم بعمامة كبيرة وجبّة أزهريّة –كنت أعشقها وأحلم بلبسها فيما مضى- ويتهادى مع رجل آخر قصير القامة قليل اللّحم؛ يلبس بدلة جاكيتتّها طويلة تكاد تصل نصف الرّكبتين، فإذا بهما يدخلان القاعة سويّاً متضاحكين. فيقول الشّيخ الضّخم موجّهاً كلامه لنا: هذا الياسمين هززت بسريره صغيراً. وذاك يقول: أنا كنت أداعبه طفلاً رضيعاً. ويتضاحكان.
وضحكنا أو تضاحك بعضنا معهما، واستبشرت خيراً إذ رأيت من وُصِفَ لي بالشّدّة يضحك. فهذه أولى البشريات.
فإذا بالأوّل المكتنز الشّيخ فضل حسن عبّاس، والآخر الخفيف اللّحم: الشّيخ ياسين درداكة -رحمه الله تعالى- ، الّذي كان يسمّيه ياسمين، هو وحبيبنا الآخر الشّيخ أحمد نوفل –حفظه الله وبارك في عمره ولا حرم الأمّة منه-.
وجلس بعد السّلام علينا ثمّ افتتح بقراءة القرآن. فيا لله ما أعذب هذا الصّوت الّذي ينطلق من حنجرته؛ ليذكّرنا بالأصوات الخالدة الّتي لا تبلى؛ قبل أن نبتلى بأصوات حسنة؛ لكنّها جافّة بلا قراءة حسنة؛ وقفاً ووصلاً وأحكاماً ومخارج وتعابير صوتيّة، و .... سرعان ما تمّحي بعد فترة. وفرق بين أن تسمع من مسجّلة أو غيرها وبين أن تسمع من الشّيخ عياناً وبخاصّة إن كان يؤمّ بك! لا يمكن أن تملك نفسك من البكاء خشوعاً إن كان جهاز الاستقبال صالحاً. فجهاز الإرسال عنده صالح.
وما زلت أذكر رغم بعد العهد بين تلك المحاضرة -ربع قرن من الزّمان- أنّ ما قرأه كان من أواخر سورة البقرة. فيا الله يقرأ والدّموع تنهمر من عينيه على وجنتيه فدته نفسي.
فوالله لقد زادني بكاء عينيه بكاءً فوق بكائنا على قراءته العذبة اللّذيذة بصوته الخاشع الباكي.
ثمّ بدأ يتحدّث ببلاغة عالية ولغة عربيّة فصيحة لم أسمعه بعدها يلحن؛ بل أحياناً يعيد الكلمة مرّتين بالنّصب أو بالضّمّ ويبيّن لنا سببها، ويجري الكلام على لسانه عذباً نميراً جريان الجدول الصّغير.
ثمّ طوّف بنا يتحدّث عن المساق؛ وقاطعته فرحاً به –سرعة فيها قلّة أدب؛ لكنّني معذور، فقد أحببت أن أقاطعه لأُسْمِعَهُ وأَسْمَعَهُ- سائلاً إيّاه: شيخنا أنا طالب سنة أولى، وبعض الطّلبة نصحني ألا آخذ هذه المادّة إلا في السّنة الرّابعة، فما رأيَك؟ ونصبت الياء؛ ثمّ استدركت فقلت: فما رأيُك؟ بالضّمّ. فقال بعد أن رأيت البشر بعد العبوس لصوابي بعد خطئي –وكم كان يغضب ممّن يلحن وبخاصّة من الأساتذة-: ما دمتَ صوّبتَ فخذها.
فأخذتها فحصلت على درجة 60%، فلمّا رأى بعض أصحابي درجتي قالوا: نصحناك فما انتصحت؛ فقلت: بل إنّ 60% عندي كالتّسعين عند غيره. ولن أدع مساقاً للشّيخ لا آخذه معه. لقد أحببته حبّاً كبيراً وكفى.
وذلك ممّا أفدت من علمه وفضله وخشوعه ورقائقه وسمته ودلّه وتواضعه ومزاحه.
استطراد: ولكن تفوّق على جميع الطّلبة طالب رزق بذاكرة عجيبة؛ يحفظ من أوّل قراءة لا يكرّر دراسته للامتحانات؛ يكتب المحاضرة في محاور رئيسة في دفتر، ثمّ يصبّ الإجابات صبّاً كأنّه ينقل عن كتاب؛ يرتجل الشّعر الفصيح ارتجالاً.
ولقد طلب منّا أحد الأساتذة الأفاضل هو الدّكتور أحمد فريد –حفظه الله ورعاه-تقريراً عن سورة المجادلة، فكتب له قصيدة من اثنين وعشرين بيتاً؛ في كلّ آية بيت؛ وهو الأخ العزيز الّذي انقطعت عنّي أخباره: منير الرّفاعيّ؛ ذكره الله بخير وبارك فيه. الصّافي صفاء الصّالحين؛ كما أحسبه!
ومعلوم عن الجامعة الأردنيّة في تلكم الأيّام قلّة الدّرجات عند الأساتذة. فمن يدنو من التّسعين؟ على عكس الجامعات السّعوديّة مثلاً؛ فمرّ بنا زملاء بدرجات تصل إلى الكمال 100%. وقد حصل أحد زملائنا على معدّل 93% من الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة –صلّى الله عليه وآله وسلّم الله على ساكنها وسلّم- لكنّه لم ينجح في الفصل الأوّل في الماجستير مع طلبة بينهم وبين معدّلاته بون شاسع؛ بل كانت درجاته في امتحان القبول للماجستير الأقلّ بين جميع الطّلبة. وهذه ليست حالة وحيدة. وهذا ليس ذمّاً في الجامعات الّسعوديّة ولا مدحاً في الأردنيّة؛ وإنّما هو وصف لحال موجود ظاهرةً كما رأينا.
يتبع ... 2