من مواقف لا تُنسى مع شيخنا الحبيب الفضل بن العبّاس

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع نعيمان
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

نعيمان

New member
إنضم
31/12/2005
المشاركات
351
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
من مواقف لا تنسى مع شيخي الحبيب فضل حسن عبّاس –أسكنه الفردوس الأعلى-:
كلمة لا بدّ منها:
كنت أتحدّث مع بعض أهلي عن بعض أحوالنا مع الله تعالى صبيحة يوم وفاته الأربعاء 9/3/ 1432هـ الموافق 9/2/2011م. وكان الحديث منصبّاً على موقف لي معه –أعلى الله مقامه-. فيا الله ما هذه الموافقة العجيبة؟.
وسأذكر الموقف في حينه إن شاء الله.
مقدّمة: دخلت الجامعة الأردنيّة على أساس التّفوّق الرّياضيّ؛ بسبب كبر سنّي عن طلبة الجامعة المقبولين حديثاً؛ وكنت قد درست دراسات علميّة سابقة؛ هندسة ميكانيكيّة سنة واحدة في اليمن الجنوبيّة عام 1979م. ثمّ تركتها ودرست الهندسة المدنيّة تخصّص المساحة عام 1984م في معهد تطبيقيّ عالٍ؛ وعملت بها في دائرة الأراضي والمساحة؛ ثمّ دخلت العسكريّة سنتين؛ ثمّ تحوّلت دراستي العلميّة كلّها إلى ما أحبّ وأعشق وأحلم منذ الصّبا: الشّريعة الإسلاميّة -كانت الأحلام في الأزهر لكنّني درستها في الأردنيّة- عام 1986م.
وكانت معرفتي السّمعيّة لشيخنا الحبيب فضل –-رحمه الله تعالى- عن طريق الإذاعة الأردنيّة الّذي فسّر القرآن فيها بصوته العذب النّديّ الشجيّ الممتلك لبحّة لذيذة عذبة وذلكم في السّبعينيّات؛ وما تزال حتّى اليوم يعاود بثّها عبر إذاعات المساجد قبيل الصّلوات بعد توحيد الأذان في الأردنّ. وكان صوته يدخل في أعماق قلبي؛ حتّى إنّني أذكر أنّي إذا سمعت صوته توقّفت عن أيّ عمل أقوم به. إذ كان صوتاً يدخل السّعادة والخشوع على القلب والجوارح.
مواقف مشاهدة من ذاكرتي:
الموقف الأوّل: سجّلت موادّ الفصل الأوّل عام 1986م، وكانت من ضمن الموادّ مادّة "أساليب البيان"؛ فحذّرني الطّلبة منها ومن أستاذها؛ شدّة وقلّة درجات -كما ذكر أحد الإخوة في الملتقى-. وأنا من طبيعتي أحبّ أن أكوّن فكرة عن الأشخاص والأشياء دوماً؛ ولكنّي لا آخذ بها إلا بقدر وذلك منذ الصّغر. فقلت لنفسي: أجرّب أوّلاً.
فدخلنا قاعة المحاضرة، وانتظرنا مجيء الدّكتور المحذَّر من شدّته؛ فإذا بصوت عالٍ وصوت أقدام كأنّها تهوي على الأرض هويّاً؛ حتىّ إذا اقترب الصّوت من باب القاعة حيث يمكن أن نرى؛ إذا برجل ضخم مكتنز اللّحم بعمامة كبيرة وجبّة أزهريّة –كنت أعشقها وأحلم بلبسها فيما مضى- ويتهادى مع رجل آخر قصير القامة قليل اللّحم؛ يلبس بدلة جاكيتتّها طويلة تكاد تصل نصف الرّكبتين، فإذا بهما يدخلان القاعة سويّاً متضاحكين. فيقول الشّيخ الضّخم موجّهاً كلامه لنا: هذا الياسمين هززت بسريره صغيراً. وذاك يقول: أنا كنت أداعبه طفلاً رضيعاً. ويتضاحكان.
وضحكنا أو تضاحك بعضنا معهما، واستبشرت خيراً إذ رأيت من وُصِفَ لي بالشّدّة يضحك. فهذه أولى البشريات.
فإذا بالأوّل المكتنز الشّيخ فضل حسن عبّاس، والآخر الخفيف اللّحم: الشّيخ ياسين درداكة -رحمه الله تعالى- ، الّذي كان يسمّيه ياسمين، هو وحبيبنا الآخر الشّيخ أحمد نوفل –حفظه الله وبارك في عمره ولا حرم الأمّة منه-.
وجلس بعد السّلام علينا ثمّ افتتح بقراءة القرآن. فيا لله ما أعذب هذا الصّوت الّذي ينطلق من حنجرته؛ ليذكّرنا بالأصوات الخالدة الّتي لا تبلى؛ قبل أن نبتلى بأصوات حسنة؛ لكنّها جافّة بلا قراءة حسنة؛ وقفاً ووصلاً وأحكاماً ومخارج وتعابير صوتيّة، و .... سرعان ما تمّحي بعد فترة. وفرق بين أن تسمع من مسجّلة أو غيرها وبين أن تسمع من الشّيخ عياناً وبخاصّة إن كان يؤمّ بك! لا يمكن أن تملك نفسك من البكاء خشوعاً إن كان جهاز الاستقبال صالحاً. فجهاز الإرسال عنده صالح.
وما زلت أذكر رغم بعد العهد بين تلك المحاضرة -ربع قرن من الزّمان- أنّ ما قرأه كان من أواخر سورة البقرة. فيا الله يقرأ والدّموع تنهمر من عينيه على وجنتيه فدته نفسي.
فوالله لقد زادني بكاء عينيه بكاءً فوق بكائنا على قراءته العذبة اللّذيذة بصوته الخاشع الباكي.
ثمّ بدأ يتحدّث ببلاغة عالية ولغة عربيّة فصيحة لم أسمعه بعدها يلحن؛ بل أحياناً يعيد الكلمة مرّتين بالنّصب أو بالضّمّ ويبيّن لنا سببها، ويجري الكلام على لسانه عذباً نميراً جريان الجدول الصّغير.
ثمّ طوّف بنا يتحدّث عن المساق؛ وقاطعته فرحاً به –سرعة فيها قلّة أدب؛ لكنّني معذور، فقد أحببت أن أقاطعه لأُسْمِعَهُ وأَسْمَعَهُ- سائلاً إيّاه: شيخنا أنا طالب سنة أولى، وبعض الطّلبة نصحني ألا آخذ هذه المادّة إلا في السّنة الرّابعة، فما رأيَك؟ ونصبت الياء؛ ثمّ استدركت فقلت: فما رأيُك؟ بالضّمّ. فقال بعد أن رأيت البشر بعد العبوس لصوابي بعد خطئي –وكم كان يغضب ممّن يلحن وبخاصّة من الأساتذة-: ما دمتَ صوّبتَ فخذها.
فأخذتها فحصلت على درجة 60%، فلمّا رأى بعض أصحابي درجتي قالوا: نصحناك فما انتصحت؛ فقلت: بل إنّ 60% عندي كالتّسعين عند غيره. ولن أدع مساقاً للشّيخ لا آخذه معه. لقد أحببته حبّاً كبيراً وكفى.
وذلك ممّا أفدت من علمه وفضله وخشوعه ورقائقه وسمته ودلّه وتواضعه ومزاحه.
استطراد: ولكن تفوّق على جميع الطّلبة طالب رزق بذاكرة عجيبة؛ يحفظ من أوّل قراءة لا يكرّر دراسته للامتحانات؛ يكتب المحاضرة في محاور رئيسة في دفتر، ثمّ يصبّ الإجابات صبّاً كأنّه ينقل عن كتاب؛ يرتجل الشّعر الفصيح ارتجالاً.
ولقد طلب منّا أحد الأساتذة الأفاضل هو الدّكتور أحمد فريد –حفظه الله ورعاه-تقريراً عن سورة المجادلة، فكتب له قصيدة من اثنين وعشرين بيتاً؛ في كلّ آية بيت؛ وهو الأخ العزيز الّذي انقطعت عنّي أخباره: منير الرّفاعيّ؛ ذكره الله بخير وبارك فيه. الصّافي صفاء الصّالحين؛ كما أحسبه!
ومعلوم عن الجامعة الأردنيّة في تلكم الأيّام قلّة الدّرجات عند الأساتذة. فمن يدنو من التّسعين؟ على عكس الجامعات السّعوديّة مثلاً؛ فمرّ بنا زملاء بدرجات تصل إلى الكمال 100%. وقد حصل أحد زملائنا على معدّل 93% من الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة –صلّى الله عليه وآله وسلّم الله على ساكنها وسلّم- لكنّه لم ينجح في الفصل الأوّل في الماجستير مع طلبة بينهم وبين معدّلاته بون شاسع؛ بل كانت درجاته في امتحان القبول للماجستير الأقلّ بين جميع الطّلبة. وهذه ليست حالة وحيدة. وهذا ليس ذمّاً في الجامعات الّسعوديّة ولا مدحاً في الأردنيّة؛ وإنّما هو وصف لحال موجود ظاهرةً كما رأينا.
يتبع ... 2
 
الموقف الثّاني: ثمّ في محاضرة أخرى تطرّق إلى الحبيب النّبيّ صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، وذكر نسبه الزّكيّ محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب، وكان من عادته أنّه لا يمرّ على شيء إلا ويحدّثنا عنه، يشرح كلمة، يعرّف مكاناً، يذكر تاريخاً، يفسّر آية، ينزّل ما يعلم على الواقع سياسة، .....؛ إلخ رأيته موسوعة علميّة متحرّكة لدرجة أنّنا كنّا إذا رأيناه يمشي؛ رأينا من أصحاب المزاح من الطّلبة من يمشي خلفه كأنّه يجمع أشياء. فيسألهم آخرون؟ ماذا تصنعون؟ فيقولون: نجمع العلم الّذي يتساقط من الشّيخ -رحمه الله تعالى- فيضحكون.
ثمّ سأل: ما اسم عبد المطّلب؟ فلم يرفع طالب يده ولا طالبة يدها – وكان طلبة الشّريعة يجلسون في المقدّمة والطّالبات في آخر القاعة-؛ فقلت: اسمه شيبة الحمد، وذكرت سبب تسميته بذلك؛ إذ كنت أعشق السّيرة العطرة وأستظهرها كلّها وما زلت. فسألني: كيف عرفت؟ فقلت له متقرّباً -ومحبّاً لهذا من نفسي له-: إنّه جدّي وأنا من نسله الشّريف.
فدمعت عينه وقال: وصلتَ وصلتَ، ثمّ سكت هنيهة وقال مستدركاً: مع العمل الصّالح مع العمل الصّالح. فلا تركنّن لغير هذا.
ثمّ قال لي: تحسن تقرأ؟ قلت أجرّب: فقرأت عليه من كتابه "البلاغة العربيّة فنونها وأفنانها". ومن كثرة حبّي لتفنّنه ولفظة الأفنان الّتي كان يردّدها كثيراً أسميت إحدى بنيّاتي بهذا الاسم. وكتب فيها وفي توأمها أنفال والدي الحبيب -رحمه الله تعالى- قصيدة رائعة؛ بعنوان: التّوأمان: أنفال وأفنان.
ثمّ أصبح بعدُ لا يدخل القاعة إلا ويقول لي: اقرأ علينا يا شيخ، ويبدأ يشرح.
ومرّة مررت بعبارات لطيفة في الكتاب؛ فيها: اشتهر فلان بالفهاهة، وفلان بالسّفاهة، وأدرجت كلاماً من عندي؛ فقلت: والفضل بن العبّاس بالنّباهة. فضحك الطّلّاب ضحكاتٍ مكتومةً لا تكاد تُسمع؛ ولكنّها عند شيخنا الحبيب فضل تُسمع ولها صدى وعويل. باسم الله عليه.
فرفع رأسه ثمّ قال: أعد أعد يا شيخ. فوقع قلبي بين رجليّ خوفاً منه ومهابة على جرأة فيّ تلكم الأيّام. فأعدتها دون أن أذكر العبارة الّتي أدرجتها. فرفع رأسه إلى السّقف وقال: وأين تلك الجملة؟
فقلت مسرعاً بصوت متهدّج: إنّها كلام مدرج من الشّيخ أنا. فضحك ضحكة عالية -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-. ثمّ قال بتواضع: وأين الفضل بن العبّاس من الفضل بن العبّاس؟ ثمّ نهض.
الموقف الثّالث: درست معه مادّة اسمها: تفسير 3 .
وامتحننا ذات محاضرة، وكان من ضمن الأسئلة -وبالمناسبة ما زلت أحتفظ بأوراق الامتحان له ولشيخنا أحمد نوفل –حفظهما الله تعالى- وكذلك تسجيلات صوتيّة لهما وهي عندي من النّوادر المكنوزة؛ وليتها عندي الآن فهي في بلد وأنا في بلد.
كان من ضمن الأسئلة سؤال: لم قال الله تعالى: [FONT=QCF_BSML]ﭽ[/FONT] [FONT=QCF_P062][FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT]ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ [FONT=QCF_P062]ﮝ ﮞ ﮟ[/FONT][/FONT][FONT=QCF_P062] ﮠ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT] آل عمران: ٩٦، ولم يقل بمكّة.
فكتبت له الإجابة الّتي تعلّمناها، ثمّ أضفت لها حكاية ظننتها ستضحكه.
والحكاية أنّني كنت بصحبة عمّي عيسى –حفظه الله ورعاه- وهو يقطن جدّة قبل أن يسكنها الهارب المعاصر- ومعنا صاحب له أزهريّ صاحب نكتة –مَنْ مِنْ أزهريّي زمان لا ينكّت- متوجّهين إلى مكّة حرسها الله تعالى لأداء مناسك العمرة، فسألني الشّيخ طه السّؤال ذاته. فأجبت بما أعرف، فقال ممازحاً: أصله جبريل كان مزكّم شويّة! فضحكنا –ثمّ لمّا علمنا بعدُ بكينا وتألّمنا واستغفرنا-
فكتبت هذه القصّة في ورقة الإجابة –بغبائي- لأُضْحِك الشّيخ، وكتبت بين معترضتين إن جاز ذلك- فإذا بتعليق على الورقة بخطّ أحمر: وهل تظنّ أنّ هذا جائزاً يا شيخ.
ثمّ التقاني منفرداً قال لي: لا تعد لمثلها ولو ناقلاً. أين الشّدّة والغلظة الموصوف بها ملانا الحبيب؟
ففرحت لأسلوبه الدّمث على عكس ما كان يصوّره بعض الطّلبة. فصرت أتّهمهم وأبرّئه. فلولا أخطاؤهم ما أنّبهم؛ إذ لكلّ مقام مقال. وما أكثر ما كان يردّد هذه الجملة على مسامعنا.
يتبع 3​
 
الموقف الرّابع: كان الشّيخ -رحمه الله تعالى- عزيز النّفس يغضب ممّن يشعره أنّه يتفضّل عليه أو يشعره أنّ به شيئاً بسبب بصره.
فمثلاً كان يأتيه طالب ليأخذ بيده عند صعوده الدّرج فيقول له: إيش يا شيخ إيش بدّك؟ بحركة معهودة منه يرحمه الله تعالى.
فيقول له الطّالب ببراءة: أريد أن أوصلك. فينزع يده منها بشدّة ويمشي مسرعاً صاعداً الدّرج بغضب.
فكنت أتسلّل إليه وآخذ بيده فيسألني السّؤال ذاته؛ فأجيبه بمكر وحبّ في الله تعالى: أريد أن توصلني إلى مكتبك وتهديني الطّريق؛ فيبتسم، وأمشي وأنا فرح مبتهج. فكلّما رأيته ذهبتُ أفعل به هذا.
وكان أكثر ما يغيظني أحد أعضاء الملتقى؛ أكبره سنّاً ويكبرني علماً وفضلاً وقدراً وسابقة إلى العلم الشّرعيّ -كما أحسبه- وهو تلميذه الملازم له الدّكتور جمال أبو حسّان: دائماً إذا جاء الجامعة يمشي متأبّطاً ذراعه فلا يدع مجالاً لأحد. إنّها أنانيّة محبّ.
وأردت مرّة أن أكتشف قدرته في حاسّته الزّائدة عن الّذين يبصرون بأعينهم: فكنت ألقي عليه السّلام فيعرف صوتي، وأحياناً أضع يده في يدي دون أن أسلّم؛ فيقول لي بسرعة كأنّه يعرف مكري: أهلاً شيخ فلان باسم العائلة.
فمرّة سرت معه ووصلنا إلى مكتبه، وأردت العودة. فقال: إلى أين؟ قلت: عندي محاضرة. قال عند من؟ قلت: عند الدّكتور فلان. قال بامتعاض: هوّه صار دِكتور؟!
ما كان "عاجبه" -رحمه الله تعالى- تعال واتركه.
هذا الدّكتور كان يقول عنه الشّيخ الحبيب الشّهيد بإذنه تعالى: د. عبد الله عزّام: كان أبوه يقسم على البحر وهو لا يشهد صلاة الفجر.
وذلك أنّ أبا هذا الدّكتور قد غرق له ابن في البحر؛ فجاء الغوّاصون والسّبّاحون المهرة ليخرجوا جثّته؛ فما وجدوه.
فقال هذا الأب: كيف ومعي ربّي؟! فصلّى ركعتين عند البحر وأقسم على الله أن يخرج جثته. فطفت جثّته على الماء. من أجل هذا قال الشّيخ عزّام -رحمه الله تعالى- هذه العبارة تذكيراً لهذا الدّكتور ببركة أبيه وقربه من ربّه وكسل هذا الدّكتور.
المهمّ: دخلت مكتب الشّيخ الحبيب فضل، فقال لي: افتح خزانة الكتب هذه. وأشار بيمينه إلى خزانة عن يمينه، وقال: أخرج كتاب الصّيام من المجموع شرح المهذّب للإمام النّوويّ –-رحمه الله تعالى- فأخرجته، فقال: افتح صفحة كذا، ففتحت، ثمّ اقرأ من قوله كذا، فقرأت، فقال: بعد فقرتين اقرأ من قوله كذا. فظللت أقرأ. وأنا متعجّب جدّاً لدرجة الاندهاش أو الانشداه من استظهاره الصّفحات والفقرات. أيّها المختبئ خلف جدار العلم أظهر علمك وحفظك ومخزون ذاكرتك لننهل من علمك. وآه لو كان معه رجال علمٍ. وهذا ممّا ابتلي به -رحمه الله تعالى- أن أكون أنا أحد طلابه وبعض زملائي من أصحاب الهمم النّازلة. كان يحتاج إلى خير منّا، وكنّا نحتاج إلى من هو دونه.
وهذا الموقف كان قبل تأليفه لكتابه: التّوضيح في صلاتي التّراويح والتّسابيح.
وأفدتُ من قراءتي عليه كثيراً؛ منها: "وروى ابن ماجةَ"، قال: أعد. فأعدت القراءة ذاتها. قال: أعد: فقلت: ليس ابن ماجةٍ –عامل حالي فاهم أمامه ما شاء الله عليّ فالح!!!-. فقال مبتسماً: ابن ماجهْ. بهاء السّكت. وإن كنت قرأت للشّيخ المحقّق العلامة عبد الفتّاح أبو غدّة جواز اللّفظين؛ ابن ماجهْ وابن ماجةَ؛ ولكنّي أدباً مع الشّيخ لم ألفظها إلى اليوم إلا: ابن ماجهْ بالسّكت.
فقلت له: الحمد لله إذ استفدت هذه لأوّل مرّة –كأنّي قد ختمت العلم فأيّ شيء لا أعلمه أنا فهو ليس علماً!!!-. فقال لي: قل: أفدتُ ولا تقل: استفدتُ. فما أخطأت بها بعدها قراءة ولا كتابة.
فقال لي: مش هذا أحسن من محاضرة الّلي صار دكتور؟!! فضحكت في حضرته وتبسّم!
الموقف الخامس: في يوم من الأيّام كنت مغضباً من ارتفاع أسعار كتب الشّيخ الألبانيّ، وقد اتّصلت به -رحمه الله تعالى- بعد صلاة العشاء موعد استقباله الأسئلة من النّاس أستميحه العذر في تصوير بعض كتبه الّتي نحتاجها؛ فلم يأذن لي إلا بصفحات. فقلت له: يا شيخنا أنا لا أريد أن أبيعها وأفيد منها مادّيّاً؛ أريد أن أتعلّم ممّا فيها وهي علينا غالية الثّمن؛ فلم يأذن. فأقسمت أن أصوّرها؛ فاشتريتها مصوّرة من مكتبة لا أريد ذكر اسمها في سقف السّيل. وكان يصوّر لنا –الطّلبة ما نريد- بأرخص الأسعار. ولم ألتفت –إلى اليوم- لقول من أفتى بعدم جواز تصوير الكتب للعلم إلا بإذن المؤلّف. فذكرت هذا للشّيخ فضل في المحاضرة؛ قال: هذا ما ينبغي. -ما النّافية- فطمعت في استنكاره؛ فقلت له: وكتبك كذلك يا شيخنا صيدليّة. فضحك -رحمه الله تعالى- وكنّا نسمّي الدّار الّتي تطبع الكتب وتبيعها بأسعار عالية: صيدليّة. فقال: ما الكتاب الّذي رأيتَه غالياً. قلت: كتابك الجديد: المنهاج نفحات من الإسراء والمعراج.
فسكت وأدخلنا في جوّ المحاضرة. ثمّ أشار إليّ أن تعال. فأخذ هو بيدي ليوصلني إلى مكتبه وأنا بذلك سعيد أيّما سعادة. أحسست بأبوّته الحانية الّتي يريد بها أن يخفّف عنّا ما نعاني من صعوبات مادّيّة في سبيل طلب العلم. فقال: افتح الخزانة، الخزانة إيّاها ففتحتها، فقال: خذ هذه النّسخة من الكتاب؛ فاعتذرت بشدّة؛ فأبى قبول اعتذاري وأصرّ عليّ أن آخذها بأسلوب كأنّه يستعطفني. فدمعت عيني وقلت له: ما اعترضت على الغلاء لأجل ذلك. فلم يقبل أن يسمع منّي أيّة كلمة. فأخذت الكتاب وخرجت وأنا أغمغم شاكراً داعياً محرجاً. ثمّ طمعت أن يكتب لي إهداءً بتوقيعه وخطّه الجميل؛ فلمّا وصلت الباب قلت لنفسي: يا أحمق! كيف سيكتب وهو لا يكتب. فالحمد لله إذ لم أدخل عليه لأخبره وإلا لا أدري كيف أصنع أنا بعدها حرجاً؛ أمّا من قِبَلِه فلا إذ أنا في مأمن ممّا ذُكر لي زوراً؛ ولقد عرفته فلن يصنع معي إلا الودّ الكبير والحنوّ الشّديد. سامح الله بعض الطّلبة كم يظلمون أساتذتهم! وسامح الله الأساتذة كم يظلمون أنفسهم وطلبتهم!
يتبع 4​
 
ما شاء الله عليك أخي ذكرتنا بأيام غاية في الجمال في كلية الشريعة في الاردنية وذكرتنا بالدكتور أحمد نوفل وأحمد فريد والشيخ ياسين رحمه الله
الحقيقة انه لما خوفنا الطلاب من الشيخ فضل , بحثت عمن هو قريب منه فوجدت الدكتور مصطفى المشني , فلزمت محاظراته
وكان يعتمد كتب الشيخ فضل ...
أكمل وفقك الله .
 
والله يا شيخ نعيمان قطعت قلبي مما ذكرته فقد ضاع مثله ولن يتكرر ولكني والله ما غظتك ولم اغظ احدا ولا احب الغيظ ولكني كنت اسابق الطلبة الى العلم والحمد لله الذي هداني لهذا وحتى اسقط الغيظ من نفسك تكرم وارسل عنوانك حتى ارسل لك الكتاب الذي صنعته تكرمة للشيخ رحمه الله بمناسبة بلوغه السبعين وأسميته (دراسات اسلامية وعربية مهداه الى العلامة الاستاذ الدكتور فضل عباس بمناسبة بلوغه السبعين) فان كان الكتاب عندك فتخير احد كتب الاستاذ المرحوم وانا ارسله لك هدية لعلها تذهب ما في نفسك من الغيظ القديم شكر الله لك
 
عودة
أعلى