الحمد لله وبعد..
فكثيرا ما فرح المرء بنتاج تأملات في كتاب الله تعالى، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في سيرته.. إلا أنه كان يفرح بها على طريقة المكاثر المحصل للبيانات والمعلومات.. أما ترجمة ذلك إلى واقع الحياة، فالمرء يقف فيه في مرحلة هي دون مرحلة المبتدئ بمراحل عدة! .. والجزم أن تأمل كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو للحياة بهما { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } فذلكما هما التلقي والتأمل لخطاب الله تعالى اللذان يرضتهما الله سبحانه للمؤمنين.
كان من آخر ما تأملت في كلام ربي في سورة الماعون.. وكان الكلام فيها يدور حول شخصية (معينة) ابتداءا بسبب النزول ، أو (اعتبارية) من حيث العموم في اللفظ .. شخصية تحمل من الأوصاف المتتابعة المتراكمة المتسلسلة المتسبب بعضها في بعض ما لا يدع مجالا للتشكيك في ابتنائها كوحدة متماسكة الأجزاء فتصير كأنها صفة واحدة في شخص واحد، وتكون هذه الصفة الواحدة من مجموع صفات هي منطقية في ترابطها وتماسكها، فإذا ترابطت وصارت صفة واحدة وأودعت شخصية بشرية هنا ناسب أن يصف الله تعالى هذه الشخصية للمؤمنين ليأخذوا منها العبرة.
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)[/align]
طالما شكونا من انقلاب المعايير ـ عموما ـ فصارت الأصول فروعا نظرية ، وصارت الفروع أصولا عملية!
جوانب عديدة من حياة الملتزم (المتدين) المعاصر هو يعترف بها نظرا ولكنه لا يجد لها مصرفا عملا؛ من ذلك كثير من جوانب فعاليات طاب العلم، ومن ذلك ما يقدمه أغلب أصحاب الخطاب الوعظي أو الدعوي، فالأغلب من خطباء ودعاة عصرنا وصحوتنا يستعملون بعض الأدبيات الدعوية، كاستعمالات لنصوص من القرآن أو السنة ، ويتلونه لمجرد ( الرنة ) التي تحويها هذه النصوص ، يساعد في التأثير جودة الأجهزة الصوتية بالمساجد وأماكن الندوات أو اللقاءات.. فإذا دعوت هؤلاء الدعاة للنقاش حولها ـ أي تلك الأدبيات ـ أو تطرحها للتحليل تتبين أنه لم يع محتواها ولم يلتزم مقتضاها وهو قد قالها بلسانه لتوه! في حين يكون ذلك المحتوى ـ شأنه شأن أي محتوى خطابي له مقتضياته ولوازمه؛ ضرورة كونه خطاب معقول المعنى؛ ليس المقصود من ورائه الإثارة العاطفية التي تبنى على الباطل؛ وإلا كان كذبا.
من تلك القضايا والأدبيات ـ النظرية ـ التي تطرح ولا يعمل بمقتضاها، وحدة الشخصية المؤمنة وشمول صلاحها كافة أرجاء الكيان الإنساني، على القدر الذي ناله من الإيمان والعمل، وإن فقد تلك النسبة في ركن من الأركان هو دليل فقده بذات النسبة في سائر الأركان؛ فنرى الصراخ بذلك المفهوم على المنابر دون تفعيله.
فترى مثلا بعض الدعاة يتلوا على المنبر قوله تعالى { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} .. وربما يوردون الأثر " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من ربه إلا بعدا" .. وهي معان واضحة مفهومة ، ولكن حين الممارسة العملية للحياة الإسلامية.. وهي الحياة الوحيدة التي أمرنا المولى عز وجل أن نعيشها ، فإن ذلك لا يظهر أثره ، وإنما كعادتنا نعاملالامور معالة الوحدات أو الجزيئات المنفصلة المستقلة ، فلا يعتني المربون وأطباء القلوب بدراسة كام لالكيان العبودي للمسلم.. فشخص لا ينتبه في صلاته إلى وقوفه بين يدي الله تعالى ، ويأخذ يلهى في أمور الدنيا ، حتما سنجد لذلك صدى في بقية المنظزمة العبودية وفي كامل أرجاء الكيان البشري لذلك اللاهي ، وهذا قد عرفته ووجدته من نفسي حتى كان استقراءا كاملا لها؛ فما أنشغل عن الله في صلاتي إلا كان ذلك دلالة على عطب جزء رئيس ثابت منتشر في كل أركاني، ضرورة كوني وحدة متكاملة تنتهي إلى شخصية واحدة يحكم عليها إجمالا لا باستقلال.
إن تلك الوحدة المتكاملة في سورة الماعون تعكس تلك الحقيقة بصورة لا تدع مجالا للاضطراب أو الارتياب في تصور ذلك التكامل.. فانظر.. رحمن الله وغياك .. إلى تلك الأركان البشرية المذكورة في السورة في خلال وصف شخصية لها حال خاصة.. :
يكذب بالدين.. يدع اليتيم.. لا يحض على كعام المسكين.. مصلون هم عن صلاتهم ساهون.. هم يراؤون.. هم يمنعون الماعون عن جماعتهم التي ينتسبون ظاهرا إليها..
لقد تاثرت كل أركان العبودية ومواضع التربية الإسلامية ضعف إيمان هؤلاء أو بانعدامه.. وأيا من كانت السورة نزلت فيهم، أو اعتبار بعضها مكي وبعضها مدني؛ فإن الشاهد فيها متوفر على كل حال ، والصورة مغلقة على سياق واحد من أولها إلى آخرها، وهي طبيعة سور القرآن جميعا ايا ما كانت أسباب وأزمان نزول المقاطع في السورة، وهو من أوجهالإعجاز كما يعرفه المنشغولن بعلوم القرآن.
لقد تأثر كل الكيان العبودي البشري بالحالة الإيمانية .. فركن الاعتقاد .. وركن المال خلق الجود به .. وركن الخلق في الشفقة والرحمة .. وركن الشعيرة التعبدية ـ الصلاة ـ .. وركنالآداب والأخلاق!! .. فمن اعتقد بالباطل دعّ اليتيم ، ولم يحض على طعام المسكين ، وسهى عن صلاته ، وراءى ، ومنع المعونة عمن يحتاجها.
إن (فكرة) التكامل والتلازم التي تبرزها سورة الماعون لابد وان ينعكس أثرها على الأفراد الذين يراقبون أنفسهم وأحوالهم مع الله تعالى ، وعلى المربين الذين تصدوا لقضية أمراض القلوب أن يتلقوا معاييرهم الحكمية والمراقبية من كتاب الله تعالى ومنها تلك الفكرة التكاملية من سورة الماعون ؛ فإنه تمنح هؤلاء وهؤلاء مقاييس فحص وكشف مباشرة صادقة لا تخطئ لأنها منصوص عليها بالكتاب المرشد المعصوم .. هذا بدلا مما هم فيه من هم التفتيش عن مقاييس مظنونة ولا تعطي نتائج نهائية في تشخيص الأمراض الإنسانية.