عبدالله محمد عبدالقادر
New member
- إنضم
- 03/05/2011
- المشاركات
- 4
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث حول
تفسير سورة العلق
مقارنة بين تفسير ابن كثير و تفسير الزمخشري
من إنجاز الطالب عبدالله
مقـدمــة
إن الحمد لله تعالى ، نحمده ونستعين به ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة فمن بعدهم يعتنون كثيرا بتفسير كلام الله جل و علا وبفهم معانيه؛ لأنه هو الحجة على الخلق؛ ولأن التعبد وقع به وبتلاوته وبفهم معانيه وفي أنحاء كثيرة غير ذلك.
و من هنا فقد مر علم التفسير بمراحل ثلاث:
1. التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم و أصحابه.
2. التفسير في عصر التابعين.
3. التفسير في عصور التدوين.
و بعد هذه المرحلة الأخيرة التي فيها بدأ تدوين مختلف العلوم, ظهرت مدارس للتفسير كمدرسة التفسير بالمأثور, و مدرسة التفسير بالرأي الجائز, و مدرسة التفسير بالرأي المذموم (تفسير الفرق المبتدعة).
فلابدّ لطالب العلم الذي يحرص على معرفة معاني كلام الله جلّ وعلا أن يعلم مناهج أولئك المفسرين وطرائقهم حتى إذا راجع تفسيرا لأحد أولئك يعلم مع ما يتميز به ذلك التفسير ويعلم منهج المؤلف حتى لا يضيع بين كثرة التفاسير.
و من هنا فالبحث الذي بين يدينا, حاولت فيه دراسة مناهج التفسير عند الإمامين ابن كثير و الزمخشري رحمهما الله تعالى.
تصميم البحث :
و قد قسّمت هذا البحث إلى مقدمة و أربعة فصول و خاتمة :
أما المقدمة فتحدثت فيها عن نوعية البحث ، و تصميمه.
1. التعريف بالسورة و سبب اختيارها .
2. منهج التفسير عند الزمخشري.
2.1. تفسير مختصر للسورة عند الزمخشري.
2.2. منهج التفسير عند الزمخشري.
3. منهج التفسير عند ابن كثير.
3.1. تفسير مختصر للسورة عند ابن كثير.
3.2. منهج التفسير عند ابن كثير.
4. مقارنة بين التفسيرين باعتبار الخصائص المذكورة .
خاتمة : فقد اشتملت على خلاصة البحث و لائحة المراجع.
فما كان من صواب فبتوفيق من الله وحده, و ما كان من غير ذلك فأسأل الله أن يتجاوز عنا.
1. التعريف بالسورة و سبب اختيارها :
فلقد اخترت هذه السورة لعدة أسباب منها : أن فيها آيات هي أول ما نزل من القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء في مكة, و أن فيها دعوة الله للإنسان أن يقرأ فيتدبر حقيقته ولا يغفل عن حقيقة وجوده وأصل تكوينه و هو العلقة, وهذا هو سبب تسمية السورة, و من الأسباب كذلك أنها من قصار السور المكية (19 آية), لا تأخذ منا وقتا طويلا في البحث.
فتعالوا نلقي نظرة على منهج تفسير هذه السورة من خلال (تفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير (ت 774هـ) –كمدرسة التفسير بالمأثور-, و (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) للزمخشري (538هـ)- كمدرسة التفسير بالرأي المذموم (التفسير الإعتزالي مثلا)1- رحمهما الله تعالى.
2. منهج التفسير عند الزمخشري ( رحمه الله تعالى ):
2.1. تفسير مختصر للسورة عند الزمخشري ( رحمه الله تعالى ):
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم . محل { باسم رَبّكَ } النصب على الحال ، أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل : بسم الله ، ثم اقرأ . فإن قلت : كيف قال : { خَلَقَ } فلم يذكر له مفعولاً ، ثم قال : { خَلَقَ الإنسان } ؟ قلت : هو على وجهين : إما أن لا يقدّر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه . وإما أن يقدّر ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض . وقوله : { خَلَقَ الإنسان } تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق؛ لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض . ويجوز أن يراد : الذي خلق الإنسان ، كما قال : { الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان } فقيل : { الذى خَلَقَ } مبهماً ، ثم فسره بقوله : { خَلَقَ الإنسان } تفخيماً لخلق الإنسان . ودلالة على عجيب فطرته . فإن قلت : لم قال { مِنْ عَلَقٍ } على الجمع ، وإنما خلق من علقة ، كقوله : { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } ؟ قلت : لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } . { الأكرم } الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم ، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر ، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم ، فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم ، حيث قال : الأكرم { الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم ( 4 ) عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ( 5 ) } فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلاّ هو ، وما دوّنت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلاّ بالكتابة؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا؛ ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلاّ أمر القلم والخط ، لكفى به . ولبعضهم في صفة القلم :
وَرَوَاقِمُ رُقْشٍ كَمِثْلِ أَرَاقِم ... قُطْفِ الْخُطَا نَيَّالَةٍ أَقْصَى المُدَى
سُودِ الْقَوَائِمِ مَا يَجِدُّ مِسِيرُهَا ... إلاَّ إذَا لَعِبَتْ بِهَا بِيضُ المُدَى
وقرأ ابن الزبير : «علم الخط بالقلم» .
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ كَلاَّ } ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه { أَن رَّءاهُ } أن رأى نفسه . يقال : في أفعال القلوب : رأيتني وعلمتني ، وذلك بعض خصائصها . ومعنى الرؤية : العلم ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين . و { استغنى } هو المعفول الثاني { إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى } واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان ، تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان . والرجعى : مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع . وقيل : نزلت في أبي جهل . وكذلك { أَرَءَيْتَ الذى ينهى ( 9 ) } وروي : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهباً ، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، فنزل جبريل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم . وروي عنه لعنه الله أنه قال : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم . قال : فوالذي يحلف به ، لئن رأيته توطأت عنقه ، فجاءه ثم نكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ، فقال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة { أَرءَيْتَ الذى ينهى ( 9 ) } ومعناه : أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله . أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح ، كما نقول نحن { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى ( 14 ) } ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك . وهذا وعيد . فإن قلت : ما متعلق أرأيت؟ قلت : الذي ينهى مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين . فإن قلت : فأين جواب الشرط؟ قلت : هو محذوف ، تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى؟ وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : فكيف صحّ أن يكون { أَلَمْ يَعْلَم } جواباً للشرط؟ قلت : كما صحّ في قولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت : فما أرأيت الثانية وتوسطها بين مفعول أرأيت؟ قلت : هي زائدة مكرّرة للتوكيد . وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة { كَلاَّ } ردع لأبي جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات ، ثم قال { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } عما هو فيه { لَنَسْفَعاً بالناصية } لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار . والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدّة . قال عمرو بن معديكرب :
قَوْمٌ إذَا يَقَعُ الصَّرِيخُ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وقرىء : «لنسفعنّ» بالنون المشدّدة . وقرأ ابن مسعود : لأسفعا . وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، ولما علم أنها ناصية المذكور ، اكتفى بلام العهد عن الإضافة { نَاصِيَةٍ } بدل من الناصية؛ وجاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة؛ لأنها وصفت فاستقلت بفائدة . وقرىء : «ناصية» على : هي ناصية ، وناصية بالنصب . وكلاهما على الشتم . ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي . وهما في الحقيقة لصاحبها . وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك : ناصية كاذب خاطىء . والنادي : المجلس الذي ينتدى فيه القوم . أي : يجتمعون . والمراد : أهل النادي . كما قال جرير :
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ ... وقال زهير :
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... والمقامة : المجلس .
روي : أن أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : " أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً " ، فنزلت . وقرأ ابن أبي عبلة : «سيدعى الزبانية» على البناء للمفعول ، والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحدة ، زبنية ، كعفرية ، من الزبن : وهو الدفع . وقيل : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير للنسب ، كقولهم أمسى؛ وأصله : زباني ، فقيل : زبانية على التعويض؛ والمراد : ملائكة العذاب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً " { كَلاَّ } ردع لأبي جهل { لاَ تُطِعْهُ } أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين }. { واسجد } ودم على سجودك ، يريد : الصلاة { واقترب } وتقرّب إلى ربك . وفي الحديث :
" أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد "
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصّل كله "
2.2. منهج التفسير عند الزمخشري:
2.2.1. تلبية لرغبة أتباع وأنصار مذهبه الإعتزالي، وضع الزمخشري مصنَّف في هذا الباب, كما ذكر ذلك في مقدمته للكشاف .
2.2.2. ولما كان شعار المعتزلة هو تقديس العقل وتحكيمه ، ونبذ التقليد ومجانبته ، فإن الزمخشري قد بادر في مقدمة تفسيره إلى الدعوة إلى إعمال الرأي والفكر، لأن كثيرا من حقائق هذا القرآن لا تنكشف ـ حسب رأيه ـ لمقلد, قال الزمخشري: ( فهناك من لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر ، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم ، وإلا واسطتهم وفصهم ، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم ، عناة في يد التقليد ، لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم )
2.2.3. تقديمه المبدأ اللغوي عن غيره في حل إشكالات التفسير, حيث نجد الزمخشري يضرب صفحا عن كثير من الروايات المأثورة في تفسير هذه الآيات، ويذهب في تفسيرها مذهبا عقليا لغويا بحتا، لأنه يجد في اللغة مجالا رحبا لتقليب الآية على وجوهها التي تحتملها, كما يتجلى ذلك في تفسير سورة العلق أنه لم يذكر حديث بداية الوحي الذي يبين كيفية نزول الآيات الأولى, و اكتفى بالتفسير اللغوي.و أكد على أهمية القلم بتاريخ كتابة العلوم, ثم ببيتين من الشعر على القلم.
3. منهج التفسير عند ابن كثير( رحمه الله تعالى ):
3.1. تفسير مختصر للسورة عند ابن كثير ( رحمه الله تعالى ):
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
وهي أول شيء نزل من القرآن- و عدد آياتها 19 آية.
روى الإمام أحمد عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح. ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه -وهو: التعبد-الليالي ذواتَ العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقلت: ما أنا بقارئ" . قال: "فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ: { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال: فرجع بها تَرجُف بَوادره حتى دخل على خديجة فقال: "زملوني زملوني" . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. فقال: يا خديجة، ما لي: فأخبرها الخبر وقال: "قد خشيت علي". فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى ابن قُصي -وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ -فقالت خديجة: أيّ ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابنَ أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجيَّ هُم؟" . فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا. ثم لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا-حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رءوس شَوَاهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسولُ الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل، فقال له مثل ذلك.(وهذا الحديث مخرج في الصحيحين) .
فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم. وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر: "قيدوا العلم بالكتابة" (صحيح الجامع 2026) . وفيه أيضا: "من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يكن يعلم.
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله. ثم تَهدده وتوعده ووعظه فقال: { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } أي: إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك: من أين جمعته؟ وفيم صرفته؟ قال ابن أبي حاتم: حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو عُمَيس، عن عون قال: قال عبد الله: مَنهومان لا يشبعان، صاحب العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. قال ثم قرأ عبد الله: { إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وقال للآخر: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر: 28 ] .
وقد رُوي هذا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا" (صحيح الجامع 6624) .
ثم قال تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى } نزلت في أبي جهل، لعنه الله، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال: { أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله، أو { أَمَرَ بِالتَّقْوَى } بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته؛ ولهذا قال: { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي: أما علِم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء.
ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا: { كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ } أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } أي: لنَسمَنَّها سوادا يوم القيامة.
ثم قال: { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعَالها.
{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي: قومه وعشيرته، أي: ليدعهم يستنصر بهم، { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } وهم ملائكة العذاب، حتى يعلم من يغلبُ: أحزبُنا أو حزبه.
قال البخاري عن عكرمة، عن ابن عباس قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه. فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لئن فعله لأخذته الملائكة". وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما.
وروى أحمد، والترمذي وابن جرير -وهذا لفظه- عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا؟ -وَتَوعَّده-فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا! فأنزل الله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته (الصحيح المسند من أسباب النزول) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد أيضًا عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال: فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يُبَاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا" .
وروى ابن جرير عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله، عز وجل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] } حتى بلغ هذه الآية: { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقيل: ما يمنعك؟ قال: قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
و روى ابن جرير عن أبي هُرَيرة قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفِّرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلي ليطأ على رقبته، قال: فما فَجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خَنْدقا من نار وهَولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" . قال: وأنزل الله -لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا-: { كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى } إلى آخر السورة.
وقد رواه أحمد بن حنبل، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم.
وقوله: { كَلا لا تُطِعْهُ } يعني: يا محمد، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس، { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } كما ثبت في الصحيح -عند مسلم- عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".
وتقدم أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }
3.2. منهج التفسير عند ابن كثير( رحمه الله تعالى ):
3.2.1. تفسير القرآن بالقرآن: و لا نجد هذا النهج طبقه في هذه السورة, ربما لأنه لم يجد الآيات المناسبة لتفسير آيات هذه السورة.
3.2.2. تفسير القرآن بالسنة: هذه الطريقة طُبقت كثيرا في تفسير هذه السورة, و يتجلى هذا في حديث بدئ الوحي, و حديث تقييد العلم, و حديث منهومان لا يشبعان, و حديث عدو الله أبو جهل, و حديث أقرب ما يكون العبد من ربه. و من جهة الأحاديث فيذكرها مسندة, و يصدر عليها حكمه.
3.2.3. تفسير القرآن بأقوال الصحابة: في تفسير سورة العلق لا نجد هذا التفسير.
3.2.4. تفسير القرآن بأقوال التابعين: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين, و من أشهر المفسرين عند ابن كثير من التابعين: مجاهد بن جَبْر, وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق ابن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين.
و قد أشار إلى التفسير بالرأي فاعتبره حراما, و من باب الأمانة العلمية فقد ذكر ابن كثير حديثين ضعفهما الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع, و هما:
«من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ» و«من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ».
و لقد اعتمد على مجموعة من التفاسير كتفسير ابن جرير الطبري(ت 310هـ) و تفسير ابن أبي حاتم الرازي(ت277هـ) و تفسير الثعلبي النيسابوري ، لكنه أكثر ما ينقل عن ابن جرير رحمهم الله.
إن صح القول كان ابن كثير رحمه الله متشدد في تفسيره, و لكن تشدد محمود, حيث ينهج نهج الصحابة و التابعين في تعاملهم مع التفسير, قال في مقدمته عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه أنه قال: (أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم).
و روى كذلك أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
4. مقارنة بين التفسيرين باعتبار الخصائص المذكورة :
مسلكهما في التفسير بالمأثور:
يعتبر التفسير بالمأثور المصدر الأول الذي يرجع إليه كل مفسر للقرآن الكريم ، ومهما صنفت بعض كتب التفسير فيما يسمى بالتفسير بالرأي ، فهو من باب تغليب الغالب ،
فقد جعل الإمام الحافظ ابن كثير التفسير بالمأثور من الشروط الأساسية في تفسيره .
أما الزمخشري فإنه وإن لم ينبه على أهمية التفسير بالمأثور بنص صريح ، فإنه أخذ به في بعض المواضع ، وسكت عنه في مواضع أخرى .
وهو في ذلك يقلل من المأثور في الآيات التي يرى فيها ما يخالف مذهبه ، ويتوسع في الأخذ به في الآيات التي لا يرى فيها موضعا للنزاع مع خصومه أو لا يرى فيها ما يصادم مذهبه ، فيورد في الآية الواحدة من هذا النوع ما يفسرها من القرآن والسنة وأقوال السلف في آن واحد ، ثم يوجه الآية في ضوء تلك الآثار.
الأحاديث :
نجد الإمام ابن كثير أشدهما حرصا على ذكر الأحاديث بأسانيدها و إعطائه الحكم عليها.
اللغة:
يعتبر الزمخشري في تفسيره أديب و بلاغي ممتاز, لكنه يستغل ذلك أحيانا لصالح مذهبه.
أما ابن كثير فليس أنه على جهل باللغة العربية ، و لكن تركيزه منصب بشكل كبير على القرآن و الأحاديث و أقوال الصحابة و السلف.
خاتمة:
و أخيرا يمكن أن نستنتج أن لكل مفسر منهج يتميز به عن غيره, و يمكن الإستفادة منه من علمه الذي يخدم الدين و لا يتعارض مع ثوابتنا.
فالحافظ ابن كثير سُني يعتمد على التفسير بالمأثور, و الزمخشري معتزلي يعتمد على التفسير بالرأي و بالمأثور قليلا, لكن ينبغي قراءته بتحفظ في مسائل الإعتقاد و الأحاديث.
و الله تعالى أعلى و أعلم
و الحمد لله أولا و آخرا, ظاهرا و باطنا.
المراجع
1. مختصر تفسير ابن كثير (اختصره و حققه هاني الحاج) المكتبة التوفيقية
2. رسالة دكتوراه : موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان (للاستاذ رمضان يخلف كلية اصول الدين جامعة الامير عبد القادر الاسلامية – الجزائر) موقع ملتقى أهل التفسير.
3. برنامج المكتبة الشاملة (الإصدار 2.11)
3.1. تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير.
3.2. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري.
3.3. التفسير و المفسرون.
3.4. مناهج المفسرين.
3.5. فتح البارئ لابن حجر.
بحث حول
تفسير سورة العلق
مقارنة بين تفسير ابن كثير و تفسير الزمخشري
من إنجاز الطالب عبدالله
مقـدمــة
إن الحمد لله تعالى ، نحمده ونستعين به ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
فقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة فمن بعدهم يعتنون كثيرا بتفسير كلام الله جل و علا وبفهم معانيه؛ لأنه هو الحجة على الخلق؛ ولأن التعبد وقع به وبتلاوته وبفهم معانيه وفي أنحاء كثيرة غير ذلك.
و من هنا فقد مر علم التفسير بمراحل ثلاث:
1. التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم و أصحابه.
2. التفسير في عصر التابعين.
3. التفسير في عصور التدوين.
و بعد هذه المرحلة الأخيرة التي فيها بدأ تدوين مختلف العلوم, ظهرت مدارس للتفسير كمدرسة التفسير بالمأثور, و مدرسة التفسير بالرأي الجائز, و مدرسة التفسير بالرأي المذموم (تفسير الفرق المبتدعة).
فلابدّ لطالب العلم الذي يحرص على معرفة معاني كلام الله جلّ وعلا أن يعلم مناهج أولئك المفسرين وطرائقهم حتى إذا راجع تفسيرا لأحد أولئك يعلم مع ما يتميز به ذلك التفسير ويعلم منهج المؤلف حتى لا يضيع بين كثرة التفاسير.
و من هنا فالبحث الذي بين يدينا, حاولت فيه دراسة مناهج التفسير عند الإمامين ابن كثير و الزمخشري رحمهما الله تعالى.
تصميم البحث :
و قد قسّمت هذا البحث إلى مقدمة و أربعة فصول و خاتمة :
أما المقدمة فتحدثت فيها عن نوعية البحث ، و تصميمه.
1. التعريف بالسورة و سبب اختيارها .
2. منهج التفسير عند الزمخشري.
2.1. تفسير مختصر للسورة عند الزمخشري.
2.2. منهج التفسير عند الزمخشري.
3. منهج التفسير عند ابن كثير.
3.1. تفسير مختصر للسورة عند ابن كثير.
3.2. منهج التفسير عند ابن كثير.
4. مقارنة بين التفسيرين باعتبار الخصائص المذكورة .
خاتمة : فقد اشتملت على خلاصة البحث و لائحة المراجع.
فما كان من صواب فبتوفيق من الله وحده, و ما كان من غير ذلك فأسأل الله أن يتجاوز عنا.
1. التعريف بالسورة و سبب اختيارها :
فلقد اخترت هذه السورة لعدة أسباب منها : أن فيها آيات هي أول ما نزل من القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء في مكة, و أن فيها دعوة الله للإنسان أن يقرأ فيتدبر حقيقته ولا يغفل عن حقيقة وجوده وأصل تكوينه و هو العلقة, وهذا هو سبب تسمية السورة, و من الأسباب كذلك أنها من قصار السور المكية (19 آية), لا تأخذ منا وقتا طويلا في البحث.
فتعالوا نلقي نظرة على منهج تفسير هذه السورة من خلال (تفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير (ت 774هـ) –كمدرسة التفسير بالمأثور-, و (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) للزمخشري (538هـ)- كمدرسة التفسير بالرأي المذموم (التفسير الإعتزالي مثلا)1- رحمهما الله تعالى.
2. منهج التفسير عند الزمخشري ( رحمه الله تعالى ):
2.1. تفسير مختصر للسورة عند الزمخشري ( رحمه الله تعالى ):
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم . محل { باسم رَبّكَ } النصب على الحال ، أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربك ، قل : بسم الله ، ثم اقرأ . فإن قلت : كيف قال : { خَلَقَ } فلم يذكر له مفعولاً ، ثم قال : { خَلَقَ الإنسان } ؟ قلت : هو على وجهين : إما أن لا يقدّر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه . وإما أن يقدّر ويراد خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض . وقوله : { خَلَقَ الإنسان } تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق؛ لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض . ويجوز أن يراد : الذي خلق الإنسان ، كما قال : { الرحمن عَلَّمَ القرءان خَلَقَ الإنسان } فقيل : { الذى خَلَقَ } مبهماً ، ثم فسره بقوله : { خَلَقَ الإنسان } تفخيماً لخلق الإنسان . ودلالة على عجيب فطرته . فإن قلت : لم قال { مِنْ عَلَقٍ } على الجمع ، وإنما خلق من علقة ، كقوله : { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } ؟ قلت : لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } . { الأكرم } الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم ، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وإطراحهم الأوامر ، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم ، فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم ، حيث قال : الأكرم { الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم ( 4 ) عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ( 5 ) } فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلاّ هو ، وما دوّنت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلاّ بالكتابة؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا؛ ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلاّ أمر القلم والخط ، لكفى به . ولبعضهم في صفة القلم :
وَرَوَاقِمُ رُقْشٍ كَمِثْلِ أَرَاقِم ... قُطْفِ الْخُطَا نَيَّالَةٍ أَقْصَى المُدَى
سُودِ الْقَوَائِمِ مَا يَجِدُّ مِسِيرُهَا ... إلاَّ إذَا لَعِبَتْ بِهَا بِيضُ المُدَى
وقرأ ابن الزبير : «علم الخط بالقلم» .
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ كَلاَّ } ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه { أَن رَّءاهُ } أن رأى نفسه . يقال : في أفعال القلوب : رأيتني وعلمتني ، وذلك بعض خصائصها . ومعنى الرؤية : العلم ، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين . و { استغنى } هو المعفول الثاني { إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى } واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان ، تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان . والرجعى : مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع . وقيل : نزلت في أبي جهل . وكذلك { أَرَءَيْتَ الذى ينهى ( 9 ) } وروي : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتزعم أن من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهباً ، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، فنزل جبريل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم . وروي عنه لعنه الله أنه قال : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم . قال : فوالذي يحلف به ، لئن رأيته توطأت عنقه ، فجاءه ثم نكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ، فقال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة { أَرءَيْتَ الذى ينهى ( 9 ) } ومعناه : أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله . أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد ، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح ، كما نقول نحن { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى ( 14 ) } ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك . وهذا وعيد . فإن قلت : ما متعلق أرأيت؟ قلت : الذي ينهى مع الجملة الشرطية ، وهما في موضع المفعولين . فإن قلت : فأين جواب الشرط؟ قلت : هو محذوف ، تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى؟ وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني . فإن قلت : فكيف صحّ أن يكون { أَلَمْ يَعْلَم } جواباً للشرط؟ قلت : كما صحّ في قولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت : فما أرأيت الثانية وتوسطها بين مفعول أرأيت؟ قلت : هي زائدة مكرّرة للتوكيد . وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة { كَلاَّ } ردع لأبي جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات ، ثم قال { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } عما هو فيه { لَنَسْفَعاً بالناصية } لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار . والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدّة . قال عمرو بن معديكرب :
قَوْمٌ إذَا يَقَعُ الصَّرِيخُ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وقرىء : «لنسفعنّ» بالنون المشدّدة . وقرأ ابن مسعود : لأسفعا . وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، ولما علم أنها ناصية المذكور ، اكتفى بلام العهد عن الإضافة { نَاصِيَةٍ } بدل من الناصية؛ وجاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة؛ لأنها وصفت فاستقلت بفائدة . وقرىء : «ناصية» على : هي ناصية ، وناصية بالنصب . وكلاهما على الشتم . ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي . وهما في الحقيقة لصاحبها . وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك : ناصية كاذب خاطىء . والنادي : المجلس الذي ينتدى فيه القوم . أي : يجتمعون . والمراد : أهل النادي . كما قال جرير :
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبَالِ أَذِلَّةٌ ... وقال زهير :
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... والمقامة : المجلس .
روي : أن أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : " أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً " ، فنزلت . وقرأ ابن أبي عبلة : «سيدعى الزبانية» على البناء للمفعول ، والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحدة ، زبنية ، كعفرية ، من الزبن : وهو الدفع . وقيل : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير للنسب ، كقولهم أمسى؛ وأصله : زباني ، فقيل : زبانية على التعويض؛ والمراد : ملائكة العذاب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً " { كَلاَّ } ردع لأبي جهل { لاَ تُطِعْهُ } أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين }. { واسجد } ودم على سجودك ، يريد : الصلاة { واقترب } وتقرّب إلى ربك . وفي الحديث :
" أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد "
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصّل كله "
2.2. منهج التفسير عند الزمخشري:
2.2.1. تلبية لرغبة أتباع وأنصار مذهبه الإعتزالي، وضع الزمخشري مصنَّف في هذا الباب, كما ذكر ذلك في مقدمته للكشاف .
2.2.2. ولما كان شعار المعتزلة هو تقديس العقل وتحكيمه ، ونبذ التقليد ومجانبته ، فإن الزمخشري قد بادر في مقدمة تفسيره إلى الدعوة إلى إعمال الرأي والفكر، لأن كثيرا من حقائق هذا القرآن لا تنكشف ـ حسب رأيه ـ لمقلد, قال الزمخشري: ( فهناك من لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر ، ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار، لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم ، وإلا واسطتهم وفصهم ، وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم ، عناة في يد التقليد ، لا يمن عليهم بجز نواصيهم وإطلاقهم )
2.2.3. تقديمه المبدأ اللغوي عن غيره في حل إشكالات التفسير, حيث نجد الزمخشري يضرب صفحا عن كثير من الروايات المأثورة في تفسير هذه الآيات، ويذهب في تفسيرها مذهبا عقليا لغويا بحتا، لأنه يجد في اللغة مجالا رحبا لتقليب الآية على وجوهها التي تحتملها, كما يتجلى ذلك في تفسير سورة العلق أنه لم يذكر حديث بداية الوحي الذي يبين كيفية نزول الآيات الأولى, و اكتفى بالتفسير اللغوي.و أكد على أهمية القلم بتاريخ كتابة العلوم, ثم ببيتين من الشعر على القلم.
3. منهج التفسير عند ابن كثير( رحمه الله تعالى ):
3.1. تفسير مختصر للسورة عند ابن كثير ( رحمه الله تعالى ):
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
وهي أول شيء نزل من القرآن- و عدد آياتها 19 آية.
روى الإمام أحمد عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح. ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه -وهو: التعبد-الليالي ذواتَ العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقلت: ما أنا بقارئ" . قال: "فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ: { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال: فرجع بها تَرجُف بَوادره حتى دخل على خديجة فقال: "زملوني زملوني" . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. فقال: يا خديجة، ما لي: فأخبرها الخبر وقال: "قد خشيت علي". فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى ابن قُصي -وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ -فقالت خديجة: أيّ ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابنَ أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجيَّ هُم؟" . فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا. ثم لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا-حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رءوس شَوَاهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسولُ الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل، فقال له مثل ذلك.(وهذا الحديث مخرج في الصحيحين) .
فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم. وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر: "قيدوا العلم بالكتابة" (صحيح الجامع 2026) . وفيه أيضا: "من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يكن يعلم.
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله. ثم تَهدده وتوعده ووعظه فقال: { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } أي: إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك: من أين جمعته؟ وفيم صرفته؟ قال ابن أبي حاتم: حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو عُمَيس، عن عون قال: قال عبد الله: مَنهومان لا يشبعان، صاحب العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. قال ثم قرأ عبد الله: { إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وقال للآخر: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر: 28 ] .
وقد رُوي هذا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا" (صحيح الجامع 6624) .
ثم قال تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى } نزلت في أبي جهل، لعنه الله، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال: { أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله، أو { أَمَرَ بِالتَّقْوَى } بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته؛ ولهذا قال: { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي: أما علِم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء.
ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا: { كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ } أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } أي: لنَسمَنَّها سوادا يوم القيامة.
ثم قال: { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعَالها.
{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي: قومه وعشيرته، أي: ليدعهم يستنصر بهم، { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } وهم ملائكة العذاب، حتى يعلم من يغلبُ: أحزبُنا أو حزبه.
قال البخاري عن عكرمة، عن ابن عباس قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه. فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لئن فعله لأخذته الملائكة". وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما.
وروى أحمد، والترمذي وابن جرير -وهذا لفظه- عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا؟ -وَتَوعَّده-فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا! فأنزل الله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته (الصحيح المسند من أسباب النزول) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد أيضًا عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال: فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يُبَاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا" .
وروى ابن جرير عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله، عز وجل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] } حتى بلغ هذه الآية: { لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقيل: ما يمنعك؟ قال: قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
و روى ابن جرير عن أبي هُرَيرة قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفِّرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلي ليطأ على رقبته، قال: فما فَجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خَنْدقا من نار وهَولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" . قال: وأنزل الله -لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا-: { كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى } إلى آخر السورة.
وقد رواه أحمد بن حنبل، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم.
وقوله: { كَلا لا تُطِعْهُ } يعني: يا محمد، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس، { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } كما ثبت في الصحيح -عند مسلم- عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء".
وتقدم أيضًا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }
3.2. منهج التفسير عند ابن كثير( رحمه الله تعالى ):
3.2.1. تفسير القرآن بالقرآن: و لا نجد هذا النهج طبقه في هذه السورة, ربما لأنه لم يجد الآيات المناسبة لتفسير آيات هذه السورة.
3.2.2. تفسير القرآن بالسنة: هذه الطريقة طُبقت كثيرا في تفسير هذه السورة, و يتجلى هذا في حديث بدئ الوحي, و حديث تقييد العلم, و حديث منهومان لا يشبعان, و حديث عدو الله أبو جهل, و حديث أقرب ما يكون العبد من ربه. و من جهة الأحاديث فيذكرها مسندة, و يصدر عليها حكمه.
3.2.3. تفسير القرآن بأقوال الصحابة: في تفسير سورة العلق لا نجد هذا التفسير.
3.2.4. تفسير القرآن بأقوال التابعين: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين, و من أشهر المفسرين عند ابن كثير من التابعين: مجاهد بن جَبْر, وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق ابن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين.
و قد أشار إلى التفسير بالرأي فاعتبره حراما, و من باب الأمانة العلمية فقد ذكر ابن كثير حديثين ضعفهما الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع, و هما:
«من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ» و«من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ».
و لقد اعتمد على مجموعة من التفاسير كتفسير ابن جرير الطبري(ت 310هـ) و تفسير ابن أبي حاتم الرازي(ت277هـ) و تفسير الثعلبي النيسابوري ، لكنه أكثر ما ينقل عن ابن جرير رحمهم الله.
إن صح القول كان ابن كثير رحمه الله متشدد في تفسيره, و لكن تشدد محمود, حيث ينهج نهج الصحابة و التابعين في تعاملهم مع التفسير, قال في مقدمته عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه أنه قال: (أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم).
و روى كذلك أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
4. مقارنة بين التفسيرين باعتبار الخصائص المذكورة :
مسلكهما في التفسير بالمأثور:
يعتبر التفسير بالمأثور المصدر الأول الذي يرجع إليه كل مفسر للقرآن الكريم ، ومهما صنفت بعض كتب التفسير فيما يسمى بالتفسير بالرأي ، فهو من باب تغليب الغالب ،
فقد جعل الإمام الحافظ ابن كثير التفسير بالمأثور من الشروط الأساسية في تفسيره .
أما الزمخشري فإنه وإن لم ينبه على أهمية التفسير بالمأثور بنص صريح ، فإنه أخذ به في بعض المواضع ، وسكت عنه في مواضع أخرى .
وهو في ذلك يقلل من المأثور في الآيات التي يرى فيها ما يخالف مذهبه ، ويتوسع في الأخذ به في الآيات التي لا يرى فيها موضعا للنزاع مع خصومه أو لا يرى فيها ما يصادم مذهبه ، فيورد في الآية الواحدة من هذا النوع ما يفسرها من القرآن والسنة وأقوال السلف في آن واحد ، ثم يوجه الآية في ضوء تلك الآثار.
الأحاديث :
نجد الإمام ابن كثير أشدهما حرصا على ذكر الأحاديث بأسانيدها و إعطائه الحكم عليها.
اللغة:
يعتبر الزمخشري في تفسيره أديب و بلاغي ممتاز, لكنه يستغل ذلك أحيانا لصالح مذهبه.
أما ابن كثير فليس أنه على جهل باللغة العربية ، و لكن تركيزه منصب بشكل كبير على القرآن و الأحاديث و أقوال الصحابة و السلف.
خاتمة:
و أخيرا يمكن أن نستنتج أن لكل مفسر منهج يتميز به عن غيره, و يمكن الإستفادة منه من علمه الذي يخدم الدين و لا يتعارض مع ثوابتنا.
فالحافظ ابن كثير سُني يعتمد على التفسير بالمأثور, و الزمخشري معتزلي يعتمد على التفسير بالرأي و بالمأثور قليلا, لكن ينبغي قراءته بتحفظ في مسائل الإعتقاد و الأحاديث.
و الله تعالى أعلى و أعلم
و الحمد لله أولا و آخرا, ظاهرا و باطنا.
المراجع
1. مختصر تفسير ابن كثير (اختصره و حققه هاني الحاج) المكتبة التوفيقية
2. رسالة دكتوراه : موازنة بين تفسير الكشاف للزمخشري والبحر المحيط لأبي حيان (للاستاذ رمضان يخلف كلية اصول الدين جامعة الامير عبد القادر الاسلامية – الجزائر) موقع ملتقى أهل التفسير.
3. برنامج المكتبة الشاملة (الإصدار 2.11)
3.1. تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير.
3.2. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري.
3.3. التفسير و المفسرون.
3.4. مناهج المفسرين.
3.5. فتح البارئ لابن حجر.