من عنى الله عزّ وجلّ بالقوم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت؟

إنضم
14/02/2016
المشاركات
20
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
الجزائر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فهذه مسألة أضعها هنا للمناقشة، فمن وجد له أو لغيره قولا قد يفيد أفادنا، وجزى الله الجميع خيرا.
من عنى الله عزّ وجلّ بالقوم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت؟
المفسرون على أنّهم من بني إسرائيل.
قلت: إلا أنّه يظهر أنّ هؤلاء القوم ربما هم قوم يونس عليه السلام وذلك لأمور:
قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس: 98]
قال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآيات: "يقول تعالى: "فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ" من قرى المكذبين "آمَنَتْ" حين رأت العذاب "فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا" أي: لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه، حين رأى العذاب، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا، لمّا قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس: ٩٠] فقيل له {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس: ٩١]
وكما قال تعالى: {َلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)} [غافر: ٨٤ – ٨٥]
وقال تعالى {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: ٩٩ – ١٠٠]
والحِكْمَةُ فِي هَذَا ظاهِرَةٌ فإنَّ الإيمَانَ الاضْطِرَارِيَ لَيْسَ بإيمانٍ حَقيقَةً ولو صُرِفَ عَنْهُ العَذَابُ والأمْرُ الذّي اضْطَرَّهُ إلى الإيمانِ لَرَجَعَ إلى الكُفْرَانِ.
وقوله "إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ" بعدما رأوا العذاب "كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" فهم مستثنون من العموم السابق، ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة لم تصل إلينا ولم تدركها أفهامنا.
قال الله تعالى {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: ١٣٩ ] إلى قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)} [الصافات: ١٤٧ - ١٤٨] ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وأما قوم يونس عليه السلام فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه، والله أعلم." اهـ من "تيسير كريم الرحمان".
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[يونس: ١٣]
فلمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا مؤمنين وعلم الله أنهم ما كانوا ليؤمنوا فأهلكهم.
قلت: بالمطابقة بين قصّة قوم يونس عليه السلام وقصة القوم الفارين من الموت نجد أنّ قول الله جلّ جلاله عن القوم الفارين من الموت: "وَهُمْ أُلُوفٌ" مطابق لقوله عزّ وجلّ عن يونس: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)}[الصافات: ١٤٧ - ١٤٨] وكأنّه سبحانه يقول لنبيّه عليه الصلاة والسلام: ألم تر إلى سوء ما فعل قوم يونس الذين علمت أنّهم ألوف كيف خرجوا من ديارهم هربا من الموت.
- قال الله تعالى عن قوم يونس عليه السلام: "كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" وعذاب الخزي هو ما لحق بهم جرّاء الموت، فيكون معنى "كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" هو إعادتهم للحياة، ومعنى "وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" فأبقينا على حياتهم ليتمتعوا بمعيشتهم إلى حين.
قال الله عزّ وجلّ عن قوم عاد: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} [فصلت: ١٦]، فسمى سبحانه عذابهم في الدنيا بعذاب الخزي، والذي يظهر هنا أنّه العذاب الذي يجلب الموت، وبيّن أنّ عذاب الآخرة أخزى.
ومثله في قوله سبحانه: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26)} [الزمر: ٢٥ - ٢٦]
وكذا قوله سبحانه: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج: ٩] وغيرها من الآيات.
ففي الآيات السابقة كان العذاب الموسوم بالخزي عذابا في الدنيا فعبّر عنه المولى عزّ وجلّ بعذاب الخزي تارة وبإذاقة الخزي تارة والخزي مُنكّرة تارة أخرى ولم يعبر عنه بالخزي معرفة مجرّدة لأنّه ما أصابهم أهون من الخزي الحقيقي الذي يكون يوم القيامة.
فعذاب الخزي وإذاقته يكونان في الدنيا، أما الخزي الذي بمعنى "الخزيّ كلّه" أو "الخزي العظيم" (إسغراق المخازي جميعها) فيكون في الآخرة كما في قوله تعال: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ(27)}[النحل: ٢٧] وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ(63)}[التوبة: ٦٣] وقوله سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[آل عمران: ١٩٢] أي: فقد عرّضته للخزي كلّه.
- والحكمة من انتفاع قوم يونس بإيمانهم الاضطراري دون غيرهم والله أعلم هي:
تأخر البيان عنهم بهروب يونس عليه السلام، قال سبحانه وتعالى عن يونس: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}[الأنبياء: ٨٧ - ٨٨] وما زادهم الله من وقت إنّما هو لتستوفي أمّتهم عمرها كاملا، والذي يفترض أن يبدأ بإعلان يونس عليه السلام نبوّته وبداية دعوته، فلما تأخر المفترض أُختزل التأخير من العمر المفترض لأيلحق الأجلَ تأخيرٌ، فلزم التعويض، فاستوفت أمتهم عمرها وبذلك لم يعد لهم حُجة يوم القيامة، ولعلّهم احتّجوا على الله بذلك –وهو أعلم- في موتهم الأول فأحياهم، قال جلّ في علاه:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى(134)}[طه: ١٣٤]، فاستمّروا على إيمانهم الذي كسبوه من موتهم إلى ما بعد إحيائهم فنفعهم ذلك؛ وحضور الأجل لا بدّ منه، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(34)} [الأعراف: ٣٤] إلا أنّه مرتبط بمجيء الرسول ليُقضى بينهم بالقسط وبدون ظلم، قال جلّ في علاه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(49)}[يونس: ٤٧ - ٤٩] أو بكتاب مبين: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ(4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(5)}[الحجر: ٤ - ٥] لأنّ الله أخذ ذلك على نفسه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}[القصص: ٥٩] {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء: ١٥] {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ(208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ(209)}[الشعراء: ٢٠٨ - ٢٠٩] فاشترط لإهلاكهم البلاغ منه والظلم منهم؛ وسيحاجهم بذلك: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ(130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ(131)}[الأنعام: ١٣٠ - ١٣١] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: ٧١] {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ(9)} [الملك: ٨ - ٩].
فكان ما أصابهم موت من قبيل النوم {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الأنعام: ٦٠] فلا حكم بعدم الرجوع منه ما لم يحضر الأجل ويُقضى.
وأمر آخر أيضا وهو أنّ الله ما عاقب أمّة بتدميرهم ودحرهم إلا بإتيانهم بما يُعَّد تحدِّيًا لله الواحد القهار، فما كفرت عاد وتجبّرت أن زادهم الله في الخلق بسطة إلا أنّهم ظنوا عزّةً وقوة على الله، وما عقرت ثمود قومُ صالحٍ الناقةَ إلا تحديا لله، وهكذا باقي الأمم الغابرة، كقوم لوط أن غيّروا فطرة الله، وقوم شعيب أن احتالوا على خلق الله ظنا أن ذلك يخفى على الله كما خفي عن خلقه، واقرأ في الأعراف قصصهم مختومة بقول الله عزّ وجلّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)}[الأعراف: ٩٤ - ٩٥] فلما لم يُخضعهم أخذهم بالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وقالوا صبرا تمسكوا بذي الأهواء دين الأجداد والآباء، فاختلفوا في المكان والميعاد واِلتقوا في قولهم لأنبيائهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأعراف: ٧٠ ، هود: 32، الأحقاف: 22]، فما كان لهم بَعْدُ إلا أن آتاهم الله ما يوعدون؛ ولمّا كان ردّ قوم يونس على تهديد العذاب أنّهم فرّوا وخرجوا من ديارهم خشية الموت، ولم يكن منهم تحدٍ لله، منّ الله عليهم أن أحياهم، قال تعال عن الذين إستعجلوا العذاب: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ(50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(51)}[يونس: ٤٩ – ٥١] وإذا علمت أنّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذّب مُستغفرين وإن كانوا على الشرك: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: ٣٣ ] علمت الفارق بين المتحدّي لله ومن يخشاه؛ وأمّا الموت الذي أصاب قوم يونس فلعلّه كان عقابا لهم أنّهم ظنوا كما ظنّ نبيُّهم أنّ الله لن يقدر عليهم، فعوقبوا بأن غشيهم الموت وعوقب يونس عليه السلام بأن إلتقمه الحوت، فأدى الذي عليه وآمنوا لما علم وعلموا أنّ الله على كل شيء قدير وأنّه يُمهل ولا يُهمل.
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: ٦]
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}[الأنبياء: ٩٥]
فالإماتة هنا إذن ليست هي الإهلاك المراد به قطع الدابر.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ(11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ(12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ(15)}[الأنبياء: ١١ – ١٥]
ملاحظة:
عُدل بـ: "فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا" عن "فأماتهم الله" كما في قوله تعالى: "فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ" [البقرة: 259] إشارة أن الإماتة هنا مقصود بها معرفتهم بموتهم لا مجرّد الحكم عليهم بالموت؛ وإشارة إلى أنّ الله عزّ وجلّ أماتهم ليحييهم بَعْدُ وليس إحياؤهم من عارضِ إرادتِه سبحانه.
قال الله جلّ وعلا: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ(141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ(143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ(145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ(146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)}[الصافات: ١٣٩ - ١٤٨ ]
قول الله تعالى: "فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ" أي ممن ينزّهون الله عن كل ما لا يليق بجلاله، ويعترفون له بكل كمال يليق به سبحانه.
فلما علم يونس عليه السلام غلط ظنّه أنّ الله لا يقدر عليه "فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ"، حاشاه عن ذلك، واعترف له بعظيم قدرته سبحانه "فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" فرضي الله منه ذلك "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ".
ومعنى "فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" أي: فظنّ أنّ الله لن يُتابعه على تفريطه وهروبه (من باب أنّه مُهمَل في ظنّه لا كون الله مُهمِل)، وقيل: ظنّ أنّ لن يُظيِّق الله عليه.
والله أعلم.
 
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت
فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم.
[البقرة 243]

على المفسرين البحث عن سياقها التاريخي في قصة النبي إرمياء، أحد أنبياء بني إسرائيل، الذي نصح قومه بأن يقاتلوا الكلدانيين البابليين ولا يجبنوا، فخافو وقرروا الهرب لمصر والانضمام لديانتها الوثنية!
فتوعدهم بنبوءة أنهم سيموتون من الوباء والجوع والسيف، وسيعاملهم الرب بعكس مرادهم، جزاء لتركهم بلدهم للبابليين الكفار خالية ولقمة سائغة.

القصة في الإصحاحات 42 و 43 و 44 من سِفر إرميا بالعهد القديم (التاناخ)

وهو تفسير يختلف عن التفسير المعروف الذي يربط الآية برؤيا حزقيال للعظام التي عادت للحياة. فهي رؤيا رمزية كما يظهر من سياق النص التوراتي، ترمز لعودة بني إسرائيل لأورشليم بعد انتهاء السبي البابلي.
في حين أن سياق آية سورة البقرة يشير لارتباطها بالجهاد والقتال. وهو ما يناسب قصة إرميا..
انظر ما قبل الآية وما بعدها تجد مثلا:

الآية 239 عن صلاة الخوف أثناء القتال
الآية 244 «وقاتلوا في سبيل الله»
الآية 246 قصة طالوت مع بني إسرائيل وتخلفهم عن القتال معه

وسبحان الله، فالقرآن معجز في أسلوبه، حيث اختصر القصة كلها في آية واحدة في حين أنها في التوراة أكثر من 3 صفحات من الإسهاب!!
 
أنا يعجبني رأي العلماء الذين يبحثون عن العبر والفوائد المقصودة من ايراد القصة في القرآن الكريم، وعدم الخوض في جزئياتها وحلقاتها المفقودة والتي لو أراد الله تبارك وتعالى ذكرها لفعل، فالوقوف عند الصحيح الثابت في القصة أفضل والله تعالى أعلم.
وهذا الامام الطاهر بن عاشور يقرر بعدما أورد الأقوال المختلفة في قصة الذين خرجوا من ديارهم..
أن:"والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس .

ومحل العبرة من القصة : هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل .
 
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة 243]

على خلافك أخي لا أرجح قصة النبي إرمياء لأمور:
- الآية ترسم ثلاثة أطوار، طور الأمر بالاتباع والذي يأتي مقرونا بالوعد والوعيد، وطور نتج عن اختيار القوم أي طور الهروب، وطور إحياء الله لهم والمنّ عليهم بذلك، وهي أطوار لا نراها مجتمعة في ما سردت.
- القتال في سبيل الله ساقط عن المستضعفين فلا يُحسِن من قال بعموم العقاب لغير مكلَّف.
- الهروب في قصة إرمياء لزمه طول زمن فسير ألوف من النّاس من الشام إلى مصر في وقت قصير آنذاك لهو ضرب من الخيال، والفاء في "فَقَالَ لَهُمُ" عاطفة للفورية أي تدّل على عدم المهلة، فيُلتدّبر.
- طبيعة الوعيد الذي أطلقه إرمياء خلاف ما آل إليه القوم من الموت.
- بالتدبر سيتضح لك أنّ بين حذر الموت والخوف منه فرق، فالحذر هو الإتيان بما يُظن أنّه يضمن بُعد المحذور، أما الخوف فلا يزيد عن كونه شعور.
- دلالة عبارة "خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ" تمنع من القول بأنّ القوم أُخرجوا كما حدث في قصة إرميا.
- أما اعتمادك على السياق فهو خلاف ما رأيتَه، فسرد قصتين تتابعًا دليلا على اختلافٍ في الغرض، فلقصة طالوت وقصة إرمياء صورة واحدة، عدوٌ واجبٌ دفعُه، وناصح قائم بنصحه وخاذل ينتظر الخلاص بيد غيره. نعم قد يقال هي للتأكيد إلا أنّ التأكيد بقصّ المتماثلات ليس من أساليب القرآن.


أما بالنسبة إلى المطالب بالكف عن محاولة التعيين، لمجرّد بيان الغرض، فإن ذلك مردود، فكم عيّن الفضلاء من مبهمات، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم عيّن "الخضر" كما في حديث الخضر وغيره، والصحابة والتابعون عيّنوا وكُتُبُ أسباب النزول تشهد، وأهل التفسير لم يتوقفوا متسائلين عن مبهمة.
إضافة إلى أنّ أهل العلم قد ذكروا أنّ الغرض من "الإبهام من غير تفسير" في القرآن الكريم هو ذهاب الذهن كلّ مذهب لزيادة التدبر.
ومن أهل العلم من صنّف كتابا مستقلا في بيان مبهمات القرآن كالسيوطي في كتابه "مفحمات الأقران في مبهمات القرآن" فلينظر.

والله أعلم
 
عودة
أعلى