من علماء المدينة في التفسير ( 1 )
الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي
هو الإمام محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه وهذا الرجل أصله من بلاد شنقيط وموريتانيا كبلد يسكنها عرب وعجم يخدمون العرب واللغة العربية لكلا الفريقين وفيها قبائل بعضها انشغل بالإغارة على عادة القبائل والتنافس بينها والتنازع ، وبعضها انشغل بالتجارة مع طلب العلم ، ومن القبائل التي في موريتانيا التي انشغل أبنائها بطلب العلم الجكنيون الذين منهم الشيخ وأصولهم من حمير من اليمن.
هذا الرجل رحمة الله تعالى عليه : ولد هناك ثم حفظ القرآن بعد أن عاش يتيما وعهدت به أُمة وعنيت به عناية عظيمة .
فائدة :وهي رسالة للآباء والأمهات أول من يغرس طلب العلم في الأبناء الآباء والأمهات بالتشجيع .
فلمّا حفظ القرآن رحمه الله فرحت به أُمة فرحا شديدا ثم بعثته يأخذ بعض الفنون فهو يقول رحمه الله تعالى زودتني بمتاعين أو مركبين : مركب فيه كتبي ومركب فيه زادي ومتاعي، وجعلت معه خادما معه بقرات وأرسلته إلى القرى والمدن التي فيها العلماء آنذاك في شنقيط فحصل على علم جمّ فرحت به أمة و أخواله وكان له خال عالم يُعلمه .
والإنسان أحيانا يبغض من يحسن إليه دون أن يشعر لأن أي إنسان يمر بمراحل زمنية فالشيخ رحمه الله ذات يوم مرض خاله فارتاح قليلا من عناء الطلب فمر على خاله وهو مريض فأضحى يقول متى يموت حتى ارتاح من الطلب ثم برئ الخال وأكمل المهمة ، وأخذ العلم عن غيره .
أعظم ما عني به الشيخ : أن الله وفقه لأن يعرف قدر القرآن فكانت عنايته التامة بكلام الله جل وعلا .
ومن أراد الله به خيرا جعله يفقه كلام ربه تبارك وتعالى إذ أن أعظم مقصود من العلم ، العلم بالله جل وعلا ولا يمكن أن يعرف الله إلا بكتابه إذ لا أ حد أعلم من الله ولا أحد أعلم بالله من الله .فالسبيل الأول الذي كل سبيل مندرج فيه هو معرفة آيآت الكتاب حتى يدلك على الملك الغلاب جل جلاله .
فعُني الشيخ رحمه الله برجز كان لعلاّمة شنقيطي اسمه العلامة محمد يعرف بالبحر هذا الرجز ذكر فيه العالم ذلك منظومة في قضية الآيات المتشابهة في القرآن رسماً أو تلاوة لفظا أو تلاوة التي يتكرر أكثر من مرة فعُني بها وهو شاب فلما أكملها مالم يتعرض له العالم دوّنه الشيخ وتبع العالم البحر على نفس منواله وزاد عليها رحمة الله تعالى عليه . فمثلا قال الله جل وعلا في سورة سبأ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ) [سبأ : 54] فكلمة أشياع تكررت في سوره القمر ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ )[القمر : 51] في سورة القمر جاءت بضمير المخاطب(أشْيَاعَكُمْ )وجاءت منصوبة لأنها مفعول لأهلك ، وفي سورة سبأ جاءت للغيبة (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم ) وجاءت مجرورة لأنها مسبوقة بالباء فالشيخ رحمه الله زيادة على تلك المنظومة التي عني بها قال رحمه الله :
في سورة القمر خاطب وانصبَ وجُرهُ وغيبنهُ في سورة سبأ
أي أن هذا الفظ في سورة القمر خاطب به وانصبه وفي سورة سبأ اجعله على ضمير الغيب وجرة كما هو صريح القرآن .المقصود بدأت العناية بالقرآن ، ثم منّ الله عليه بعلم التفسير ، ثم قرر أن يقدم إلى الحجاز حاجاً .
وإذا أراد الله بأحد خيراً أعطاه فوق ما يؤمل بلقيس خرجت من اليمن إلى بلاد فلسطين تبحث عن كيف تحافظ على مُلكها تطمئن سليمان أنها لا تنازعه فردّها الله وقد أسلمت أعطاها الله فوق ما تؤمل ، وبعدها الكليم موسى عليه السلام ذهب يبحث عن جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهار فالله جل وعلا ذو منة وفضل على عباده .
فهذا الرجل خرج من بلاد شنقيط كل الذي يريد أن يحج ويعود فقُدّر له أن يحج فلما حج في منىً بقدر الله تكون خيمته بجوار خيمة الأمير خالد السديري وعبد الرحمن السديري وفي أيام منى حصلت مناقشات علمية حول الأبيات فسمعهم قد اختلفوا فأستأذنهم أن يدلي بدلوه فأذنوا فلما أذنوا وجدوا علما جمّا وبحراً لا ساحل له فقرّبوه وعُرض أمره على الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى فأمر له بالجنسية له ولمن في كفالته ومن قرابته ثقةً في الشيخ وإكراماً له فكانت سببا في أن يستوطن الحجاز .
ثم منّ الله جل وعلا عليه بعد ذلك لمّا لم تكن في أرض موريتانيا الكتب منتشرة كانتشارها ها هنا وليست مطبوعة متداولة في كثير من الأمور لم يقع على يد الشيخ المغني لابن قدامه وهو هناك وأهدي له من قبل إمام الحرم آنذاك الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله تعالى عليه فكان نظره في تفنن المذاهب زاد على حصيلته التي حصل عليها في موريتانيا فأسهمت في إيجاد حصيلة علمية له رحمة الله تعالى عليه .
أعظم ما جاء في سيرته رحمه الله : عنايته بالقرآن كان يقول السنة كُلها في آية واحدة (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر : 7] درّس في الرياض ها هنا وحاضر مرة في مسجد وممن حضر المحاضرة الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله فشرح العقيدة شرحاً علميا مؤصلاً فلمّا فرغ والعلماء يعرف بعضهم بعضا.قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله جزى الله عنا الشيخ محمد الأمين خير الجزاء ثم قال الجاهل عرف العقيدة يعني من حضر المجلس وهو ليس معدوداً من العلماء الآن عرف العقيدة الجاهل تعلم العقيدة طبعاً الشيخ عبد اللطيف عالم لا يستطيع أن يقول والعلماء تعلموا العقيدة كيف صاروا علماء وهم لا يعرفون العقيدة قال رحمه الله والعالم تعلم الطريقة والأسلوب أي التي يُعلم بها الناس لكن هذا مبني على حرص الشيخ على علم الآلة .
لا يمكن لأحد أن يطير قبل أن يُريش هناك طرائق أساليب حتى تصل إلى غايتك لكن الإغراق في علوم الآلة يُضيع الهدف فإذا علم الآلة أخذ شطر عمرك ماذا بقي للهدف وإن لم يأخذ علم الآلة من جهدك شيئا مُحال أن تصل إلى هدفك لابد الإنسان يجمع ما بين علم الآلة في التقديم الأول حتى يؤصل نفسه ثم بعد ذلك ينتقل إلى العلم الشرعي محال أن يتصدر الإنسان وهو لايعرف شيئا عن لُغة العرب ولاعن شعرهم ولا عن آدابهم ولا أسلوب كلامهم هذا محال ولا أن يعرج على شيئا عن تاريخهم .
الشيخ الأمين قبل البلوغ له أقران يتنافسون فألف منظومة في النسب في نسب بني عدنان سماها {خالص الجمان } فلما بلغ وجرى عليه قلم التكليف أخذها وحرقها ودفنها فلامه مشايخ عصره فقال رحمه الله إنني لم أدونها لله دونتها لمنافسة الأقران فلذلك أخفيتها فقال له العلماء يمكن تحسين النية لكنه رفض وبقيت مخفية إلى يومنا هذا لأنه عندما صنعها كان يغلب عليه أنه كان ينافس أقرانه في الطلب .أقول العلم بالقرآن قبله العلم بالآلة والعلم بالقرآن مفتوح يقول علي رضي الله عنه وأرضاه "إلا فهما يؤتيه الله من يشاء في كتابه " فباب العلم في القرآن مفتوح لأن الله جل وعلا كتابه أجّل من أن يحوي فهمه صدر رجل واحد لكنه يبقى على مر العصور ينهل منه العلماء فهو كلام رب العزة والجلال جل جلاله.
عني الشيخ عناية عظيمة بالقرآن تأصيلاً وشرحاً ويستطرد كثيراً حتى يستفيد الطلاب من شتى الفنون ويجعل القرآن هو المرجع وقد خاطبه الشيخ عطية سالم رحمة الله تعالى عليه وهو تلميذه النجيب الأول فقال إن القرآن هو جامع العلوم ومنه انطلق إلى شتى فنون العلوم إذا أردت أن أشرح فأتكلم في الفقه وأتكلم في الأصول وأتكلم في التاريخ وأتكلم في الحديث وأتكلم في اللغة وكلٌ يأخذ منا بطرف وهذا يحتاج إلى رجل ذي سعة في العلم كما كان الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه.
هذه العناية بالقرآن هي التي فيما يغلب على الظن ولا نزكي على الله أحدا أسهمت في وصول الشيخ إلى تلك المنزلة العلمية العظيمة التي وصلها في عصره .
مع هذا كله كان الرجل يتقي الله في الفتوى تقوىً عظيما بل في أخريات حياته كان يتحرج من الفتوى وكان يقول: إن السؤال نوع من البلاء والعاقل يكون من البلاء في عافية. رُزق الرجل مع هذا العلم تقوى من الله عجيبة كان يقول قدمت من بلادنا بكنز لا أريد افقده أو أن أضيعه وهو القناعة ولذلك لم يُقدم يوما طلباً في زيادة مرتبة ولا في رفع درجته ولم يسأل يوما أحدا مالا وما أعطي من مال من غير سؤال أخذه وقبله ثم يوزعه ومات ولم يورّث شيئا .
والعظيم من يستشعر الأمر قبل أن يقوله للناس جلس مرة والله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يُريد أن يفسر قول الله (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِيالأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) وكان من طريقته إن هناك تالي للقرآن يتلو القرآن ثم الشيخ يفسر فردد الشيخ الآية (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) وأخذ يبكي حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء لم يفسر آية واحدة .
إن من أعظم ما يرزقه العالم القناعة أو العلم التام بما يقول لكن إذا كان الرجل يتكلم من لسانه حتى ولو انتفع به الناس لا ينتفع هو بأجر علمه فقد يكون هناك لبيب خاشع خاضع في المجلس ينفعه الله جل وعلا بما قلت لكن أيُ كرامة هذه عند الله ضائعة إذا كنت ينتفع الناس بما تعلم ولا تنتفع أنت به بين يدي ربك.
والله جل وعلا لما أراد من أنبيائه العظام أن يقولوا شيئا على علم به حقا قال في حق إبراهيم (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).ولما أراد أن يتم نعمته على نبينا صلى الله عليه وسلم عَرج به إلى سدرة المنتهى فرأى صلى الله عليه وسلم الجنة والنار حقاً حتى إذا حدّث عن الجنة وعن النار أصبح صلى الله علية وسلم يُحدث عن علم صلوات الله وسلامه عليه. ليس العلم أن يأتي المحاضر أو الخطيب أو الداعية أو الموفق إلى كلمات يقرأها يحضرها قبل المحاضرة ثم يقولها للناس ، العلم الحق أن يستشعر بها في نفسه وأن يعمل بها بينه وبين الله حتى إذا قالها للناس خرجت من قلبه قبل لسانه فالإمام أحمد رحمه الله لما كتب المسند مر على حديث أن النبي احتجم وأعطى الحجام كذا درهم فذهب واحتجم وأعطى الحجام مثل ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم كتبه في مسنده رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة
معشر القراء يا ملح البلد *** من يصلح الناس إذا الملح فسد
والله جل وعلا يقول ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا)) ثم قال جل وعلا يضرب مثلا لعالم السوء الذي عنده علم ولم يعمل به قال الله ((فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث)) قال بعض أهل العلم والعلم عند الله في بيان هذا أن الله جل وعلا لما أهبط آدم إلى الأرض أمر إبليس نزغ في السباع أن تؤذي آدم فكان الكلب يومئذٍ سبعا كاسرا فجاء جبريل وأوصى آدم أن يمسح على رأس الكلب حتى يتقي شره فمسح آدم على رأس الكلب فمات قلبه أي مات قلب الكلب فخرجت منهُ السبعية التي أوجدها الله فيه ولهذا الكلب الآن إذا غلبت عليه مسحة آدم يحرسك وإذا غلبت عليه نزغات الشيطان يفترسك فيقع منه النفع ويقع منه الأذى ولا يوجد هذا إلا في الكلب .أما الحيوانات بعضها أليف وبعضها سبع فوارس كاسرة مؤذية إلا الكلب يجمع مابين كونه سبعي ومابين كونه أليف ولهذا أباح الله جل وعلا صيده فهو ميت القلب لا يركن إلى طبع فجعل الله جل وعلا عياذاً بالله عالم السوء كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث .
وهذا العلم الذي يحفظه العلماء في صدورهم إما أن يكون لهم بين يدي الله حجه لهم يؤجرون على ما قالوه أو أن يكون عياذا بالله حُجه عليهم وقد قال الله جل وعلا ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) [الزمر : 9] لكن الناس يقرؤون هذه الآية من آخرها ويعلقونها في الفصول والمدارس والكليات والسيارات ولا تُقرأ هكذا إنما يقرأ أولها وهذه الآية جاءت تذييل ولم تأتي تأسيس فمن الذين يعلمون الذين قال الله إنهم لا يستوون مع الذين لا يعلمون ليس الذين يحفظون المتون ويتكلمون ارتجالا أو ما أشبه ذلك قد يكونون منهم لكن العالم الحق من وقف يبن يدي الله عز وجلا في ظلمات السحر يسأل ربه ويرجوه ويدعوه ويتوسل إليه كما كان شأن محمد صلوات الله وسلامه عليه.
كان الشيخ رحمه الله له عناية كبيرة بلغة العرب لأنها الطريق إلى القرآن وقد ذكر في سيرته أنه لما مرّ على السودان سأله بعض طلبة العلم عن آخر كتاب قرأه فقال آخر كتاب قرأته{ ديوان عُمر ابن أبي ربيعه} فاغتاظ الناسُ غضبا لأن ديوان عمر في الغزل وهو لا يُظن به أن يقرأ مثل هذا فقال رحمه الله مجيباً استعين به على فهم كلام ربي فالعلم بما دونه الشعراء العرب خاصة في عصر التدوين الأول الذي يُستشهد به يُعين المرء على فهم كلام الله تبارك وتعالى .
الشيخ رحمه الله توفي في مكة المكرمة كان معه سائقه في ليلة مزدلفة قال له السائق أو في صبيحة العيد إنني رأيت رؤيا رأيت النبي قد مات فتوقف الشيخ قليلا فقال السائق إنني رأيت النبي قد مات لكنه ليس النبي كأن الشيخ غضب قليلا قال ما أدراك أنه ليس النبي قال عندما نظرت لم يكن هيئة النبي صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه فأحس السائق الذي قص الرؤيا أنه أحرج الشيخ فقال لعلها ليست رؤيا لعلها أضغاث أحلام قال لا لا هي رؤيا ويقضي الله ما شاء خيرا إن شاء الله ثم مات بعدها بثلاث ليالي أو أربع.
وتعبيرها أن العلماء ورثة الأنبياء والشيخ كان يعرف من نفسه أنه من أعلم أهل زمانه وإن كان لا يدّعيه هو بنفسه فلما أخبر أن النبي قد مات أي أن عالم هذه الناس آنذاك سيموت خاصة إن الرائي قال له: إنني لم أرى هيئة النبي صلى الله عليه وسلم لكن وقع في نفسي أنه نبي فمات رحمه الله في مكة المكرمة وبها دفن وترك علماً جمّا ونحن لا ندعي لا له ولا لغيره العصمة لكن نذكر رجلاً علما نحسبه عند الله كذلك والله أعلم بسريرته نسأل الله لنا وله غفران الذنوب .
المصدر : محاضرة علماء المدينة .
لفضيلة الشيخ : صالح بن عواد المغامسي .
لفضيلة الشيخ : صالح بن عواد المغامسي .
" ومضة "
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ** ليس الصحيح إذا مشى كالأعرج