أبو عبد المعز
Active member
- إنضم
- 20/04/2003
- المشاركات
- 588
- مستوى التفاعل
- 25
- النقاط
- 28
هذا الوجه العجيب هو من اكتشاف الباحث البارع (محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة) ،وليس عندي إلا محاولة تخريج بلاغي ،أوتكييف بياني للنتائج التي توصل إليها الباحث في كتابه(من إعجاز القرآن - وجه في إعجاز القرآن جديد- العلم الأعجمي في القرآن مفسرا بالقرآن).
1-وعلينا قبل ذلك مقدمات:
أولا:
من المحزن ألا يذيع هذا الكتاب بين الناس ،فهو حقا من الكتب النادرة التي جمعت بين الإمتاع والإقناع ،وهو استثناء جلي من غثاء الكتب العصرية التي يبحث أصحابها في الإعجاز ...كتب كثيرة لا يبقى في نفسك منها شيء إلا أن يكون تمييع لمفهوم الإعجاز وتهافت عليه ..
كتاب الاستاذ( رؤوف أبو سعدة) بحث رصين أبرز وجها إعجازيا هو من الوضوح بحيث لا يكون فيه مراء...لكن الناس لا يميزون بين الماء والزبد!وإلا كيف تستعلن مؤتمرات، وتمنح جوائز لمهنيين وحرفيين يحدثونك عن إعجاز موهوم وفي ذات الوقت ينزوي كتاب الاستاذ ( رؤوف أبو سعدة)..وهو من أفضل ما كتب في الإعجاز!!
ثانيا:
صدر الكتاب في جزئين، وهو تفصيل لفكرة واحدة صاغها المؤلف في عبارة: (العلم الأعجمي في القرآن مفسرا بالقرآن) وجعلها عنوانا فرعيا لكتابه..ومن ثم فالكتاب يعطيك محتواه في دقائق قليلة ..حسبك أن تعي معنى العبارة -وهي واضحة جدا- وحسبك أن تتبع الكاتب في مواضع من تطبيق الفكرة...ليتشخص أمامك العجيب بشكل ملموس...
إن الكاتب أطال النفس، وأنجز استقراء شاملا للأسماء الأعجمية في القرآن...لعل الكاتب يقصد من ذلك تحقيق متعة الكشف، أما الإقناع بصدق الفكرة فلا يحوج إلى مثل هذا الاستقراء الشامل ،إذ يكفي أن ترد الظاهرة في بضع آيات فقط لينتصب الإعجاز ...فالأمر لا يحتمل الصدفة ..فكيف والكاتب اصطنع الاستقراء الكلي وأثبت فكرته بسلاسة ويسر حيثما ورد اسم أعجمي في التنزيل!
ثالثا:
بوسعنا الآن-مطمئنين- أن نضيف إلى أنواع البيان التي استقراها العلامة الشنقيطي في مقدمة الأضواء نوعا مستحدثا فنقول:
"ومن أنواع بيان القرآن للقرآن أن يورد التنزيل اسما أعجميا فيذكر في سياقه ما يدل على معنى ذلك الاسم في لسانه الأصلي- إشارة لا تنصيصا-.."
وهذا توضيح في أمثلة:
-نوح:
يرى الباحث خطأ من فسر الاسم بما يتبادر إلى الذهن من اشتقاقه من مادة ن.و.ح العربية...فليس في "ناح" العبرية من معاني "النواح" العربي شيء...
وإنما هي تدل على التلبث والبقيا..ومن ثم يكون المقابل العربي لها هو" ناخ ينوخ" ( الحاء والخاء من حروف التبادل بين اللسانين العربي والعبري) فيدل الفعلان على المعنى نفسه من التلبث والإقامة .. فيقال أناخ بالمكان إذا استقر به وأناخ الجمل إذا أبركه..
فنوح إذن من النوخة و الإناخة لا من النواح..والقرآن يشير إلى هذا المعنى عندما استعمل في سياق ذكر نوح ما يدل على طول المكث والبقاء..
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }العنكبوت14
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي.. } يونس71
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ }الصافات77
-جبريل:
هذا الاسم في اللسان العبراني مركب مزجي إضافي: " جبر" مضاف و "أيل"مضاف إليه..وبوسع العربي أن يخمن بكل يسر معنى هذا التركيب بفضل اتحاد المادة المعجمية في اللسانين...ف"جبر" تعني القوة والشدة ومن مشتقاته في العربية "جبار" و"تجبر" أما "إيل" فمعناه الله كما هو معروف
تكتب همزة ولاما في العبرية ..والكلمة موجودة في العربية أيضا شاهدها قولة الصديق رضي الله عنه تعليقا على قرآن مسيلمة المزعوم:"هذا كلام لم يخرج من إل"..
فيكون معنى جبريل" جبار الله "أو "قوي الله" أو "الشديد عند الله"
وقد جاء هذا المعنى في موضعين من كتاب الله في سورة النجم :
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى{6}
وفي سورة التكوير:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{19} ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ{20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ{21}
وليس من الضروري أن يحضر اسم جبريل نصا إذ يكفي أن يحضر في ذهن القاريء ..فيفسر له القرآن ما يعني هذا الاسم الذي يخطر بباله وإن لم يتلفظ به!!
-إسحاق:
إسحاق في القرآن هي تعريب "يصحاق" في التوراة وهي صيغة المضارعة في المفرد الغائب من الجذر العبري" صحق" وقرينه في العربية الجذر العربي "ضحك"، "يصحاق "العبري إذن يعني" يضحك" لا يراد منه الفعل وإنما يراد منه الفاعل، ومن ثم فإن معنى "اسحاق" وهو" يصحاق" عبريا "الضاحك" أو "الضحوك" وقد سمى العرب بمعناه على المبالغة فقالوا "الضحاك":
وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ{71}
وفي هذه الآية نفسها تفسير معنى يعقوب...فهو العاقب في العربية ومعناها "الذي سيأتي بعد" وتركيب "من وراء" في الآية تنبيه على هذا المعنى ..
نكتفي بهذه الأمثلة ولمن شاء أن يستزيد فعليه بالكتاب لاستقصاء الأعلام الأعجمية كلها ،وإن كان عنده هوى في الفيلولوجيا المقارنة فسيجد في قراءة الكتاب فوائد جمة...
أما نحن فسنحاول أن نضع هذه الظاهرة المعجزة في إطار من التكييف البلاغي فنقول:
2-
قد يخطر في البال أن هذه التنبيهات الدلالية على معاني أسماء الأعلام الأعجمية هي من قبيل دلالة الإشارة عند الأصوليين ،على اعتبار أن السياق يتعلق بأمر صاحب الاسم لا بمعنى اسمه...ففي هذه الآيات مثلا:
-أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ.
-وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ
-فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ..
جاء السياق لبيان فصول من قصة يوسف مع إخوته ،لا لبيان معنى اسم يوسف في اللسان العبراني ...ودلالته –حسب الباحث-هو "المضيف" ومن ثم جاء ذكر خير المنزلين( ومعناه خير المضيفين) فضلا عن تكرار فعل "آوى" الذي هو الضيافة أو من لوازمها...لكن هذه الدلالات لا يُنتبه إليها لانشغال ذهن المتلقي بالمقصد الأول الذي يؤسسه السياق...وهذا يعلل عدم انتباه المفسرين إلى هذه الدلالات قديما وحديثا حتى كشف عنها الباحث.
لكن هل انزواء هذه الدلالات إلى هامش المقصد الظاهر يجعل منها نوعا من الدلالة بالإشارة ؟
الجواب: كلا..
لأن كل أنماط الدلالات التي اعتبرها الأصوليون تنتمي إلى مستوى واحد من الخطاب..والاختلاف بين الدلالات هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع: فهناك دلالة ظاهرة ،ودلالة مجازية، ودلالة نص ،أوعبارة ، أو إشارة ، وغيرها... لكنها موجودة كلها في فضاء خطاب واحد ...وإنما تتفاوت في درجة الوضوح، أوالحضور في الوعي...
لكن الأمر ليس كذلك في مسألتنا :فأمامنا خطابان مستقلان والانتقال من معنى في الأول إلى المعنى ذاته في الثاني هو انتقال نوعي ..فالضيافة معنى واحد لكنه يتموضع على خطابين مختلفين:
(خطاب-موضوع)، و(ميتا-خطاب)
فلنبين أولا ما نقصده بالخطابين ،وليكن منطلقنا آيتان في سورة طه:
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
الانتقال من الآية الثامنة إلى الآية التاسعة انتقال من خطاب إلى آخر:
فالخطاب الأول مداره على بيان أحوال بني إسرائيل ،ومدار الخطاب الثاني على بيان ما يحمله القرآن من هداية وبشارة...
ولما كانت الآية التاسعة هي نفسها قرآن فقد اتحد الدال والمدلول ،وانعكست العلاقة فالمتكلم هو القرآن وموضوعه نفسه...وهذا ما يسمى الميتا-لغة أي أن تتخذ اللغة من ذاتها موضوعها...أما الآية الثامنة فالعلاقة فيها متعدية غير منعكسة، فالمتكلم هو القرآن لكن موضوع الكلام هم بنو إسرائيل، فامتازت اللغة عن موضوعها، وهذا ما يسمى باللغة- الموضوع .
إذا تقرر هذا الفصل بين الخطابين أمكن لنا أن نلحظ أن "خَيْرُ الْمُنزِلِينَ"و "آوَى إِلَيْهِ" هي نقط لغوية يتقاطع عندها الخطابان، أو يتنازعها الخطاب الموضوع والخطاب الشارح:فهي تحكي شيئا من أمر يوسف عليه السلام على صعيد اللغة الموضوع، وتشرح معنى اسم يوسف على صعيد الميتالغة..
في هذا إعجاز علمي وإعجاز بلاغي معا : أما الأول فظاهر، أما الثاني فلأن القرآن لم يجاور بين الخطابين فينتقل من الأول إلى الثاني كما في مواضع من الإنجيل المحرف:
هوذا العذراء تحبل و تلد ابنا و يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا..
أو كما كان يفعل الشيخ درويش في رواية ( زقاق المدق) لنجيب محفوظ عندما يذكر لفظا بالعربية ثم يذكر ما يقابله بالأنجليزية.
لكن القرآن أبدع أسلوبا جديدا:
فقد جمع وظيفتين لغويتين في عبارة واحدة..فهذه العبارة تؤدي وظيفة "مرجعية"(أو موضوعية) وفي الوقت ذاته تؤدي وظيفة "ميتالغوية" (أو شارحة) وذلك على جهة التماهي والاتحاد لا على جهة النسق والتجاور.
3-
هذا السبق القرآني لم أجد له ما يضارعه في كلام الناس إلا ما يمكن أن يتوهم من شبه في ما يسمى "التاريخ الشعري" وهو أن يضمن الشاعر في عجز البيت تاريخا معينا (تاريخ وفاة المرثي أو سنة تشييد البناء..) بحساب الجمل فيكون للحرف في البيت الشعري وظيفة مزدوجة :فهو حرف عدد من جهة، وحرف مبنى أو معنى من جهة ثانية..
ومثاله المشهور(المنثور) :
"-متى توفي برقوق
-في المشمش!"
فقد يقرأ الجواب على التشاكل الهازل ...
كما قد يقرأ على التشاكل الجدي..
فحروف تركيب/ في المشمش/ تشير إلى سنة وفاة السلطان برقوق باعتماد حساب الجمل!
ومن الأمثلة (المنظومة) على ذلك قول ابن المبلط يؤرخ جلوس السلطان سليم الثاني سنة 974 هـ :
تـولى مليك العصر وابن مليكه*****iبـعـز وتـأييد ونصر وسلطان
ودولـة مـلك قلت فيها مؤرخا***** ( سليم تولى الملك بعد سليمان )
ولو حسبنا جُمَّل قوله ( سليم تولى الملك بعد سليمان ) لوجدناه يساوي 974 وهو تاريخ جلوسه على العرش...
وقد اشترط أصحاب هذا الفن عدة شروط لضبطه، وحسن استخدامه منها:
-أن يتقدم على ألفاظه كلمة أرّخ أو أرّخوا، أو ما يدل على التاريخ، وإذا تصرف الشاعر في تقديم أو تأخير أو زيادة بعد لفظة ( التاريخ ) أشار إلى ذلك؛ لئلا يستغلق على القارئ.
-ومن شروطه ألا يكون التاريخ في بيتين، بل في بيت واحد ويستحسن أن يكون في عجز البيت لا في صدره.
-ومن شروطه أن يكون في الأبيات الشعرية نكتة أدبية، أو فكاهة، أو حكمة، وأن تكون الألفاظ منسجمة والمعاني مؤتلفة.
الفوارق مع العلم الأعجمي في القرآن واضحة:
-التاريخ الشعري منحصر في قيم عددية فقط أما العلم الأعجمي فيشكل في القرآن "موسوعة لغوية مصغرة" من اللغات القديمة.
-لا بد في التاريخ الشعري من لفظ ينبه على بداية العد الرقمي أما القرآن فدمج الخطابين في خطاب واحد كما شرحنا..
-النكتة الأدبية أو الحكمة في التاريخ الشعري تأتي مستقلة بنفسها فتشعر بتميزها في سياقها. أما في القرآن فإن الموضع الذي يشير إلى معنى العلم الأعجمي لا يختلف عما قبله وعما بعده ..فإن كانت قصة فهي مسرودة على وتيرة واحدة وليس موضع تفسير العلم الأعجمي إلا استمرارا للسرد على الأسلوب ذاته....
1-وعلينا قبل ذلك مقدمات:
أولا:
من المحزن ألا يذيع هذا الكتاب بين الناس ،فهو حقا من الكتب النادرة التي جمعت بين الإمتاع والإقناع ،وهو استثناء جلي من غثاء الكتب العصرية التي يبحث أصحابها في الإعجاز ...كتب كثيرة لا يبقى في نفسك منها شيء إلا أن يكون تمييع لمفهوم الإعجاز وتهافت عليه ..
كتاب الاستاذ( رؤوف أبو سعدة) بحث رصين أبرز وجها إعجازيا هو من الوضوح بحيث لا يكون فيه مراء...لكن الناس لا يميزون بين الماء والزبد!وإلا كيف تستعلن مؤتمرات، وتمنح جوائز لمهنيين وحرفيين يحدثونك عن إعجاز موهوم وفي ذات الوقت ينزوي كتاب الاستاذ ( رؤوف أبو سعدة)..وهو من أفضل ما كتب في الإعجاز!!
ثانيا:
صدر الكتاب في جزئين، وهو تفصيل لفكرة واحدة صاغها المؤلف في عبارة: (العلم الأعجمي في القرآن مفسرا بالقرآن) وجعلها عنوانا فرعيا لكتابه..ومن ثم فالكتاب يعطيك محتواه في دقائق قليلة ..حسبك أن تعي معنى العبارة -وهي واضحة جدا- وحسبك أن تتبع الكاتب في مواضع من تطبيق الفكرة...ليتشخص أمامك العجيب بشكل ملموس...
إن الكاتب أطال النفس، وأنجز استقراء شاملا للأسماء الأعجمية في القرآن...لعل الكاتب يقصد من ذلك تحقيق متعة الكشف، أما الإقناع بصدق الفكرة فلا يحوج إلى مثل هذا الاستقراء الشامل ،إذ يكفي أن ترد الظاهرة في بضع آيات فقط لينتصب الإعجاز ...فالأمر لا يحتمل الصدفة ..فكيف والكاتب اصطنع الاستقراء الكلي وأثبت فكرته بسلاسة ويسر حيثما ورد اسم أعجمي في التنزيل!
ثالثا:
بوسعنا الآن-مطمئنين- أن نضيف إلى أنواع البيان التي استقراها العلامة الشنقيطي في مقدمة الأضواء نوعا مستحدثا فنقول:
"ومن أنواع بيان القرآن للقرآن أن يورد التنزيل اسما أعجميا فيذكر في سياقه ما يدل على معنى ذلك الاسم في لسانه الأصلي- إشارة لا تنصيصا-.."
وهذا توضيح في أمثلة:
-نوح:
يرى الباحث خطأ من فسر الاسم بما يتبادر إلى الذهن من اشتقاقه من مادة ن.و.ح العربية...فليس في "ناح" العبرية من معاني "النواح" العربي شيء...
وإنما هي تدل على التلبث والبقيا..ومن ثم يكون المقابل العربي لها هو" ناخ ينوخ" ( الحاء والخاء من حروف التبادل بين اللسانين العربي والعبري) فيدل الفعلان على المعنى نفسه من التلبث والإقامة .. فيقال أناخ بالمكان إذا استقر به وأناخ الجمل إذا أبركه..
فنوح إذن من النوخة و الإناخة لا من النواح..والقرآن يشير إلى هذا المعنى عندما استعمل في سياق ذكر نوح ما يدل على طول المكث والبقاء..
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }العنكبوت14
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي.. } يونس71
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ }الصافات77
-جبريل:
هذا الاسم في اللسان العبراني مركب مزجي إضافي: " جبر" مضاف و "أيل"مضاف إليه..وبوسع العربي أن يخمن بكل يسر معنى هذا التركيب بفضل اتحاد المادة المعجمية في اللسانين...ف"جبر" تعني القوة والشدة ومن مشتقاته في العربية "جبار" و"تجبر" أما "إيل" فمعناه الله كما هو معروف
تكتب همزة ولاما في العبرية ..والكلمة موجودة في العربية أيضا شاهدها قولة الصديق رضي الله عنه تعليقا على قرآن مسيلمة المزعوم:"هذا كلام لم يخرج من إل"..
فيكون معنى جبريل" جبار الله "أو "قوي الله" أو "الشديد عند الله"
وقد جاء هذا المعنى في موضعين من كتاب الله في سورة النجم :
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى{6}
وفي سورة التكوير:
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{19} ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ{20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ{21}
وليس من الضروري أن يحضر اسم جبريل نصا إذ يكفي أن يحضر في ذهن القاريء ..فيفسر له القرآن ما يعني هذا الاسم الذي يخطر بباله وإن لم يتلفظ به!!
-إسحاق:
إسحاق في القرآن هي تعريب "يصحاق" في التوراة وهي صيغة المضارعة في المفرد الغائب من الجذر العبري" صحق" وقرينه في العربية الجذر العربي "ضحك"، "يصحاق "العبري إذن يعني" يضحك" لا يراد منه الفعل وإنما يراد منه الفاعل، ومن ثم فإن معنى "اسحاق" وهو" يصحاق" عبريا "الضاحك" أو "الضحوك" وقد سمى العرب بمعناه على المبالغة فقالوا "الضحاك":
وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ{71}
وفي هذه الآية نفسها تفسير معنى يعقوب...فهو العاقب في العربية ومعناها "الذي سيأتي بعد" وتركيب "من وراء" في الآية تنبيه على هذا المعنى ..
نكتفي بهذه الأمثلة ولمن شاء أن يستزيد فعليه بالكتاب لاستقصاء الأعلام الأعجمية كلها ،وإن كان عنده هوى في الفيلولوجيا المقارنة فسيجد في قراءة الكتاب فوائد جمة...
أما نحن فسنحاول أن نضع هذه الظاهرة المعجزة في إطار من التكييف البلاغي فنقول:
2-
قد يخطر في البال أن هذه التنبيهات الدلالية على معاني أسماء الأعلام الأعجمية هي من قبيل دلالة الإشارة عند الأصوليين ،على اعتبار أن السياق يتعلق بأمر صاحب الاسم لا بمعنى اسمه...ففي هذه الآيات مثلا:
-أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ.
-وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ
-فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ..
جاء السياق لبيان فصول من قصة يوسف مع إخوته ،لا لبيان معنى اسم يوسف في اللسان العبراني ...ودلالته –حسب الباحث-هو "المضيف" ومن ثم جاء ذكر خير المنزلين( ومعناه خير المضيفين) فضلا عن تكرار فعل "آوى" الذي هو الضيافة أو من لوازمها...لكن هذه الدلالات لا يُنتبه إليها لانشغال ذهن المتلقي بالمقصد الأول الذي يؤسسه السياق...وهذا يعلل عدم انتباه المفسرين إلى هذه الدلالات قديما وحديثا حتى كشف عنها الباحث.
لكن هل انزواء هذه الدلالات إلى هامش المقصد الظاهر يجعل منها نوعا من الدلالة بالإشارة ؟
الجواب: كلا..
لأن كل أنماط الدلالات التي اعتبرها الأصوليون تنتمي إلى مستوى واحد من الخطاب..والاختلاف بين الدلالات هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع: فهناك دلالة ظاهرة ،ودلالة مجازية، ودلالة نص ،أوعبارة ، أو إشارة ، وغيرها... لكنها موجودة كلها في فضاء خطاب واحد ...وإنما تتفاوت في درجة الوضوح، أوالحضور في الوعي...
لكن الأمر ليس كذلك في مسألتنا :فأمامنا خطابان مستقلان والانتقال من معنى في الأول إلى المعنى ذاته في الثاني هو انتقال نوعي ..فالضيافة معنى واحد لكنه يتموضع على خطابين مختلفين:
(خطاب-موضوع)، و(ميتا-خطاب)
فلنبين أولا ما نقصده بالخطابين ،وليكن منطلقنا آيتان في سورة طه:
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
الانتقال من الآية الثامنة إلى الآية التاسعة انتقال من خطاب إلى آخر:
فالخطاب الأول مداره على بيان أحوال بني إسرائيل ،ومدار الخطاب الثاني على بيان ما يحمله القرآن من هداية وبشارة...
ولما كانت الآية التاسعة هي نفسها قرآن فقد اتحد الدال والمدلول ،وانعكست العلاقة فالمتكلم هو القرآن وموضوعه نفسه...وهذا ما يسمى الميتا-لغة أي أن تتخذ اللغة من ذاتها موضوعها...أما الآية الثامنة فالعلاقة فيها متعدية غير منعكسة، فالمتكلم هو القرآن لكن موضوع الكلام هم بنو إسرائيل، فامتازت اللغة عن موضوعها، وهذا ما يسمى باللغة- الموضوع .
إذا تقرر هذا الفصل بين الخطابين أمكن لنا أن نلحظ أن "خَيْرُ الْمُنزِلِينَ"و "آوَى إِلَيْهِ" هي نقط لغوية يتقاطع عندها الخطابان، أو يتنازعها الخطاب الموضوع والخطاب الشارح:فهي تحكي شيئا من أمر يوسف عليه السلام على صعيد اللغة الموضوع، وتشرح معنى اسم يوسف على صعيد الميتالغة..
في هذا إعجاز علمي وإعجاز بلاغي معا : أما الأول فظاهر، أما الثاني فلأن القرآن لم يجاور بين الخطابين فينتقل من الأول إلى الثاني كما في مواضع من الإنجيل المحرف:
هوذا العذراء تحبل و تلد ابنا و يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا..
أو كما كان يفعل الشيخ درويش في رواية ( زقاق المدق) لنجيب محفوظ عندما يذكر لفظا بالعربية ثم يذكر ما يقابله بالأنجليزية.
لكن القرآن أبدع أسلوبا جديدا:
فقد جمع وظيفتين لغويتين في عبارة واحدة..فهذه العبارة تؤدي وظيفة "مرجعية"(أو موضوعية) وفي الوقت ذاته تؤدي وظيفة "ميتالغوية" (أو شارحة) وذلك على جهة التماهي والاتحاد لا على جهة النسق والتجاور.
3-
هذا السبق القرآني لم أجد له ما يضارعه في كلام الناس إلا ما يمكن أن يتوهم من شبه في ما يسمى "التاريخ الشعري" وهو أن يضمن الشاعر في عجز البيت تاريخا معينا (تاريخ وفاة المرثي أو سنة تشييد البناء..) بحساب الجمل فيكون للحرف في البيت الشعري وظيفة مزدوجة :فهو حرف عدد من جهة، وحرف مبنى أو معنى من جهة ثانية..
ومثاله المشهور(المنثور) :
"-متى توفي برقوق
-في المشمش!"
فقد يقرأ الجواب على التشاكل الهازل ...
كما قد يقرأ على التشاكل الجدي..
فحروف تركيب/ في المشمش/ تشير إلى سنة وفاة السلطان برقوق باعتماد حساب الجمل!
ومن الأمثلة (المنظومة) على ذلك قول ابن المبلط يؤرخ جلوس السلطان سليم الثاني سنة 974 هـ :
تـولى مليك العصر وابن مليكه*****iبـعـز وتـأييد ونصر وسلطان
ودولـة مـلك قلت فيها مؤرخا***** ( سليم تولى الملك بعد سليمان )
ولو حسبنا جُمَّل قوله ( سليم تولى الملك بعد سليمان ) لوجدناه يساوي 974 وهو تاريخ جلوسه على العرش...
وقد اشترط أصحاب هذا الفن عدة شروط لضبطه، وحسن استخدامه منها:
-أن يتقدم على ألفاظه كلمة أرّخ أو أرّخوا، أو ما يدل على التاريخ، وإذا تصرف الشاعر في تقديم أو تأخير أو زيادة بعد لفظة ( التاريخ ) أشار إلى ذلك؛ لئلا يستغلق على القارئ.
-ومن شروطه ألا يكون التاريخ في بيتين، بل في بيت واحد ويستحسن أن يكون في عجز البيت لا في صدره.
-ومن شروطه أن يكون في الأبيات الشعرية نكتة أدبية، أو فكاهة، أو حكمة، وأن تكون الألفاظ منسجمة والمعاني مؤتلفة.
الفوارق مع العلم الأعجمي في القرآن واضحة:
-التاريخ الشعري منحصر في قيم عددية فقط أما العلم الأعجمي فيشكل في القرآن "موسوعة لغوية مصغرة" من اللغات القديمة.
-لا بد في التاريخ الشعري من لفظ ينبه على بداية العد الرقمي أما القرآن فدمج الخطابين في خطاب واحد كما شرحنا..
-النكتة الأدبية أو الحكمة في التاريخ الشعري تأتي مستقلة بنفسها فتشعر بتميزها في سياقها. أما في القرآن فإن الموضع الذي يشير إلى معنى العلم الأعجمي لا يختلف عما قبله وعما بعده ..فإن كانت قصة فهي مسرودة على وتيرة واحدة وليس موضع تفسير العلم الأعجمي إلا استمرارا للسرد على الأسلوب ذاته....